المأدبة العظيمة
عندما وصلت سارا إلى المنزل هذا المساء، كانت منهكة القوى تمامًا، وقد عنَّفتها الآنسة منشن لأنها عادت متأخرة من أداء المهام التي كلَّفتها بها؛ إذ لم تكن تبالي بأن الشوارع مبللة وموحلة، وبأنه يصعب على سارا أن تسير بسرعة بحذائها البالي. وكانت الطاهية متكدرة المزاج أيضًا، فصبت جام غضبها عليها أيضًا.
طلبت منها سارا في حياء وهي تضع المشتريات التي أحضرتها لها على الطاولة: «أيمكنني أن أتناول شيئًا؟»
فصرخت فيها الطاهية كعادتها: «انتهى العشاء.»
ترجتها سارا: «أرجوكِ، أنا جائعة للغاية.» وقد احتفظت بنبرة صوتها منخفضة خشية أن يرتجف صوتها.
فقالت الطاهية: «ثمة بعض الخبز في حجرة المؤن، وهذا هو كل ما ستحصلين عليه.»
ومع أن الخبز كان قديمًا ويابسًا وجافًا، التهمته سارا التهامًا، وقالت في داخلها: «أنا آسفة يا ملكيسيديك، فلن أترك لك فتاتة واحدة الليلة!»
وكان دائمًا يصعب عليها أن ترتقي درجات السلم المؤدي إلى العلية، لكنها كانت في غاية الإنهاك الليلة حتى إن درجات السلم بدت بلا نهاية، فاضطرت أن تتوقف أكثر من مرة لتستريح.
وأخيرًا عندما بلغت درجات السلم العليا، رأت بصيصًا من الضوء يتسلل من تحت باب غرفتها، فظنتها إرمنجارد.
لكنها لم تكن في حالة مزاجية تسمح لها بصحبة أحد، غير أنها قالت لنفسها إنها إن كانت تسكن إحدى القلاع، وإرمنجارد تسكن قلعة أخرى، وجاءت لزيارتها فلن تتأفف عندما تسمع صوت الأبواق من وراء الجسر المتحرك وتقول: «أرجوكِ، الوقت ليس مناسبًا.» لن تفعل سارا هذا وإنما ستنزل لاستقبالها، وعندئذ ستقيم مأدبة في غرفة الطعام، ثم تدعو المطربين ليصدحوا بالأغاني ويرووا القصص …
حسنًا، لا توجد مأدبة ولا مطربون يغنون ويعزفون، لكن الأميرة سارا مستعدة لتحيي إرمنجارد عندما فتحت باب غرفتها. كانت إرمنجارد، التي ألفت وجود ملكيسيديك لكن ما زال يتملكها شيء من الخوف منه، تجلس في منتصف الفراش حيث لا يستطيع أن يقفز عليها.
همست إرمنجارد: «ذهبت الآنسة أميليا لتمضي الليل مع عمتها العجوز، ولن يتفقدنا أحد قط أثناء الليل، لذا بمقدوري أن أمكث هنا حتى الصباح إذا أردتُ ذلك!»
قالت سارا في نفسها: «لكن لِمَ تريدين ذلك؟»
قالت إرمنجارد: «تبدين في غاية التعب يا سارا؛ تبدين متعبة وشاحبة.»
قالت سارا وهي ترتمي على مسند القدمين المائل: «فعلًا أنا متعبة للغاية.»
قالت إرمنجارد في حسد: «على الأقل أنتِ نحيفة.»
شعرت سارا وكأنها تود أن تهز إرمنجارد بقوة وتقول لها لو أن الآنسة منشن جعلتها تتضور جوعًا مثلها، لصارت هي أيضًا نحيفة. لكن سارا أمسكت نفسها، وقالت في شجاعة: «لطالما كنت دائمًا طفلة نحيفة.»
وعندئذ فقط سمعت الفتاتان صوت ضجيج على درجات السلم في الأسفل؛ كان صوت الآنسة منشن الغاضب وهي تعنِّف بيكي.
همست إرمنجارد وقد تملكها الفزع: «هل ستأتي إلى هنا؟»
أجابت سارا: «لا أظن ذلك، لكن لا تصدري أي صوت تحسبًا لذلك!»
نادرًا ما تصعد الآنسة منشن إلى الطابق الأخير، لكن بدا أنها تفعل ذلك الآن وتجر بيكي معها.
