الأحد، الأحد
تأليف: ماريو فارجاس يوسا
(بيرو)
ماريو فارجاس يوسا (١٩٣٦م)
وُلد في بلدة «أريكيبا» ببيرو، ودرس القانون في جامعة سان ماركوس بليما العاصمة. بدأ في كتابة أول قصصه عام ١٩٥٦م وحصل على عدة جوائز أدبية. والتحق بعد ذلك بالجامعة المركزية بمدريد لدراسة الآداب، ثم انتقل للإقامة في باريس حيث كتب عددًا من رواياته التي حازت شهرة واسعة، ومنها: «الرؤساء» و«مدينة الكلاب». وبعد أن ذاعت كتاباته، عمل أستاذًا زائرًا في عدة جامعات في أوروبا وأمريكا، وتنقَّل في عدة عواصم قبل أن يعود إلى بلاده عام ١٩٧٤م. ومن بين رواياته المعروفة: «البيت الأخضر»، «الأشبال»، «العمة خوليا»، «حرب نهاية العالم»، «من قتل بالومينو موليرو؟» كما أنه كتب عدة كتب نقدية عن الرواية في أمريكا اللاتينية وعن روايات جارسيا ماركيز. وقد زار يوسا مصر في عام ٢٠٠٠م؛ حيث لقِي ترحيبًا كبيرًا من الأوساط الثقافية فيها.
***
حبس أنفاسه لحظة، وغرس أظافره في راحة يده، وقال بسرعة: «إنني واقع في غرامك.» ورأى وجهها يتضرج بالحمرة فجأة، كأنما صفعها أحدهم على خدها الذي كان ناعمًا ذا شحوب صقيل. وشعر بالرهبة والاضطراب يعقِلان لسانه. وأراد أن يجري هاربًا وينهي الموضوع. وفي ذلك الصباح الشتائي الساكن، شعر بغمرة الضعف الداخلي الذي عادةً ما يتغلَّب عليه في اللحظات الحاسمة. وقبل ذلك بلحظات، كان ميجيل يقف بين زمرة الأصدقاء الباسمين النشطين في المتنزه المركزي في مدينة «ميرافلوريس»، ويقول لنفسه: «الآن، حين نصل إلى شارع «برادو» سوف أنتهز الفرصة. آه يا روبين، لو تدري كم أكرهك!» وحتى قبل ذلك، في الكنيسة، كان يبحث عن «فلورا» فوجدها عند أحد الأعمدة؛ فشقَّ طريقه بجسارة وسط النسوة المحتشدات، نجح في الاقتراب منها وحياها بصوت خفيض، مرددًا لنفسه باقتضاب كما فعل هذا الصباح وهو ممدد على السرير يرقب أول شعاع من الضوء: «لا مفرَّ من ذلك، لا بد أن أفعلها اليوم، هذا الصباح. سوف تدفع ثمن ذلك يا روبين.» وفي الليلة السابقة، بكى لأول مرة منذ سنوات عديدة، بعد أن تحقق من الفخ المزعج الذي ينتظره. وكانت الحشود قد دخلت إلى المتنزه وخلا شارع «برادو» من المارة. كانت الزمرة تسير في الشارع، تحت أشجار المطاط ذات الأوراق الكثيفة العالية. وجال بخاطر ميجيل: «يجب أن أسرع وإلا ضاعت الفرصة.» وتطلَّع جانبًا، وحواليه. لم يكن هناك أحد. وحرَّك يده اليسرى ببطء حتى لمست يدها. وبيَّن لها الالتقاء المفاجئ ما كان يحدث. كان يتوق إلى وقوع معجزة تُنهي هذه المهانة. وقال لنفسه: «أخبرها، أخبرها.» وتوقفت، وجذبت يدها، وشعر بنفسه مهجورًا أبله. وطارت من ذهنه كل العبارات المتوهجة التي أعدَّها بحماس في الليلة الماضية كأنها فقاعات الصابون.
وتلعثم قائلًا: «فلورا، لقد انتظرتُ هذه اللحظة وقتًا طويلًا. منذ عرفتك، وأنا لا أفكر إلا فيك. إنني واقع في الحب لأول مرة، صدقًا. إنني لم أعرف أبدًا فتاة مثلك.»
وبعدها خلا ذهنه من أي شيء، فراغ تام. كان الضغط هائلًا. وأحس بجلده رخوًا مطاطيًّا، وانغرست أظافره في عظامه. وبالرغم من ذلك، مضى في كلامه متألمًا، يتوقف كثيرًا، ويتغلب على لعثمته، محاولًا شرح عاطفته الهوجاء الحارقة، إلى أن وجد أنهما قد وصلا إلى أول ساحة في شارع «برادو»، فصمت. وكان منزل فلورا يقع بين الشجرة الثانية والشجرة الثالثة بعد الساحة. وتوقفا، ونظر الواحد منهما إلى الآخر. وكانت فلورا قد أصبحت مهتاجة عند ذاك، مما أضفى لمعة على عينَيها. وفي يأس، جال بخاطر ميجيل أنها لم تكن أبدًا بمثل هذا الجمال. وكان ثمة شريط أزرق يربط شعرها، وكان بوسعه أن يرى مطلع جيدها، وأذنيها، مثل علامتي استفهام صغيرتَين كاملتَين.
قالت بصوت موسيقيٍّ متزن رقيق: «أرجوك يا ميجيل. لا يمكنني أن أردَّ عليك الآن. وإلى جانب ذلك فأمي لا تريدني أن أخرج مع أولاد حتى أنتهي من الدراسة.»
وأصرَّ ميجيل: «كل الأمهات يقُلن ذلك يا فلورا. ومن سيقول لها؟ سوف نتقابل حينما تقررين ذلك، حتى لو كان ذلك أيام الأحد فقط.»
قالت فلورا وهي تَخفض من بصرها: «سوف أعطيك ردًّا، وإنما يجب أن أفكر أولًا.» ثم أضافت بعد برهة: «اعذرني، لا بد أن أذهب؛ فالوقت متأخر.»
واعترى ميجيل وهن عميق، شعور سرى في كل أنحاء جسده فأرخى عضلاته.
وقال في خفوت: «إنكِ لست غاضبة مني يا فلورا؟»
فردت في إشراق: «لا تكن أبله. إنني لست غاضبة.»
قال ميجيل: «لسوف أنتظر ما تشائين من وقت. لكننا سنظل نتقابل، أليس كذلك؟ بوسعنا الذهاب إلى السينما هذا الأصيل.»
