سيلا بن حبيب: سيرتها، فلسفتها السياسية ومواقفها
(١) أولًا: السِّيرَة
(١-١) تعريف بسيلا بن حبيب١
أما عن علاقتها بهابرماس فتقول: «يَعُود الفَضل لهابرماس في نحته لمفهوم العَقلانية التواصُلية، وأَنَا بِدورِي أَعتَبِر أن العقلانية التَّواصُلية مُسَلَّمَةٌ، وأَفْتَرِضُ مُسبَقًا أَن كُل عَمَلِي يَتَمَحورُ حول صَلاحيةِ الانتِقال إلى العقلانية التَّواصلية. كُنتُ مُهتمَّةً بِالروابِطِ بين العقلانية التَّواصُلية والأخلاق والدِّيمُقراطية التَّشَاورية، حيث يلعبُ الفضاء العمومي دورًا محوريًّا.
(١-٢) مؤلَّفات سيلا بن حبيب
(٢) ثانيا: فَلسَفَتُهَا السياسية
- (١)
كَونُ إسهَامَاتِها مُتعدِّدَة المَشَارِب ومُتنوعَة جدًّا، تتراوح بين قضايا عديدة لا ندعي إمكانية الإلمام بها جميعها في هذا المقال.
- (٢)
لا يَزالُ فكر الفيلسوفة جاريًا؛ مما يعني أنَ مُحاوَلَة حَصرِه في هذا الاتجاه أو ذاك، إنما هي مُغَامرة كبرى في حقها.
- (٣)
كَونُ وضعِهَا الخَاص، وتاريخهَا الخاص، يفرضُ عليها الانخراط السياسِي في قَلبِ المعركة؛ لذلك فإن مَواقِفَهَا السياسية تجدُ مَكانهَا كثيرًا في فلسفتهَا.
- (٤)
اهتمامُهَا بقَضَايا العصر الأكثَر إِلحَاحًا من قبيل الهجرة، الحدود، السيادَة، المُواطَنة، وهي القضايا التي تعرف مُستَجَدَّاتٍ جَارية لا حصر لها.
- مرحلة ما قبل التسعينيات: (من القرن العشرين)، وقد مثلت الفلسفة السياسية الحديثة والمعاصرة مصدرَ فِكرها الفلسفي. وهي مرحلة الشباب إن جاز التعبير الألتوسيري هنا، حيث تشكل فكرها من خلال اشتغالها على عباقرة الفكر السياسي الحديث من أمثال هيجل Hegel (أنجزت أطروحتها الأولى حول هيجل — الذي استلهمت منه العديد من أفكارها — بعنوان: «هيجل والحق الطبيعي: بحث في الفلسفة السياسية الحديثة»)، وتوماس هوبز Hobbes وكانط Kant (من خلال فحصها لمشروع السلام الدائم الذي أَسست عليه أطروحاتها الحالية حول المُواطَنة الكَونية، والسيادَة ما بعد الوطنية)، ومرورًا بحنة آرنت H. Arendt (حيث أنجزت كتابين حول فكرها — أشرنا إليهما أعلاه — موظِّفة بشكلٍ كبير مفهوم آرنت الذائع الصيت: «الحق في التَّمتُّع بكافة الحقوق») وهابرماس Habermas مستلهمة منه مفهوم العقلانية التَّواصلية الذي تعتبره أساس مشروعها، رغم انتقادها لهابرماس حول إقصائه لدور النِّسَاء في الفضاء العمومي ومن الكونية الأخْلاقية.١٤
- مرحلة ما بعد التسعينيات: حيثُ انكبَّت أساسًا على مُعالجة قَضَايا الوَضع البَشَري الأَكثَر
إِلحَاحًا: النِّسْوية، الهِجرَة، التَّعَدُّد الثَّقَافِي، المُواطَنة
العَالمية، الدِّيمقراطية، العَدَالَة، السيادَة …
كما يمكن أن نعتبر الفيلسوفة مُنظِّرَة ومُفكِّرة تنتمي إلى الجيل الثالث للنظرية النقدية، من خلال اشتغالها مع هابرماس وأكسيل هونيث A. Honneth ونانسي فريزر N. Fraser وجوديث بتلر J. Butler.١٥ويَهدِف مَشروعُهَا العَام إلى بَلوَرة نظرية كُوسمُوبُولِيتية للعدالة تَتمركَزُ حول إعَادةِ التَّوزِيع على الصَّعِيد العالمي، إلى جانب حَق الانتِماء. ويَتعلقُ سُؤالُها بِمدَى مَعرفة كيف أنَّ نَوعية/طبيعة أعضاء جماعة سياسية معيَّنة قادرة على تحقيق توزيع عادل للثَّروة، وضمان اعتراف كامل بالمواطنة من خلال التَّمتُّع بكافَّة الحقوق التي للأعضاء الحقيقيِّين (الأصليِّين) لذلك المجتمع. وهو ما جعل نظريَّتها ترتكز على بيان حدود التنظيم السياسي الذي يُميِّزُ بين أعضاء جماعة ما والأجانب أو المهاجرين. وتُقدِّم حُجَّتها دعمًا لحقٍّ أساسي في الخيرات بالارتكاز على أخلاقية المناقشة مسنودًا بمفهوم الحرية التواصلية. كما أن حقوق الإنسان أيضًا تقدم شرط الاستقلالية لكل فرد تأخذ بعين الاعتبار حقًّا أساسيًّا هو الحق في التَّبرير justificationla.١٦
(٢-١) نظرية الديمقراطية
- (١)
«التعامل بالمساواة»: حيث يجب أن يتمتَّع أعضاء الأقليَّات بنفس الحقوق المدنية والسياسية والاقتصادية والثقافية التي تتمتع بها الأغلبية.
