الياقوتة
تأليف: روبين داريو
(نيكاراجوا)
روبين داريو (١٨٦٧–١٩١٦م)
شاعر وقصاص من نيكاراجوا، عمل في السلك الدبلوماسي في بلاده وعاش في باريس فترة طويلة بهذه الصفة. وداريو هو أول من رفع لواء الحداثة في أدب اللغة الإسبانية قاطبة. وقد قدَّم المدرسة الرمزية الفرنسية إلى ذلك الأدب عن طريق ديوانه الأول «أزرق». ويغلب على أعماله الطابع الجمالي الصِّرف. وقد أثرت أعمال داريو تأثيرًا هائلًا في كل أدباء الإسبانية المعاصرين والتالِين له، حتى في إسبانيا ذاتها. وتتسم أعماله بالرومانسية، ويكثُر فيها العنصر الشرقي، وقد تأثَّر به داريو من قصص ألف ليلة وليلة وغيرها من الكتب العربية والفارسية التي تُرجمَت إلى اللغات الأوروبية منذ عصر مبكر.
***
– «آه! إذَن فالأمر صحيح! لقد أفلح ذلك العالم الباريسي في أن يستخلص من أعماق أنابيبه المتعرجة، من قنيناته، الكريستال الأرجواني الذي بطَّنتُ به جدران قصري.»
وبعد أن قال ذلك، أخذ الجِني الصغير يروح جيئة وذهابًا من مكان إلى آخر بقفزات قصيرة خلال المغارة العميقة التي يسكن فيها؛ مما جعل لحيته الطويلة والجرس المثبت في طاقيته الزرقاء المدببة في حركة دائمة.
إنها حقيقة واقعة، إن أحد أصدقاء «شفريل» ذي المائة عام، الكيميائي فريمي، قد اكتشف لتوِّه طريقة صنع أحجار الياقوت والصفير.
وواصل الجني مونولوجه وقد انتابه الانفعال والإثارة العميقة، كان جنيًّا واسع العلم ذا طبيعة نشطة: «آه يا علماء القرون الوسطى! يا ألبرتوس ماجنوس، يا أبا رشد، يا رايمون لول! لقد فشلتم جميعكم في رؤية الروعة الباهرة لحجر الفلاسفة. وها هو، دون أن يدرس الصيغ الأرسطية، ودون معرفة بعلوم «الكابالاه» واستحضار الأرواح، ها هو أحد رجال القرن التاسع عشر يخترع في وضح النهار ما نُنتجه نحن في عالمنا الكامن تحت الأرض. الصيغة السحرية! طوال عشرين يومًا، يمزج السيليكون بألومينيوم الرصاص، ويلوِّن المزيج بثاني كرومات البوتاسيوم أو بأوكسيد الكوبالت. إنها مصطلحات تشبه تمامًا لغة شيطانية.»
وتُسمع ضحكات.
ثم يتوقف الجني.
كان «جسم الجريمة» هناك في منتصف المغارة على صخرة ذهبية كبيرة؛ ياقوتة صغيرة تلتمع في رفق، وتُشبه حبةً من حبات الرمان، تحت أشعة الشمس.
ونفخ الجني في بوقٍ كان يحمله في وسطه، وتردد الصدى في طول المغارة وعرضها. وفي لحظات قليلة، سُمعت جلبة وتدافُع جنوني وضجَّة. كان كل الجن قد حضروا.
كانت المغارة رحيبة، وكان يلتمع فيها وهج أبيض غريب. كانت ألوان أحجار العقيق تلتمع في السطح الحجري، مبثوثة، مضفَّرة، متجمعة في مجموعات عديدة، بنور خافت يضيء كل شيء.
