النزيل
تأليف: إيزابيل ألليندي
(شيلي)
إيزابيل ألليندي (١٩٤٢م– ؟)
وُلدت إيزابيل حين كان والدها يعمل في سفارة بلاده شيلي في ليما عاصمة بيرو، وهو ابن عم سلفادور ألليندي أول رئيس اشتراكي لشيلي. وقد تزوجت أم إيزابيل دبلوماسيًّا آخر هو «العم رامون» الذي عمل في بوليفيا ولبنان. وقد عاشت إيزابيل عدة سنوات معهما في بيروت قبل أن تعود إلى شيلي لتواصل دراستها هناك، ولتعمل بعد ذلك في مكتب للأمم المتحدة في سنتياجو عاصمة شيلي. وقد بدأت نشاطها في الكتابة بالعمل في الصحافة ونشر المقالات وقصص الأطفال من عام ١٩٦٧ إلى ١٩٧٤م. وبعد سنتَين من الانقلاب الذي أطاح بالرئيس ألليندي في أواخر عام ١٩٧٣م، رحلت إيزابيل مع أسرتها إلى فنزويلا حيث ما زالت تعمل هناك بالصحافة والتدريس. وقد بدأت نشاطها الروائي عام ١٩٨١م حين وصلتها الأنباء بمرض جدها، فشرعت تكتب له خطابًا طويلًا، تحوَّل بعد ذلك إلى أول رواياتها «منزل الأرواح»، التي نالت شهرة كبيرة فور نشرها، ثم تحوَّل إلى فيلم سينمائي مثَّلت فيه «ميريل ستريب» دور البطولة. وأصدرت بعد ذلك روايتها «عن الحب والظلال» ومجموعتها القصصية «إيفالونا» التي تضمنت قصة النزيل التي نقدِّمها هنا. وتعيش إيزابيل ألليندي في كاليفورنيا بالولايات المتحدة منذ عام ١٩٨٨م. وبعد عودة الديمقراطية إلى شيلي عام ١٩٩٠م، زارت الكاتبة وطنها لأول مرة بعد خمسة عشر عامًا، لتتلقَّى جائزة جابرييلا ميسترال الأدبية. وقد تُرجِمت جميع روايات إيزابيل ألليندي إلى اللغة العربية.
***
دخلت المدرِّسة إينيس متجر جوهرة الشرق، وكان خاليًا من الزبائن في تلك الساعة، ومشت إلى النضد حيث كان رياض حلبي يطوي لفة من القماش الزاهي الألوان، وأعلنت إليه أنها قد قطعت لتوِّها رأس أحد نزلاء فندقها. وتناول التاجر منديله الأبيض وغطَّى به فمه.
– ماذا تقولين يا إينيس؟
– ما سمعته مني تمامًا أيها العربي.
– وهل مات؟
– طبعًا.
– وماذا ستفعلين؟
فأجابَته وهي تعقد خصلة من شعرها إلى الوراء: هذا ما جئت أسألكَ عنه.
فقال رياض حلبي وهو يتنهد: أظن أنه يحسُن بي أن أغلق المحل.
كانا يعرفان بعضهما منذ زمن طويل لدرجة أن أيًّا منهما لا يستطيع أن يتذكَّر تمامًا عدد سنوات صداقتهما؛ رغم أن كليهما لا يزال يذكر كل شاردة وواردة منذ اليوم الذي تعارفا فيه. وقتها كان حلبي واحدًا من هؤلاء الباعة الذين يجُولون في الطرقات الجانبية يعرضون بضائعهم؛ واحدًا من الحجيج التِّجاريين ممن لا يملكون بوصلة توجههم أو مسارًا ثابتًا، مهاجرًا عربيًّا بجواز سفر تركي مزور، وحيدًا، متعبًا، ذا شفة مشقوقة كشَفة الأرنب وما يتبع ذلك من حرص على عدم تعريضها للشمس. وكانت هي لا تزال امرأة في مقتبل العمر، ذات جسد مستدير وكتفَين ناهضتَين، المدرِّسة الوحيدة في البلدة، وأم صبي في الثانية عشرة من عمره، جاء نتيجة علاقة حب عابرة. وكان الصبي هو مدار حياة المدرِّسة؛ فهي تُعنَى به في تكريسٍ لا حد له، بَيد أنها كانت تحاول إخفاء ميولها التي تدعوها إلى محاباته؛ وذلك بأن تطبق عليه نفس قواعد النظام التي تطبقها