معاوية بن أبي سفيان
(١) مقدمة: نهاية عهد الراشدين وبداية عهد الأمويين
أما ابن ملجم فقدم الكوفة، واتفق مع شبيب بن بجرة الأشجعي على قتل عليٍّ في ليلة الجمعة، حين يخرج إلى المسجد لصلاة الغداة (الفجر). فلما كانت ليلة الجمعة وخرج عليٌّ لصلاته، وجعل ينادي الناس: الصلاة. فاغتاله ابن ملجم، وهو يقول: الحكم لله يا علي لا لك ولا لأصحابك. فنادى عليٌّ: لا يفوتنَّكم الرجل. وشدَّ الناس عليه فلم يفلت، وأُدخل عَلَى علي، فقال: النفس النفس، إنْ أنا مت فاقتلوه، وإنْ بقيت رأيت فيه رأيي. وبقي عليٌّ إلى يوم الأحد، ولما استراح من وجعه، سأله جندب بن عبد الله، فقال: إنْ فقدناك — ولا نفقدك — فنبايع الحسن؟ فقال: ما آمركم ولا أنهاكم، أنتم أبصَر. ثم دعا الحسن والحسين، وأوصاهما بتقوى الله وألَّا يبغيا الدنيا، ولا يبكيا على شيء زوي عنهما، وأن يقولا الحق ويرحما اليتيم، ويغيثا الملهوف، ويصنعا للآخرة، ويكونا للظالم خصمًا، وللمظلوم ناصرًا، ويعملا بما في كتاب الله، ولا يأخذهما في الله لومة لائم.
(٢) خلافة معاوية ٤٠–٦٠ﻫ/٦٦٠–٦٨٠م
هو أبو عبد الرحمن معاوية بن أبي سفيان بن صخر بن حرب بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي، وأُمُّهُ هند بنت عتبة بن ربيعة بن عبد شمس، وكان أمية من سادات قريش وتجارها، كثير المال والجاه، وكان ابن حرب قائد قريش يوم الفجار، وكان أبو سفيان من أشياخ مكة، أسلم في السنة التي فتح فيها الرسول مكة، قائد حروب قريش ضد النبي، وهو صاحب العير التي قدمت من الشام إلى مكة، والتي من أجلها وقعت غزوة بدر الكبرى، وكان التنافس بين هاشم بن عبد مناف، وأخيه عبد شمس بن عبد مناف قديمًا منذ الجاهلية، ولهذا لا عجب أن استمر هذا التنافس بينهما في الإسلام.
قال: مع ما بلغني من وقوف ذوي الحاجات ببابك؟!
قال: مع ما يبلغك من ذلك.
قال: ولِمَ تفعل هذا؟
قال: نحن بأرضٍ جواسيس العدو بها كثيرة، فيجب أن نظهر من عز السلطان ما نرهبهم به، فإن أمرتني فعلت، وإنْ نهيتني انتهيت. فقال عمر لمعاوية: ما أسألك عن شيء إلَّا تركتني في مثل رواجب الفرس، إنْ كان ما قلت حقًّا إنه لرأي أريب، وإنْ كان باطلًا إنه لخدعة أديب.
قال: فمرني يا أمير المؤمنين.
قال: لا آمرك ولا أنهاك.
فقال عمرو: يا أمير المؤمنين ما أحسن ما صدر الفتى عما أوردته.
وفي سنة «٣٠ﻫ» أجلى معاوية أبا ذر عن الشام إلى المدينة؛ وسبب ذلك أن أبا ذر انتقد إدارة معاوية، واحتجازه الأموال دون المسلمين، فأخذ يثير الناس عليه، فكتب معاوية إلى عثمان يخبره، فكتب إليه: جهز أبا ذر وابعث معه دليلًا، وزوِّده وارفق به، وكفكف الناس ونفسك ما استطعت. فبعث بأبي ذر، فلما أتى عثمان قال له: يا أبا ذر ما لأهل الشام يشكون ذرًّا؟
فأخبره أنه لا ينبغي أن يُقال «مال الله»، ولا ينبغي للأغنياء أن يقتنوا مالًا، فقال: يا أبا ذر عليَّ أن أقضي ما عليَّ، وآخذ ما على الرعية، ولا أجبرهم على الزهد، وأن أدعوهم إلى الاجتهاد والاقتصاد.
وفي سنة ٣١ خرج أهل الشام، وعليهم معاوية، وعلى البحر عبد الله بن سعيد، وخرج عامئذٍ قسطنطين بن هرقل لما أصاب المسلمون منهم بإفريقية في جمع لم يجتمع مثله قط مذ كان الإسلام، فخرجوا في خمسمائة مركب، فربط المسلمون سفنهم بعضها إلى بعض، حتى كان يضرب بعضهم بعضًا على سفن المسلمين وسفن الروم، وقاتلوهم أشد قتال، ووثبت الرجال على الرجال يضطربون بالسيف على السفن ويتواجئون بالخناجر، حتى رجعت الدماء إلى الساحل تضربها الأمواج، وطرحت الأمواج جثث الرجال ركامًا، ثم انتصر المسلمون وانهزم قسطنطين مدبرًا، فما انكشف إلَّا لما به من القتل والجرح.
قال: أوَما سمعتم بالذي كان؟
قالوا: بلى.
