دوام الحال من المحال
هتفت الآنسة منشن وهي تندفع بلطف إلى مكتبها: «سيد بارو، تسعدني رؤيتك مرة أخرى!»
لكن عندما نهض السيد بارو ليحييها، لم تبد عليه أمارات السعادة.
قال السيد بارو في نبرة جادَّة: «آنسة منشن، ربما يجدر بكِ أن تجلسي.»
اكتست ملامح الآنسة منشن بالجدية، وسألته: «هل وقع مكروه؟»
قال السيد بارو وهو يجلس: «هذا أقل ما يمكن أن يُقال.»
وعندئذ أعلن السيد بارو عما يحمله من أنباء؛ كيف انهار مشروع مناجم الماس، وعن الراحل كابتن كرو.
قالت الآنسة منشن لاهثة: «أستميحك عذرًا، «الراحل» كابتن كرو؟»
أكد السيد بارو كلامه قائلًا: «لقد مات يا سيدتي، مات إثر إصابته بحُمَّى الأدغال. لكن هذا ليس كل شيء.»
سألته الآنسة منشن: «وهل هناك المزيد؟»
– «مات كابتن كرو دون أن يترك وراءه مليمًا واحدًا. مات فاقدًا صوابه تمامًا، وهو يهذي بالحديث عن ابنته الصغيرة.»
كادت أنفاس الآنسة منشن تنقطع، ليس على سبيل الشفقة، وإنما من شدة الغضب؛ لقد شعرت كأنما تعرضت للخديعة وجُرِّدت من حقوقها. خدعها الراحل كابتن كرو، والسيد بارو وحتى سارا نفسها.
تحدثت الآنسة منشن بتؤدة: «هل أنت تقول لي الآن … إنه لم يترك أي شيء لطفلته؟ ولم يترك شيئًا لي؟ هناك حفل كبير مُقام الآن من أجل سارا على نفقتي الخاصة، ولن أرى بنسًا واحدًا من المال الذي أنفقته عليها؟»
رد السيد بارو دون أن يختار كلماته: «أجل، للأسف باتت الفتاة شحَّاذة. لكن قبل أن تفكري في طردها إلى الشارع، فكري في صورة مدرستك.» ثم أضاف بجفاء: «واعلمي أن شركة «بارو آند سكيبورث» غير مسئولة عنها، بل أنتِ المسئولة.»
لم تصدق الآنسة منشن الكلمات التي وقعت على أذنيها لتوها، لكن ذهنها كان يعمل بأقصى سرعة بالفعل؛ فهي لا تزيد عن كونها سيدة أعمال ماكرة وها قد عرفت لتوها ما يرمي إليه السيد بارو. وبعد طول صمت تكلمت.
قالت الآنسة منشن مؤيدة كلامه: «أجل، من الأفضل أن أبقيها، وأن أستفيد من وجودها.» ثم ضيَّقت عينيها في مكر، واستأنفت كلامها: «أؤكد لك يا سيدي أنني سأستفيد منها أقصى استفادة ممكنة!»
قطع أصوات الغناء حوارهما. إنه صوت التلميذات كما توقعت الآنسة منشن بذهنها المشوش. لقد بدأن الغناء دونها، فأسرعت عائدة نحو الغرفة.
صرخت في اهتياج: «اصمتن في الحال!» ثم فتحت الباب، واندفعت إلى داخل الغرفة، وقالت: «ليصمت الجميع!»
توقفت الفتيات الخائفات في منتصف الأغنية.
قالت الآنسة منشن: «سارا كرو! تعالي إلى هنا في الحال!»
تفرق شمل الفتيات المحتشدات، وسارت سارا في هدوء نحو مقدمة الحجرة.
ردت سارا: «نعم يا آنسة منشن.»
سألتها الآنسة منشن بنبرة ساخرة: «هل لديكِ ثوب أسود في خزانة ملابسك الملكية الضخمة؟»
قالت لافينيا في همس: «إني موقنة من أن سارا لديها أثواب من كل لون.»
كررت الآنسة أميليا الكلمات قائلة: «ثوب أسود؟ ماذا تقصدين؟»
أجابت سارا في خوف: «لدي ثوب أسود من القطيفة قديم، لكنني كبرت، فبات قصيرًا للغاية عليّ.»
قالت الآنسة منشن: «هذا مؤسف للغاية. اذهبي وبدِّلي هذا الشيء الوردي السخيف بذلك الأسود. لقد ولى عهد الترف والبهرجة!»
وفي صدمتهن، لم تقو أي من الفتيات الأخريات على أن تنبس ببنت شفة.
صرخت الآنسة أميليا: «يا أختي، ما الذي حدث؟» لم تنتقِ الآنسة منشن كلماتها.