وفي وسط هذا الضياء، كان بوسع المرء أن يرى هذا المقام المدهش في أبهى حُلله؛ فعلى الجدران، فوق قطع الفضة والذهب، بين عروق اللازورد، كانت هناك مجموعة ضخمة من الأحجار الثمينة تخلق تصميمات بديعة تشبه النقوش العربية التي في المساجد. وانبجست أقواس قوس قزح من بلَّورات الماسات، رائقة صافية كقطرات المياه. وبالقرب من دلايات الأحجار الكريمة المعلَّقة من السقف، كانت الزمردات تُشع بهاء اخضرارها، وأحجار الصفير في باقاتٍ تتدلى على الجدران، تشبه الأزهار الزرقاء المرتعشة الكبيرة. وكان يُحيط بالمكان صفوف من أحجار التوباز والجمشت المموهة بالذهب، ومن الإفريز المكوَّن من أحجار عين الهرِّ اللبنية اللون، كان ثمة نبع رقيق من المياه يتدفَّق من حين لآخر، وينثال بعذوبة موسيقية في قطرات متناغمة كالألحان الصادرة عن نايٍ معدني يُصدر أنغامًا في غاية الرقَّة.
كان هناك «باك»، ذلك الوغد الذي تدخَّل في الأمر. كان هو الذي أحضر جسم الجريمة، الياقوتة المزيفة، التي ترقد هناك على الصخرة الذهبية كأنها أذًى وسط كل تلك الروعة الباهرة.
وحين اجتمع كل أفراد الجن معًا، البعض بمطارقهم وبلطاتهم في أيديهم، والآخرون يرتدون طراطيرهم المبهرجة ذات الأطراف المدببة الحمراء والمزركشة بالجواهر، وكلهم يغلب عليهم حب الاستطلاع، قال باك: «لقد طلبتم مني أن أُحضر لكم أحدث أمثلة التزييف البشري ولقد أرضيت رغباتكم.»
وكان رجال الجن جالسين متربعين على الطريقة التركية، يعقصون أطراف شواربهم. وقد أزجوا الشكر إلى باك بإحناءٍ طفيف من رءوسهم، بينما تفحَّص القريبون منه أجنحته الشبيهة بأجنحة اليعسوب في دهشة.
وواصل باك كلامه قائلًا: «آه أيتها الأرض! آه أيتها النساء! منذ الوقت الذي رأيت فيه «تيتانيا» أصبحت عبدًا للأولى، ومعجبًا روحيًّا للأخرى.» ثم أضاف كأنه يتحدَّث في حالة من الحلم السعيد: «تلك اليواقيت! في مدينة باريس العظيمة، بينما أنا أطير متخفيًا عن العيون، كنت أراها في كل مكان. كانت تلتمع على صدور الغواني، وفي الحُلي الغريبة التي يحبها محدثو الثراء، وفي خواتم الأمراء الإيطاليين، وفي أساور كبار الممثلات.»
واستمر يقول وهو يبتسم ابتسامة ماكرة: «لقد تسللتُ إلى مخدع قرمزي اللون في غاية الأناقة … وكانت به امرأة نائمة. وقد انتزعت من عنقها الميدالية، وأخذت الياقوتة من الميدالية. وها هي الآن أمامكم.»
وانفجر الكل ضاحكين. وترددت أصداء جلجلة الأجراس المعلقة في الطراطير.
– «إن باك لشيطان مريدٌ حقًّا!»
ثم ردَّد الجن آراءهم بشأن الحجر الكريم المزيف الذي صنعه الإنسان، أو بالأحرى العالِم!
– «زجاج!»
–«سحر!»
– «سموم وكابالا!»
– «كيمياء!»
– «إنه يحاول تقليد جزء من قوس قزح!»
– «الكنز المتورِّد من أعماق الأرض!»
– «مصنوع من الأشعة المتجمدة للشمس الغاربة.»
أما أكبر الجن سنًّا فكان يتمشَّى بساقَيه المغضَّنتين ولحيته الثلجية الطويلة؛ فبدا كالبطريق وقد غطَّت وجهه التجاعيد. قال: «أيها السادة، إنكم لا تدرون ماذا تقولون.»
وأنصت الجميع.
– «أنا، أنا أكبر من أي واحد منكم؛ لأنني أصلُح الآن كي أدقَّ جوانب الماسات بالمطرقة. أنا، الذي شهد بناء هذه القلاع العميقة. أنا، الذي حفرتُ عظام الأرض بالإزميل، وسبكتُ الذهب. أنا الذي ضربتُ حائطًا صخريًّا بيدي، وسقطتُ في بحيرة عانقتُ فيها الحوريات. أنا، كبيركم، سوف أقول لكم كيف تم صُنع الياقوتة. أنصتوا.»
