فيما وراء الحياة والموت
تأليف: سيزار فاييخو
(بيرو)
سيزار فاييخو (١٨٩٥–١٩٣٨م)
شاعر وقصَّاص من «بيرو»، أحد الكتاب المؤثرين في ثقافة بلده وأدبها. كتب عن معاناة السكان الأصليين الهنود في بيرو وفي أمريكا اللاتينية عامة، وهو نفسه من سلالة هندية وبيضاء مختلطة. وقد نفَى نفسه اختياريًّا في فرنسا وإسبانيا وظلَّ يكتب عن المشاكل الإنسانية في وطنه. تعكس قصصه وأشعاره عادات بلده وتقاليده. من أوائل الأدباء في أمريكا اللاتينية الذين مزجوا في كتاباتهم الواقع بالخيال والخرافة، وهي السمة التي أصبحت تميز كثيرًا من كتابات القصَّاصين المعاصرين في تلك القارة، وتعرف حاليًّا بالواقعية السحرية.
***
نباتات العليق ساكنة لا تهتز تحت طقس يوليو الحار، والرياح ترقد على سيقان العناقيد التي أثقلتها كثرة الحَب فمالت بها إلى أسفل. وثمة شهوة ميتة فوق روابي الجبال الصيفية تُقعي شبيهة بالسُّرر. انتظر. لا يمكن هذا. فلنغنِّ ثانية. آه، ما أحلاه من حُلم!
كان حصاني يغذُّ السير في تلك الأنحاء. فبعد غياب أحد عشر عامًا، كنا نقترب ذلك اليوم آخر الأمر من سنتياجو، القرية التي وُلدتُ فيها. كان الأعجم المسكين يغذُّ السير، بينما كنت أنا أبكي من أعماق كياني حتى أطراف أصابعي التي برَاها العمل، على أمي التي ماتَت منذ عامين ولم تَعُد تنتظر عودة ابنها المتغرِّب الجَوال. وربما كان بكائي يمرُّ عبر اللجام الذي أمسِك به فيصل إلى أذنَي الحصان المرهفتَين؛ فينعكس على وقع حوافره التي بدَت وكأنها ترقص في نفس هذه البقعة، خطوات راقصة غريبة تقيس الطريق والعالم المجهول من أمامنا. كانت المنطقة كلها؛ الجو الصحو، ولون المحاصيل الليموني في الأصيل، وضَيعة هنا وضَيعة هناك تتعرف عليها روحي، كل هذا كان يحرِّك فيَّ نشوةً من الحنين إلى الموطن. وتقوَّست شفتاي أو كادتا كيما ترقدان على صدر أمي الخالد الذي يفيض إلى الأبد باللبن؛ أجل، إلى الأبد، حتى فيما وراء الموت.
لا بد أنني سرتُ من قبلُ في هذا الطريق مع أمي وأنا طفل. أجل، فعلًا؛ لكن … كلا. إن أمي لم تذهب إلى هذه الأنحاء. كنت أيامها صغيرًا جدًّا. كان ذلك مع أبي. لا بد أن ذلك حدث منذ سنوات كثيرة! كان ذلك في شهر يوليو أيضًا، مع اقتراب عيد القديس سنتياجو. أبي وأمي يمضيان على ظهر الحصان، وأبي في المقدمة. الطريق الملوكي. وفجأة، يصيح أبي الذي كان قد أفلح لتوِّه في تجنب الاصطدام بشجيرة صبار انتصبَت فجأة أمام الحصان: «انتبهي يا سيدتي!»
بَيدَ أنه لم يكن أمام أمي المسكينة وقت كافٍ للانتباه، فانطرحَت من على السرج وسقطَت على أحجار الطريق. وتعيَّن أن ينقلوها إلى القرية على محفَّة خشبية. وبكيتُ كثيرًا على ما حدث لأمي. ولم يقولوا لي حقيقة ما وقع لها. ثم شُفيَت. وما إن حلَّت ليلة العيد حتى عادت إلى مرحها وضحكتها. لم تَعُد بعدُ طريحة الفراش. وبدا كل شيء جميلًا. ولم أعُد أبكي من أجل أمي.