قالت: «مات كابتن كرو. مات معدمًا تاركًا هذه الأميرة الصغيرة المدللة طوع بناني.»
شهقت الفتيات الأخريات، وارتمت الآنسة أميليا على أقرب مقعد، وأخذت بيكي التي كانت لا تزال تقف في أحد الأركان، تصرخ. لكن حال سارا كان مختلف تمامًا؛ إذ لم يصدر عنها أي ردود أفعال هوجاء على الإطلاق، ومع أن عينيها اتسعتا بشدة، وشحب وجهها، فقد تسمرت في مكانها كالصنم، ونظرت إلى الآنسة منشن دون أن تنبس ببنت شفة قبل أن تستدير وتسير في صمت إلى خارج الغرفة.
ثارت ثائرة الآنسة منشن عندما نظرت حولها ورأت ما تبقى من الحفل المترف الذي أنفقت عليه ببذخ.
قالت: «أيتها الفتيات! اتركن الكعك، واذهبن إلى غرفكن في الحال!»
ثم التفتت إلى بيكي التي كانت الدموع تنهمر على وجهها بغزارة.
– «وأنتِ، كفاك نحيبًا، ونظفي هذه الفوضى. لقد انتهى هذا الحفل!»
وفي الدور العلوي، كانت مارييت المرتجفة تساعد سارا على تبديل ثيابها بالثوب الأسود القديم الذي أمرتها الآنسة منشن بارتدائه. وكانت مارييت أيضًا قد ازدادت ولعًا بسارا وكانت تخشى أن يكون هذا هو آخر شيء يُسمح لها بأن تفعله من أجلها. وبدا على سارا أنها لم تكد تلحظ وجود مارييت.
ظلت سارا تقول لنفسها في هدوء: «مات أبي. مات أبي.»
لفَّت مارييت إيميلي أيضًا بوشاح أسود بدا لها أنه مناسب.
صرخت سارا: «آه يا إيميلي! هل عرفتِ بما جرى؟ لقد مات والدي! مات في الهند على بعد آلاف الأميال!»
وبدا أن إيميلي قد خرقت قواعد الطبيعة لحظة من الزمن، ودبت فيها الحياة فقط لكي تحدق إلى سارا في شجن عميق من المقعد القريب الذي تجلس عليه. لكن اللحظة انقضت، ومرة أخرى بدت إيميلي لا تزيد عن كونها قطعة من الجماد مغطاة بالأقمشة.
صرخت سارا وهي تهز دميتها: «لقد مات أبي!» فما كان من إيميلي إلا أن رقدت باسترخاء بين يدي سارا.
انسحق فؤاد سارا انسحاقًا لم تذق مثله من قبل، فأجهشت في البكاء، وألقت بإيميلي على الأرض وهي تتمنى من داخلها أن تنكسر.
صرخت سارا: «مات أبي وأنتِ لستِ سوى دمية! دمية … دمية … دمية!»
رقدت إيميلي على الأرض ورجلاها مثنيتان على نحو غريب فوق رأسها وقد انكسر طرف أنفها فصار مفلطحًا. ما زالت إيميلي تبدو هادئة بل وبدت عليها المهابة.
استبد الندم بسارا التي هرعت سريعًا لتلتقط إيميلي من على الأرض. ومرة أخرى بدا أن شيئًا من الحياة دب في الدمية التي نظرت بدورها إلى سارا نظرة متعاطفة تعاطفًا يشوبه الجمود.
أطلقت سارا تنهيدة متعَبة، وقالت: «آسفة، إني موقنة أنه لا حول لكِ ولا قوة.»
وآنذاك قرعت إحدى الفتيات باب سارا حاملة لها رسالة من الآنسة منشن التي كانت تطلب حضورها إلى الطابق السفلي.
كانت سارا لا تزال تحمل إيميلي عندما دخلت مكتب الآنسة منشن.
قالت الآنسة منشن معنفةً إياها: «ماذا تقصدين بإحضارك دميتك إلى هنا؟ ضعيها أرضًا.»
أجابتها سارا: «لا، هي كل ما أملك في الحياة الآن. لقد منحني والدي إياها لتؤنس وحدتي.»
أرادت الآنسة منشن أن تنتزع الدمية من سارا لكنها لم تستطع؛ فلطالما كانت سارا تجعلها مضطربة في داخلها، ومع حملقة سارا الثابتة في عينيها اضطربت الآن أيضًا. في حقيقة الأمر كان يساور الآنسة منشن آنذاك شيء من الخوف من سارا؛ لأنها كانت تعرف في داخلها الشر الذي تنوي فعله.