فقالت في لين: «لا يمكنني اليوم، فقد دعتني «مارتا» إلى بيتها.»
واجتاح جسده وهج دافئ وشعر بنفسه يتألم ويبهت من الردِّ الذي كان يتوقعه، والذي بدا الآن عذابًا فوق عذاب. إذَن فكان حقًّا ما همس به «ميلانيز» بقوة في أذنه في أصيل يوم السبت. فلسوف تتركهما مارتا وحدهما؛ اللعبة القديمة. وبعد ذلك، سيقول روبين للجماعة كيف دبَّر هو وأخوه الموقف، المكان وزمانه. وتزعم مارتا، ثمنًا لذلك، أنها تجسست عليهما من وراء الستار. كانت يداه قد تبللتا من الغضب.
– كلا يا فلورا. لسوف نذهب إلى حفلة الماتينيه كالعادة. لن أقول لأحد شيئًا، أعدك بهذا.
قالت فلورا: «كلا. حقيقة لا أستطيع. لا بدَّ لي من الذهاب إلى مارتا. لقد ذهبَت إلى منزلي بالأمس كيما تدعوني. ولكني سأذهب معها بعد ذلك إلى متنزه سالازار.»
بَيدَ أنه لم يشعر بأي أمل حتى في تلك العبارة الأخيرة. وبعد ذلك بلحظة، كان غارقًا في الفكر في البقعة التي اختفت عندها الفتاة الصغيرة، تحت القوس العظيم الذي تشكِّله أشجار المطاط في الطريق الواسع. كان يمكن لها أن تتخذ خصمًا بسيطًا، ولكن ليس روبين. وعادت إلى ذاكرته أسماء الفتيات اللاتي دعتهن مارتا، في أصيل يوم الأحد. لم يكن باستطاعته أن يفعل شيئًا الآن، كان قد هُزم. ولاح أمامه مرة أخرى ذلك الشبح الذي كان يُنقذه دائمًا في أوقات الإحباط؛ فعلى خلفية من السحب التي تكوَّنت بفعل الدخان الأسود، على رأس مجموعة من طلبة الكلية البحرية يتقدمهم تجاه قاعدة مقامة في المتنزه لأداء التحية العسكرية، كان هناك أناس من علية القوم يرتدون الملابس الرسمية، وقبعاتهم في أيديهم، ونسوة يشتملن على مجوهرات برَّاقة، وكلهم يصفقون له. وعلى الرصيف، كانت مجموعة يرى فيها وجوه أصدقائه وأعدائه، يقفون يرقبونه في روع ويهمسون باسمه. وكان ميجيل يرتدي الحلة الزرقاء، ومعطفًا عريضًا يفيض من كتفيه، ويسير في المقدمة وهو يتطلع إلى الأفق البعيد. وشهر سيفه، وأدار رأسه ناحية الحضور. وهناك، في وسط الجميع، كانت فلورا تبتسم. ولاحظ روبين قابعًا في أحد الأركان، مهمَلًا خازيًا. واكتفى بأن وجَّه إليه نظرة ازدراء خاطفة، ومضى في سيره واختفى وسط الهتافات.
بَيدَ أن المشهد اختفى كما يختفي البخار حين يُمسح من سطح المرآة. كان قد بلغ بابَ منزله، يشعر بكُرهٍ للدنيا كلها، وبكُرهٍ لنفسه. ودخل وتوجَّه مباشرة إلى غرفته، وألقى بنفسه على السرير راقدًا على بطنه. وفي وسط الظلمة تحت عينيه ظهر وجه الفتاة. وردد بصوت عالٍ: «أحبك يا فلورا.» وبعدها ظهر وجه روبين بفكِّه الصفيق وابتسامته الساخرة. وبقِي الوجهان جنبًا إلى جنب، واقتربا منه. وتحوَّلت عينا روبين لتسخر منه، بينما كان فمه يتجه إلى فلورا.
وقفز من فراشه. ونظر إلى وجهه في مرآة الدولاب فرآه مكفهرًّا مزرَقًّا. وقرر ألا يسمح بذلك. إن روبين لا يمكن أن يقوم بذلك، لن أسمح له أن يفعل ذلك بي.
وكان شارع برادو لا يزال خاليًا. وغذَّ الخطو في سيره إلى أن بلغ تقاطع شارع جراو؛ وانتابه التردد عندها. وشعر بالبرد؛ إذ كان قد ترَك سترته في البيت، ولم يكن القميص وحده يحميه من الرياح التي تهبُّ من البحر والتي كانت تمشِّط الأوراق الكثيفة لأشجار المطاط في صوت رتيب. وخلعت عليه الصورة الفظيعة لفلورا وروبين معًا الشجاعة، فمضى في سيره. ومن عتبة باب الحانة التي تُجاور سينما «مونت كارلو»، رآهم جالسين إلى مائدتهم المعهودة، يحتلون الركن الذي يشكله جداران. وشاهده «فرانسسكو»، و«ميلانيز»، و«توبياس» الذي كانوا يسمونه العلامة، وبعد أن بدت عليهم الدهشة، تطلعوا إلى روبين وقد بدا على وجوههم المكر والإثارة. وسيطر على نفسه بسرعة، فقد كان يعرف بالتأكيد كيف يتعامل مع الرجال.
قال وهو يدنو منهم: «هاللو. ما الأخبار؟»
قال العلامة وهو يجذب مقعدًا: «اجلس. أي معجزة جاءت بك إلى هنا؟»
قال فرانسسكو: «لقد مضى قرن من الزمان لم نرَك فيه هنا.»
وقال ميجيل بحرارة: «كنت أريد أن أراكم. وعرفت أنكم ستكونون هنا. لماذا تعتريكم الدهشة هكذا؟ أم أنني لم أعُد عضوًا في جماعة «الصقور»؟» وجلس على مقعد بين ميلانيز وتوبياس. وكان روبين في مواجهته.
وصاح العلامة: «هات كوبًا آخر يا كونشو. أقل قذارة.» وحين جاءت الكوب، ملأها العلامة بالبيرة، ورفعها ميجيل هاتفًا: «في صحة الصقور» وشربها كلها.
وقال فرانسسكو: «كأنك تريد أن تبلع الكوب أيضًا. يا له من عطش!»