ولكني أبكي الآن إذ أتذكرها على تلك الحال، مريضة، طريحة الفراش، حين ازدادت حبًّا لي وعطفًا عليَّ، وأصبحَت تمنحني كمية أكبر من البسكويت من تحت وسادتها ومن درج مائدتها. والآن ازداد بكائي وأنا أقترب من سنتياجو؛ حيث سأجدها قد ماتت ودُفنت تحت أشجار ناضجة هامسة في مقبرة متواضعة.
كان قد مرَّ عامان على موت أمي. وقد تلقيتُ أول نبأٍ عن موتها حين كنت في «ليما» العاصمة؛ حيث علمتُ أيضًا أن أبي وإخوتي قد رحلوا إلى ضَيعة قصية يملكها أحد أعمامنا، بُغية التخفيف قدر الإمكان من وقع هذه الخسارة الفاجعة. وكانت الضَّيعة تقع في منطقة نائية للغاية من سلسلة الجبال، فيما وراء نهر «مارانيون». وكنت أنوي أن أذهب إلى هناك بعد وصولي إلى سنتياجو، طاويًا دروبًا لا نهاية لها خلال نِجاد وعرة وأحراش مجهولة مستعرة.
وصهل حصاني فجأة. وتطاير التبن بكثافة من هذه الزَّفرة البسيطة وكاد أن يُعمِي أبصاري. كومة من الشعير. وعندها لاحت لي سنتياجو على هضبتها الصلدة، بأسطحها التي حرقتها شمس الغروب. ومن ناحية المشرق، كانت تتبدَّى كذلك المقابر القائمة فوق نتوء أحمر موشًّى بالصفرة، وقد ظللتها شمس الساعة السادسة. وكان الموقف فوق ما أحتمل، واجتاحني حزن غامر أصابني بخدَر فظيع.
ووصلت إلى القرية مع حلول الليل. وحين عبرتُ آخر ناصية ودلفتُ إلى الطريق الذي يقع فيه منزلي، رأيتُ شبحَ شخص يجلس وحيدًا على مقعد حجري أمام المنزل. كان وحيدًا مغرقًا في وحدته، حتى إنه بعث في نفسي خوفًا أغرق ما كان في روحي من حزن عميق. وربما كان ذلك أيضًا بسبب الطمأنينة الساكنة التي التصق بها شبحه بصفحة الجدار الناصعة البياض وقد تجمَّد بفعل النور الشاحب الموَّار. وقفز من فوق المقعد الحجري أخي الأكبر «أنخل». واستقبلني معانقًا. كان قد عاد من الضَّيعة النائية منذ عدة أيام لإنجاز بعض المهام في القرية.
وتلك الليلة، بعد أن تناولنا طعامًا خفيفًا، سهرنا معًا حتى الفجر. وقمت بزيارة حجرات المنزل جميعًا، والردهات، والحظائر. ورغم أن أنخل حاول أن يثنيني عن استكشاف المنزل العتيق الحبيب؛ فقد كان هو الآخر على ما يبدو وكأنما يستعذب عذاب النفس الذي ينتج عن التطواف بأماكن الماضي الغائر التي تعبَق بالخيالات والصور.
كان أنخل، خلال الأيام القليلة التي تعيَّن عليه فيها أن يبقى في سنتياجو. يقيم وحيدًا في المنزل؛ حيث بقي كل شيء — كما قال — على ما كان عليه تمامًا عند وفاة أمِّنا. وقد حكى لي أيضًا عن أيامها الأخيرة قبل أن يداهمها المرض القاتل، وعن لحظاتها الأخيرة. ولشدَّ ما عمل عناقنا الأخوي آنذاك على اختراق حُجب أعماقنا الدفينة!