وابتسم باك في تساؤل. والتفَّ جميع أفراد الجن برفيقهم الهرِم الذي كان شعره الأشيب يبدو شاحبًا أمام وهج الجواهر، والذي كانت يداه تُلقيان ظلالًا متحركة على الجدران المغطاة بالأحجار الثمينة، كأنها صفحة من القماش المغطاة بعسل النحل والتي ارتشقَت فيها حباتٌ من الأرز.
«في يوم من الأيام، أعلنَت فِرقنا التي كانت تحرس مناجم الماس الإضراب عن العمل، وهو إضراب هزَّ الأرض كلها هزًّا، وقمنا بالهرب من خلال فوهات البراكين.
كان العالَم تغمره السعادة، وكل شيء مفعم بالقوة والشباب، وكانت الورود، والأوراق الخضراء الطازجة، والطيور التي تزدرد الحبوب بمناقيرها ثم ينطلق منها التغريد العذب، كل ذلك كان يرحب بالشمس والربيع المتضوِّع بالعطر.
كانت التلال المزهرة يُظللها التناغم الذي تخلقه أغاريد الطيور وطنين النحل، إنه كان أشبه بالعرس العظيم المقدس الذي ينسِّقه الضياء؛ فعلى الأشجار كان يتألق في عمق، وبين الحيوانات كانت هناك حركة دائمة إما في صورة ثُغاء أو غناء، وبين أفراد الجن كانت تشيع الضحكات والسعادة.
كنت قد خرجتُ عن طريق فوهة بركان خامد، فوجدتُ أمامي حقلًا مترامي الأطراف. وبقفزة واحدة، اعتليتُ شجرة كبيرة، سنديانة عتيقة دائمة الخضرة. ثم هبطتُ على جذعها فوجدتُ نفسي بالقرب من غدير نهر رقراق صغير حيث كانت المياه تتبادل مع بعضها البعض نكات بلَّورية. كنت عطِشًا، فحاولتُ الشرب منه … والآن، أنصتوا جيدًا.
أذرُع، ظهور، صدور، زنابقُ بيضاء، ورود، لفائف عاجية صغيرة تُكلِّلها حبات الكرز، أصداء ضحك مرِح ذهبي، وهناك وسط الزبَد، بين المياه المائجة، تحت الفروع الخضراء …»
– «ماذا؟ حوريات؟»
– «كلَّا. نساء. وعرفتُ أيَّ كهف كان يخصني. ودققتُ على الأرض فانفتح لي الرمل الأسود ووصلتُ إلى قصري. آه أيتها الجن الشابة الصغيرة، ما زال أمامكم الكثير كي تعرفوه!»
وتجولتُ تحت بعض نبتات السرخس، وفوق بعض الأحجار التي صقَلها التيار الهامس الرغوي، أما هي، الحلوة، المرأة، فقد قبضتُ على خصرها، بهذه الذراع التي كانت سابقًا مفتولة العضلات. وصرخَت، بينما دققتُ أنا على الأرض، فهبطنا معًا؛ فعلى السطح، كان كل شيء خوفًا ودهشة؛ أما تحت الأرض، فكان الجن المتغطرس المنتصر.
وكنت يومًا أطرق جزءًا من ماسة هائلة تلتمع كالنجمة، والتي انشطرَت إلى أجزاء صغيرة بضربة مطرقتي.
وأصبحَت أرضية ورشتي أشبهَ ببقايا شمس متناثرة. كانت المرأة الحبيبة تستريح على جنبها، وردة بشرية بين أصص الزهور السافيرية، إمبراطورة ذهبية على مهد من البلَّور الصخري، متجردة كأنها إلهة من إلاهات الأساطير.
ولكن، في وسط قصري، كانت مليكتي، حبيبتي، جمالي، تخدعني. حين يكون الرجل يشعر بحب حقيقي، تنفُذ عاطفته إلى كل شيء، ويصبح في إمكانه أن يعلو على الأرض.
كانت تحب رجلًا، ومن سجنها تنقل إليه نهداتها. وكانت النهدات تمر عبر مسام السطح الخارجي للأرض وتصل إليه. وكان هو يحبها مثلما تحبه، ويطبع قبلاته على ورود إحدى الحدائق، وكانت هي، حبيبته، كما لاحظتُ، تعتريها نوبات من التشنج المفاجئة تمدُّ فيها شفتيها إلى الأمام، بحمرتها التي تشبه حمرة الورود. كيف كان بوسعهما أن يشعرا ببعضهما البعض؟ ومع كل ما أمتلك من قوى السحر، لم أكن أدري جوابًا لذلك السؤال.