وقال ميلانيز وهو يغمز بعينه في رضًا كما يفعل دائمًا وهو يدبر أمرًا ما: «أراهن أنك حضرت قدَّاس الساعة الواحدة. أليس كذلك؟»
قال ميجيل دون أي اضطراب: «أجل، ذهبت. وإنما كي أرى فتاة ليس إلا.»
ونظر إلى روبين نظرة تحدٍّ، بَيدَ أن روبين لم يأبه له. كان يدقُّ على المائدة بأصابعه، ويصفر بهدوء ولسانه بين أسنانه لحن أغنية «الفتاة الراقصة».
وقال ميلانيز: «عظيم، عظيم أيها الدون جوان. قل لنا، أي فتاة؟»
– «هذا سرٌّ.»
فذكَّره توبياس قائلًا: «ليس هناك من أسرار بين الصقور. هل نسيت ذلك؟ هيا، قل لنا من هي.»
فقال ميجيل: «وما أهمية ذلك بالنسبة لك؟»
فرد توبياس: «يهمني كثيرًا. يجب أن أعرف من تكون حتى أعرف من أنت.»
فقال ميلانيز لميجيل: «عظيم؛ واحد مقابل صفر.»
قال فرانسسكو: «أراهن أن بإمكاني أن أخمِّن من تكون. ألا تستطيع أنت ذلك أيضًا؟»
قال توبياس: «وأنا أعرف.»
وقال ميلانيز: «وأنا أيضًا.» وتحوَّل إلى روبين، وقال بكل براءة في صوته وعينيه: «وأنت أيها الأخ، هل بوسعك أن تخمن من تكون؟»
فقال روبين ببرود: «كلا. والأمر لا يهمني.»
وقال العلامة: «إن معدتي تحترق. ألن يطلب لنا أحد بيرة؟»
قال ميلانيز بالإنجليزية وهو يمرر أصبعه على رقبته: «ليس معي أي نقود يا عزيزي.»
وأعلن توبياس بإيماءة فخيمة: «سوف أشتري زجاجة. من سيتبعني؟ لا بد لنا أن نطفئ نيران هذا البليد.»
قال ميجيل: «كونشو، أحضر لنا نصف دستة زجاجات.» وتبع ذلك صيحات الحماس والتعجب.
قال فرانسسكو مؤكدًا: «إنك صقر حقيقي.»
وأضاف ميلانيز: «مجنون، مجنون. أي نعم يا سيد، صقر من أعلى درجة.»
وأحضر كونشو البيرة. وشربوا. واستمعوا إلى ميلانيز وهو يحكي قصصًا بذيئة رديئة مبالغًا فيها. ونشبَت مناقشة حادة حول كرة القدم بين توبياس وفرانسسكو. وحكَى العلامة حكاية: كان قادمًا من مدينة «ليما» إلى ميلافلوريس بالأوتوبيس. ونزل المسافرون الآخرون عند شارع أريكيبا. وعند مبدأ شارع برادو، صعد إلى الأوتوبيس «توماسو» ذلك الذي يدعونه الحوت الأبيض، ذلك الأشقر الضخم الذي ما زال في السنة الأولى الابتدائية، والذي يسكن في «كبرادا» — تعرفونه؟ — وتظاهر بأنه مهتم بالأوتوبيس؛ فبدأ يوجِّه الأسئلة للسائق وهو ينحني على المقعد من الوراء بينما يشقُّ في نفس الوقت قماش المقعد الخلفي بسكين معه.
قال العلامة: «لقد فعل ذلك لأنني كنت هناك. كان يريد إظهار مهارته.»
قال فرانسسكو: «إنه مختلٌّ عقليًّا. إنك تفعل مثل تلك الأشياء حين تكون في العاشرة. أما وأنت في هذه السن، لا يكون الأمر لطيفًا.»
فضحك العلامة قائلًا: «اللطيف هو ما حدث بعد ذلك. قلت للسائق: اسمع أيها السائق، ألا تعرف أن هذا الشيطان يدمر عربتك؟ فقال السائق وهو يفرمل فجأة: ما هذا؟ مما جعل توماسو يقفز خارجًا من باب الأوتوبيس وعيناه تشعَّان بالفزع الشديد. ولكم أن تتصوروا حالته هكذا ومعه سكين حاد. وقد أفلح أخيرًا في الخروج من الأوتوبيس وأسرع يعدو في شارع أريكيبا والسائق يعدو وراءه صائحًا: أمسكوا هذا المجنون.»
وسأل ميلانيز: «وهل أمسك به؟»
– لا أعلم، فقد غادرتُ الأوتوبيس وأخذت معي مفتاح السيارة كتَذكار. ها هو.
وتناول مفتاحًا صغيرًا من الفضة من جيبه ووضعه على المائدة. كانت الزجاجات قد فرغت. ونظر روبين إلى ساعته ونهض واقفًا.
قال: «إني ذاهب. سلام.»
فقال ميجيل: «لا تذهب. أنا اليوم من الأغنياء. إني أدعوكم جميعًا إلى الطعام.»
وربتت أيد كثيرة على ظهره استحسانًا، وشكره الصقور وهتفوا له.
قال روبين: «لا أستطيع. ورائي مشاغل.»
فقال توبياس: «حسنًا إذَن، اذهب أيها الصبي. احمل سلامي إلى مارتا.»
وقال ميلانيز: «سوف نذكرك أيها الأخ.»
فقال ميجيل: «كلا. إنني أدعو الجميع أو لا أحد. فإذا رحل روبين، ألغيتُ الدعوة.»
قال فرانسسكو: «أتسمع ما يقول أيها الصقر روبين؟ عليك أن تبقى.»
وقال توبياس: «عليك أن تبقى.»
قال روبين: «إني ذاهب.»
قال ميجيل: «الموضوع هو أنك ثمِل. إنك ذاهب لأنك تخشى أن تنهار أمامنا، هذا هو كل شيء.»
فردَّ روبين: «كم مرة اضطررت أن أصحبك إلى منزلك وأنت مغشي عليك تقريبًا؟ كم مرة عاونتك على صعود السلم حتى لا يُمسِك بك أبوك؟ بوسعي أن أتحمل عشر مرات ما تتحمله.»
فقال ميجيل: «أصحيح هذا؟ إذَن فلماذا لا تجرِّب؟»
قال روبين: «بكل سرور. نتقابل إذَن هذه الليلة.»
– كلا. الآن.
وتحوَّل ميجيل ناحية الآخرين وصاح وهو يفتح ذراعيه: «أيها الصقور، إني أتحدَّى.»