قالت الآنسة منشن في برود: «لن يكون لديك متسع من الوقت لتقضيه بصحبة الدمى بعد الآن. زمن الرغد ولَّى وزال. وها قد صرتِ وحيدة تمامًا في العالم بأسره.»
للحظة، عبس وجه سارا الهزيل الشاحب الصغير، لكنها لم تنبس ببنت شفة أيضًا، بل لم تبك أو تظهر عليها أمارت الخوف. كانت شجاعتها أكبر من أن تصمد الآنسة منشن أمامها.
سألتها الآنسة منشن في حدة: «إلام تحدقين؟ ولمَ أنتِ صامتة؟ ألا تفهمين ما أقوله لكِ؟ لقد أصبحتِ الآن، مع كل مظاهر الفخامة التي كانت تحيط بك، فقيرة معدمة. سوف تعملين هنا مقابل قُوتَك ولكي تسددي جميع الديون المستحقة عليكِ لي.»
ردت سارا في نبرة حزينة: «أفهم. والآن هل تأذني لي بالانصراف؟»
واستدارت سارا في تؤدة كي تغادر الغرفة.
فقالت لها الآنسة منشن: «قفي مكانك! ألن تشكريني؟»
توقفت سارا في ذهول، ونظرت إلى الآنسة منشن نظرة استغراب، وسألتها: «علامَ أشكرك؟»
ردت الآنسة منشن: «بالطبع على عطفي عليكِ؛ على سماحي لكِ بالبقاء هنا؛ على منحي إياكِ منزلًا يأويكِ.»
غمرت مشاعر الكبرياء سارا لدى سماعها هذه الكلمات، وقالت وهي تتشبث بإيميلي بقوة: «أنتِ لستِ عطوفة، ولن يكون هذا منزلي أبدًا!» ثم استدارت وركضت إلى خارج مكتب الآنسة منشن عائدة إلى غرفتها.
بيد أنه عندما بلغت سارا باب غرفتها وجدت الآنسة أميليا تقف أمامه.
قالت الآنسة أميليا وهي خجلى من نفسها لاضطرارها أن تنفذ تعليمات أختها: «أنا آسفة، لكن هذه لم تعد غرفتك. من المقرر أن تنامي في العلية في الغرفة المتاخمة لغرفة بيكي.» رأت سارا أن هذه هي بداية التغيير الذي أنبأت به الآنسة منشن.
كانت سارا تعرف موضع العلية، فلقد حدثتها بيكي عنها مرارًا كثيرة، لذا استدارت وارتقت مجموعتين أخريين من درجات السلم. وفيما كانت ترتقي السلم شعرت وكأنها تترك وراءها كل شيء عهدته في حياتها. وعندما بلغت قمة السلم، شعرت وكأنها مخلوق مختلف تمام الاختلاف.
وكان سقف غرفتها الجديدة مائلًا، وجدرانها مقشرة الطلاء، وبين جدرانها سرير متحجر يغطيه لحاف رفيع بال، ومدفأة صدئة صغيرة، وعدد من قطع الأثاث المعدومة البالية. وتحت النافذة المكسورة الزجاج مسند قدمين مكسور، قصدته سارا وجلست عليه. نكَّست سارا رأسها، واحتضنت نفسها، وأخذت تتمايل بجسدها. وحتى هذه اللحظة لم تبكِ سارا.
سمعت سارا طرقات خفيضة على بابها، تلاها وجه يختلس النظر في تردد. كان وجه بيكي، الذي — علاوة على كونه ملطخًا ومتسخًا طوال الوقت — كان شديد الحمرة الآن من البكاء.
قالت بيكي: «آنستي، هل تسمحين لي بالدخول؟ هل هناك أي خدمة يمكنني أن أسديها لكِ؟ من فضلك، اسمحي لي أن أظل في خدمتك؟»
رفعت سارا رأسها، وقد نوت أن تبتسم لها، لكن عندما رأت المحبة والحزن على وجه بيكي، تفجر شيء بداخلها، وأخيرًا انهمرت دموعها.
قالت سارا باكية: «أشكرك يا بيكي، لكن ليس في وسع أحد فعل أي شيء. لن تخدميني مرة أخرى، أتفهمين ذلك؟ لقد كنتُ على حق، فنحن لا نزيد عن كوننا فتاتين صغيرتين، لا فرق بيننا. ولم أعد أميرة بعد الآن.»
ركضت بيكي نحو سارا وجثَت على قدميها بجانبها وهمّت بمعانقتها وقالت باكية: «لا يا آنسة، أنتِ أميرة. ومهما حدث فستظلين أميرة على الدوام، ولا يستطيع أي شيء أن يجعلك غير هذا!»