سمعتاها تقول: «يا لكِ من لصَّة كاذبة! لقد أخبرتني الطاهية أن ثمة أشياء تُفقد من المطبخ على الدوام!»
ردت بيكي باكية: «لست أنا يا سيدتي من فعل ذلك. كنت جائعة للغاية، لكن لست أنا، لم أفعل هذا قط!»
صرخت الآنسة منشن: «كفاكِ كذبًا، ينبغي أن أطلب الشرطة وأزج بكِ في السجن! لقد سرقتِ نصف شطيرة لحم!»
سمعت سارا وإرمنجارد صوت صفعة قوية، فعلمتا أنها صفعت بيكي على وجهها، وعندئذٍ سمعتا صوت باب غرفة بيكي يُغلق، وبدأت الآنسة منشن تعود أدراجها. كانت بيكي تبكي بصوت منخفض على وسادتها.
ارتجفت سارا، وصرخت: «يا لها من طاهية بغيضة! إنها هي من يسلب الأشياء ثم تشير بإصبع الاتهام إلى بيكي؛ بيكي التي تتضور جوعًا حتى إنها تلتقط كسرات الخبز من سلة المهملات!» وضعت سارا يديها على وجهها وأجهشت في بكاء شديد.
حملقت إرمنجارد في صديقتها، ثم طرأت فكرة على ذهنها البليد فقالت في خجل: «سارا، لا أود أن أكون وقحة، لكن هل أنتِ جائعة؟»
كان هذا كثيرًا على أن تتحمله سارا، فانفجرت فيها: «ماذا تظنين يا إرمنجارد؟ أجل، أنا جائعة، بل أتضور جوعًا حتى إنني أكاد ألتهمك!»
التقطت إرمنجارد أنفاسها: «أشعر أنني حمقاء للغاية، لكنني لم أعلم هذا قط.»
ضحكت سارا وهي لا تزال تبكي: «لم أشأ أن أعلمك بهذا، فهذا سيجعلني أبدو شحَّاذة.»
صاحت إرمنجارد وهي تقفز قفزة خفيفة من شدة الحماسة التي غمرتها: «سارا!» وقد بدأت الأفكار تنهال على ذهنها بسرعة الآن، وكانت هذه فكرة رائعة بحق. «أرسلت لي عمتي ظهر اليوم صندوقًا يعج بكل ما لذّ وطاب؛ فهو يحتوي على الكعك، وشطائر اللحم، والتورتة المحشوة بالمربى، والكعك المحلى، وعصير البرتقال والعنب الأحمر، والتين، والشوكولاتة …»
قاطعتها سارا: «كفى!» إذ بدأَتْ تشعر بالدوار.
قالت إرمنجارد: «سأتسلل إلى غرفتي لأحضرها إلى هنا ثم نأكل معًا، اتفقنا؟»
قالت سارا: «آه يا إرمنجارد، دائمًا يتحقق الخيال، أليس كذلك؟ ففي الوقت الذي تظنين فيه أنك لا تستطيعين المضي قدمًا وأن الحياة أصبحت بغيضة، يحدث شيء سعيد، ولا يبلغ السوء مداه أبدًا. يمكننا أن نتخيل أنه حفل عشاء! هل يمكنني أن أدعو السجينة في الزنزانة المجاورة؟»
وافقت إرمنجارد، وفي الوقت الذي ذهبت فيه لتحضر وليمة العشاء، طرقت سارا على الجدار طرقات الاستدعاء. وفيما كانت سارا بانتظار عودتها، أخذت تنظر حولها في أرجاء العلية بنظرة جديدة مليئة بالحماسة.
قالت سارا: «أنا في حاجة لمساعدتك يا بيكي كي نعد الطاولة من أجل مأدبة عظيمة!»
ولمّا وجدت سارا وشاح إرمنجارد الذي كان قد سقط على الأرض، أخذته وغطت به طاولة قديمة. أوه! يا للروعة، لقد أصبح هناك منضدة عشاء جميلة مغطاة بقماش أحمر فاره. وفي صندوق قديم بالغرفة، عثرت سارا على العديد من المناديل البيضاء القديمة، فوضعتها في نظام على مفرش المائدة الأحمر. ثم تخيَّلت سارا وبيكي وجود أطباق ذهبية عليها مناديل أنيقة.