ولحسن الحظ، كانت تلك الصيغة لا تزال فعالة. ففي وسط الضجة التي أثارها، شاهد روبين يجلس وقد امتقع لونه.
صاح توبياس: «كونشو، قائمة الطعام. ودلوان من البيرة. لقد أعلن أحد الصقور تحديًا.»
وطلبوا شرائح اللحم ودستة من زجاجات البيرة. ووضع توبياس ثلاث زجاجات أمام كل من المتنافسَين. وكانت بقية الزجاجات للآخرين. وتناولوا الطعام دون الكثير من الكلام. وكان ميجيل يشرب بعد كل لقمة وحاول أن يبدي بعض الحماس؛ بَيدَ أن خوفه من عدم استطاعته تحمُّل كل هذه البيرة كان يتزايد بتزايد طعمها الحريف في حلقه. وأنهيا الزجاجات الست بعد قليل من قيام كونشو برفع الأطباق.
وقال ميجيل لروبين: «لك أن تطلب.»
– ثلاثًا أخرى لكل منا.
وبعد أول كوب من الطلب الجديد، شعر ميجيل بطنين في أذنيه. وكان رأسه يدور في بطء، وكل شيء يلفُّ أمام عينيه.
قال: «أريد الذهاب إلى دورة المياه.»
وضحك الصقور، بينما قال روبين: «هل تستسلم؟»
وصاح ميجيل: «إني ذاهب لدورة المياه. اطلب عددًا آخر من الزجاجات إن شئت.»
وتقيَّأ في دورة المياه، ثم غسل وجهه جيدًا وهو يحاول أن يزيل أي علامة على ما يشعر به. كانت ساعته تشير إلى الرابعة والنصف. وعلى الرغم من شعوره الحادِّ بالإعياء، كان يشعر بالسعادة. ليس بوسع روبين الآن أن يفعل أي شيء مع فلورا. وعاد إلى الآخرين.
قال روبين وهو يرفع كأسه: «في صحتك.»
وجال في خاطر ميجيل أنه محنق، ولكني أوقفته الآن عما كان ينتويه.
وقال ميلانيز: «ثمة رائحة لشخص ميت. هناك شخص يموت بيننا.»
فأكد ميجيل وهو يحاول التغلب على سخطه وإعيائه: «إني نشط تمامًا.»
وكرر روبين: «في صحتك.»
وحين أفرغا آخر كوب من البيرة، شعر بثقل في معدته؛ وكانت أصوات الآخرين تصل إليه كأصوات مشوشة مختلطة. وظهرت يدٌ فجأة تحت عينيه، بيضاء كبيرة الأصابع، أمسكت بذقنه وأرغمته على رفع رأسه. كان وجه روبين قد تطاول. كان مضحكًا، مشعث الشعر غاضبًا.
– أتستسلم يا ولد؟
واستجمع ميجيل قواه فجأة وأزاح روبين. ولكن قبل أن يتمكن من متابعة تلك الحركة، تدخل العلامة قائلًا وهو يعيدهما إلى مقعديهما: «الصقور لا يتعاركون أبدًا. كلاهما ثمِل. انتهى الموضوع. تصويت.»
ووافق ميلانيز وفرانسسكو وتوبياس، على مضض، أن يعلنا أن النتيجة هي التعادل.
وقال روبين: «إني قد كسبت بالفعل. إنه لا يتحمل. انظروا إليه.»
وبالفعل كانت عينا ميجيل زجاجيتين، وفمه مفتوح على وسعه، وخيط من اللعاب يسيل من لسانه.
وصاح العلامة: «اسكت. إنكَ لست بطلًا في عبِّ البيرة، كما نقول.»
وأضاف ميلانيز: «إنك لست بطل شرب البيرة. أنت بطل السباحة فحسب، إنك شيطان أحواض السباحة.»
قال روبين: «يحسُن بك أن تلزم الصمت، ألا ترى أن الحسد يلتهمك التهامًا؟»
قال ميلانيز: «يعيش إستر ويليامز بلدة ميلافوريس.»
قال روبين: «إنك ضخم ومع ذلك لا تعرف العوم. أتريدني أن أعطيك دروسًا؟»
قال العلامة: «إننا نعرف أيها البطل. لقد كسبت بطولة في السباحة. وكل الفتيات متيَّمات بك. البطل الصغير.»
فقال ميجيل بصعوبة: «بطل في لا شيء. إنه زائف.»
قال روبين: «إنك على وشك أن يُغشى عليك. هل أصحبك إلى المنزل يا فتاة؟»
فأصر ميجيل: «إنني لستُ ثملًا. وأنت زائف.»
قال روبين: «إنك مطحون لأنني سوف أرى فلورا. إن الغَيرة تقتلك. أتظن أنني لا أعرف كيف تسير الأمور؟»
قال ميجيل: «زائف. لقد كسبت لأن أباك رئيس الاتحاد. الكل يعرف أنه قد استخدم نفوذه حتى تفوز.»
فقال روبين: «وأنت من بينهم جميعًا، ليس بوسعك أن تطفو على الماء.»
قال ميجيل: «إنك لا تفضُل أي أحد في السباحة. أي واحد بوسعه أن يسبقك.»
فقال ميلانيز: «أي واحد. حتى ميجيل، وهو ليس الأفضل.»
قال روبين: «اسمح لي أن أبتسم.»
فقال توبياس: «نسمح لك. هذا هو كل ما نريد».
قال روبين: «إنكم تقولون ذلك لأننا في الشتاء وإلا كنت قد تحديتكم جميعًا أن نذهب إلى الشاطئ كيما نرى ماذا أنتم فاعلون في المياه.»
قال ميجيل: «لقد فزت بالبطولة من أجل أبيك. أنت زائف. إذا أردت أن تعوم، فقل لي، هذا هو كل ما في الموضوع. عند الشاطئ، في «ترازاس»، أينما شئت.»
فقال روبين: «عند الشاطئ. الآن.»
قال ميجيل: «إنك زائف.»
فقال روبين: «إذا أنتَ كسبتَ، أعِدُ بأنني لن أرى فلورا. وإذا أنا فزتُ، فبوسعك أن تغني في مكان آخر.»
فتلجلج ميجيل قائلًا: «من تظنُّ نفسك أيها الوغد؟ هه، من تظن نفسك؟»
قال روبين وهو يفرد ذراعيه: «أيها الصقور، إني أعرض تحديًا.»