على التلاميذ الآخرين في المدرسة. لم تكُن تريد أحدًا أن يقول إنها قد أنشأت ابنها تنشئة سيئة، ولكنها كانت تأمل في الوقت ذاته أن تقمع فيه ميراث أبيه الذي ينزع إلى التقلب، وتبذر فيه الذهن الصافي والقلب الكريم. وفي نفس المساء الذي دخل فيه رياض حلبي بلدة «أجواسانتا» من أحد جوانبها، كانت مجموعة من الصبية قد حملت من جانب البلدة الآخر جسد ابن إينيس المدرِّسة على نقالة. كان قد دلَف إلى ضَيعة أحد الأشخاص ليلتقط منها ثمرة مانجو ساقطة، فأطلق عليه صاحب الضيعة، وهو غريب لا يعرفه أحد حق المعرفة، رشةً من بندقيته ليخيفه؛ بَيدَ أنها أحدثت ثقبًا أسود في وسط جبهته أسرعت حياته بالهرب من خلاله. وفي تلك اللحظة، اكتشف البائع العربي موهبته في القيادة، ووجد نفسه دون أن يدري كيف، في قلب الأحداث، يعزِّي الأم، وينظِّم الجنازة كأنما هو أحد أفراد العائلة، ويهدِّئ من ثورة الناس ليمنعهم من تمزيق المعتدي إربًا. وفي تلك الأثناء، كان القاتل قد أدرك أن حياته لن تكون في مأمن لو أنه بقِي في البلدة. فهرب منها وهو لا ينتوي العودة. وكان رياض حلبي هو الذي قاد المسيرة في اليوم التالي من المقابر إلى المكان الذي سقط فيه الصبي قتيلًا. كان كل سكان أجواسانتا قد قضوا ذلك اليوم يجمعون ثمار المانجو ثم يقذفونها إلى نوافذ البيت إلى أن امتلأ البيت بها من أرضيته إلى سقفه.
وبعد عدة أسابيع، خمَّرت الشمس الثمار، فانفجرت عن عصير لزج لطَّخ الجدران بدماء صفراء وصديد حلو، مما حوَّل المنزل إلى حفرية من حفريات ما قبل التاريخ، كأنما هو حيوان هائل في عملية تحجُّر، يزيد من عذابه همَّة اليرقات اللامتناهية والناموس الذي يعيث فيه تحللًا.
وكان موت الصبي، والدور الذي لعبه رياض حلبي في تلك الأيام، والترحاب الذي لاقاه في أجواسانتا، كل هذا عمِل على تحديد مسار حياته. ونسِي حياة آبائه في التجوال واستقرَّ في البلدة؛ حيث افتتح متجرًا وسماه جوهرة الشرق. وتزوج، ثم ترمل، وتزوج ثانية، وواصل تجارته، في حين نمَت سمعته بوصفه رجلًا أمينًا عادلًا. وعمِلت إينيس بدورها في تعليم عدة أجيال من الأطفال بنفس الودِّ الذي كانت تمنحه ابنها، حتى انقضت طاقاتها، فتنحَّت عن الطريق مُفسحة المجال لمدرسين وصلوا من المدينة بمناهج جديدة، وتقاعدت. وبعد أن تركت عملها في المدرَسة، شعرت كأنما هي قد شاخت فجأة، كأنما الزمن يتسارع بها، ومرت الأيام بسرعة لم تستطع معها أن تتذكر كيف تنقضي الساعات.
قالت معلِّقة: إنني أمضي كأنما أنا في ذهول، أيها العربي. إنني أموت ولا أكاد أُدرك ذلك.
فأجاب رياض حلبي: إنكِ في أتمِّ صحة وعافية يا إينيس. المشكلة هي أنك تشعرين بالملل. يجب ألا تبقي بلا عمل.
واقترح عليها أن تضيف بعض الحجرات إلى منزلها وتجعل منه فندقًا صغيرًا.
– ليس في البلدة فندق.
فردت: ذلك أنه ما من سياح يفِدون إلينا.
– إن سريرًا نظيفًا وإفطارًا ساخنًا نعمة يرحب بها أي مسافر.
وهكذا كان الأمر في البدء لسائقي شاحنات البترول، الذين كانوا يقضون الليل في فندقها حين يملأ التعب ورتابة الطريق رءوسهم بالهلوسة.
