سارا
منذ زمن ليس ببعيد، وفي يوم شتاء غائم، جلست فتاة صغيرة في عربة بصحبة والدها، وأخذت تحدق عبر النوافذ في شوارع لندن الواسعة التي يغشِّيها الضباب. بدا لها وكأنهما كانا يتنزهان البارحة فحسب في شوارع الهند المُشمسة. لكن هذا لم يكن البارحة بالطبع؛ إذ قاما برحلة بحرية طويلة حتى وصلا إلى هنا في هذا المكان الجديد الغريب.
كانت سارا في السابعة من عمرها فحسب، لكنها بدت أكبر كثيرًا من عمرها الحقيقي، وكأنها عاشت دهرًا.
قالت سارا عندما بدأت العربة تُبطئ السير: «أبي، أبي؟»
نظر كابتن كرو إلى ابنته، وقال: «نعم يا سيدتي الصغيرة؟»
كان كابتن كرو من نوعية الرجال الذين يتسمون بالصبيانية وخلو البال، وكان يتقلد منصبًا في الجيش البريطاني في الهند. وكان يدلِّل ابنته باسم «سيدتي الصغيرة»، لأنها بدت ناضجة وحكيمة أكثر بكثير مما يوحي عمرها. وأحبَّت سارا الاسم الذي يناديها والدها به.
همست الفتاة: «ألم نصل بعد؟» عَبَر السائق بوابة حديدية عالية نحو ساحة مرصوفة بالحجارة.
أجابها والدها: «أجل يا سارا. ها نحن قد وصلنا أخيرًا» ومع أنه حاول أن يخفي شجنه، فقد أدركت سارا أنه يتمنى لو أنهما لم يصلا.
كان والدها يعِدُّها منذ زمن طويل لهذا المكان؛ وهو المدرسة الداخلية التي ستكون مأواها الجديد. ولأن المناخ في الهند كان يمثل خطرًا على صحة الأطفال — فإما حر لافح أو برد ورطوبة يصاحبان الرياح الموسمية، كانوا يرسلون الأطفال عادةً إلى إنجلترا. رأت سارا أطفالًا آخرين وهم يغادرون، وأحيانًا ما كان يغمرها الحماس بشأن الرحيل في مثل هذه المغامرة، لكنها كانت تشعر بالحزن والفزع عندما تفكر في الابتعاد عن والدها.
دأب والدها على أن يقول: «سيكون هذا لفترة وجيزة فحسب»، وإن الجميع سوف يحسنون معاملتها هناك، وإنه سوف يبعث لها بفيض من الكتب التي ستنهل منها، وإنها ستنضج في لمح البصر وتصبح ذكية ذكاءً يؤهلها للعودة إلى الهند للاعتناء به.
راقت هذه الفكرة لسارا؛ فمنذ أن فارقت والدتها الحياة عند ولادتها، تُركا هما الاثنان وحدهما ليعتني كل منهما بالآخر. ومن أجل هذا السبب وحده، قررت سارا الرحيل.
مازحته سارا: «حسنًا، إذا حُزت الكثير من الكتب، أظن أنني سأكون على ما يرام.»
ضحك والدها، ثم قبّلها. ومع ذلك لم يكن موقنًا أنه سيكون على ما يرام بدون رفيقته الصغيرة سارا المفعمة بالحيوية والنشاط، لكنه رأى أنه لا بد أن يخفي ذلك عنها من أجل مصلحتها.
فتحا الباب الثقيل ثم دخلا.
وكان أول انطباع كوَّنته سارا عن الآنسة منشن لدى دخولها الحجرة أنها هي الأخرى عتيقة مغالية في زينتها وأيضًا جامدة وباردة إلى حدٍّ ما.
ابتسمت الآنسة منشن ابتسامة مصطنعة ومريبة.
قالت على سبيل المداهنة: «شرف عظيم لي أن أتولى رعاية مثل هذه الطفلة «الذكيَّة الجميلة» يا كابتن كرو.»
