توطئة
رأيت أنه في سنة ٢٠ﻫ افتتح المسلمون مصر، وما إنْ وطدوا أقدامهم
فيها حتى سار قائدهم عمرو بن العاص غربًا، ففتح «برقة» وصالح أهلها
على الجزية، ثم سار نحو «طرابلس الغرب»، ففر أهلها من وجهه إلى
سفنهم في البحر، ولكنه غنم منهم غنائم كبيرة ثم تركها. وفي سنة
«٢٧ﻫ/٦٤٧م» سار عبد الله بن سعد بن أبي سرح الذي خلف عمرو بن العاص
على ولاية مصر إلى إفريقية في جيش يقارب العشرين ألفًا، ومعه فرقة
بقيادة عقبة بن نافع، فتمكن من حصار طرابلس وقتل صاحبها غريغوريوس
«جرجير»، وأسر ابنته في سنة «٢٨ﻫ/٦٤٨م»، ثم سار نحو سوفيثولا
«سبيطلة»، ففتحها وبث جيوشه حتى بلغت «قفصة»، وعقد الصلح من
الأهلين على دفع الجزية، ولم ينشئ حكومة عربية، بل فرض على الأهلين
الجزية وعاد إلى مصر بعد أن أبقى حامية عسكرية في برقة.١
وانشغل العرب عن الاستمرار في الفتح بسبب أحداثهم الداخلية، ونشوب الفتن في آخر عهد عثمان وأوائل عهد الإمام علي، إلى أن آلت السلطة إلى معاوية، وأسَّس دولته الأموية في المشرق، ثم وجه عنايته إلى فتح المغرب وإتمام فتح إفريقية.
في سنة «٤٥ﻫ/٦٦٥م» سار معاوية بن خديج التجيبي إلى إفريقية، وهزم
الجيش الروماني، وكانت معركة حصن الأجم معركة فاصلة، ثم تفرق الجيش
العربي في أنحاء المغرب العربي، فسار عبد الله بن الزبير إلى
«سوسة» في بلاد تونس، ففتحها وسار عبد الملك بن مروان إلى العواصم
ففتحها، وبعد خمس سنوات قام عقبة بن نافع الفهري بالفتح الأعظم في
الشمال الإفريقي حتى بلغ المغرب الأقصى، وهزم جيوش الرومان
والبربر، ثم أنشأ مدينته الإسلامية العظمى «القيروان»؛ لتكون قاعدة
للدولة العربية في الشمال الإفريقي، ولما بلغ المحيط الأطلسي قال
كلمته المشهورة يُناجي ربه: «اللهم إني أُشهدك أن لا مجاز، ولو
وجدتُ مجازًا لجُزْت.»٢ وهكذا توطد الملك العربي، لولا فتنة كبيرة وقعت كادت
أن تطيح به؛ حين ثار أحد أمراء البرابرة المسلمين، ويُدعى كسيلة بن
لمزم، على الدولة الجديدة وفتك بجيش عقبة وقتله في سنة ٦٢ﻫ، وزحف
على القيروان، وأخرج حاكمها زهير بن قيس البهلوي، فتراجع إلى برقة،
وبقي طول الفترة القلقة التي سبقت استخلاف عبد الملك بن مروان،
فلما تمَّ الأمر لعبد الملك أمدَّ زهيرًا بجيش ضخم، وزحف على
كسيلة، فهزم جنده وقتله ودخل القيروان، وبعث أمراء جنده يعيدون
البلاد إلى الحكم العربي، ويقضون على البربر الثائرين وبقايا
الروم، ولكن الروم انتهزوا فرصة زحف الجيش العربي على المغرب،
فاستنجدوا بالإمبراطور يوشنيان الثاني قيصر القسطنطينية
(٦٨٥–٦٩٥م)، فأمدهم بأسطول من جزيرة صقلية، ونزلوا على الساحل
الإفريقي عند مدينة قرطاجنة، ثم استولوا على برقة وطرابلس، وأراد
زهير أن يوقف زحف الروم فلم يستطع، وقُتل في هذه المعركة. ولما
بلغت هذه الأخبار مسامع الخليفة عبد الملك في دمشق قلق لها أشد
القلق، وكان يومئذٍ مشغولًا بفتنة عبد الله بن الزبير، فلما انتهى
منه بعث حسان بن النعمان الغساني سنة «٧٣ﻫ/٦٦٢م» مع جيش كبير، فدخل
قرطاجنة، عاصمة إفريقية التي لم يفتحها المسلمون قبلًا، وحاربوا
أهلها وأخلافهم من الروم والقوط والبربر، فدكوا حصونها، وشتتوا شمل
الروم في الشمال الإفريقي كله.
وظل حسان في الشمال الإفريقي ينظم شئونه ويرتبه، فوسع
«القيروان»، وعمَّر جامعه الأعظم، وبقي في ولايته إلى أن هلك عبد
الملك في سنة ٨٦ﻫ واستخلف الوليد بن عبد الملك، فعزله بموسى بن
نصير اللخمي في سنة «٨٩ﻫ/٧٠٨م».٣ وما إنْ وطئت قدماه أرض الشمال الإفريقي حتى أخذ ينظم
أسطولًا ضخمًا يلقى به الروم،
الذين أخذوا يحاولون غزو الشمال الإفريقي بحرًا بعد أن فشلوا فيه
برًّا، وما إن أتم عمارة أسطوله أخذ يغزو في البحر، فافتتح من
جزائر الباليار جزيرتي ميورقة ومنوزقة، ويُعرف هذا الفتح بفتح
الأشراف لكثرة من اشترك فيه من أشراف العرب، ثم افتتح ثغر
سبتة Ceuta وعزم من ذلك الحين
على افتتاح ما وراء البحر من بلاد الأندلس.
١
راجع «فتوح مصر وأخبارها»، لابن عبد الحكم، طبعة لجنة
جيب، ص١٧١ وما بعدها، و«فتوح البلدان»، البلاذري،
ص٢٢٤.
٢
فتوح مصر، لابن عبد الحكم، ص١٩٩، والكامل، لابن الأثير
٤: ٤٢.
٣
هناك روايات مختلفة عن السنة التي تولَّى فيها موسى،
راجع ابن عبد الحكم، ص٢٠٣، وابن الأثير ٤: ١٤٤، وابن خلكان
٢: ١٧٦.