- (٢)
«القَبول الطوعي»: حينما يولَد فرد ما، لا يجب أن يعيَّن له دين ما أو ثقافة ما بشكل أوتوماتيكي. ولا يجب أن تترك الدولة للجماعات الحق في تقرير حياة الأفراد. فأعضاء المجتمع لهم الحق في التَّعبير بأنفسهم عن اختياراتهم.
- (٣)
«الحرية في الخروج من الجماعة والحرية في التجمع»: لكل فرد الحرية في الخروج عن جماعته. فحينما يتزوج فرد من جماعة أخرى فلكلٍّ منهم الحق في الحفاظ على عضويَّته. ويجب إيجاد تسوياتٍ بالنسبة للأزواج بين الجماعات وأطفالهم.
يطرح موضوع الانسجام بين التعددية الثَّقَافية والمساواة الديمقراطية نقاشات كبرى؛ فالشَّرط الأول يتعلق بالعديد من الثَّقافات التي تتعرض فيها الأقليَّات لاضطِهَادَاتٍ مُتكَرِّرَة من طرف الأغلبية، وحيثُ لا تَقُومُ الحكومَات بأيِّ جُهدٍ لوقف المجازر التي يتعرَّضُونَ لهَا. كما أن الشَّرطَين الأخِيرين يَطرحَان مُشكلاتٍ كُبرَى.
(٢-٢) المُسَاواة والتَّنوع في عَصر العولَمَة
(٢-٣) تجديد الكُوسمُوبُولِيتية الكانطية
وإذا كان كانط ينظر للكُوسمُوبُولِيتية كما يعيشها في عصر التنوير، فإن سيلا بن حبيب تنظر لها في سياقٍ مختلف تمامًا، بحيث ترتبط هذه المسألة بمسارها الشخصي والعائلي، حيث تقول إجابة عن سؤال: كيف شكلت مسيرتك الشخصية قيمك الكوسموبوليتية؟
-
القانون داخل الدولة.
-
القانون العالمي.
-
القانون الكوسموبوليتي.
ورغم دفاعها عن هذه المقاربة القانونية-المؤسساتية فهي تدافع عن «مجموعات منظمة ذاتيًّا بإمكانها منح حقوق الانتماء القوية بما فيه جواز المرور»، وهو مبدأ كل ديمقراطي وكوسموبوليتي؛ لأن النقاش حول الهجرة «يجب ألا يُختزَل فقط في الحق في الولوج إلى الدولة، لكن يجب أيضًا أن يرتكز على إمكانية أن المواطنة تكسبها بمجرد الدخول إليها.»