فقال العلامة: «إن ميجيل ليس مستعدًا الآن. لماذا لا تقترعان على فلورا وحسب؟»
فقال ميجيل: «اخرج أنت منها. إني أقبَل. هيا بنا إلى الشاطئ.»
فقال فرانسسكو: «لن أذهب إلى الشاطئ في هذا البرد. تراهنا على شيء آخر.»
قال روبين: «لقد قبِل. هيا بنا.»
قال ميلانيز: «حين يعلن أحد الصقور تحديًا يجب أن يُمسِك كل واحد لسانه. هيا بنا إلى الشاطئ. وإذا خافا من الدخول إلى البحر، فسنقذف بهما فيه.»
وأصرَّ العلامة على رأيه قائلًا: «إنهما ثملان. التحدي غير مقبول.»
فزأر ميجيل قائلًا: «اسكت أيها العلامة. إني رجل ولا أحتاج أن تعتني بي.»
فقال العلامة وهو يهز كتفيه: «وهو كذلك. افعل ما بدا لك إذَن.»
وخرجوا. وكانت هالة رمادية تستقبلهم في الخارج. وتنفَّس ميجيل بعمق عدة مرات، وشعر بتحسن. وسار فرانسسكو وميلانيز وروبين في المقدمة، يتبعهم ميجيل والعلامة. كان ثمة متسكعون في شارع جراو، معظمهم خادمات في يوم عطلتهن. وكان رجال متجهمو الطلعة ذوو شعر طويل يتبعونهن ويرمقونهن بنظرات شرهة. كانوا يضحكون مبينين عن أسنان ذهبية. ولم يأبه الصقور بهذا، بل ساروا بخطًى واسعة وقد أخذ الحماس يدبُّ فيهم ببطء.
قال العلامة: «أتشعر بتحسُّن؟»
فرد ميجيل: «أجل. لقد أفادني الهواء الطلق.»
واستداروا عند ناصية شارع برادو. وساروا موزَّعين على هيئة فصيل، في نفس الصف، تحت أشجار المطاط، على بلاط الرصيف الذي تخترق سطحه من مكان لآخر جذور شجرة ضخمة كأنها خطاطيف عملاقة. وانعطفوا إلى شارع «دياجونال»، فمروا بفتاتَين. وانحنى روبين لهما بكل احترام.
قالتا معًا: «أهلًا يا روبين.»
فقلدهما توبياس وهو ينغم صوته: «أهلًا بالأمير روبين.»
وانتهى شارع دياجونال إلى منحنًى يتفرع إلى اتجاهين: الأول يفضي إلى شارع «ماليكون» المرصوف البراق، والثاني يتبع منحدرًا يؤدي إلى البحر. وكان يطلق على الطريق الثاني «مهبط المستحمِّين»، وهو يلمع من آثار عجلات السيارات وأقدام المستحمين عبر أعوام عديدة.
وصاح ميلانيز وهو يبدأ في الجري: «دعونا نطلق العنان لأنفسنا أيها الأبطال.» وتبعه الآخرون.
وجرَوا ضد الريح والضباب الخفيف الذي كان يأتي من ناحية البحر، وقد سيطرت عليهم دوامات عنيفة من المشاعر. كان الهواء يتسرب خلال آذانهم وأفواههم وأنوفهم إلى الرئة؛ فينشر في أبدانهم إحساسًا بالراحة وصفاء الذهن؛ إذ الطريق يزداد انحدارًا، وفجأة لم تَعُد أقدامهم تطيع إلا قوة غامضة تأتي فيما يبدو من بطن الأرض. وانطلق الصقور يجرون صارخين وأذرعتهم تدور كالمراوح، ونكهة مالحة على ألسنتهم، حتى بلغوا المنطقة الدائرية التي تطل على كبائن الاستحمام. كان البحر يختفي بعد حوالي خمسين مترًا من الشاطئ، في سحابة كثيفة تتأهب فيما يبدو للهجوم على الربوات التي كانت تنتشر على طول الخليج.
قال فرانسسكو: «فلنعُد. إني متجمِّد.»
وعلى حافة المنطقة، كان هناك حاجز ملطخ هنا وهناك بالطحالب الفطرية. وكان ثمة فتحة فيه تشير إلى مبدأ سلم يكاد يكون أفقيًّا يفضي إلى الشاطئ. وشاهد الصقور من علٍ شريطًا قصيرًا من المياه الصافية، سطحها لا يقطعه شيء، تُرغي حيث يَلحق الضباب بزبَد الأمواج.
قال روبين: «سأعود لو استسلم ذاك.»
ورد ميجيل: «من يتحدث عن الاستسلام. من تظنك تكون؟»
وهبط روبين السلم ثلاثًا ثلاثًا، وهو يفك أزرار قميصه.
وهتف العلامة: «روبين! أأنت مجنون؟ ارجع!»
بَيدَ أن ميجيل والآخرين هبطوا أيضًا، وتبِعهم العلامة.
ومِن شرفة المبنى الطويل العريض المقام قبالة الرابية، والذي كان يضمُّ غرف خلع الملابس، حتى حافة البحر الملتوية، كانت هناك مساحة من الصخور الملساء كان الناس يستخدمونها في الصيف للتشمس. وكان الشاطئ عند ذاك يضجُّ بالحياة، من الصباح الباكر حتى الغروب. أما الآن فالمياه تغمر المنحنى، ولا توجد أي مظلات ملونة، ولا فتيات لدِنات ذوات أجسام برونزية، ولا صرخات ميلودرامية للأطفال والنساء حين تنجح إحدى الموجات في رشهم بمياهها قبل أن تنحسر فوق الصخور والحصباء المتوجعة. ولم تكن هناك بقعة من الشاطئ إلا وقد غمرها الماء الذي ارتفع حتى الفراغ الضيِّق تحت الأعمدة التي تحمل البناء. ومع ارتفاع المد، كان من الصعب معرفة مكان السلالم الخشبية والدعائم الأسمنتية التي كانت كلها مغطاة بالتجمعات الجيرية وبالأعشاب.
قال روبين: «لا يمكن رؤية منطقة التيار. ماذا سنفعل؟»
كانوا في الشرفة العليا اليسرى، فوق القسم المُخصص للنساء. كانت الجِدية ترتسم على وجوههم.
وقال العلامة: «انتظر إلى غدٍ. سيكون الجو صافيًا عند الظهيرة. وعندئذٍ يمكننا تحديد الفائز.»