فكَّرت سارا في الكلمات التي قالتها الآنسة منشن. ظنَّت سارا أنها ذكيَّة مقارنة بسنها — ولطالما سمعت الناس يقولون هذا لوالدها — فكانت الآنسة منشن على صواب في هذا الأمر. بيد أن سارا كانت تظن أنها ليست جميلة على الإطلاق، وقد جانبها الصواب في هذا الظن. قالت سارا في نفسها: «أنا أقبح فتاة على وجه البسيطة، وأشدُّهن نحافة. إن الآنسة منشن مرائية كبيرة.»
وستعلم في وقت لاحق أن الآنسة منشن تقول نفس الكلمات لكل والد يحضر طفلته إلى مدرستها.
أنصتت سارا فيما كان والدها والآنسة منشن يتحدثان. وقد اتفقا على أن تحصل سارا على أي شيء تطلبه، ولسوف يتولى مدير أعمال كابتن كرو من شركة «بارو آند سكيبورث» دفع كافة الفواتير.
وتقرَّر أن تحصل سارا في المدرسة على غرفة نوم جميلة، وغرفة جلوس خاصة بها، ولعب، وحلوى، بالإضافة إلى عربة يجرها فرس صغير. ولسوف تحل محل مربيتها الهندية خادمة فرنسية تُدعى مارييت. ذكر كابتن كرو أن أي فتاة أخرى غير ابنته كانت ستفسد أخلاقها من مثل هذا التدليل الزائد، ولكن هذا لا ينطبق على ابنته سارا.
أيضًا ستصطحب سارا دمية مفضلة أطلقت عليها اسم «إميلي» لتكون صديقةً لها في غياب والدها. وكانت إيميلي إحدى الهدايا التي اشتراها كابتن كرو وسارا عندما تسوقا اليوم السابق. واشترى لها أيضًا فساتين، وقبعات مزينة بالريش والفرو، وقفازات صغيرة، وأوشحة، وعدة أزواج من الجوارب الحريرية. وكانت البائعات يتهامسن فيما بينهن أنه لا بد أن تكون سارا ابنة أحد الأمراء الهنديين.
لكن من بين كل هذه الأشياء كانت إيميلي الهدية المحببة إلى نفس سارا؛ إذ كادت الدمية تبدو بعينيها الزرقاوين البراقتين وشعرها اللامع وملابسها المتناسقة التي اختاراها معًا، إنسانًا، وكأنها الأخت الصغيرة لسارا. والأروع من هذا وذاك، بدت هذه الدمية وكأنها تنتبه وتنصت بحق متى تكلمت سارا؛ الأمر الذي لم يكن معهودًا مع الدمى. فبعد أن رأت سارا مئات الدمى في ذلك اليوم، انجذبت إلى إيميلي في اللحظة التي وقعت عليها عيناها في واجهة المتجر الزجاجية، وكأنها التقت بصديق قديم.
أخذ كابتن كرو سارا إلى الآنسة منشن في المساء الذي سبق اليوم المزمع أن يعود فيه إلى الهند كي تقضي ليلتها الأولى بمفردها. وفي وداع كل منهما الآخر، جلست سارا على حجِر أبيها وحملقت فيه، وبدت وكأنها تخشى أن تطرف بعينيها فتفقد رؤيته لحظة.
سألها: «أتحاولين أن تحفظي شكلي عن ظهر قلب؟»
أجابته: «لا، أنا بالفعل أحفظك عن ظهر قلب، فأنت تقبع بين ثنايا قلبي.» وعندئذ فقط أغمضت عينيها، ثم عانقته وكأنها لن تتركه أبدًا.
بعدما غادر والدها، اتجهت سارا إلى غرفتها، وأغلقت بابها. ومضت ساعات دون أن يُسمع دبيب نملة من داخل غرفتها. لم تستطع الآنسة أميليا السمينة غير المهندمة، أخت الآنسة منشن، تكوين انطباع عن سارا.
قالت الآنسة منشن في حدة: «حسنًا، هي على الأقل لا تركل الأرض ولا تصرخ مثلما يفعل بعضهن.»
