تقديم
شهد أدب أمريكا اللاتينية رواجًا واسع النطاق منذ عقد الستينيات من القرن العشرين، وحتى يومنا هذا، وقد نجح هذا الرواج في إخراج ذلك الأدب من نطاقه اللغوي والجغرافي، فأصبحت كتبه تُترجم إلى اللغات الرئيسية في العالم أجمع، بعد وقت قصير من صدورها بلغتها الأصلية. وقد استبان هذا أساسًا في المجال القصصي؛ حيث نجحت أسماء مثل بورخيس وماركيز وكورتاثار إيزابيل ألليندي وفارجاس يوسا وغيرهم في الذيوع والانتشار. وقد طال ذلك الرواج اللغة العربية خاصة في الأسماء المشهورة، فنحن نقرأ روايات ماركيز وألليندي في الوقت نفسه الذي تصدر فيه باللغات الأخرى تقريبًا.
وقد ساعد ذلك الرواج على أن يحتل ذلك الأدب مكانة عالية بين الآداب العالمية، وأدى إلى حصول عدد من أدباء أمريكا اللاتينية على جائزة نوبل للآداب، وهم جبرييلا مسترال وميجيل أنخل آستورياس وبابلو نيرودا وغارسيا ماركيز وأوكتافيو باز. وإيزابيل ألليندي هي المرشحة التالية من أبناء أمريكا اللاتينية لنيل تلك الجائزة.
وقد بدأ الأدب في أمريكا الإسبانية — وهي دول أمريكا اللاتينية عدا البرازيل التي كانت تحت حكم البرتغال وتتحدث البرتغالية — في كنَف المستعمرين الإسبان الذين جاءوا إلى تلك البقاع بلغتهم وآدابهم. وكانت الكتب الأولى في تلك القارة من وضع الإسبان الذين توطَّنوا هناك، وعلى رأسها مذكرات كريستوفر كولمبس نفسه، ثم مذكرات أو أخبار الغزاة الإسبان المشهورين مثل كورتين وبيسارو. ثم كان من الطبيعي أن يكون أول من ألف الكتب في هذه القارة هم أحفاد المستوطنين الإسبان الذين بدأ يتكوَّن منهم شعب أمريكا اللاتينية المتحدِّث بالإسبانية. وكانت معظم هذه المؤلفات تاريخية تقصُّ أخبار وتاريخ البلاد التي يعيشون فيها، وآثار الحضارات السابقة والأساطير القديمة، علاوة على الكتب الدينية.
ولم يبدأ أدب أمريكا اللاتينية في اتِّخاذ شكله الخاص إلا بعد استقلال تلك البلاد عن إسبانيا والبرتغال. فبعد أن حررت أمريكا الإسبانية نفسها من الحكم الإسباني بعد عام ١٨١٠م، كان عليها أن تحلَّ مشكلة كبرى واجهتها، وهي كيفية المحافظة على الوحدة الثقافية لتلك البلاد. وكان ذلك صعبًا بالنظر إلى الانقسامات السياسية والمنازعات المحلية والثورات والحروب الأهلية التي حدثت بعد ذلك وأدَّت إلى ظهور دول عديدة بدلًا من الأقاليم المتحدة التي كانت تحكمها إسبانيا؛ إلا أن الكتَّاب والمفكرين اعتمدوا على اللغة الواحدة التي تجمع بين هذا الشعب؛ كيما يكثفوا الوحدة الثقافية في مواجهة التفتُّت والانقسام السياسيين.
وكانت أمريكا اللاتينية وقت حروب الاستقلال ما زالت تتفاعل وتتكيف مع حركات التنوير التي انتقلت إليها من أوروبا. وطوال القرن التاسع عشر، كان أدب أمريكا اللاتينية يتأثر في معظمه بالاتجاهات الأوروبية في الفن والأدب، في الوقت نفسه الذي يحاول فيه أن يقدِّم موضوعات مستمدة من واقع الأوطان الأصلية. وقد ساد الاتجاه النيوكلاسيكي الأدب حتى العشرينيات من القرن التاسع عشر، وبعدها، في الثلاثينيات، بدأت تطغى على ذلك الأدب النزعة الرومانتيكية التي استقرَّت فيه عدة عقود، حتى بعد أن فقدَت حيويتها في أوروبا. وقد تأثَّر أدباء تلك الفترة أساسًا بكتابات فكتور هوجو وألفرد دي موسيه، وبايرون وولتر سكوت ووليام بليك.