فقال ميلانيز: «الآن وقد قطعنا جميعًا كل هذا الشوط، فليكن الآن. يمكنهما تحديد الفائز بنفسيهما.»
قال روبين: «أنا موافق. وأنت؟»
فرد ميجيل: «حسنًا.»
وحين خلعا ملابسهما، ضحك توبياس على العروق التي كانت تنتشر على معِدة ميجيل الصقيلة. وهبطا. كان خشب درجات السلم زلجًا وناعمًا بفعل نحر المياه فيه لعدة أشهر. وشعر ميجيل وهو يمسك بالدرابزين الحديدي حتى لا يسقط بقشَعريرة تسري من أخمص قدميه إلى عقله. كان قد حسب أن الضباب والبرد هما بطريقةٍ ما في صالحه، وأن النجاح لن يعتمد بدرجة كبيرة على المهارة قدر اعتماده على التحمُّل، وكان جِلد روبين قد تحوَّل إلى اللون الأرجواني بالفعل وقد تأثَّر بشدة البرد. وبعد درجة أخرى من السُّلم، انحنى جسد روبين المتناسق إلى الأمام. وانتظر بتوتر انحسار الماء ووصول الموجة التالية، التي جاءت مستوية خفيفة تعلوها هامَة من الزَّبد. وحين أصبحت قمة الموجة على بعد مترين من السلم قفز روبين. وانبسط ذراعاه كالسهام، وشعره يطفو مع القفزة، وشقَّ جسده الهواء وسقط دون أن يلتوي، ورأسه لا يميل، وركبتاه مستقيمتان. ودخل إلى الزَّبد وهو لا يكاد يهوي في الماء، واستفاد من الجزر فانساب سريعًا إلى الأمام وذراعاه تظهران وتختفيان في احتدامٍ من الفقاعات، بينما تُخلِّف ساقاه خيطًا رتيبًا ثائرًا. وهبط ميجيل بدوره درجة وانتظر الموجة التالية. كان يعرف أن القاع هناك ضحل، وأن عليه أن يغطس كلوح الخشب، بقوة وصرامة، دون أن يتحرك، وإلا فسيصطدم بالصخور. وأغمض عينيه وقفز، ورغم أنه لم يلمس القاع، فقد تسلَّخ جسده من الجبهة حتى الركبتين، وكان يشعر باللذعة وهو يسبح بكل قوته كيما يُعيد إلى أطرافه الدفء الذي جردته منه المياه. وفي تلك البقعة من شاطئ ميرا فلوريس كانت الأمواج والتيارات المضادة تلتقي فتُثير دوامات متصارعة، وكان الصيف الماضي بعيدًا إلى درجة نسِي ميجيل معها كيف يركب المياه دون بذل مجهود كبير. لقد نسِي أنه يجب أن يترك جسده رخوًا ويترك العنان لنفسه مع الجَزر مستسلمًا، ولا يسبح إلا حين ترتفع الموجة ويكون على ذروتها، على ذلك الجانب الذي فيه الزَّبد، وهو الجانب الذي يجري فوق قمة المياه. لقد نسِي أنه من الأفضل أن يتحمل في صبر وبشيء من المقاومة أول لقاء مع البحر عند انحساره من الشاطئ؛ إذ إنه يعصف بالأطراف ويجعل المياه تنساب من العيون والأفواه، وألا يقاوم، أن يصبح كالفلينة، وأن يعُبَّ من الهواء، لا أكثر من ذلك، كلما تأتي إليه موجة غير قوية، أو من خلال قاع الموجة إذا كانت قمتها المتكسرة قريبة منه، وأن يتعلق بصخرة وينتظر في صبر مرورها برعدها المدوي، ثم يشقُّ طريقه بحدَّة ويظل في تقدمه إلى الأمام، في تستُّر، بذراعيه، إلى أن تصادفه العقبة التالية، ثم يجعل جسده رخوًا مرة أخرى ولا يصارع التيار، بل يتحرك في بطءٍ وبثبات في دائرة حلزونية متَّسعة ثم يهرب فجأة في اللحظة المناسبة في دفقة واحدة. وكان سطح المياه بعد ذلك هادئًا بطريقة غير متوقعة، وحركته ضئيلة، وكانت المياه صافية مستوية، حتى كان بوسع المرء أن يرى الصخور السوداء في قاع المياه.
وبعد أن شقَّ ميجيل طريقه خلال المياه الثائرة، توقَّف متهالك القوى وعبَّ من الهواء. وشاهد روبين ليس بعيدًا عنه يتطلع إليه. كان شعره ينسدل في خصلات على جبينه، وأسنانه بادية للعيان.
– هيا بنا.
– وهو كذلك.
وبعد أن سبح ميجيل عدة لحظات، شعر بالبرودة، التي كانت قد فارقته مؤقتًا، تعود إليه، فسارع من رفساته؛ لأن السيقان، وبخاصة بطن الساق، هي أشد ما تؤثِّر فيها المياه، فتصيبها بالخدَر أولًا ثم تُيبسها. كان يسبح ووجهه في الماء، وكلما خرجت ذراعه اليمنى من المياه، يدير رأسه كي يتخلَّص من أنفاسه المحتبسة ويستنشق هواءً جديدًا، ثم يغمس جبينه وذقنه في الحال وبخفة حتى لا تُعيق تقدُّمه إلى الأمام ويخلُق بدلًا من ذلك حدًّا يشقُّ به المياه حتى يسهُل عليه المرور من وسطها. وكان عند كل ضربة ينظر بعين واحدة إلى روبين، الذي كان لا يكاد يبذل جهدًا، يشقُّ طريقه كالنورس في يُسر وخفة. وحاول ميجيل أن ينسى روبين والبحر ومنطقة التيار (وهي التي ما تزال على مبعدة؛ لأن الماء كان صافيًا وهادئًا ولا تعبره إلا موجات صغيرة وقتية). كان يريد أن يبقى وجه فلورا فحسب في مُخيلته، والزغب على ذراعيها الذي يلتمع في الأيام المشمسة كأنه غابة من الخيوط الذهبية، بَيدَ أنه لم ينجح في أن يتبع وجه الفتاة صورة أخرى، صورة متخفية مسيطرة مرعدة، تسقط على فلورا فتخفيها، صورة جبل من المياه الثائرة، لا حاجز المياه بالتحديد (كانوا قد وصلوا إلى حاجز المياه مرة منذ صيفين، بأمواجه الهادرة وزبَده الداكن الاخضرار، فهناك تنتهي الصخور ويبدأ الطين الذي تجلبه الأمواج إلى السطح وتحركه بأكوام من الطحالب المائية مما يعكر المياه)، بل بحر في حدِّ ذاته تهزه العواصف الداخلية، وترتفع فيه أمواج هائلة بوسعها أن ترفع سفينة بحالها وتقلبها بسهولة وسرعة؛ فتُبعثر الركاب وقوارب النجاة والقلوع والأشرعة وأطواق الإنقاذ والبحارة والأعلام.
