ماذا تفعل الأميرة في موقف كهذا؟
أخذت أيام الشتاء تزداد قصرًا وبرودة حتى إن سارا كانت تزداد هُزالًا وإنهاكًا يومًا بعد يوم.
ولم يكن حال بيكي أفضل منها كثيرًا.
قالت بيكي في صبيحة أحد الأيام قبل أن تبدآ يومهما: «لولا وجودك يا آنسة، لماتت السجينة في الزنزانة المجاورة لكِ.»
وبعدها هبطت الفتاتان درجات السلم كي تستهلا عملهما الشاق الممل.
وكان على سارا أن تتم الكثير من المهام في هذا اليوم، ولأن الطاهية كانت متكدرة المزاج هذا الصباح، بدا أنها ستضطر أن تفعلها وهي خاوية المعدة.
كانت الشوارع غارقة في الضباب البارد الرطب، حتى إن ملابس سارا البالية سرعان ما ابتلت عن آخرها، وتسللت المياه الباردة إلى داخل حذائها المهترئ فأخذ يصدر صوتًا مزعجًا، وبدت الرياح كالسكَّين تخترق جسدها عبر معطفها المهلهل الذي بات ضيقًا عليها.
فكَّرت سارا في صمت: «آه يا بيكي، لعلي أنا التي سأموت اليوم.»
وإذ بعين سارا تقع على شيء يلمع تحت قدميها مباشرة في الوحل. ولمَّا انحنت لأسفل كي تلقي نظرة عن قرب، تبين لها أنها بضع عملات بالفعل. ربما سقطت من ثقب في جيب شخص ما. التقطتها بيدها الحمراء الباردة.
قالت سارا لاهثة: «إنها نقود!»
وكان يقع في نفس الشارع على بعد مسافة قصيرة متجر لبيع المخبوزات، حيث تضع امرأة بدينة بهية الطلعة صينية من الكعك المحلى اللذيذ الطازج في نافذة عرض مضيئة.
كان أكثر ما تتمناه سارا هو أن تأخذ النقود وتشتري بها بعضًا من الكعك المحلى الطازج. وبعد أن أجرت بعض الحسابات في ذهنها، وجدت أنها قد تشتري أربع كعكات.
لكنها عبست، إذ شعرت أنه من الخطأ أن تستخدم مالًا قد ضاع من شخص آخر وقد يكون في حاجة إليه، فنظرت حولها لتبحث عن أي شخص لتسأله عن المال، لكن لم يكن أحد هناك، فقررت أن تسأل على الأقل المرأة في محل بيع المخبوزات إذا كانت هي من فقد هذا المال.
نظرت المرأة إلى سارا في استغراب.
ثم أجابتها: «يا إلهي! لا. هل عثرت عليه؟»
قالت سارا: «أجل، في الوحل.»
فأجابتها المرأة: «حسنًا، فلتحتفظي به، فهذا الشارع شديد الازدحام، ولن تكتشفي قط من الذي فقده.»
قالت سارا: «أعرف، لكنني فكرت في أن أسألك فحسب.»
قالت المرأة وهي تنظر إلى سارا في تقدير واحترام: «قليلون هم من يفعلون مثلك. هل ترغبين في شراء شيء؟»
أجابتها سارا: «أجل، أشكرك. أربع كعكات من فضلك.»
وكانت المرأة قد رأت أن سارا تحملق إلى الكعك في نهم شديد، وكأنها ستأكل مائة كعكة في قضمة واحدة كبيرة، لذا تعطَّفت ووضعت ست كعكات في الكيس بدلًا من أربع.
قالت سارا وهي تنظر إلى الكيس وقد لاحظت الخطأ: «طلبتُ أربع كعكات فحسب، من فضلك. لا أستطيع أن أدفع سوى ثمن أربعة.»
قالت المرأة: «لقد وضعت اثنتين مجانًا؛ فأنا موقنة أنك قادرة على التهامها كلها، ألستِ جائعة؟»
اغرورقت عينا سارا، وقالت: «أجل، أنا أتضور جوعًا. أشكرك شكرًا جزيلًا!»
بيد أنه فيما كانت سارا في طريقها إلى الخروج من المتجر اعترض طريقها شيء ما، أو بالأحرى شخص ما؛ فتاة صغيرة أكثر إثارة للشفقة من سارا نفسها، فتاة لا تزيد عن كونها كتلة من الملابس البالية ينتأ منها قدمان عاريتان صغيرتان حمراوان وملطختان بالوحل، إذ لم تكن ملابسها طويلة بما يكفي لتغطيتها. وفوق هذه الملابس، رأت سارا وجهًا متسخًا تبرز منه عينان جائعتان كبيرتان تشبهان صحن الفنجان، ورأسًا تعلوه كتلة متشابكة من الشعر، حتى إنها بدت مثل حيوان بري.