عثرت بيكي أيضًا وسط أغراضها القديمة على قبعة صيفية مزينة بإكليل من الزهور الذابلة، فوضعتها سارا في منتصف الطاولة لتزينها بها. سألتها سارا: «أليست ألوانها خلابة؟ هل شممت من قبل مثل هذا العبير الذكي؟»
وفي تلك اللحظة، اندفعت إرمنجارد إلى داخل الغرفة منقطعة الأنفاس من حمل سلتها عبر السلم الطويل، فانبهرت لدى رؤيتها المائدة المعدَّة، وقالت: «يا إلهي! يا لها من قاعة احتفال رائعة!» ابتسمت سارا إذ لم تنس إرمنجارد الدروس التي تلقتها حول كيفية التخيل.
تنهدت بيكي: «تشبه مائدة الملكة.»
فقالت إرمنجارد لسارا: «ستكونين أنتِ الأميرة، وتجلسين عند رأس المائدة.»
لكن لم تكد الفتيات يتخذن مقاعدهن حول المائدة أو حتى تلمس أياديهن كعكة واحدة، حتى تجمد ثلاثتهن لدى سماعهن صوت شخص يرتقي درجات السلم غاضبًا، وبالطبع لم يختلفن حول هذا الشخص.
دفعت الآنسة منشن الباب بقبضة واحدة من يدها، فظهر أمامها ثلاثة وجوه مرتعدة.
قالت الآنسة منشن: «كنت أشك في حدوث شيء من هذا القبيل، لكن لم يخطر لي قط أنه يُستخف بي إلى هذه الدرجة. لقد أخبرتني لافينيا بالحقيقة!»
أجهشت إرمنجارد في البكاء، وتوسلت إليها: «أرجوكِ لا تعاقبي سارا أو بيكي، فالخطأ خطأي وحدي. لقد أرسلت لي عمتي هذا الصندوق، وكنا نقيم حفلًا فحسب …»
قالت الآنسة منشن: «بحيث تكون الأميرة سارا عند رأس الطاولة. أنا على يقين أن هذا من تدبيرك يا سارا؛ فإرمنجارد لا تتمتع بالذكاء الكافي لتفكر في مثل هذا الأمر.»
التفتت الآنسة منشن، وحدَّقت في المائدة التي تحولت بفعل نظرتها إلى مائدة كئيبة ومثيرة للشفقة مرة أخرى، ثم قالت: «لا شك أنكِ من أعد كل هذه الحثالة.»
عندما أومأت سارا بالإيجاب، رفعت الآنسة منشن ذراعها، وبدفعة واحدة قوية وحقيرة، أزاحت كل الأطباق والزهور إلى سلة إرمنجارد، ثم أخبرت سارا: «لا إفطار ولا غداء ولا عشاء لكِ الغد.»
أجابت سارا في وهن شديد: «لكنني لم أحصل على أي غداء أو عشاء اليوم.»
ردت الآنسة منشن: «هذا هو غاية المراد!»
ثم التفتت إلى إرمنجارد، وقالت: «ما هذا الذي فعلتيه يا إرمنجارد، ماذا سيقول والدك إذا عرف أين كنتِ الليلة؟»
وفيما كانت الآنسة منشن تهم بالرحيل، استرعى انتباهها شيء ما على وجه سارا؛ ألا وهو نفس النظرة التي تثير ثائرتها دائمًا، واليوم بدت هذه النظرة مزعجة للغاية.
فسألتها: «لمَ تحدقين فيّ هكذا؟ فيم تفكرين الآن؟»
أجابتها سارا: «كنت أتسأل فحسب، ماذا كان سيقول والدي إذا عرف أين كنتُ الليلة؟»
فقدت الآنسة منشن أعصابها مرة أخرى، وقالت: «يا لكِ من فتاة صفيقة! سأتركك تتساءلين كيفما شئتِ.» وبعدما دفعت سلة الطعام إلى يد إرمنجارد، جرتها من مؤخرة عنقها، وتُركت سارا وحدها تمامًا في الظلام.
تركها الجميع باستثناء وجه رام داس الداكن اللون، الذي كان يقف على السطح خارج نافذة سارا ويراقب ما يحدث في غضب. وكان قد اقترب من نافذتها لأنه سمع صوت النقاش المحتدم عبر الجدران، وأراد أن يتأكد من أن صديقته الصغيرة بخير.
ورأى أن سارا لم تكن بخير مطلقًا؛ إذ انكمشت في فراشها تبكي حتى غلبها النعاس. ليت بوسعه هو وكاريسفورد أن يفعلا شيئًا حيال ذلك، ولعلَّ حالتها أن تتحسن بحلول الغد.