(٣) ثالثا: مواقفها
(٣-١) موقف سيلا بن حبيب من الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي٣١
لا يزال الفكر النقدي يحافظ على بريقه في مختلف المواقف التي تثير اهتمامًا واسعًا لدى الرأي العام العالمي؛ فحينما يتعلق الأمر بالصراع الفلسطيني الإسرائيلي فإن مواقف المثقفين والحركات المناهضة للصهيونية في الغرب، تكون مؤثرة أكثر من نظيراتها في العالم العربي. وهذا هو حال الموقف النقدي الجريء من هذا الصراع الذي اتخذته الفيلسوفة الأمريكية المعاصرة من أصول تركية سيلا بن حبيب باعتبارها أحد الوجوه النقدية المعاصرة والبارزة في الساحة السياسية الدولية بفضل مواقفها المبدئية والداعمة للشعوب المضطهدة والمُقصاة بسبب الهُوية أو اللغة أو الدين …
وتشدِّد سيلا بن حبيب على أن إسرائيل قد «فقدت رؤيتها السياسية وقوتها العسكرية، ولا معنى سياسيًّا واضحًا يوجه أفعالها/ممارساتها»، معتبرة أن القوة العسكرية تظل عمياء وتتدخل بكل وحشية «من أجل الوصول إلى أهدافها السياسية». فهل يمكن للمقاربة العسكرية والأمنية أن تكون وسيلةً فعَّالة لضمان السلام؟
يحلل كانط في مشروع السلام الدائم — الذي تغترف منه سيلا بن حبيب — طبيعة العلاقات السياسية الدولية، داعيًا إلى سلامٍ دائم وممكن بين الأمم، وفي معرض نبذه للعنف وضرورة التحلي بثقافة السلم والتضامن، يرى كانط أنه لا سبيل إلى إقرار السلم ما لم يتم القضاء وبشكلٍ نهائي على الجيوش الدائمة باعتبارها المسئولة عن الويلات التي تعيشها الأمم. ولعل تأملًا بسيطًا لفلسفة كانط السياسية، سيجد أن هذا الفيلسوف كان — على حد تعبير حنة آرنت — نموذجًا صارخًا لفيلسوف متنور حامل لهمِّ الإنسانية ككلٍّ، فقد أعلن في بيانه الشهير: «مشروع للسلام الدائم»، دون شبهة أو لبس، إيمانه العميق بالسلام، ودفاعه المستميت عن مجتمعٍ جديد خالٍ من العنف والإبادة والقتل بأي مبرر كيفما كان، ففي المادة الثالثة من المواد التمهيدية للقسم الأول يقول: «يجب أن تُلغَى الجيوش الدائمة إلغاءً تامًّا على مر الزمان»، ويعلق على ذلك قائلًا: «لأن هذه الجيوش التي تبدو على الدوام متأهبة للقتال تهدد الدول الأخرى بالحرب تهديدًا دائمًا، كما تحفزها إلى التسابق في زيادة قواتها المسلحة زيادة لا تقف عند حد … أضف إلى هذا أن استئجار الناس لكي يقاتلوا أو يُقتَلوا معناه فيما يبدو أننا نستعملهم استعمال الآلات أو الأدوات في يد غيرهم (الدولة)، وهو أمر لا يتفق مع حقوق الإنسانية في أشخاصنا.» ويضيف في المادة السادسة: «لا يحق لأية دولة، في إبان الحرب، أن تستبيح لنفسها اقتراف أعمالٍ عدائية كالاغتيال والتسميم، وخلق ظروف التسليم، والتحريض على الخيانة — من شأنها عند عودة السلم أن تجعل الثقة بين الدولتين أمرًا مستحيلًا.» لذا فينبغي «إقرار» حالة السلام.
(أ) ميلاد حركة حماس وأيادي تدبير الصراع في المنطقة
(ب) أمن إسرائيل في عالم ما بعد ويستفاليا
وتعتبر بن حبيب أنه «لا يوجد أمنٌ كامل ولا يُقهر مطلقًا في العالم الجديد، وعلى الأقل منذ ١١ سبتمبر ٢٠٠١، كما لم يكن هناك استقرار كامل في الميدان السياسي»، فحتى القنبلة النووية لا تضمن الأمن والاستقرار لإسرائيل. ليس لأن إيران يمكن أن تملك بدورها قنبلةً نووية، وإنما لأن استخدامها ضد أهداف في لبنان أو سوريا وعلى قطاع غزة وعلى الضفة الغربية والأردن، بإطلاق سحابة من الأشعة على كل المنطقة يمكن أن يلوث المياه والغطاء النباتي، وهو ما يجعل إسرائيل بدورها غير صالحة للاستيطان. هكذا يتضح أن خوف إسرائيل أشبه ما يكون بفوبيا ملازمة لسياسييها ومواطنيها وجنودها.
(ﺟ) في نقد الرؤى السياسية الإسرائيلية
- (١)
«منظور/رؤية الحرب الدائمة»: رغم أنه لا يدافع عنه أي سياسي يحترم نفسه، فالأمر يتعلق بنفسية داخل كل الإسرائيليين البسطاء؛ حيث يعتقد الغالبية العظمى أن الحرب نمط عيش، لأنه لا يمكن أن يتحقق السلام بين إسرائيل وفلسطين.