فكرت سارا في نفسها: «هذه الفتاة أسوأ مني حالًا.»
وبينما دنت سارا من الفتاة الصغيرة، حولت الفتاة وجهها بعيدًا عنها، وكأن سارا ستصرخ في وجهها أو ستزيحها من طريقها مثلما يفعل الباقون.
سألتها سارا: «هل أنتِ جائعة؟»
رفعت الفتاة وجهها في ذهول، وأجابت: «أجل، أنا جائعة.» وأخبرت سارا أنها لم تتناول الطعام طيلة الأيام الماضية.
ولم تصدق سارا نفسها في أنها تنوي أن تعطي من طعامها للفتاة الصغيرة، لكنها فكرت في نفسها: «ماذا تفعل الأميرة في موقف مماثل؟»
وعندئذ مدت يدها في الكيس، وأخرجت واحدة من الكعك، وأعطتها للفتاة الأخرى التي جلست منتصبة وخطفتها من يد سارا وحشرتها في فمها لتلتهمها في قضمة واحدة كبيرة كالوحوش الضارية.
سمعت سارا الفتاة وهي تقول في استمتاع جمّ: «يا إلهي! يا إلهي! يا إلهي!»
وبيدين مرتجفتين أخرجت سارا ثلاث كعكات أخرى وأعطتها للفتاة لتشاهدها وهي تلتهمها التهامًا بنفس الطريقة.
شعرت سارا وكأنها سيُغشى عليها عندما أعطت الفتاة الكعكة الخامسة، لكنها تشبثت بكعكتها الوحيدة الأخيرة، وتمكنت من أن تتماسك وتستدير وتسير بعيدًا.
وكانت شحَّاذة لندن الصغيرة لا تزال وراءها تزدرد الكعك. وكانت تنوي في خضم التهامها للطعام أن تشكر سارا، لكن سارا لم تكترث لهذا.
في تلك الأثناء لم تصدق المرأة، التي كانت تراقب الموقف برمته من نافذة المتجر، ما يحدث أمام عينيها.
تعجبت المرأة: «مستحيل! لقد أعطت الفتاة كعكها لتلك الشحاذة الصغيرة! مع أنها تتضور جوعًا هي الأخرى! كان هذا واضحًا وضوح الشمس في عينيها.»
ثم فتحت المرأة باب متجرها، ودعت الشحَّاذة إلى المتجر وسألتها: «هل أعطتكِ هذه الفتاة كعكها؟»
أومأت الشحَّاذة الصغيرة.
– «كم كعكة؟»
– «خمس.»
فالتفتت المرأة مرة أخرى إلى الطريق حيث كانت سارا تقف محزونة الفؤاد.
وقالت: «ليتها ما اختفت سريعًا، ليتني أعطيتها دستة كاملة من الكعك!»
ثم التفتت إلى الفتاة، وقالت لها: «هل ما زلت جائعة؟»
أجابتها الفتاة: «جائعة كما الحال دائمًا.»
قالت المرأة: «حسنًا، تعالي إلى هنا، واستدفئي.» ومع أن المرأة نفسها كانت عاملة مسكينة، فقد عرضت أن تساعد الفتاة إكرامًا لسارا. قالت المرأة: «متى شعرتِ بالبرد والجوع، يمكنك أن تدخلي إلى هنا، أسمعتِ ما قلته لكِ؟ هذا أقل ما يمكن فعله من أجل تلك الفتاة.»
كانت سارا تمسك بإحكام بكعكتها الباردة عندما أوشكت على بلوغ المدرسة، ولكنها توقفت لحظة أمام منزل أسرة لارج؛ إذ كان الباب الأمامي مفتوحًا وكانت الحقائب تُحمل إلى العربة فثمة شخص مسافر في رحلة.
قبل السيد لارج زوجته في الممر ثم هبط درجات السلم متجهًا إلى العربة التي كانت في انتظاره.
قال له أحد أولاده بصوت عال من بعيد: «هل ستكون موسكو مكسوة بالجليد؟ هل ستقابل القيصر؟»
رد عليه السيد لارج وهو يضحك ضحكة ودودة: «سأكتب لك وأخبرك بكل شيء عن موسكو. طاب مساؤكم يا أحبابي! أترككم في رعاية الله!»
في تلك اللحظة ظهر جاي كلارنس في الممر وقال بصوت مرتفع: «إذا عثرت على الفتاة الصغيرة، فلترسل لها محبتنا!»
استقل السيد لارج عربته، وانغلق الباب الأمامي.
فكرت سارا في داخلها: «تُرى من تكون هذه الفتاة الصغيرة التي سيذهب للبحث عنها بهذه الجدية.»
جرَّت سلَّتها الثقيلة، ثم دخلت، وأغلقت الباب وراءها.
وبالطبع لم تكن لديها أدنى فكرة عن أنها هي نفسها حل لغز ابنة كابتن كرو المفقودة.