الجندي الأبِيُّ لا يتبرم
كانت ليلة سارا الأولى في العلية هي أشنعها في كل حياتها.
كانت الغرفة نفسها مروعة جدًّا؛ بأرضيتها الخشبية المجردة من الأغطية، وفراشها المتحجر، والرياح التي تعوي فوق رأسها. والأدهى من هذا وذاك، صوت خدوش الأظافر، والصرير الحاد الخفيض الآتي من الجدران. أدركت سارا أن هذه الأصوات أصوات الجرذان.
بيد أن أكثرها رعبًا على الإطلاق هي فكرة أن والدها يمكن أن يكون ميتًا بالفعل، وأنها لن تراه ثانية، وأنها باتت وحيدة في العالم بأسره. ومهما بلغ عدد المرات التي كررت فيها سارا هذه الجملة على نفسها، فهي ما زالت لا تستطيع أن تصدقها.
لكن الآنسة منشن ستكون خير عون في إقناعها بتصديق موت والدها.
في صبيحة اليوم التالي مرت سارا بباب الغرفة التي كانت غرفتها فيما مضى وكان مفتوحًا. اختلست نظرة خاطفة إلى الغرفة من الداخل، فرأت أنهم تخلصوا من كل الأشياء أو استبدلوها بأخرى، وكأن كل أثر للفتاة التي اعتادت أن تكون وللحياة التي اعتادت أن تحياها عندما كان والدها لا يزال على قيد الحياة؛ قد مُحي تمامًا. فكرت سارا في أن الآنسة منشن لا بد أن تكون قد أخذت كل حليها وملابسها الثمينة لتبيعها وتسترد ما أنفقته على حفل عيد ميلادها.
لم تحبذ سارا أن تخطر لها تلك الأفكار الشريرة عن السحر أو عن الكبار، فلطالما كان السحر والتخيل محببين إلى نفسها، بل كانا بمثابة أكبر المصادر التي تستمد منها قوتها، لكن بدا حينئذٍ أن السحر والخيال لن ينفعاها في شيء.
أخبرتها الآنسة منشن عندما نزلت إلى الدور السفلي: «تبدأ حياتك الجديدة اعتبارًا من اليوم. ستعملين لحسابي لقاء مكارم أخلاقي إذ لم أرم بكِ في الشارع. وستستهلين عملك برعاية الفتيات الأصغر وتعليمهن اللغة الفرنسية والمواد الدراسية الأخرى.»
رأت سارا أن هذا لن يكون سيئًا للغاية، فلقد أحبت أن تمضي الوقت بصحبة الفتيات الأصغر وأن تعلمهن أشياء جديدةً، علاوة على أن تعلقهن الدافئ بها ومشاعرهن الصادقة نحوها يوقظان في نفسها البهجة والفرح. ولم تكن سارا تعرف أن هذا ليس إلا بداية الأوجاع.
سوف ترسل الآنسة منشن سارا لقضاء مهام في أي وقت من النهار أو الليل وفي أسوأ الظروف المناخية. بل كانت ترسل سارا حاملة الرسائل لأشخاص في المدينة وأيضًا لتسديد فواتيرها، وهي المهمة التي ما كان يقدر عليها فتى يتحلى بالشجاعة والمسئولية. ومع أن سارا كانت فتاة صغيرة هزيلة، عادة ما كانت الطاهية ترسلها لتشتري مستلزمات الطعام. فكانت سارا تقطع الطرقات حاملة سلَّة ثقيلة بين ذراعيها. وقد أسندت الآنسة منشن إلى سارا كل المهام الصعبة الكريهة التي ما كان ليفعلها الخدم الآخرون.
أما عن بقية الخدم، من طاهية وخادمات، فمع أنهم كانوا خدمًا أيضًا، ما كان منهم إلا أن يفرضوا سلطتهم على الأصغر والأحدث بينهم. وقد اعتادت سارا أن تتصرف على نحو اعتبروه تعاليًا، ولم يخْفَ على أحد أن الآنسة منشن تكرهها، لذا بدا للخدم أن مثل هذه المعاملة هي الأنسب معها.
حاولت سارا أن تظل صابرة وألا تتبرم أو تشكو. وتمنت أن يرى الجميع أنها مخلصة ونشيطة في عملها فيرِقُّون لها ويحسنون معاملتها بمرور الوقت.
لكن الصواب جانبها في هذا الأمر؛ فكلما حاولت جاهدة أن ترضيهم وأن تفعل ما يُطلب منها، زادت خسَّة الجميع وزادت معها مطالبهم.
ومع كل يوم يمر بها، ازدادت حزنًا وغمًّا وزاد شعورها بالوحدة والوحشة. وكان أصعب شيء عليها هو الخروج من المدرسة ورؤية الناس الآخرين؛ فعندما كانت لا تزال الأميرة سارا، كانت نظرة فقط إلى وجهها المشرق المفعم بالحيوية والنشاط تجعل الناس يبتسمون، ولا سيما عندما كانت في الهند.