قلت وأنا أفتح بابًا صغيرًا ذا ألواح خشبية: «آه، هذا هو المخزن الذي كنتُ أطلب من ماما، وأنا أتصنَّع البكاء، أن تعطيني منه بعض البسكويت.» وكما هو الحال في جميع البيوت الريفية في جبال بيرو، التي لا يكاد يخلو واحدٌ منها من مقعدٍ حَجري محفور إلى جوار الباب، كان ثمة مقعد مماثل عند العتبة التي خطوتُ منها لتوي، لا شك أنه المقعد العتيق نفسه رفيق طفولتي، بعد أن جرى ترميمه وتنظيفه مرات لا تحصى. وجلسنا على المقعد الحجري والباب المتهالك مفتوحٌ وراءنا، ووضعنا إلى جوارنا القنديل ذا العين الحزينة الذي كنا نحمله معنا. كان نوره يسقط على وجه أنخل فيُضيئه بكامله. ثم أخذ وجهه يشحب تدريجيًّا مع مرور الليل حتى أصبح يبدو شفافًا تمامًا. وحين رأيته على تلك الحال، قبَّلتُ خده الملتحي الرصين.
والتمعَت فجأة شعلة من البرق — من ذلك النوع الذي تعرفه جبال بلادنا في الصيف — فأحالَت ظلام الليل نثارًا محطومًا. وفركتُ جَفني. واستدرتُ أواجه أنخل. لكن … لم يكن هناك من شيء؛ لا هو ولا القنديل ولا المقعد الحجري، لا شيء. ولم أسمع شيئًا. وشعرت كما لو كنت في قبر.
ثم عدت أرى أخي ثانية، والقنديل، والمقعد الحجري. بَيدَ أنني أصبحت أعتقد الآن أن وجه أنخل يبدو ناضرًا هادئًا؛ وأضحى — وربما كنت مخطئًا — كأنما قد عُوفِي من شقائه وضعفه السابقين. وأعود فأكرر أن ذلك ربما كان خداع بصرٍ ليس إلا، فمثل هذا التحوُّل لم يكن معقولًا.
وتابعت كلامي قائلًا وأنا أجهش: «ما زال بوسعي أن أراها كما كانت آنذاك. لم تكن المسكينة تعرف ماذا تفعل؛ إذ تعطيني البسكويت ثم تُعنِّفني قائلة: «لقد ضبطتك أيها الكذاب الصغير، تدَّعي البكاء وأنت في الحقيقة تضحك سرًّا.» وكانت تقبِّلني أكثر مما تقبِّل أيًّا منكم، إذ كنت أنا آخر العنقود!»
وفي نهاية تلك السهرة الحزينة الشجية، بدا لي أنخل مرة أخرى محطومًا ومنهكًا على نحو يدعو للعجب، كما كان قبل سطوع البرق. لذلك فلا بد أنني قد انتابني خداع البصر من جرَّاء لمحة البرق حين طالعتُ في وجهه راحة وبهجة لم يكن ممكن وجودهما في الواقع بطبيعة الحال.
وفي اليوم التالي، لم يكن الفجر قد طلع بعدُ حين امتطيتُ صهوة الحصان مرتحلًا إلى الضَّيعة القصية حيث تقيم أسرتي، بعد أن ودعت أنخل الذي كان يتعيَّن عليه البقاء في القرية أيامًا أُخَر لإنهاء الأعمال التي جاء من أجلها.
وفي نهاية أول يوم من أيام الرحلة حدث شيء عجيب؛ كنت مضطجعًا على مقعد خارج الخان الذي نزلت به أستريح، حين حدجتني عجوز من تلك النواحي بنظرة رعب مفاجئة وسألَتني في عطف: «ماذا حدث لوجهك يا سيدي؟ يا إلهي، إنه يبدو ملطَّخًا بالدماء في كل مكان!»