- (٢)
«منظور الدولتين»: (أو ما يعرف بحل إقامة الدولتين) الليبراليين والتقدميين من كل الأصناف يدافعون عن حل الدولتين (دولة إسرائيل ودولة فلسطين)، لأنهم يؤمنون بمبدأ المساواة في حق تقرير مصير الشعوب. ويقبل البعض هذا الحل لأنهم قلقون مما يمكن أن نسميه «الانفجار السكاني الذي بدأ بالفعل»، وتسارُع معدل الولادة بفلسطين، ويخشون العيش كأقلية في دولةٍ فلسطينيةٍ كبيرة، ديمقراطيةً كانت أم غير ديمقراطية.
- (٣)
«المنظور الديني لإسرائيل الكبرى»: هناك أيضًا منظور إسرائيل الكبرى المبنية على المعتقد الديني، حيث يسود الاعتقاد أن الأراضي القديمة ليهودا هي في الواقع للشعب اليهودي بلا رجعة.
- (٤) «المنظور العلماني لإسرائيل الكبرى»: وهو منظور يختلف عن المنظور الثالث ويؤكد على أن إسرائيل الكبرى يمكن أن تضم أراضي فلسطينية وتحكمها اتفاقات اقتصادية من الطرفين بموجب مناطق التبادل الحر والنمو الاقتصادي. على الأقل منذ مبادرة السلام التي أطلقها إسحاق رابين واتفاقات كامب ديفيد، ويمثل حل «الدولتين» السياسة الرسمية للحكومة الإسرائيلية والأمريكية، إلا أنه حل هو مجرد حل/نواة متناقض، يخفي في كثيرٍ من الأحيان دلالات في الوعي العام.٤١
تُكرِّس الخطابات أعلاه منظورًا تقليديًّا لبناء الدولة داخل حدودٍ وطنية ضيقة. وهو الأمر المتجاوز من وجهة نظر كُوسمُوبُولِيتية؛ ففي عالم اليوم حيث التغيرات على أشدها لم يعد مقبولًا حصر القضية الفلسطينية في مجرد التسوية المؤقتة لتدبير الصراع في اتجاه تكريس الهيمنة الصهيونية على الأراضي المحتلة، من خلال المقاربة الأمنية، كمعولٍ وحيد وأوحد لشرعنة العنف والحرب على كل تحرك فلسطيني مشروع للدفاع عن عدالة قضيته. فإذا كان المنتظم الدولي يتَّجه نحو الضغط على اللوبي الصهيوني من أجل الاعتراف الكامل بالسيادة الفلسطينية، فإن بعض مواقف القوى الإمبريالية، تتجه عكس ذلك نحو تكريس نفس الوضع خدمةً لمصالحها الاستراتيجية. وحتى مفهوم السيادة كما يتصوره الكيان الصهيوني لم يعد مقبولًا، في نظر بن حبيب، ما دامت إسرائيل ترى أن فلسطين ستظل دومًا مراقَبة.
لا يتعلق الأمر وفقط بفشل الرؤى السياسية التي تحملها القوى السياسية الفاعلة في الدولة الصهيونية، وإنما بفشل المنتظم الدولي أيضًا في حل قضية عمرت ما يزيد على نصف قرن. وهو فشل ذريع لا يزكيه إلا لغة المصالح الاستراتيجية. فكم من مرة تخرق إسرائيل الاتفاقات الدولية وقرارات مجلس الأمن الدولي!
(د) رفض غزو غزة
(ﻫ) أي بديل للصراع الفلسطيني-الإسرائيلي؟
هل هناك بدائل سياسية حقيقية في ظل الوضع الحالي غير الاستراتيجيات العسكرية التي تُتخذ كرؤًى سياسية؟
جوابًا على هذا السؤال تدافع بن حبيب عن الحركة النشيطة في إسرائيل والتي تسعى إلى فصل المواطنة الإسرائيلية عن الهُوية اليهودية الدينية-الإثنية»، معتبرة أن هذا الفصل هو من سيسمح بأن تصبح إسرائيل «أرضًا لكل المواطنين. وهذا من شأنه أن يتنصل جزئيًّا أو كليًّا من قانون حق العودة، الذي يعطي الحق في المواطنة الإسرائيلية لكل يهودي تعترف به السلطة الحاخامية كيفما كانت». وتندد في الوقت نفسه بعدم إصلاح قانون المواطنة الإسرائيلي؛ لأن «العديد من العمال المهاجرين وأبنائهم فضلًا عن الشركاء غير اليهود وزوجاتهم لا يستطيعون الحصول على الجنسية الإسرائيلية»، ومؤكدة أنه «صار، من سخرية القدر في العقد الأخير، من السهل بالنسبة للروس الذين يدَّعون أنهم يهود؛ الحصولُ على الجنسية، على عكس عربي-فلسطيني وُلد ونشأ في القدس الشرقية، لأنه يُعتبر (أو تُعتبر) خطرًا على الأمن، ولأن وضعية القدس الشرقية تُعتبر لغزًا وفق مصطلحات الاتفاقات الدولية».