لكن لم يعد أحد يلتفت إليها بعد، بل إذا وقع نظر أحدهم عليها مصادفة، بدا وكأنه يريد أن يحول نظره بعيدًا عنها بأقصى سرعة ممكنة. لا بد أن منظرها أضحى كريهًا.
في بعض الأحيان، عندما يحل الظلام، كانت تقف أمام النوافذ المضيئة وتحدق في الغرف الدافئة المليئة بالأسر السعيدة. ومن الأسر التي كانت تبدو سعيدة للغاية أسرة تقطن نفس الميدان الذي تقع فيه المدرسة على بعد منزلين من المدرسة فحسب. وكانت سارا تطلق عليهم أسرة لارج أي الأسرة الكبيرة، ليس لأن أفرادها كبار فحسب، وإنما لأن عددهم كبير أيضًا، فكان في الأسرة ثمانية أطفال. وقد بدت أمارات السعادة على الأطفال الثمانية وكذلك على والديهم، وبدا أن روابط المحبة تربط بعضهم ببعض وبالعالم من حولهم. كانوا دائمًا يتبادلون النكات والهدايا ويخرجون للتنزه معًا.
وكان المنزل المجاور للمدرسة مباشرة قد ظل خاويًا فترة من الزمن، لكن سرعان ما أُضيئت شرفاته. ففي يوم من الأيام، وفيما كانت عائدة من أداء بعض المهام التي كُلِّفت بها، رأت شاحنة تقف أمام هذا المنزل؛ الأمر الذي بعث البهجة الشديدة في نفسها. فكَّرت سارا أنها إن تمكنت من رؤية بعض الأثاث، فربما تستشف شيئًا عن الجيران الجدد.
بدا الأثاث المنقول إلى هذا البيت مألوفًا لسارا؛ كانت هناك قطع أثاث مصنوعة من خشب الساج، وأخرى موشاة بزخارف شرقية. عجبًا، لقد رأت أشياء كهذه في الهند! تساءلت تُرى هل يكون جارها الجديد الذي يعيش بمفرده من الهند أيضًا؟ وعندما نظرت بالداخل لم تر أسرة سعيدة كبيرة العدد، وإنما رجلًا وحيدًا. فكَّرت سارا أن هذه هي الأسرة الصغيرة لأنه ليس هناك رقم أصغر من واحد.
وعندما مرّ السيد لارج ليلقي التحية على الجار الجديد، تساءلت هل أفراد الأسرة الكبيرة وتلك الأسرة المكونة من فرد واحد أصدقاء؟ تمنت سارا ذلك من أجل مصلحة الجار الجديد الوحيد. لكن أكثر شيء تعجبت له سارا عندما اختلست نظرة إلى الرجل عبر الشرفة المنيرة، هو أن السيد الوحيد بدا مريضًا ومكلومًا؛ فهل افتقد أحدًا كما افتقد والدها «سيدته الصغيرة» قبل أن يموت؟
من الأشياء التي أحبتها سارا أن عبء الواجبات الدراسية أخذ يزداد صعوبة.
قالت الآنسة منشن: «لا يحتاج الخدم إلى التعليم المدرسي.» وما كانت تقصده بذلك هو أن الخدم ليس لهم الحق في تلقي الدروس. ومع ذلك، كان منتظرًا من سارا بعد أن تمضي يومًا طويلًا تلبي فيه طلبات الجميع، أن تذهب إلى أبعد حجرة دراسية وأكثرها ظلامًا كي تستذكر دروسها بمفردها في الليل. وعادة ما كانت تروح في سبات عميق فوق كتبها، وتستيقظ في الصباح التالي على صوت صفعة أو تعنيف شديد. إذا لم تواصل مذاكرتها، فربما تُحرم من التدريس للفصول الأكبر. هذا هو المستقبل الذي اضطرت سارا أن تتطلع إليه في مدرسة الآنسة منشن.
لكن التحول الكبير كان في الطريقة التي تعاملها بها الفتيات الأخريات؛ فبينما كانت الفتيات ينجذبن إليها في إعجاب في الماضي، أصبحن غير جديرات بالثقة ويصعب التعامل معهن، ولا سيما بعد أن أصبح ثوبها الأسود الوحيد أقصر طولًا وأكثر اهتراءً، وبات حذاؤها كثير الثقوب، ووجهها أكثر شحوبًا وهُزالًا. وبعد فترة وجيزة، أُمرت سارا بأن تتناول طعامها في المطبخ بصحبة سائر الخدم.