وقفزت من على المقعد. وبالفعل، رأيت وجهي في المرآة ملطخًا ببقع الدماء الجافة. واعترتني رجفة طاغية، وهفوتُ إلى أن أهرب من نفسي. دماء؟ ومن أين جاءت؟ لقد ضغطت وجهي على وجه أنخل حين كان يبكي … لكن … كلا، كلا. من أين جاءت الدماء إذَن؟ وفي وسع المرء أن يتخيل ما اصطخب في صدري من صدمة ورعب. لقد عانيتُ من ضغط على قلبي على نحوٍ لم أشعر به من قبل أبدًا في حياتي. ليست هناك من كلمات تعبر عما شعرتُ به آنذاك، الآن أو في أي وقت آخر. وحتى اليوم، كان كل ذلك هنا، في هذه الحجرة المنعزلة التي أكتب فيها: الدماء الجافة ووجهي الملطَّخ بها والعجوز عند الخان، وذلك اليوم إذ أخي يبكي، أخي الذي لم تقبِّله أمي.
وبعد أن كتبتُ هذه العبارات الأخيرة، فررتُ إلى شرفتي، لاهث الأنفاس، يغمرني عرق بارد؛ فإلى ذلك الحد كانت ذكرى تلك الدماء الغريبة مريعة بالنسبة لي.
وقضيتُ ليلة مليئة بالكوابيس في ذلك الخان الذي لا يُنسى، تبدَّت لي فيها صورة أمي الميتة في إطار من خيوط جامحة، خيوط لا نهاية لها، تتحطم في اللحظة التي تتبدَّى فيها، تتبدل مع صورة أخي أنخل الذي كان يبكي يَواقيت حية، على الدوام.
وواصلت رحلتي. وأخيرًا، بعد مسيرة أسبوع من التقافز فوق الجبال وبين الأحراش، وبعد عبور نهر «مارانيون»، وجدت نفسي ذات صباح سائرًا في منطقة الضَّيعة. كانت سماؤها الملبدة بالسحب تردد — في نوبات متقطعة — صدى الرعد القصي، وتسمح بين حين وآخر بمرور أشعة الشمس لحظات قصيرة.
وترجَّلت عن حصاني عند العمود القائم لربط الدواب لدى البوابة الخارجية للمنزل. ونبحَت عدة كلاب في سكون الجبال الحزين. ها أنا قد عدتُ الآن بعد سنوات طويلة إلى ذلك المنزل المنعزل المزروع في أعمق أغوار الأحراش.
ومن خلال شقشقة الطيور المذعورة، ارتفع صوتٌ في الداخل يدعو كلب الحراسة الضخم ويكبح جماحه. وبدا حصاني المرتجف المنهَك، ويا للغرابة، كأنه يزفر عند سماع الصوت، وصهل ثانية وثانية، وأرهف أذنيه إلى أعلى، وحاول إذ يشبُّ بقوائمه أن ينزع اللجام من يدي وينطلق جامحًا. كانت البوابة الخارجية الضخمة مغلقة. ولا بد أنني قد طرقتها بحركة آلية، وبعدها ارتفع ذلك الصوت نفسه من وراء الجدران. وفي اللحظة التالية، إذ انفتحت البوابة الضخمة بصوت يهزُّ النخاع، توقَّف ذلك الصوت الرنان فوق سنواتي الست والعشرين، وتركني أحدِّق في … الأبدية.
وانفتح الباب على مصراعيه.
فلتتأمل لحظةً هذه الحادثة غير المعقولة التي حطمَت قوانين الحياة والموت وعبرت فوق كل احتمال، كلمة أمل وإيمان بين المستحيل والمطلق، ذلك الانفصال اليقيني بين الزمان والمكان – سديم، مجبول من تناغمات مجهولة لا تناغم بينها، يتجمع كله في صيحة واحدة!
فقد خرجَت أمي من وراء الباب تستقبلني.
صاحت، مذهولة: «ابني! أأنت حي؟ هل عدتَ إلى الحياة؟ يا إله السماوات، ماذا أرى أمامي؟»
أمي! أمي، بجسمها وروحها، على قيد الحياة؟ وكانت تضَّطرم بالحياة لدرجة أعتقد معها أنني قد شعرت فجأة — وأنا واقف أمامها — بكُريات من برد الشكِّ تسقط على قلبي وتثقل جسدي فتجذبه إلى أسفل حتى انحنى ظهري وبدوتُ شيخًا هرمًا، كأنما أمي، بحيلة من حيل القدَر الخرافية، قد وُلدَت لتوها وأصبحتُ أنا بدوري آتيًا من أزمنة ماضية حتى إنني عدت أشعر تجاهها بمشاعر الأب نحو ابنته.