لذلك فإن «أي نقاشٍ سياسيٍّ جدِّي يتعلق بإسرائيل وفلسطين، ينبغي أن يتأسس على قاعدة أن القوة العسكرية ليست إلا ردعًا، ردعٌ مشكوكٌ فيه يومًا عن يوم على وجه اليقين، وأنه ليس الأسلحة هي من يصنع السلام وإنما البشر. فالسلام هو الصالح العام. وإسرائيل قريبة من النموذج الويستفالي للسيادة، المنقرض، الذي يَفترض أن الدول قادرة على مراقبة كل حي أو ميت داخل حدودها».
وانطلاقا من وجهة النظر الكُوسمُوبُولِيتية فإن «معظم الديمقراطيات المتقدمة تعرف أن النموذج الويستفالي متجاوز أخلاقيًّا وواقعيًّا». وهو ما يفيد في نظرها أن «السيادة هي مجرد حصة، مجموعة من امتيازات وصلاحيات موكولة للدولة، ويمكن تقاسمها وتفويضها والتعاقد عليها مع مجموعات أخرى وسُلَط أخرى».
وجوابًا عن هذا السؤال، ترى بن حبيب أن الحقيقة البسيطة والمحزنة هي «أن دولة فلسطينية من هذا النوع ستظل على الدوام مراقَبة ومتحكمًا فيها، وستُضرَب بين الفينة والأخرى من طرف إسرائيل. إنه واقع الحال تحديدًا.»
(و) الحل الكونفدرالي
(٣-٢) موقف سيلا بن حبيب من الربيع العربي
ما هو موقف سيلا بن حبيب من الربيع العربي؟ كيف نظرت إلى انتفاضات الربيع العربي؟ هل كانت تعتقد أن تمرد الشباب في مصر وتونس والبحرين وليبيا يمثل موجة جديدة من النضالات؟ ما موقفها من الإخوان المسلمين؟ وهل كانت متخوِّفة من صعود الأصولية الإسلامية إلى هرم السلطة؟ ما هي قراءتها للحركات الإسلامية التي تجتاح العالم العربي والإسلامي على حدٍّ سواء؟ هل كانت تقف إلى جانب تخوفات الغرب من الحركات الجماهيرية المتفجرة؟
- أولًا: مقال ينصف الشباب المتمرد بهذه البلدان.
- وثانيًا: مقال يعيد النظر في الموقف الغربي، وتحديدًا النخب المسخَّرة والمعلقين المتخصصين في شئون الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، والذين يكرسون العداء لهذه الشعوب بدعوى أن موجة التمرد تلك تحمل نسيم الحركات الإسلاموية بكل أطيافها؛ وذلك لتوجيه الرأي العام الغربي نحو اتخاذ المسافات من هذه التمردات.
- وثالثًا: مقالٌ ثاقب النظر يضع الأصبع على الجراح، ويحاول أن يؤطِّر الربيع العربي في سياقه التاريخي والسياسي.
(أ) الربيع العربي: الدين والثورة والفضاء العمومي
- (١)
الأنظمة الاستبدادية الفاسدة التي ترسيها الانقلابات العسكرية، كما هو الحال في مصر وليبيا، أو السلالات الملكية التي تشتري ولاءها بثروتها، كما هو الحال في العربية السعودية والأردن.
- (٢)
«الأصولية الإسلامية» التي تخفي عمدًا الخلافات التاريخية والسياسية بين المجموعات المختلفة، في ظل الأنظمة أو فيما بينها.
- (٣)
«إرهاب» القاعدة، والذي يوضع في نفس سلة «الأصولية الإسلامية/السلفية الرجعية».