وكانت الآنسة أميليا قد أفرغت أمتعة سارا في وقت مبكر، لكنها لم تساعدها في تكوين رأي عن سارا أيضًا. ومع أن الآنسة أميليا كانت أطيب قلبًا من أختها، أحيانًا ما كان يصعب تمييز ذلك، لأنها كانت تخشى عصيان الآنسة منشن.
قالت الآنسة منشن: «يا لهما من تافهين، لقد دُلِّلت هذه الفتاة وكأنها أميرة صغيرة!»
أومأت الآنسة أميليا بالإيجاب تصديقًا على كلامها.
أضافت الآنسة منشن: «ومع ذلك أنا موقنة بشدة من أن سارا ستشرِّفنا عندما تتصدر صفوف الفتيات إلى الكنيسة يوم الأحد.» وكانت الآنسة منشن تقلق بشدة على صورتها في أعين جميع من حولها. وكانت ترجو أن تكون سارا تلميذة مثالية في جوانب متعددة.
وفي الدور العلوي وقفت سارا وإيميلي في النافذة، لا تزالان تحدقان في زاوية الشارع الخالي من المارة حيث اختفت عن الأنظار العربة التي تقل كابتن كرو. ولقد لوح لهما من النافذة الخلفية وكأنه لا يتحمل أن يقول كلمة الوداع.
ولم تكن سارا تعرف هل بمقدورها هي أيضًا أن تتحمل هذا؟
•••
في الصباح التالي، فيما كانت سارا ترتدي ملابسها استعدادًا ليومها الأول في المدرسة، تنهَّدت، وقالت لدميتها إيميلي: «أوه يا إيميلي، ليتك تستطيعين أن تأتي معي إلى الفصل.»
نظرت مارييت، التي كانت تساعدها في الاستعداد للذهاب إلى المدرسة، إليها وكأنها فقدت صوابها لأنها تتحدث إلى دميتها.
سألتها سارا بطلاقتها المعهودة في اللغة الفرنسية وهي تهز منكبيها في استنكار: «إلام تحدقين؟ لتعلمي أن الدمي تحيا في الخفاء، فبمقدورها أن تسير وتتحدث.» توقفت سارا ثم استأنفت حديثها قائلة: «ولكنها لا تفعل هذا أمام أحد.»
سألتها مارييت بالفرنسية أيضًا: «لماذا؟»
أجابتها سارا: «حسنًا، لو علم الناس ما تستطيع أن تفعله الدمى، لحملوها على أداء مهامهم!»
قالت مارييت: «أعرف أنني كنت سأفعل ذلك.» ثم فكرت في نفسها ما أحلى خفة دم سارا. دأبت على قول «من فضلك» و«أشكرك»، فبدت وكأنها أميرة صغيرة حقًّا.
عندما دخلت سارا إلى الفصل، التفت الجميع يحدقون فيها، وكانت لافينيا هيربرت، البالغة من العمر ثلاثة عشر عامًا، تحملق فيها بشدة. أما لوتي ليج، التي لا تزال في الرابعة من عمرها فحسب، فقد احولَّت عيناها وهي تنظر إليها.
همست لافينيا إلى صديقتها جيسي: «يا إلهي! انظري إلى ما ترتديه الفتاة الجديدة. ما كل هذه الزينة!»
همست جيسي: «إنها ترتدي جوارب حريرية جميلة! انظري إلى قدميها الصغيرتين!»
تذمَّرت لافينيا، وقالت: «اعلمي أنه حتى الأقدام الكبيرة تبدو صغيرة لدى ارتداء الجوارب الحريرية! لا أظنها جميلة على الإطلاق، بل تبدو غاية في الغرابة.»
أومأت جيسي مصدقة على كلام لافينيا، إذ كانت تخشاها. لكن عندما أدارت لافينيا رأسها، اختلست جيسي نظرة أخرى لسارا. لم تكن جيسي واثقة من أن سارا جميلة، لكن كان ثمة شيء في سارا جعلها ترغب في أن تنظر إليها مرة أخرى؛ ربما قوامها الطويل الممشوق، أو شعرها المجعد الحالك السواد، أو عيناها الغريبتان ذواتا اللون الأخضر الضارب إلى الرمادي اللتان تشعان حكمة غريبة على طفلة في السابعة من عمرها.
