صاحبة الجلالة
انقضى عامان دراسيان كاملان. وازدادت سارا قوةً وذكاءً، وكانت تحلم كل ليلة بالعودة إلى الهند للاعتناء بوالدها. وكان كابتن كرو يكتب لها خطابات طويلة مفصلة. وبعث إليها أيضًا بالكتب التي تقرؤها في وقت متأخر من الليل بعدما تخلد الفتيات الأخريات إلى النوم.
وقد مكنتها لغتها الفرنسية الطلقة وقصصها عن الهند من أن تصير الفتاة المثالية لتتباهى بها مدرسة الآنسة منشن الداخلية الراقية. وبدأت بعض الفتيات الأخريات يعاملن سارا وكأنها تنتمي إلى عائلة ملكية بحق، في حين غارت أخريات من الرعاية الخاصة التي تتلقاها ومن مظهرها المترف كما يرونه.
وفي يوم من الأيام، وفيما كانت في الردهة بصحبة زميلاتها في الفصل، تسلمت ربما أكثر خطاباتها تشويقًا على الإطلاق؛ إذ أطلعها كابتن كرو في هذا الخطاب على عمل جديد من المؤكد أنه سيجعلهما أكثر ثراءً من ذي قبل؛ إذا وافق على أن يكون شريكًا في منجم ماس مع أعز صديق له، وهو رجل تعرف عليه عندما كان لا يزال صبيًّا في المدرسة الداخلية.
فكرت إرمنجارد على نحو حالم: «ليتني أنا وسارا نمتلك منجم ماس يومًا ما.»
زفرت لافينيا، وقالت في حقد: «وهل ينقص سارا المزيد من الثراء!»
أقرت جيسي بما في داخلها: «يا له من أمر خيالي.»
وافقتها سارا الرأي. لم تكن سارا تكترث للثراء في حد ذاته. إن كانت تشعر بالإثارة (وهو ما حدث بالفعل)، فذلك لأن فكرة منجم ماس فكرة خيالية في جوهرها، بل وساحرة أيضًا، فهي أشبه بحكايات «ألف ليلة وليلة.»
وما أحلى القصص التي ألهمها بها منجم الماس! فأخذت سارا تروي على مسامع إرمنجارد ولوتي وبيكي والفتيات الأخريات قصصًا مبهجة عن الممرات الموشَّاة بالمجوهرات في باطن الأرض، وعن الرجال الشجعان الذين ينقبون بمعاولهم بحثًا عن الأحجار الكريمة.
أخبرت لافينيا جيسي: «لا أستطيع أن أتحمل هذا. سوف تتمادى في خيلائها الآن.»
هزت جيسي منكبيها دون اكتراث. فقد بدأت تحب سارا وتتمنى ألا يلحق بها أي أذى، وهي بالطبع لن تطلع لافينيا عما يدور بخلدها مطلقًا.
سألت لافينيا جيسي في محاولة لإحداث مشكلة: «أتعلمين أن سارا تدَّعِي في الخفاء أنها أميرة «حقيقية»؟ أجل هذا حقيقي، لقد سمعتها في إحدى الليال تبوح بهذا لإحداهن، قطعًا تلك الحمقاء البليدة إرمنجارد، عندما كنت أمر بغرفتها. أظن أنه ينبغي لنا جميعًا أن نناديها ﺑ«صاحبة الجلالة».»
قطَّبت جيسي جبينها، إذ لم تشأ أن تناديها بشيء كهذا.
قفزت لافينيا وركضت إلى حيث تجلس سارا وهي تنهي قصتها. وما أشد دهشة سارا عندما أخذت لافينيا تصفق لها.
هلَّلت لافينيا ساخرة وسط تصفيقها: «أوه، يا صاحبة الجلالة، مناجم ماس، يا له من شيء مثير!»
ازدردت سارا ريقها، إذ خجلت بشدة بسبب توهم كونها أميرة (أو «التظاهر» بأنها أميرة كما كانت تطلق عليه)، وها هي ذي لافينيا تسخر منها أمام المدرسة بأكملها.
لقد قررت سار في الخفاء أن تتخيل أنها أميرة حقيقية، ولها رعايا حقيقين (مثل بيكي ولوتي) بحاجة إليها، وكانت تطلق عليهم اسم «العامة»، وأنها سوف تهتم بأشياء أهم من جمالها. وفوق كل شيء، سوف تحاول دائما أن تكون كريمة وعطوف.
شعرت سارا برغبة في صفع لافينيا، لكن الأميرات لا يصفعن الناس كما رأت، حتى الحاقدين منهم أمثال لافينيا. أجبرت سارا نفسها على التكلم بهدوء، بل وعلى نحو ملكي أيضًا.
ردت سارا: «كلامكِ حق، أحيانًا ما أتخيل أنني أميرة، وأحاول أن أتصرف كأميرة. وأنتِ أيضًا قد ترغبين في أن تجربي هذا من وقت لآخر.»
قالت لافينيا في ازدراء: «يراودني سؤال؛ لو كنتِ فقيرة معدمة تقطنين علية، هل كنت ستتخيلين أنكِ أميرة أيضًا؟»
لم تعرف سارا بم تجيبها، لكنها قالت: «بالطبع كنت سأحاول.»
قالت لافينيا: «أف!» ثم اندفعت خارج الغرفة وهي تتأفف وتتبرم.