كانت الغاية من تسييد فوبيا الإرهاب بعد ١١ سبتمبر ٢٠٠١، هو ذر الرماد في العيون، من خلال النظر إلى شعوب هذه المناطق كشعوب همجية لا تعرف غير العنف كوسيلة للتعبير. في حين أن الإرهاب الذي تمارسه الإمبريالية الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية يتجاوز كل التوقعات: ألم تكن سياسات التقشف المفروضة على تلك البلدان منذ بداية الثمانينيات إلى اليوم هي السبب في التفقير والتهميش الذي صار عنوانًا عريضًا مكتوبًا على جباههم في عبارة «لا إله إلا الله»؟
ترى بن حبيب أن أصول القاعدة — زعيمة الإرهاب — «تعود بطبيعة الحال تاريخيًّا إلى العربية السعودية، حيث وُلد أسامة بن لادن، وعددٍ كبير من مفكري الإخوان المسلمين الموالين للقاعدة بمصر كسيد قطب مثلًا، فمن المعروف أن الزعيم الثاني للقاعدة هو الطبيب المصري أيمن الظواهري». لقد كانت القاعدة الوصفة السحرية لأمريكا لمواجهة الشيوعية؛ فهي التي احتضنتها وموَّلتها قبل أن ينقلب السحر على الساحر. وتذهب بعيدًا في تحليلها لتؤكد أن «لا أحد من المعلقين والمتتبعين، ترقَّب بروز حركة المقاومة الشعبية الديمقراطية، والحديث في عمقها بالمعنى السياسي، والتي أحيانا «تقية/ورعة»، ولكنها ليست متعصبة، وهو تمييزٌ هام يتم تجاهله باستمرار. فكما تلقَّى أتباع مارتين لوثر تربيتهم في كنائس السود بأمريكا الجنوبية وأطلقوا قوتهم الروحية في هذه المجتمعات، فإن حشود تونس ومصر وخارجهما، تربوا على التقاليد الإسلامية من قبيل الشهادة؛ فأن تصير شهيدًا فهذا قدر إلهي!» وهو ما يعني في نظرها أنه «ليس هناك من تناقض ضروري بين الإيمان الديني لعدد كبير من المتظاهرين في الحركات الثائرة في تونس ومصر وبين تطلعاتها الحديثة»، فبأي معنًى يمكن اعتبار هذه الحركات حديثة؟ هل فعلًا يمكن وصف حركات التمرد بالعالم العربي على أنها حركات حديثة؟ هل تحمل برنامجًا للتحديث؟ قد يثير موقف بن حبيب هذا نقاشًا واسعًا في صفوف الثوار العلمانيين الذين يذهبون إلى أن حركات الإسلام السياسي قد اغتالت روح ونفس الربيع العربي، ولكن قبل الحكم على موقفها هذا لنرَ الحجج التي تدعم بها رأيها.
-
أنها حركات تسعى وراء إصلاحٍ دستوري.
-
وتسعى إلى ضمان حقوق الإنسان.
-
وإلى ضمان المزيد من الشفافية والمسئولية تجاه المسئولين السياسيين.
-
وإلى وضع حد «لرأسمالية المحاسيب».
ومن وجهة نظرٍ تاريخية، فإن وضع حد لرأسمالية «المحسوبية» أو «الريعية» يمكن أن يعتبر ثورةً حديثة، ولكن واقع الأمر أن الطبيعة الطبقية لأهم الحركات الفاعلة في هذه الثورات سواء في مصر أو تونس أو ليبيا، ويتعلق الأمر بحركة النهضة وحركة الإخوان المسلمين والحركة السلفية، يصعب الحسم ما إذا كانت هذه الحركات تسعى إلى وضع حد للرأسمالية السائدة في هذه البلدان؛ لأنها بدورها جزء من التحالف الطبقي المسيطر، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإن هذه الحركات لا تؤمن بحقوق الإنسان ولا يمكنها أن تخدم القيم الكونية الكبرى التي كرستها الحداثة الغربية، ناهيك عن إخضاع المسئولين السياسيين للمحاسبة: فهل خضع رأسماليو الإخوان للمحاسبة يومًا: الشاطر وأذنابه؟