وكانت المدرِّسة إينيس أكثر النسوة الكبيرات احترامًا في أجواسانتا؛ فقد علَّمت أجيالًا عديدة من أولاد البلدة؛ مما منحها حق التدخل في جميع شئون حياتهم، وشدِّ آذانهم إذا رأت ذلك ضروريًّا. وكانت الفتيات يعرضن عليها أصدقاءهن كيما يحصلن على موافقتها، والزوجات والأزواج يأتون إليها لحل مشاكلهم الزوجية. كانت إينيس مستشارة وحَكمًا وقاضيًا في جميع مشاكل البلدة. وكانت سلطتها في الواقع تفوق سلطة القس أو الطبيب أو الشرطي. ولم يحاول أحد أن يمنعها من مزاولة تلك السلطة؛ ففي إحدى المرات، اقتحمت إينيس قسم الشرطة، وتخطَّت الضابط دون كلمة، وخطفت المفاتيح المعلقة على الحائط بمسمار، وأخرجت من الحجز أحد تلاميذها السابقين، ألقِي القبض عليه بعد ليلة شراب صاخبة. وحاول الضابط أن يقف في طريقها، ولكنها أزاحته وأخرجت الصبي أمامها ممسكة به من ياقة قميصه. وبعد أن خرجت به إلى الطريق، سددت إليه بعض اللكمات وأكدت له أنه إذا تكرر منه ذلك السلوك فسوف تضربه علانية علقة على مؤخرته لن ينساها طوال حياته!
وفي ذلك اليوم الذي حضرت فيه إينيس لتخبر رياض حلبي أنها قتلت أحد زبائنها، لم يخامره الشك لحظة بأنها جادة فيما تقول؛ لأنه كان يعرفها جيدًا، وتناول ذراعها وسار معها يقطعان صفَّي المنازل التي تفصل جوهرة الشرق عن منزلها. كان منزل إينيس أحد أكبر المباني في البلدة، من الآجر والخشب، ذا شرفة عريضة تُسدَل عليها الستائر خلال فترات الظهيرة التي تشتد فيها الحرارة، وبه مراوِح في سقف كل حجرة. وكان البيت في تلك الساعة يبدو خاليًا؛ فلم يكن هناك سوى نزيل واحد قد جلس في البهو يحتسي البيرة وقد تصلَّب أمام جهاز التليفزيون.
وهمس التاجر العربي: أين هو؟
فردت إينيس دون أن تهتم حتى بخفض صوتها: في إحدى الحجرات الخلفية.
وقادته إلى صفِّ الحجرات التي أعدتها للإيجار، يصل فيما بينها جميعًا ممرٌّ مسقوف تتسلق على أعمدته الزهور الأرجوانية وتتدلَّى من روافده أصص النباتات الخضراء، وإلى جوارها فناء مزروع بأشجار المشملة والموز. وفتحت إينيس الباب الأخير، ودخل رياض حلبي حجرة تكتنفها الظلال العميقة. كانت مصاريع النافذة مغلقة، ومضَت برهة قبل أن يرى على السرير جثة رجل عجوز ذي مظهر مسالم، غريب هرِم يسبح في بركة من الدم، وسراويله ملوثة بالبراز، ورأسه معلق بخيط من اللحم الرمادي، يغطيه تعبير مريع من الألم، كأنه يعتذر عن كل هذا الإزعاج وكل هذه الدماء، وعن أنه قد سمح لنفسه أن يموت مقتولًا مسببًا كل هذه المضايقة غير العادية. وجلس رياض حلبي على المقعد الوحيد في الغرفة، عيناه مثبتتان على الأرض، يحاول أن يسيطر على ثورة معدته. وبقيَت إينيس واقفة، ذراعاها منعقدتان على صدرها، تفكر في أن الأمر سيحتاج منها يومَين كي تغسل البقع ويومَين آخريَن على الأقل كي تخلص الحجرة من رائحة البراز والخوف.
وسأل رياض حلبي أخيرًا وهو يمسح العرق عن جبهته: كيف فعلتِ هذا؟
– ببلطة ثمار جوز الهند، جئت من خلفه وقطعت رأسه بضربة واحدة. لم يعرف قط ماذا ضربه، ذلك المسكين.