أجل، كانت أمي هناك. ترتدي السواد. على قيد الحياة. ليست ميتة. هل هذا ممكن؟ كلا. كيف يكون ذلك؟ مستحيل. إن هذه السيدة ليست أمي. لا يمكن أن تكون أمي. وعندئذٍ، ماذا قالت حين رأتني؟ هل كانت تظن أنني قد متُّ؟
صاحت: «يا ابني الغالي!»، وانفجرت في البكاء، واندفعت تحتضنني بين صدرها، في تلك النوبة من البكاء الفرِح التي اعتادت أن تحييني بها في غدواتي وروحاتي.
وتصلَّب جسدي. ورأيتها تلقي ذراعيها الحبيبتَين حول عنقي، وتقبِّلني في نهم كأنما هي تريد أن تأكلني أكلًا، وهي تجهش بعبارات إعزاز لن تنفذ مرة أخرى إلى أعماق وجودي بعد ذلك أبدًا. وتناولت فجأة وجهي الخالي من أي تعبير بين يديها، ونظرَت لي هكذا، وجهًا لوجه، وهي تمطرني بالأسئلة. وبعد عدة ثوانٍ، بدأتُ أبكي أنا الآخر، ولكن دون أن تتغير ملامح وجهي أو حتى أتحرك. كانت دموعي كالماء الصافي المنبجِس من عينَي أحد التماثيل.
وأفلحتُ أخيرًا في استجماع كل روحي المشتتة وخطوتُ إلى الوراء بضع خطوات. وعندها، آه يا إلهي القدير! تأكدتُ من حضور أمي، أمي التي لم يكن قلبي ليقبَلها، أمي التي أنكرها فؤادي وخافها، تأكدتُ من حضورها في ذلك الوقت المقدَّس الذي كان مجهولًا لديَّ حتى تلك اللحظة. وأطلقتُ صيحة خافتة ذات حدَّين في حضورها الكامل، بنفس إيقاع المطرقة التي ترتفع وتهوي على السندان، أو أول عويل يطلقه الوليد حين يُنتزع من رحم أمه كأنما يبلغها مقدمه حيًّا إلى الدنيا، ويعطيها في نفس الوقت إشارة وكلمة سر يتعارفان بهما بعد ذلك إلى الأبد.
وتأوهتُ وقد فاضَت بي نفسي: «أبدًا! أبدًا! لقد ماتت أمي منذ وقت طويل … لا يمكن ذلك.»
ووقفتُ وقد أخافتها كلماتي، كأنما هي تشكُّ أنني ابنها. وجذبتني بين ذراعيها مرة أخرى وطفق كلانا يبكي دموعًا لم يبكِها أي مخلوق من قبل ولن يبكيها مخلوق من بعد.
ورددت: «أجل، لقد ماتت أمي بالفعل. إن أخي أنخل يعلم ذلك.»
وعند ذلك الحد، اندفعت لُطخ الدماء التي رأيتها على وجهي إلى ذهني كأنها علامة آتية من عالم آخر.
وهمسَت: «يا ابن قلبي. هل أنت ابني الميت الذي رأيته بنفسي في نعشه؟ أجل، إنه أنت، أنت بلحمك. إني أومن بالله. تعالَ بين ذراعي! ألا ترى أنني أمك؟ انظر لي، انظر لي! المسني يا بني. أهذا ممكن أنك لا تصدقني؟»
وراقبتُها مرة أخرى. ولمستُ رأسها الصغير الجليل الذي يغطيه الشعر الأبيض. لا شيء. لا أصدق شيئًا.
وأجبتُها: «أجل، إني أراك. إني ألمسك. ولكني لا أصدِّق. لا يمكن أن تحدث كل هذه الأشياء المستحيلة».
وضحكتُ ما وسعني الضحك.