تعرج بن حبيب على الدور الرئيسي الذي لعبته وسائل الإعلام الجديدة العابرة للحدود، والتي تمنح للأفراد هامشًا من الحرية وسرعة في التواصل والتنسيق والتعبئة: الفايسبوك والتويتر. وهي لا تشك في أنها وسائل توجيهية من القوى الغربية، وإنما وسائل لعب شبابٌ ثائر بدوره دورًا هامًّا في الحراك باعتباره مساهمًا من جهته في تلك التمردات، وتقدم نموذجًا بوائل غنيم الذي يجسد «حالة خاصة في هذا الانفتاح العالمي حينما صرح: «سوف أصافح مارك زوكربورج حينما ألتقي به!» وكان يعلم دون مواربة أن مارك زوكربورج يهودي! وماذا بعد؟»
هل تمثل إيران نموذجًا لمصر وتونس بالمقارنة مع النموذج التركي والماليزي؟
تصرح بن حبيب أن: «لا أحد على ما يبدو قادر على تقليد النموذج الإيراني، ونظرًا للاختلافات بين دور اللاهوتي-السياسي للدين الشيعي وبين الدور اللاهوتي-السياسي للدين السُّنِّي، فليس يمكن أن تتبع مصر أو تونس النموذج الإيراني. ولكن يمكن أن تشكل ماليزيا (مجتمع مسلم استبدادي ومنغلق، حيث تجد المرأة والفضاء العمومي متحكمًا فيه) وتركيا (مجتمع متعدد ويتبنَّى ديمقراطية حيَّة من طرف أحزابٍ سياسية متعددة، وغالبية مسلمة وتاريخها الخاص من استبداد الدولة) نموذجًا لهذه البلدان»؛ ﻓ «الروابط التاريخية بين تركيا وبلدان من قبيل تونس ومصر (وليبيا أيضًا) تعود إلى الحقبة العثمانية؛ حيث نجد أسماء النخب والمدن التركية حاضرة بعمق وعلى نطاق واسع. ولقد أشاد الشباب المصري كثيرًا بالنموذج التركي».
تختم بن حبيب مقالها الثاقب النظر باستلهامها لروح هيجل من جديد مُعلِنة أنها ستحذو حذوه، وسترفع كأس شرف الشباب الثائر كل يوم ١١ فبراير، كما فعل هيجل حينما قرر أن يرفع كأسه للاحتفال بثوار فرنسا كل ١٤ يوليوز يوم اقتحام سجن الباستيل.
(٣-٣) موقف بن حبيب من تركيا وأوروبا
تتميز تحليلات الفيلسوفة سيلا بن حبيب بمواقفها النقدية الجريئة من القضايا المعاصرة التي تهم ملايين الشعوب، وباعتبارها من أصول تركية فلم تتوانَ عن تحليل الوضع العام بتركيا محاوِلة تقديم عناصر حلول لمجمل المشاكل التي تهم الشعب التركي. فرغم عيشها في أمريكا كواحدة من أبرز فلاسفة العصر فإن تركيا بلدها الأصل تظل في قلبها حاضرة دومًا. هكذا قدمت رأيها كاشتراكية ديمقراطية تؤمن بإمكانية التغيير والإصلاح في بلدها عكس ما تروِّج له بعض الأقلام النِّسوية المسخَّرة في خدمة السياسة الخارجية الأمريكية. ولا ينبغي أن يفاجئنا موقفها من حزب العدالة والتنمية الحاكم اليوم في تركيا، حيث أكدت أن تجربة هذا الحزب جديدة ويمكنه أن يقدم نموذجًا جديدًا مستفيدًا من التركيبة التعددية للمجتمع التركي. ورغم ذلك تتوجس بالحذر الكبير تجاه هذا الحزب، الذي ينبغي في نظرها مراقبته عن قرب وتقدير المسافات بُعدًا عنه، فهي لا تؤمن أن الحزب الحاكم قادر على إرساء نظام أوثوقراطي في تركيا؛ لأن ذلك غير ممكن، ولكنها لا تستبعد أن قاعدة هذا الحزب تؤمن بإمكانية قيام الدولة الدينية، وتحاجُّ على ذلك بكون الاشتراكيين الديمقراطيين لا يمكنهم بحكم تاريخهم مع القمع والاضطهاد الذي مارسه الجيش في حقهم، لا يمكنهم أن يقبلوا عودة الجيش والمؤسسة العسكرية إلى معترك السياسة.