– ولماذا؟
– كان يجب عليَّ أن أفعل هذا. إنه القدر المحتوم. إن هذا العجوز حظه سيئ للغاية. لم يكن ينوي أبدًا أن يتوقف في أجواسانتا، لقد كان يسوق عربته عبر البلدة حين حطم زجاج نافذة العربة الأمامية. وحضر إلى هنا لقضاء سويعات إلى أن يتمكن الإيطالي ذاك في الجاراج من العثور على بديل للنافذة. لقد تغير كثيرًا — فقد كبرنا جميعًا في السن على ما أعتقد — بَيدَ أنني تعرَّفت عليه على الفور. كنت أنتظر طوال هذه السنوات، وكنت أعلم أنه سيأتي إن عاجلًا أو آجلًا. إنه الرجل صاحب المانجو!
فغمغم رياض حلبي: فليشملنا الله برحمته.
– هل تظنُّ أن علينا أن نتصل بضابط الشرطة؟
– كلا، البتة. لماذا تقولين هذا؟
– إن الحق معي. لقد قتل ابني.
– إن الضابط لن يفهم هذا يا إينيس.
– العين بالعين والسن بالسن أيها العربي. أليس هذا ما يذكره دينك؟
– ولكن القانون لا يعمل على هذا المنوال يا إينيس.
– حسنًا إذَن، يمكننا أن نعدِّل من الأمور ونقول إنه قد انتحر.
– لا تلمسيه. كم نزيلًا لديك الآن في الفندق؟
– سائق الشاحنة ذاك فحسب. وسوف يواصل سفره حين تنكسر حدَّة الحرارة؛ فعليه أن يذهب إلى العاصمة.
– حسنًا. لا تقبلي أي نزيل آخر الآن. أغلقي باب هذه الحجرة بالمتراس وانتظريني. سأعود في الليل.
– ماذا ستفعل؟
– سوف أعالج هذا الأمر بطريقتي.
كان رياض حلبي في الخامسة والستين من عمره، ولكنه كان قد احتفظ بقوة الشباب وبنفس الروح التي وضعته ذات يوم على رأس الجماعة يوم وصل إلى أجواساتنا. وغادر منزل المدرِّسة ومشى مسرعًا للقيام بأول زيارة من سلسلة زيارات كان عليه أن يقوم بها ذلك الأصيل. وبعدها بقليل، بدأت همهمة متواصلة تسري عبر البلدة؛ فقد استيقظ سكان أجواسانتا من خمول السنين وقد استثارتهم أنباء «عصية» على التصديق، يتناقلها بيت عن بيت، طنين مستمر، أخبار تطاولت إلى أن صارت صياحًا، ثرثرة أضفت عليها ضرورةُ أن تكون على مستوى الهمس مركزًا خاصًّا.
وقبل أن تغيب الشمس، كان بوسع المرء أن يُحسَّ في الهواء هذا الاستعلاء القلق الذي سيصبح لمدة سنين صفة من صفات البلدة، صفة لا يفهمها الغرباء الذين يمرون بها، ممن لا يمكنهم العثور على أي شيء غير عادي في هذه البلدة التي لها مظهر بِركة المياه الراكدة، مثلها مثل كثيرات متناثرة على حافة الغابات. وبدأ الرجال يتوافدون إلى الحانة مع بواكير المساء، وحملت النساء كراسيهن خارجًا على الأرصفة وجلسن يستمتعن بالهواء المنعش، وتجمَّع الشبان في جمهرة في الميدان، كأنما اليوم يوم أحد. وقام الضابط وثلة الجنود بجولاتهم بلامبالاة، ثم قبلوا دعوة الفتيات في منزل البِغاء إلى حضور حفل عيد ميلاد واحدة منهن، كما ادَّعين لهم. وما إن انسدل الليل حتى كان الطريق يغصُّ بالناس على نحو يفوق ما كان يتجمَّع فيه في يوم عيد جميع القديسين. وكانوا كلهم مشغولين تمامًا فيما يقومون به من أنشطة حتى بدَوا كأنما هم يشاركون في جزء من فيلم سينمائي؛ كان البعض يلعب الدومينو، وآخرون يحتسون شراب الروم ويدخنون على نواصي الطرقات، وثمة اثنان يتمشيان وقد تشابكت أيديهما، وأمهات يجرين خلف أطفالهن، وجَدات يتطلعن صائحات من وراء أبواب مفتوحة. وأشعل القس مصابيح الأبرشية ودق الأجراس معلنًا عن إقامة تاسوع للشهيد سان إيسيدرو؛ ولكن لم يكن هناك من هو على استعداد وقتها لحضور مثل هذه الصلاة.