وتوقَّف عن السباحة، وغطس جسده حتى أصبح في وضع رأسي. ورفع رأسه فرأى روبين يبتعد. وخطر له أن ينادي عليه بحُجةٍ ما، أن يصيح به مثلًا: «لماذا لا نستريح برهة؟» ولكنه أحجم عن ذلك. وبدأ كل البرد في جسده وقد تركَّز في باطن ساقيه، وشعر بالخدَر في عضلاته، وجلده يتقلَّص ودقات قلبه تتسارع. وحرَّك ساقَيه في ضعف. كان في وسط مياه قاتمة، يحوطه الضباب. وحاول أن يتبين الشاطئ، أو ظلال الرابية على الأقل، بَيدَ أن الضباب الذي كان يبدو وكأنه ينقشع كان مخاتلًا، وليس شفافًا بالمرة. لم يرَ إلا مساحة قصيرة من سطح البحر، ضاربة إلى السواد، خضراء، والسحب التي تكتنف كل شيء تستوي مع المياه. وعند ذلك شعر بالخوف. وعادت إلى ذاكرته ما شربه من البيرة، وخطر في باله: «أعتقد أن ذلك هو ما أصابني بالضعف.» وفجأة، بدا كما لو أن ذراعيه وساقيه قد اختفت. وقرر العودة أدراجه، ولكن بعد بضع ضربات في اتجاه الشاطئ، استدار وسبح بأسهل ما تكون السباحة. وجال في خاطره: «لن أتمكَّن من بلوغ الشاطئ بمفردي. من الأفضل أن أكون قريبًا من روبين. لو راحت مني قواي فسوف أخبره أنه قد فاز ونعود معًا.» وكان الآن يسبح بغير اكتراث، رافعًا رأسه، مبتلعًا الماء، متيبِّس الذراع، مثبتًا عينيه في الشكل الهلامي أمامه.
وبُعث النشاط والطاقة الراحة في ساقيه، واستعاد جسده بعض الدفء. وتقلَّصت المسافة بينه وبين روبين وأشاع ذلك الاطمئنان في نفسه. وبعد فترة قصيرة لحِق به، ومدَّ ذراعه فلمس قدم روبين. وتوقف الآخر في الحال. كانت عينا روبين شديدتَي الاحمرار، وفمه مفتوحًا.
قال ميجيل: «أعتقد أننا قد انحرفنا عن المسار. يبدو أننا نسبح جانبيًا تجاه الشاطئ.»
كانت أسنانه تصطك، ولكن صوته كان ثابتًا. ونظر روبين فيما حوله. وراقبه ميجيل في توتر.
قال روبين: «لم يعُد في الإمكان رؤية الشاطئ.»
قال ميجيل: «ليس الآن. هناك ضباب كثيف.»
قال روبين: «إننا لم نبتعد كثيرًا. انظر هذه هي منطقة التيار.»
وفي الواقع، كانت بعض الموجات تصل إليهما مكللة بالزَّبد الذي يذوب ثم يتكون مرة أخرى. ونظرَا إليها في صمت.
قال ميجيل آخر الأمر: «إذَن فنحن قريبان من منطقة التيار».
– «بالتأكيد. لقد كنا نسبح بسرعة».
– لم أرَ من قبل مثل هذا الضباب الكثيف.
وتساءل روبين: «أأنت متعب جدًّا؟»
– أنا؟ أنت مجنون. هيا بنا.
وأسِف في الحال أنه قال ذلك، ولكن كان الأمر قد أفلت من يده؛ فقد قال روبين: «وهو كذلك، هيا بنا.»
وأحصى عشرين ضربة قبل أن يقرر أنه لم يَعُد بوسعه الاستمرار. كان لا يكاد يتقدم، وساقه اليمنى شبه مشلولة من البرد، وذراعاه يابستان وثقيلتان. وصاح وهو يلهث: «روبين!» بَيدَ أن الآخر كان يواصل السباحة. «روبين، روبين!» واستدار وبدأ يسبح تجاه الشاطئ، أو كان بالأحرى يضرب الماء في يأس، وفجأة بدأ يصلي لله أن ينقذه، ولسوف يكون حميدًا في المستقبل، وسوف يطيع أبوَيه، ولن يتغيب عن قداس الأحد، وعندها تذكَّر أنه قد اعترف للصقور: «إني لا أذهب إلى الكنيسة إلا لرؤية الفتيات.» وسيطرت عليه فكرة أن الله سوف يعاقبه بإغراقه في هذه المياه الثائرة التي يصارعها في يأس والتي ينتظره في أعماقها موتٌ رهيبٌ، ومن ورائه على الأرجح، جهنم ذاتها. وفي تلك المحنة التي كان يمرُّ بها، طافت في ذهنه عبارة كان كثيرًا ما يستخدمها الأب ألبرتو في حصة الدين بالمدرسة، وهي أن الرحمة الإلهية لا حدود لها، وعندما كان يضرب المياه بذراعيه حرك شفتيه ودعا الله أن يعطف عليه، فهو في مقتبل العمر، وأقسم أن يصبح قسًّا لو أنه نجا. ولكن بعد لحظة صحح ما انتواه بسرعة ووعد بدلًا من أن يصير قسًّا أن يقدِّم القرابين وأشياء أخرى، ويعطي الصدقات. ثم تبيَّن أن التردد والمفاصلة في مثل هذا الوقت الحاسم يمكن أن يكونا مهلكَين؛ وسمع فجأة بالقرب منه، صيحات قوية صادرة عن روبين، فأدار رأسه فوجده على بُعد عشرة أمتار منه، ووجهه نصف غاطس في الماء، وهو يلوِّح بأحد ذراعَيه مستغيثًا:
– «ميجيل، صديقي ميجيل، تعالَ، إني أغرق. لا تذهب!»
وبقِي ميجيل متصلبًا برهة، متحيرًا، ثم بدا كما لو أن ورطة روبين قد خلَّصته من ورطته؛ إذ شعر بشجاعته وقوته تعودان إليه، واسترخى الانقباض الذي كان يشعر به في ساقيه.