(أ) تركيا والإسلام وساركوزي وأوروبا٥٥
تقرَّب أتاتورك من المؤسسات التعليمية غير العلمانية؛ بحيث كانت كل تلك المؤسسات — أو على الأقل معظمها — في ظل النظام الإمبراطوري في قبضة التنظيمات الدينية، كما كانت هناك «خلايا» تنظيمات سرية داخل أجهزة الدولة. ويجب التمييز بين هذا النوع من دين الدولة وبين الدين التقليدي لعامة الناس؛ فالفلاحون على سبيل المثال لهم أشكالهم الخاصة في التدين، وما كان يواجه أتاتورك هو هذا الزواج بين الدين والإمبراطورية. أما ما يحدث اليوم فهو عودة/يقظة الإسلام عالميًّا والتي ساهمت فيها آثار العولمة وأزمة الدولة-الأمة.
يُعاب على تركيا كما هو الحال في معظم الدول الإسلامية، غياب العديد من القضايا الهامة في النقاش العمومي؛ فالجنين لا يعتبر شخصًا من وجهة نظر الإسلام كما هو الشأن بالنسبة لليهودية، وهذا ما يدفع بالدول الإسلامية إلى تغييب النقاش العمومي حول الإجهاض؛ لأن صحة الأم تُوضع في المقام الأول. في حين أن مسالة صورة المرأة في الفضاء العمومي، تثير النقاش أكثر وعلى الأخص «حجاب المرأة»، بل وتستغل هذه الصورة في الفعل السياسي (ظهور زوجة رجب أردوغان مرتدية الحجاب بعد توليه رئاسة تركيا).
(ب) الفعل السياسي في تركيا
كانت هذه البرجوازية الجديدة الأناضولية إلى حدود الأمس القريب مُبعدةً تمامًا من السياسة التركية، وتميل إلى تفويض تمثيليتها للنخب، أي إلى البرجوازية الكبيرة الصناعية بإسطنبول أو إلى الجيش، إلا أنها اليوم صارت تمتلك صوتًا سياسيًّا؛ فمع التطور العام لتركيا رفضت أن تكون مجرد ديكور خلفي وشرعت في الاندماج الاقتصادي. إنها أساس وقاعدة حزب العدالة والتنمية.
(ﺟ) ساركوزي وانضمام تركيا للاتحاد الأوروبي
موقعها بجامعة يال، انظر الرابط: http://philosophy.yale.edu/benhabib.
- (1) Gender, Community and Postmodernism in Contemporary Ethics (1992).
- (2) Democracy and Difference Princeton University Press, 1996.
- (3) The Rights of Others. Aliens, Residents and Citizens Cambridge University Press, (2004).
- (4) Another Cosmopolitanism Oxford University Press, (2006).
- (5) A Study of the Normative Foundations of Critical Theory (1986).
- (6) The Reluctant Modernism of Hannah Arendt (1996), réédité en (2002).
- (7) The Claims of Culture. Equality and Diversity in the Global Era (2002).
- (8) The Rights of Others. Aliens, Citizens and Residents (2004).
- (9) Critique, Norm and Utopia. A Study of the Normative Foundations of Critical Theory (1986).
- (10) Situating the Self. Gender, Community and Postmodernism in Contemporary Ethics (1992).
- (11) Another Cosmopolitanism: Hospitality, Sovereignty and Democratic Iterations, with responses by Jeremy Waldron, Bonnie Honig and Will Kymlicka (Oxford University Press, 2006).
- (12) Dignity in Adversity. Human Rights in Troubled Times (UK and USA: Polity Press, 2011).
- (13) Mobility and Immobility. Gender, Borders and Citizenship.
- (14) Feminist Contentions: A Philosophical Exchange (Thinking Gender).
- (15) Feminism As Critique: On the Politics of Gender (Exxon Lecture Series), (1994).
وهذا الكتاب في الأصل محاضرة ألقتها بن حبيب في جامعة بركلي Berkeley في مارس ٢٠٠٤، ونشرتها مع الردود عليها في أكتوبر ٢٠٠٥، وتعود الردود على بن حبيب إلى كل من: جيرمي والدرون Jeremy Waldron الذي عنون محاضرته: معايير الكونية، وبوني هونيج Bonnie Honig: كونية أخرى، وويل كيمليكا Will Kymlicka.
N. Fraser: le féminisme on mouvements: des années 1960 à l’ère néolibérale, traduction: Estelle Ferrarese, la découverte, Paris, 2012. (le cas de Habermas et du genre).
رابط المقال النسخة الانجليزية: http://publicsphere.ssrc.org/benhabib-the-arab-spring-religion-revolution-and-the-public-square/.
Publié sur le site de Mouvements le 7 septembre 2007. http://www.mouvements.info/.
رابط المقال: http://www.mouvements.info/La-Turquie-l-islam-Sarkozy-et-l.html.