وفي التاسعة والنصف، عُقد اجتماع في منزل المدرسة إينيس؛ العربي، وطبيب البلدة، وأربعة شبان كانت إينيس قد تولَّت تعليمهم من المرحلة الأولى، وهم الآن محاربون عادوا من خدمتهم العسكرية. وقادهم رياض حلبي إلى الغرفة الخلفية حيث وجدوا الجثة وقد غطتها الحشرات؛ فقد تُركت النافذة مفتوحة، وكانت الساعة ساعة الناموس. وحشروا الضحية في جِوال من القماش، وحملوه إلى الطريق، وألقَوا به دون احتفال في خلفية شاحنة رياض حلبي. وقادوا العربة عبر البلدة، في الطريق الرئيسي ذاته، ملوحين بأيديهم، كعادتهم، لكل من يرَوه. وقد رد بعض الجيران تحيتهم بحماس أشد من المعتاد، بينما تظاهر آخرون بأنهم لم يرَوهم، وهم يضحكون خفية كأنما هم أطفال فاجأهم أحدهم متلبسين بعمل غير مشروع. وتحت أشعة القمر المنيرة، توجَّه الرجال إلى البقعة التي انحنى فيها لآخر مرة منذ سنوات كثيرة ابن المدرِّسة كيما يلتقط ثمرة مانجو. وتبدَّت الضيعة جامدة وسط أعشاب النسيان الطفيلية وقد أعمل فيها الزمن والذكريات الحزينة ناب الاضمحلال؛ ربوة متشابكة نمَت فيها ثمار المانجو على نحو بري؛ فتساقطت حباتها من الأشجار واتَّخذت جذورًا في الأرض فولدت أشجارًا جديدة ولدت بدورها أشجارًا، إلى أن نشأت غابة لا تخترقها الحجب ابتلعت الأسوار والطرق بل وحتى أطلال المنزل الذي لم يتبقَّ منه سوى أثر ضئيل من رائحة المربى. وأشعل الرجال مصابيحهم الغازية ثم انقضُّوا على البقعة الكثيفة يشقون طريقًا لهم بالبلط. وحين شعروا أنهم قد أنجزوا ما فيه الكفاية، أشار أحدهم إلى مكانٍ ما، وهناك، على سفح إحدى الأشجار الضخمة المحملة بالثمار، حفروا حفرة عميقة أودعوا فيها الجوال القماشي. وقبل أن يُهيلوا التراب على الحفرة، غمغم رياض حلبي بصلاة إسلامية؛ إذ كانت هي الصلاة الوحيدة التي يعرفها. وحين عاد الرجال إلى البلدة، رأوا أنه ما من أحد قد أوى إلى فراشه. كانت الأنوار تسطع في كل النوافذ، والناس تروح وتجيء في الطرقات.
وفي تلك الأثناء، كانت المدرِّسة إينيس قد حكَّت بالفرشاة جدران الغرفة الخلفية وأثاثها؛ وحرقت مرتبة السرير وملاءاته، وجددت هواء المنزل، ثم جلست في انتظار أصدقائها بعد أن أعدت لهم عشاءً طيبًا وجرة مليئة بالروم وعصير الأناناس. وأكل الجميع الطعام بصحبة حديث طَلي عن آخر مصارعات الديكة، وهي مصارعة وحشية في رأي المدرِّسة وإن ادَّعى الرجال أنها أقل وحشية من مصارعة الثيران التي فقد فيها مصارع كولومبي كبده. وكان رياض حلبي آخر من غادروا المنزل. وفي هذه الليلة، لأول مرة في حياته، شعر بالشيخوخة. وعند الباب، أمسكت المدرِّسة إينيس بيديه وتركتهما هنيهة بين يديها. قالت: شكرًا أيها العربي.
– لماذا جئت لي أنا يا إينيس؟
– لأنك الشخص الذي أكنُّ له أكثر الحب في هذه الدنيا، ولأنك كان يجب أن تكون أبا ابني.
وفي اليوم التالي، عاد سكان أجواسانتا إلى أعمالهم اليومية وقد أشاع فيهم التواطؤ الرائع حماسًا، عن سرٍّ يحتفظ به جيران طيبون في داخليتهم، ويكنُّونه في صدورهم بكل حماس، ويتناقلونه أبًا عن جد بوصفه أسطورة من أساطير العدالة، إلى أن حررتنا وفاة المدرِّسة إينيس؛ حيث أستطيع الآن أن أحكي القصة.