طرقت الآنسة منشن على مكتبها كي يلتزم الجميع الصمت.
رفعت الآنسة منشن صوتها: «أيتها الفتيات، قفن من فضلكن.» وقفت الفتيات في أماكنهن فاستطردت: «أقدم لكن الآنسة كرو، الطالبة الجديدة، التي قطعت كل هذا الطريق من الهند إلينا.»
انحنت الفتيات احترامًا، فانحنت سارا بالمثل.
قالت الآنسة منشن: «دعونا نبدأ.» ثم وجهت كلامها إلى سارا: «أنا على يقين من أن والدكِ استأجر خادمة فرنسية من أجلك؛ لأنه أرداكِ أن تتعلمي الفرنسية.»
أجابت سارا: «آنسة منشن، مع كل احترامي لرأيك، أظن أنه استأجرها لأنه ظن أني قد أحبُّها!»
تحولت ابتسامة الآنسة منشن المصطنعة إلى نظرة عبوس.
صاحت الآنسة منشن: «يا لكِ من فتاة وقحة مدللة!» لكنها سرعان ما غيرت نبرة صوتها، فليس من الجيد أن تشتكي سارا إلى والدها الثري، لذا تداركت خطأها، وقالت: «أقصد أنك لا تفعلين كل شيء في هذه الحياة لأنك تحبِّينه.»
لم تعرف سارا ماذا تفعل، فهي تعرف أنها كانت تتحدث الفرنسية طيلة عمرها؛ فوالدتها فرنسية، وكان والدها يتحدث إليها بالفرنسية منذ نعومة أظافرها. وفي صباح نفس اليوم عندما كانت تخبر مارييت عن الحياة الخفية التي تحياها دميتها إيميلي، كانت تتحدث إليها بالفرنسية وتفكر بها أيضًا.
لكنها شعرت بشيء من الخوف من الآنسة منشن، شأنها شأن سائر الفتيات.
قالت سارا في محاولة أن تفسر موقفها: «أنا … أنا لم أتعلم الفرنسية في حياتي أبدًا، لكن …»
صرخت الآنسة منشن مرة أخرى رغمًا عنها: «لكن لا شيء! اعتبارًا من اليوم ستبدئين في تلقي الدروس الفرنسية الخاصة بالسنة الأولى. بعد قليل سيحضر معلم الفرنسية، السيد دوفارج. والآن، اجلسي!»
بعد انتهاء الحصة الأولى، اصطحب السيد دوفارج سارا إلى حجرة بعيدة عن قاعة الدراسة الرئيسية كي تتلقى درسًا خصوصيًّا في الفرنسية. كان رجلًا لطيفًا ذا شارب فرنسي ملفوف. بدأ يعلمها بالتدريج وببساطة المقابل الفرنسي لكلمتي «كلب» و«قطة»، وبعدها أخذ يعلمها كيف تنطق كلمتي «ملعقة» و«شوكة».
فكَّرت سارا في نفسها: «لا بد أن أحاول مرة أخرى، لعلَّه يفهمني.»
وبالفعل فعلت هذا، ورفعت عينيها ونظرت إلى وجه السيد دوفارج العطوف، وبلكنة فرنسية رقيقة شرحت له الأمر برمته.
ابتسم السيد دوفارج ابتسامة عريضة للغاية حتى إن طرفي شاربه ارتفعا إلى أعلى.
وبعدها قصد الآنسة منشن، وقال لها: «سيدتي، الفتاة ليست في حاجة إلى أن تتعلم الفرنسية، إنها فرنسية!»
كانت بقية التلميذات ينصتن، فعلت ضحكات بعضهن لدى سماعهن هذا.
قالت الآنسة منشن وهي تنظر إلى سارا شزرًا: «كان يجدر بها أن تخبرني بهذا بدلًا من أن تجعلني أبدو كالحمقاء!» وكانت هذه هي بداية شعور الآنسة منشن بعدم الارتياح تجاه سارا. وبطريقة ما بدا أن الفتاة الصغيرة قد أظهرت الآنسة منشن على حقيقتها!