كنت قد فرغت لتوِّي من عملي، وأمامي كوم كبير من الماسات صنعتها كلها في يوم واحد، وفتحَت الأرض شقوقها الجرانيتية كأنها الشفاه الظمأى، في انتظار انشطار البلَّور الزاخر. وفي نهاية العمل، شطرتُ صخرة أخيرة بمطرقتي ثم استغرقتُ في النوم.
واستيقظت بعد ذلك بقليل، على صوت أنين.
كانت حبيبتي، المرأة التي اختطفتها، تحاول الهرب من عُقر فراشها، من غرفتها التي كانت أكثر ثراءً وتألقًا من حجرات كل ملكات الشرق. وكانت تحاول الهرب من خلال الثقب الذي احتفرَته مطرقتي، وكانت متجردة جميلة، فدمرتُ جسدها الذي كان من قبلُ ناصعًا كالحليب وناعمًا كأزهار البرتقال والمرمر والورد، على حواف الماسات المشطورة. وكانت جروح جسدها تقطر بالدم، وهي تئن من الألم؛ بحيث تصاعدت الدموع إلى عيني. يا لها من أحزان!
وقمت فأخذتُها بين أحضاني، وانهلتُ عليها بأحر القبلات؛ لكن الدم واصل انسيابه مغرقًا الحجرة، واصطبغَت كتلة الماس الضخمة بلون حمرة الدم.
وحين كنت أقبِّلها، بدا كما لو كنت أشمُّ عطرًا يهرب من شفتيها المحترقتَين؛ روحها. وبقي جسدها بلا حراك.
«وحين مرَّ أبونا العظيم ذو السنوات المائة، وجد تلك الكومة من الماسات الحمراء.»
وساد صمت.
– «هل فهمتم؟»
ونهض الجان في رزانة، وفحصوا الحجر المزيف عن قرب، عمل ذلك العالِم.
– «انظروا، ليست بها جوانب.»
– «إن وهجها منطفئ.»
– «زائفة!»
– «إنها مستديرة كصدفة الجعران.»
ثم قاموا، واحدًا وراء الآخر، كيما ينتزعوا من على الجدران قطعًا من الزخارف، يواقيت حجمها كحجم البرتقالات، حمراء متلألئة كالماسات المخضوبة بالدماء. وقالوا: «إن هذه لنا، يا أمَّنا الأرض!»
كان احتفالًا صاخبًا من البريق والألوان.
وأخذوا يضحكون وهم يقذفون في الهواء أحجارًا كريمة مضيئة هائلة الحجم. وقالوا فجأة بكل رزانة الجان: «حسنًا إذَن، إننا نشجب هذا العمل.»
وفهم الجميع. وأخذوا الياقوتة المزيفة، وكسروها إلى مئات القطع، وقذفوا بالشظايا — باحتقار عظيم — إلى حفرة في الأرض تفضي إلى غابة متفحمة ضاربة في أعماق القِدم.
وبعد ذلك، شبَّكوا أيديهم وبدءوا يرقصون رقصة رنانة محمومة فوق يواقيتهم وأحجارهم الكريمة، بين هذه الجدران المتوهجة.
واحتفلوا في ابتهاج وهم يرَون أنفسهم يتطاولون في الظلال التي تنعكس لهم. وفي ذلك الحين، كان «باك» يطير في الخارج، في إشراقة فجر جديد، في طريقه إلى مرج زاهر. وغمغم بابتسامته الخجول المعهودة: «أيتها الأرض … أيتها المرأة … لأنك أنتِ أيتها الأرض الأم، أنتِ عظيمة وخصبة، وصدرك مقدس لا ينضب معينه، ومن رحِمك المظلم تنساب العصارة إلى الأشجار القوية، وإلى المياه الذهبية الشبيهة بالماسات، وإلى الزنبقة العفيفة. كل شيء صافٍ وقوي ولا يمكن تزييفه! وأنتِ، أيتها المرأة، إنك روح وجسد معًا، كلك حب وصفاء!»