نانسي فريزر: الحاجة إلى فضاء عمومي عابر للأوطان
نانسي فريزر فيلسوفة أمريكية معاصرة (١٩٤٧–…) تدرِّسُ الفلسفة والعلوم السياسية في «الكلية الجديدة للأبحاث الاجتماعية»، (وهي نفس المدرسة التي درَّست فيها حنة آرنت). تهتم بموضوعات الفلسفة السياسية التي شغلت الجيل الثالث للنظرية النقدية (مدرسة فرانكفورت)، من أمثال أكسيل هونيث مدير المدرسة، وجوديث بتلر وسيلا بن حبيب، وهابرماس … ويشكل موضوع العدالة والحق والنظرية النسوية وحول الفضاء العمومي، محور كتاباتها العديدة حيث قامت بمراجعات أساسية.
- المجال الأول: يتعلق بالمجال السياسي حيث تنظر وتعيد النظر في مفهوم الفضاء العمومي كما نحته هابرماس؛ لتؤسس أطروحتها الأساس حول الحاجة إلى تجاوز التصور الويستفالي الذي حكم هابرماس في نظريته، مقرَّةً بوجود فضاءٍ عمومي كوني يتجاوز الحدود السيادية الكلاسيكية، وهو فضاء تلعب فيه فئات وحركات اجتماعية جديدة أدوارًا هامة. وتشكل كتبها الثلاثة أساس تصورها هذا: «ما هي العدالة الاجتماعية؟ الاعتراف وإعادة التوزيع» (مارس ٢٠١١). وكتاب «دينامية النساء» (٢٠١٣). جدالات نسائية: مطارحات فلسفية. بالاشتراك مع سيليا بن حبيب وجوديث بتلر، ودروسيلا كورنل. (١٩٩٤).
- المجال الثاني: يتعلق بالمجال الثقافي؛ حيث تعيد النظر في مفهوم الاعتراف مع ظهور الأشكال الجديدة للتفاوتات بين الناس في الرأسمالية المعاصرة: ظهور التعدد الثقافي ونشاط النسوية الجديدة، وتدفق الهجرة ومشاكل الاستبعاد الاجتماعي. وقد ساجلت أكسل هونيث وجوديث بتلر وبول ريكور حول هذا المفهوم؛ لتحاول التوفيق بين الأسس الفلسفية للاعتراف عند هونيث والأسس الثقافية لهذا المفهوم عند تشارلز تايلور. وهو ما بلورته في كتابها: التصور الراديكالي: بين إعادة التوزيع والاعتراف (٢٠٠٣)، وفي: إعادة التوزيع أو الاعتراف؟ مطارحات فلسفية-سياسية مع أكسيل هونيت، (٢٠٠٣).
- المجال الثالث: ويتعلق بالمجال الاقتصادي حيث تُعيد النظر في مفهوم إعادة التوزيع: ذلك أن تصور العدالة الكلاسيكي ينبني على تصورٍ معين لتوزيع الثروة، وهو التصور الذي يحاول أن يعيد النظر في النظريتين الأساسيتين حول العدالة: التصور الماركسي والتصور الليبرالي السياسي كما نجده لدى جون راولز وهابرماس؛ إيمانًا منها بالحاجة إلى وضعٍ جديد تسميه «وضع ما بعد الاشتراكية»، وهو ما قامت بالتأسيس له في: «انقطاعات العدالة: تأملات نقدية حول الوضع ما بعد-الاشتراكي» (١٩٩٧). وفي: «موازين العدالة: إعادة تصور الفضاء السياسي في عالم معولم» (٢٠٠٨).
(١) نظرية نانسي فريزر في الفضاء العمومي
اهتمت نانسي فريزر بمفهوم الفضاء العمومي عند هابرماس بالنظر إلى قيمته السياسية التي تساهم في فهم الملابسات التي تعترض الحركات الاجتماعية التقدمية والنظريات السياسية التي ترتكز عليها؛ فقد مثلت هذه النظرية طوال العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين إسهامًا مباشرًا في فهم التغيرات السياسية التي أعقبت ثورة مايو ٦٨، بعد ظهور الحركات الاجتماعية الجديدة من قبيل: الأقليَّات العرقية والإثنية، الحركة النسائية، حركات الحقوق الجنسية، حركات الثقافات واللغات المهمَّشة، حركة العاطلين عن العمل، والحركات المتصلة بمختلف المشاكل التي أفرزتها الرأسمالية عبر تطورها التاريخي.