وقال روبين بصوت كالفحيح: «إنَّ عندي تشنجًا معويًّا. لا أستطيع الاستمرار يا ميجيل. أنقذني. مهما كان الأمر، لا تتركني يا رفيقي.»
وطفا ميجيل تجاه روبين وكان على وشك أن يمسك به حين تذكر أن الأشخاص الغارقين ينحون دائمًا إلى التشبث بمنقذيهم كالعلقة فيغرقونهم معهم؛ ولذلك أبقى مسافة بينهما. بَيدَ أن الصرخات أخافته وتبيَّن أنه إذا غرق روبين؛ فإنه لن يصل إلى الشاطئ هو الآخر، ولذلك عاد إلى روبين وحين أصبح على مبعدة مترين فقط من روبين الذي تحول إلى كتلة متقلصة تقبُّ وتغطس، صاح: «لا تتحرك يا روبين. سوف أسحبك من رأسك، ولكن لا تحاول أن تتشبث بي. إذا تشبثت بي فسوف نغرق كلانا. روبين، عليك ألا تتحرك أيها الرفيق. سأسحبك من رأسك، ولكن عليك ألا تلمسني.» وأبقى مسافة آمنة بينهما، ومدَّ يده حتى أمسكت بشعر روبين. وبدأ يسبح بذراعه الحرة، باذلًا كل ما في وسعه ليساعد ساقيه على المضي قدمًا. وكان التقدم بطيئًا ومؤلمًا. وركَّز كل جهوده فيما يفعل، وكان لا يكاد يسمع أنين روبين الرتيب، أو صيحاته المفاجئة الرهيبة: «إني سأموت، أنقذني يا ميجيل!» أو الغثيان الذي كان يهاجمه. كان منهوك القوى حين توقَّف. كان يسند روبين بإحدى يديه، بينما يضرب صفحة الماء في حركة دائرية باليد الأخرى. وتنفَّس بعمق من فمه. وكان وجه روبين متقلِّصًا من الألم، وشفتاه ملتويتَين على نحو غريب.
وقال ميجيل لاهثًا: «أيها الصديق روبين، لم يبقَ إلا مسافة قصيرة. حاول معها. أجبني يا روبين. ازعق. لا تبقَ هكذا».
ولطمه في حدَّة، ففتح روبين عينيه، وحرك رأسه في ضعف.
وكرر ميجيل: «ازعق أيها الصديق. حاول أن تحرِّك نفسك. سوف أدلِّك معدتك. لسنا بعيدَين الآن. لا تستسلم».
وأدخل يده تحت الماء وتحسس جمود عضلات معدة روبين ينتشر على بطنه كلها. ودلَّكها عدة مرات، ببطءٍ في البداية ثم بقوة؛ وصاح روبين: «لا أريد أن أموت يا ميجيل. أنقذني!»
وبدأ ميجيل يسبح مرة ثانية، وهو يجرُّ روبين من ذقنه هذه المرة. وكلما صادفتهما موجة من الموجات، كان روبين يشرق بالماء، فيصيح به ميجيل أن يبصقه. واستمر يسبح دون أن يستريح لحظة وهو يغلق عينيه أحيانًا، وقد ارتفعت روحه المعنوية لأن نوعًا من الثقة انبثق في قلبه؛ شعور دافئ فخور مثير للحماس يحميه من البرد ومن التعب. وكشطت إحدى الصخور قدمه فصرخ بصوت مرتفع وأسرع في سباحته. وبعد برهة كان بوسعه أن يقف قائمًا، ومدَّ ذراعه ليسند روبين. وبقِي وقتًا طويلًا وهو يمسك به إلى جواره وهو يشعر برأسه يميل على إحدى كتفيه ثم ساعد روبين على التحرك وفرد كتفيه، وسند مقدم ذراعيه وجعله يحرك ركبتيه. ودلَّك معدته حتى بدأ الجمود يذوب. وكان روبين قد توقَّف عن الصياح ويبذل كل ما في وسعه كي يستطيع التحرُّك من جديد وهو يدلِّك نفسه بيديه.
– أحسن؟
– أجل أيها الرفيق. إني بخير. هيا بنا.
وغمرهما فرحٌ طاغٍ وهما يشقَّان طريقهما فوق الصخور، ينحنيان إلى الأمام ضد التيار ولا يأبهان للطفيلات البحرية. وسرعان ما بدت لهما أقواس الروابي ومبنى الاستحمام، وأخيرًا، بالقرب من حافة المياه الآن، الصقور وهم يقفون في منطقة النساء يتطلعون.
قال روبين: «اسمع.»
– ماذا؟
– لا تقُل لهم أي شيء. أرجوك لا تقُل لهم إنني كنت أصرخ طلبًا للمساعدة. لقد كنا دائمًا صديقَين عزيزَين يا ميجيل. لا تفعل ذلك بي.
فقال ميجيل: «أتظن أنني جبان؟ لن أقول شيئًا، فلا تقلق.»
وخرجا من البحر يرتعشان. وجلسا عند نهاية السلم، بينما الصقور يصخبون من حولهما.
قال توبياس: «لقد كنا نتأهب لإرسال التعازي إلى أسرتَيكما.»
وقال العلامة: «لقد قضيتما ما يزيد على الساعة. قولا لنا، كيف كان الحال؟»
وشرح روبين الأمر وهو يتحدث في ثبات ويجفف جسده بقميصه: «لا شيء على الإطلاق. لقد وصلنا إلى منطقة التيار ثم عدنا أدراجنا. هكذا يتصرف الصقور. لقد غلبني ميجيل. غلبني بفارق لا يزيد على الشبر. لو كنا في حمام سباحة لكنت بالطبع قد قهرته.»
وانهال سيلٌ من ربتات التهنئة على كتفَي ميجيل الذي كان قد ارتدى ملابسه دون أن يجفف جسده.
قال له ميلانيز: «ها. لقد بلغت مرتبة الرجولة الحقَّة.»
ولم يردَّ ميجيل. وابتسم وهو يفكِّر أنه سيذهب في نفس هذه الأمسية إلى منتزه سالازار. وستعرف مدينة ميرفلوريس، بفضل ميلانيز الثرثار، بالاختبارات البطولية التي نجح فيها، وستكون فلورا في انتظاره بارقة العينين. كان ينفتح أمامه مستقبل ذهبي.