ومنذ ذلك الحين بدأ كثير من الفتيات الأخريات ينادين سارا عن محبة باسم «الأميرة»، وحتى الآنسة منشن فعلت هذا أيضًا، لكن ليس عن محبة، وإنما ليظن الآباء الذين يزورون المدرسة أن مدرستها تضم فتيات من العائلات المالكة.
ظلت خطابات كابتن كرو تتوالى على سارا، بيد أن سحرها أخذ يخبو شيئًا فشيئًا. قطعًا حاول الكابتن أن يجعل الخطابات تبدو مبهجة وزاخرة بالأخبار السارة؛ فقد أتى على ذكر عيد ميلاد سارا الحادي عشر القادم، ووعدها بإقامة حفل كبير لم تر الفتيات في مدرسة الآنسة منشن مثيلًا له.
لكن سارا بدأت تقرأ الرسالة المختبئة بين السطور؛ اضطرابات في العمل، ومشكلات صحية. وقد بدا أن والدها مهموم وتحدث مرارًا عن مدى افتقاده وحنينه لها، الشيء الذي حرص من قبل على أن يخفيه عنها دائمًا.
وفي يوم عيد ميلادها، جاءت بيكي لتعِدَّ سارا إلى الحفل، وساعدتها مارييت سريعًا في ارتداء ملابسها وزينتها. أمرت الآنسة منشن سارا بأن ترتدي أبهى حُلَلِها؛ فستانًا حريريًّا وردي اللون أُعِدَّ خصوصًا من أجل هذه المناسبة، وأن تجعد شعرها. لم تشأ سارا أن تتحلى بكل هذه البهرجة التي لا داعي لها، لكن الآنسة منشن أصرت كل الإصرار؛ فلأن كابتن كرو سيرد لها ثمن تكلفة الحفل أضعافًا مضاعفة، حرصت على ألا توفر أي نفقات.
قادت بيكي سارا إلى الردهة التي تحولت إلى قاعة الاحتفال. وبدلًا من أن تغادر بيكي القاعة في الحال كما ينبغي لها، لم تستطع أن تمنع نفسها عن المكوث والنظر إلى الزينة ذات الألوان المبهجة، والكعك الشهي، والهدايا.
وما إن لمحتها الآنسة منشن حتى صاحت في غضب: «أيتها الخادمة! اخرجي في الحال!»
توسَّلت إليها سارا: «من فضلك يا آنسة منشن، ألا يمكن أن تمكث بيكي معنا؟ من فضلك أسدي لي معروفًا خاصًّا يوم عيد ميلادي؟ بيكي، قبل كل شيء، فتاة صغيرة أيضًا.»
بدا الامتعاض على الآنسة منشن؛ فلطالما كانت تنظر إلى بيكي على أنها ماكينة أكثر من كونها فتاة صغيرة، لكنها مضطرة أن ترضخ الآن إلى مطلب سارا كيلا تخبر والدها الثري أن الآنسة منشن رفضت طلبها. وها هي سارا تكَدِّرُها مرة أخرى، لكنها لم تكن تعرف السبب تحديدًا.
قالت الآنسة منشن في عبوس: «حسنًا.» ثم لوَّحت لبيكي بيدها، وقالت لها: «اذهبي وقفي هناك، لكن إياك أن تقتربي من الآنسات.»
أسرعت بيكي في سعادة غامرة نحو الركن إلى حيث أشارت الآنسة منشن.
ولم تكن بيكي وحدها التي تنظر إلى الكعك نظرة متلهفة جائعة، لكن الآنسة منشن لم تسمح لأي فتاة بأن تتناول قضمة واحدة، أو تفتح هدية إلى أن يغنين معًا أغنية عيد الميلاد.
أمرتهم الآنسة منشن قائلة: «سأعد من واحد إلى ثلاثة، وعندئذ نبدأ جميعًا في الغناء.» ثم أخذت تطرق بشوكتها الرنانة كي تقودهم إلى البداية الصحيحة.
وبدءوا جميعًا: «عيد ميلاد سعيد …»
وفجأة قطع غناءهم اندفاع الآنسة أميليا على نحو أخرق إلى داخل الغرفة.
فصرخت فيها الآنسة منشن: «أميليا!» إذ ستضطرهن إلى بدء الغناء من جديد.
لكن الآنسة أميليا قالت وهي منقطعة الأنفاس: «إني آسفة. لكنها مسألة طارئة، على الأقل كما يقول السيد بارو. إنه يريد التحدث إليكِ في الحال.»
سألتها الآنسة منشن في لهفة: «من؟»
أجابتها الآنسة أميليا لاهثة: «السيد بارو، إنه في انتظارك ليتحدث إليك في مكتبك. يقول إنه مدير أعمال كابتن كرو.»
انتبهت الآنسة منشن كثيرًا لدى سماعها هذا.
وفكرت في نفسها: «حسنًا، إنها مسألة وقت، لقد أنفقت مئات الجنيهات على هذه الأميرة الصغيرة منذ أن وفدت إلى هنا، وأنفقت على هذا الحفل السخيف وحده مائة جنيه على الأقل، وقد مرت شهور الآن دون أن أسترد بنسًا واحدًا.»
ابتسمت الآنسة منشن ابتسامتها المريبة، ثم أخبرت الفتيات أنها ستعود في الحال. وقد حملتها فكرة أنها ستتسلم شيكًا بمبلغ كبير على أن تغدق عليهن بكرمها المفرط فأخبرت الفتيات أن بمقدورهن البدء في تناول الحلوى، وسيغنين لسارا عندما تعود.