(١-١) حدود النموذج الليبرالي للفضاء العمومي البرجوازي
وتؤكد أن المشكلة الأولى التي يطرحها مفهومُ الفضاء العمومي الهابرماسي تكمن في العلاقة بين الدولة وأجهزتها من جهة؛ والفضاءات التعبيرية العمومية وجمعيات المواطنين من جهة أخرى، ذلك أن النموذج الكلاسيكي للدولة (الاشتراكي والماركسي) يفرض رقابة الاقتصاد للدولة الاشتراكية التي تراقب أيضًا مجموع المواطنين الاشتراكيين. فالتشابك واللَّبس الذي يكتنف العلاقة بين أجهزة الدولة والفضاء العمومي وجمعيات المواطنين يعود إلى الشكل التحكمي والسلطوي للدولة الاشتراكية في مجمل الفضاءات والتنظيمات، وهو شكل لا ديمقراطي ولا تشاركي يستدعي بدوره طرح السؤال حول الديمقراطية الاشتراكية ذاتها كما طبَّقتها الأنظمة الستالينية، ونفس الأمر ينطبق على الديمقراطية البرجوازية التي طوقت الفضاء العمومي السياسي وأطَّرته بأُطُر وتشريعات قانونية وطنية لم تعد تستجيب لحاجيات المواطنين اليوم. ولذلك فإن كلا النمطين: البرجوازي والاشتراكي على حدٍّ سواء لم يعودا صالحَيْن لنمط العيش المشترك اليوم، أي في عالم يحتاج إلى مواطنة كونية تنتفي فيه الحدود الوطنية الويستفالية.
-
قصد فَحصِ الشروط التي جعلت هذا النَّمط من الفضاء العمومي ممكنًا.
-
إعادة وضع تلك الشروط في مكانها، وإدراك راهنية المنفعة المعيارية لهذا النموذج الليبرالي.
(١-٢) الحاجة إلى فضاء عمومي عابر للأوطان
- (١)
مسألة النوع الحاضرة بقوة التي ساهمت في طرحها بعض الحركات العريقة المتنامية في العالم خلال القرن التاسع عشر والقرن العشرين والتي عمادها النساء.
- (٢)
مسألة السود الذين ناضلوا في أمريكا وكوَّنوا فضاءً عموميًّا نقيضًا للفضاء الرسمي عبر نضالاتهم وحركاتهم.
- (١) مستوى إمبريقي Empirique (تجريبي) تاريخي، مؤسساتي.
- (٢)
مستوى نقد الأيديولوجيا أو المثال المعياري.
- (١)
جهاز الدولة الوطنية (الأمة) الذي يمارس السيادة داخل مجال حدودي ووسط قاطنيه.
- (٢)
اقتصادٌ وطني منظَّم قانونيًّا وفق التشريعات الوطنية.
- (٣)
جسم المواطنين الذين يقطنون داخل حدود وطنية ويقتسمون مصالح عامة.
- (٤)
لغةٌ وطنية تؤسس وسيط التواصل داخل الفضاء العمومي.
- (٥)
أدبٌ وطني يؤسس وسيط التكوين وإعادة إنتاج توجيه ذاتي (وطني) في سبيل جماعة متخيَّلة (وطنية) أي هوية وطنية.
- (٦)
بنيةٌ وطنية للتواصل، وصحافةٌ وطنية، ومن ثم شبكةٌ وطنية للإعلام والتوزيع.
كانت المقاربة الهابرماسية مبنية على أسس وطنية أي داخل الإطار الوطني، وهو الأمر الذي نجده لدى الانتقادات المتنوعة التي تعيد التفكير في الفضاء العمومي من وجهة نظر النوع (النساء) والعرق (الأقليات) والطبقة (الفقراء). ولم تتم أشكلة نظرية الفضاء العمومي إلا في العقود الأخيرة بفضل تنامي الظواهر العابرة للأمم، والمرتبطة بالعولمة أو بما بعد الاستعمار أو بالتعددية الثقافية؛ حيث أصبح من الضروري بحث إمكانية وضرورة إعادة تشكيل نظرية الفضاء العمومي على أسسٍ عابرة للأمم (دولية، عالمية).