ومع أن معاملتهم لها أحزنتها للغاية، فإنها كانت شديدة الاعتزاز بكرامتها فلم تحاول أن تستعيد ثقتهن مرة أخرى. لقد صار قلبها أقوى من جسدها الهزيل وأكثر منه تألمًا. ولم تبح سارا لأي أحد قط عما يخالج فؤادها، إذ كانت ترى أن «الجندي الأبِيَّ لا يتبرم.»
بيد أنه في بعض الأيام، كان فؤادها يعتصر من الوحدة. حتى صديقتها القديمة إرمنجارد خذلتها على ما يبدو؛ فقد مرت الأسابيع على التحول الكبير الذي حدث في حياتها دون أن تراها على الإطلاق. لكن في أحد الأيام، وبينما كان ذراعاها محمَّلين بملابس تحتاج إلى التصليح، إذ بها تلتقي مصادفة بأفضل صديقاتها سابقًا في الردهة.
فما كان من إرمنجارد إلا أن وقفت في مكانها وحملقت، وقد انفغر فمها. حملقت إرمنجارد لأنها لم تتخيل قط أن يئول حال سارا إلى هذا المنظر الغريب والفقر المدقع كالخادمة. أرادت أن تبكي، لكنها كانت في قمة الضجر والتوتر حتى إنها بدلًا من أن تبكي انفجرت في نوبة قصيرة من الضحك، وسألت سارا في غباء: «هل هذه أنتِ يا سارا؟»
أجابت سارا باقتضاب وقد تورد وجهها من الخجل: «أجل.»
قالت إرمنجارد وقد استحوذ عليها الخجل: «كيف … حالك؟»
في السابق لم تضق سارا ذرعًا قط بإرمنجارد البليدة المسكينة، لكنها فجأة شعرت وكأن إرمنجارد لا تختلف كثيرًا عن سائر الفتيات اللاتي تخلَّين عنها.
فقدت سارا أعصابها، وانفجرت فيها قائلة: «كيف ترين حالي؟ يا لكِ من غبية حقًّا، ألستِ كذلك!» انفطر قلب سارا من قسوتها، ومن نظرة الخجل والحزن التي كست وجه إرمنجارد، فاستدارت سارا، ومشت بعيدًا.
ومنذ ذلك اللقاء، حاولت سارا أن تتحاشى سائر الفتيات تمامًا، وقد يسرت الآنسة منشن عليها هذا الأمر. وكانت سارا ترى إرمنجارد بين الفينة والفينة جالسة وحدها في مقعد الشرفة، جاثمة في أحد الأركان تبكي، فكانت تتملكها رغبة في الهرع إليها والاعتذار لها، لكن اعتزازها الشديد بنفسها كان يمنعها من ذلك.
وكان يخفف من كربها أنه لا تزال هناك بيكي على الأقل، فقد كانت بيكي واحدة من مصادر السلوان المحدودة في حياتها الجديدة الشاقة. وبالطبع لم يكن هناك متسع من الوقت في أن تحدث إحداهما الأخرى أثناء النهار، ولم يكن لهما الحق في ذلك، لكن قبل أن يطلع الفجر كانت بيكي تتسلل أحيانًا إلى غرفة سارا لتلقي عليها التحية وتساعدها بشتى الطرق الممكنة. وفي الليل قد تعرج بيكي على سارا لزيارتها مرة أخرى، وكانت دائمًا تطرق الباب أولًا في تواضع.
وقد دأبت بيكي على أن تطلب منها: «أتسمحين لي أن أظل خادمتك يا آنسة؟»
لكن سارا ترفض طلبها بحسم على الدوام وتقول لها مرارًا وتكرارًا: «لا فرق بيني وبينك، نحن لسنا سوى خادمتين صغيرتين نعيش في العلية.»
وعندئذ حدث أمر مشوق؛ بدا أن قريحة سارا الإبداعية الخيالية، التي غرقت طيلة الأسابيع الماضية في شيء من الركود، اضطرمت فيها شرارة الاشتعال لحظات. حتى إن بيكي نفسها لاحظت هذا أيضًا.
همست بيكي: «ما الأمر يا آنسة؟»
قالت سارا وعيناها متلألئتان: «لقد جانبني الصواب في هذا الأمر، نحن أكثر من مجرد خادمتين؛ نحن سجينتان مسكينتان منذ زمن. لقد اندلعت الثورة الفرنسية، وأُسِرْنا وزُجَّ بنا في سجن الباستيل في باريس!» ثم قالت سارا فجأة وبصوت مرتفع: «والآنسة منشن هي السجان، وأنتِ السجينة الموجودة في الزنزانة المجاورة!»
وافقت بيكي التي شعرت بالحماس في داخلها: «أجل يا آنسة، أنا سجينة في الزنزانة المجاورة.» وكانت تشعر بالسعادة ليس بالتفكير في أنها سجينة، ولكن بالتفكير في أن سارا وقصصها قد عادتا إلى الحياة مرة أخرى.