أما ما لفت الأنظار إلى أدب أمريكا اللاتينية، وجعل منه مصدر تأثير، فهي حركة الحداثة، التي رفع لواءها أديب نيكاراجوا روبين داريو. وقد سبق داريو عدد من كتاب اللغة الإسبانية في التعرف على تيار الحداثة؛ إلا أنه هو الذي حدد ملامح الحركة ودعا إليها في كل ما يكتب، وروج لها في الصحف الأدبية التي أصدرها. وقد اجتمع حوله وتأثَّر به الكثير من أبناء القارة، بالإضافة إلى أدباء مشهورين في إسبانيا ذاتها.
وإلى جانب الحداثة، ظهر في أدب أمريكا اللاتينية جميع التيارات الأدبية التي عرفتها أوروبا في ذلك الوقت، وتعايشت فيما بينها. فقد وجدت الواقعية الطبيعية مجالًا بين عدد من الروائيين وكتَّاب القصص القصيرة في أمريكا اللاتينية، وتأثَّروا في ذلك بما كتب موباسان وإميل زولا وتشارلز ديكنز وتشيكوف وجوركي. وبالمثل، عرفت تيارات الرمزية والتعبيرية والسيريالية والوجودية طرقها في أدب أمريكا اللاتينية.
وتعرِض المجموعة التي بين يدَي القارئ لنماذجَ متعددة من فن القصة القصيرة في أمريكا اللاتينية؛ ففيها نموذج الاعتماد على الحكايات والأساطير الشرقية التي برع فيها الحداثي روبين داريو الذي ذاعت شهرته في أوائل القرن العشرين. وفيها، على الجانب الآخر، أمثلة عديدة على الإسهام الذي نشر به قصَّاصو أمريكا اللاتينية نهج الواقعية السحرية في صورته المحدَثة التي نجدها ما تزال نابضة إلى الآن في بداية القرن الحادي والعشرين. ونقول صورته المحدَثة ليقينِنا أن القصص العربي، ممثلًا في ألف ليلة وليلة وغيرها من الحكايات الشعبية التي ذاعت في أوروبا في العصور الوسطى عن طريق إسبانيا وصقلية، هو الأب الشرعي لذلك النهج، وهو أيضًا المصدر الحقيقي لكل أنواع القصص والروايات التي يُرجِعها النقاد عادةً إلى الروايات الإنجليزية الصادرة في القرن الثامن عشر ويؤرخون بها «نشأة الرواية». فنحن نجد في ألف ليلة مثلًا جميع الأساليب القصصية التي كتب عنها منظرو الفن القصصي بدءًا من ا.م. فورستر في «معالم الرواية» حتى ديفيد لودج في «الفن الروائي»، نجد فيها الشخصية الثابتة والمتطورة، وجميع أنواع الحدَث، والتشويق، والإثارة، وقصص الخيال العلمي، والسخرية، والتورية، والتناص، وما إلى ذلك من الأساليب القصصية واللغوية.
وبين الحداثة المبكرة والواقعية السحرية، تضمُّ المجموعة قصصًا تصوِّر الواقعية الاجتماعية، على النحو الذي كان يكتب به بلزاك وزولا وتشارلز ديكنز. وتصوِّر قصة «البوابة رقم ١٢» محنة عمال المناجم ومشكلة تشغيل الأطفال، على نحوٍ درامي سيكولوجي يقترب بها من النزعة الطبيعية. أما قصة «السجين» فهي تتعلَّق بقسوة السلطة في وجه أي ثائر عليها، وهو نمط شائع في دول أمريكا اللاتينية بصورة تجعل من هذه القصة تعبيرًا واقعيًّا مأساويًّا عن الحياة السياسية والاجتماعية في كثير من تلك البلدان. وينطبق الشيء نفسه على العلاقة بين البِيض والسكان الأصليين من هنود أمريكا اللاتينية، وتُصوِّرها قصة «عدالة هندية» التي تجسِّد صبرَ هؤلاء الهنود على الظلم ومحاولاتهم علاجه بالحسنى، حتى إذا فاض بهم الكيل لجئوا إلى حل مشاكلهم متكاتفين متعاونين، حتى وإن كان ذلك الحل دمويًّا قاسيًا.
وقد أطلقنا على هذه المجموعة اسم «قصص من أمريكا اللاتينية» من باب التعميم الحميد؛ لأنها كلها قصصٌ مترجمة عن اللغة الإسبانية، وهي كما ذكرنا سابقًا لغة كل بلاد أمريكا اللاتينية ما عدا البرازيل التي تتحدث البرتغالية. وقد اقتصرنا على الترجمة من الإسبانية حرصًا على أن تكون الترجمة من اللغة الأصلية وليست عبر لغة وسيطة.