- الأولى: الفرق بين الدول الوطنية والسُّلَط الخاصة، بحيث صار من الواجب إعادة بناء السُّلَط العمومية على نحوٍ دولي (عالمي) من أجل الحد من سطوة السلط الخاصة، ولفرض رقابةٍ ديمقراطية دولية عليها.
- الثانية: تتصل بالفَرْق بين المواطنة داخل الدولة الواحدة والبلدان الأخرى، بحيث يجب مأسسة عناصر المواطنة الدولية/الكونية وإنتاج تضامنٍ واسع وغير مقيد بالفروقات اللغوية والعرقية (الإثنية) والدينية والوطنية، ومن ثم إنتاج وبناء فضاءات عمومية واسعة مبنية على تواصلٍ ديمقراطيٍّ مفتوح.
- مقاربة إمبريقية: تأخذ بعين الاعتبار فقط النظرية في علاقتها بالوقائع الموجود التي تتأسس على المعايير.
- مقاربة مثالية: متعالية على الواقع الاجتماعي.
البديل هو مقاربة نظرية نقدية توظف الخصائص المعيارية وتأخذ بعين الاعتبار الإمكانات السياسية.
(١-٣) في سبيل نظرية خطاب نسوية
تشغل المسألة النسائية في تفكير نانسي فريزر مكانة هامة؛ أولًا: باعتبارها مناضلة يسارية ترعرعت في كنف الحركة الاشتراكية، وثانيًا: باعتبارها صاحب قول في الفلسفة الاجتماعية والنقدية التي ترتكز على قراءة التجارب (التي تنخرط فيها يوميًّا) لاستخلاص الدروس.
- (١)
ستسمح لنا بفهم كيف ستتغير وتتحول مع الزمن الهويات الاجتماعية:
تعني الهويات الاجتماعية دلالات مركبة وأنظمة من التأويلات، فأن تمتلك هوية اجتماعية، أي تصبح امرأة أو رجلًا مثلا، تعني أن تعيش وتتحدد تحت مجموعة من الأوصاف؛ أوصاف لا تخص الجسد أو الروح فقط، حيث لا يكفيك الإلمام لا بالبيولوجيا ولا بعلم النفس، بل يتوجب عليك الغوص في الممارسات الاجتماعية المحددة تاريخيًّا للنوع؛ لفهم كيف تشكلت الهوية.»
الهويات الاجتماعية في نظر نانسي معقدة ومركبة جذريًّا: لا توجد هناك امرأة بل امرأة بيضاء، يهودية، من الطبقة المتوسطة، فيلسوفة، سحاقية، اشتراكية، أُمٌّ … ولأن كل الناس يتحركون في سياقات اجتماعية متعددة، تتشكل الهوية الاجتماعية لفرد ما في خضم مجالٍ وسياقات تحركه ووجوده؛ لذلك لا توجد امرأة بنفس المقاييس أو المعايير.
في بعض السياقات تمثل الأنوثة مكانةً محورية من ضمن مجموعة من الأوصاف التي تؤطرنا وتحيط بنا أو تنسب إلينا؛ ولهذا لا تتشكل الهويات الاجتماعية دفعةً واحدة، بل يتم تعديلها مع مرور الزمن، وتتغير بالموازاة مع الممارسات ومع هويات الفاعلين.
- (٢)
ستسمح لنا بفهم كيف تتشكل وتتفكك المجموعات الاجتماعية في ظل شروط اللامساواة: كيف يجتمع ويتنظم الأفراد تحت يافطة الهوية الاجتماعية؟ كيف تنشأ طبقة ما؟ أو نوع اجتماعي ما؟ يتم تشكل جماعة ما في خضم نضالات برهاناتها وخطاباتها المتنوعة.
- (٣)
ستؤثث وتضمن التداخل الثقافي للمجموعات السائدة في مجتمعٍ ما.
- (٤)
ستوضح لنا منظورات التغيير الاجتماعي والممارسات السياسية للاضطهاد.
يأتي اهتمام نانسي بنظرية خطابٍ نسويٍّ في سياق إيمانها الكامل بحجم المعاناة التي تزداد مع توسع الرأسمالية في طورها النيوليبرالي؛ حيث لم يعد خطاب الحركة النسوية كما كان مع الموجة الأولى؛ لأن النساء أنواع بحسب تنوع الهويات الاجتماعية، ولا توجد المرأة كما تقول بنفس معايير النساء، بل المرأة بما هي نوعٌ اجتماعي مميز بهويته.