وإذا أردنا أن نعقِّب على مقتل عثمان، فلا بدَّ لنا من استفظاع هذا الحادث؛ لأن قتل خليفة شيخ بهذا الشكل هو حادث إجرامي فظيع، كان على أهل المدينة أن يمنعوا وقوعه، وإن فتورهم في الدفاع عن الخليفة المحصور لفتورٌ مخزٍ يدل على تفسُّخ. ومهما كانت المسوغات للثورة على عثمان، فإن عقلاء المدينة ورجالاتها كانوا يستطيعون تلافي الأمر، ولكنهم تواكلوا وتخاذلوا؛ فإن الثوار حين قدِموا إلى المدينة — وكان أكثرهم من عرب مصر — ورفعوا شكواهم إلى الخليفة لسوء تصرُّفه وفساد عماله، فوعدهم بأن يزيل أسباب الشكوى، وبينما هم عائدون إلى بلادهم، إذ يرجعون إلى المدينة ومعهم كتاب عثروا عليه، وفيه يطلب الخليفة من عامله على مصر أن يفتك بهم، فأنكر الخليفة ذلك الكتاب، ثم تبيَّن أن الذي كتبه هو مروان بن الحكم كاتب الخليفة. فاشتطَّ الثوار على عثمان في القول، وقالوا له: إنْ كان كاتبك يكتب باسمك وأنت لا تدري، فأنت لست بخليفة، ولا أهلٌ لها. ثم طالبوه أن يخلع نفسه فأبى، وقال: لا أنزع سربالًا سربلنيه الله. وقد أخطأ عثمان في قوله، فقد كان ينبغي عليه أن يتخلى ويترك الأمر للمسلمين، ولكن تقاعس أهل المدينة وتشتت رأيهم جعل الخليفة يقف هذا الموقف. ثم تطور الأمر إلى قتله بيد كنانة بن بشر التجيبي اليمني في ١٨ ذي الحجة سنة ٣٥. ولا شك كان قتله حادثًا فظيعًا جعل المسلمين ينقسمون معه وعليه، كما أن أهله وقبيلته من بني أمية ستُطالب بدمه، وستعمل على الانتقام من قتلته، ومن أهل المدينة الذين أسلموه.
والحق أن كثيرًا من أهل المدينة قد تواكلوا في الدفاع عن عثمان، وفي الدخول في الفتنة بين عثمان والثُّوار، وخصوصًا حين رأوا الثوار الذين قتلوا عثمان — وعلى رأسهم عبد الله بن سبأ — يلحُّون في تولية عليٍّ قسرًا، ولم يكن في المدينة يومئذٍ من كبار الصحابة كثيرون، فقد ذهبوا في الفتوح إلى الأمصار، وكان أجلُّ الصحابة الموجودين في المدينة طلحة، والزبير، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن عمر، وهم مترددون في توليته؛ وحسان بن ثابت، ومسلمة بن مخلد، وأبو سعيد الخدري، والمغيرة بن شعبة وهم ميَّالون إلى بني أمية؛ ولذلك لم يكن انتخاب عليٍّ انتخابًا إجماعيًّا ولكنها بيعة تمت بالغلبة.
- (١)
العثمانيون: وعلى رأسهم معاوية وبنو أمية وأنصارهم.
- (٢)
والعلويون: وعلى رأسهم علي وبنو هاشم. وقد صورت السيدة أم الخير بنت الحريش البارفية ما كان بين الشطرين المتناحرين في الخطبة التي ألقتها يوم صفِّين بقولها: «يا أيها الناس اتقوا ربكم، إن زلزلة الساعة شيء عظيم، إن الله قد أوضح الحق وأقام به الدليل … أفرارًا عن أمير المؤمنين؟ أم فرارًا عن الزحف؟ أوَرغبة عن الإسلام؟ أم ارتدادًا عن الحق؟ قد عيل الصبر، وضعُف اليقين، وانتشرت الرغبة، وبيدك يا ربي أزمَّة القلوب، فاجمع الكلمة على التقوى، وألِّف القلوب على الهدى. هلموا — رحمكم الله — إلى الإمام العادل، والوصي الوفي، والصديق الأكبر، إنها إحَنٌ بدرية، وأحقادٌ جاهلية، وضغائنُ أُحُدية، وثب بها معاوية ليدرك بها ثارات بني عبد شمس، والله أيها الناس لولا أن تبطل الحقوق، وتعطل الحدود، ويظهر الظالمون، وتقوى كلمة الشيطان، لما اخترنا ورُود المنايا على خفض العيش وطيبه، فإلى أين تريدون رحمكم الله عن ابن عم رسول الله، وزوج ابنته، وأبي ابنيه، خُلق من طينته، وتفرَّع عن نبعته، وخصَّه بسرِّه، وجعله باب مدينته، وأعلم بحبه المسلمين، وأبان ببغضه المنشقين، قتل مُبارِزِي بدر، وأفنى أهل أحد، وفرَّق جمع هوازن، فيا لها وقائع زرعت في قلوب قوم نفاقًا وردَّة وشقاقًا.»
ومما تجدر الإشارة إليه أن معاوية كان بين شقي رحى الروم في الشمال يهددونه، والمصريون في الجنوب قد بايعوا عليًّا، وقد استطاع معاوية بدهائه أن يخرج من هذا المأزق، فصالح الروم وتعهد لهم بدفع مال يؤديه إليهم لقاء عدم مهاجمتهم، ومصر التي كان عليها شاب غير مجرب اسمه محمد بن أبي حذيفة، استطاع أن يفتك به بمعاونة عمرو بن العاص، وهكذا تمكن معاوية من أن يسير إلى علي وهو مطمئن البال على بلاد الشام.
سار علي من الكوفة إلى صفين في تسعين ألفًا لخمس بقين من شوال سنة ٣٦، وسار معاوية من الشام في «٨٥ ألفًا» والتقوا عند صفين. قال ابن سعد: «اقتتل الناس بصفين قتالًا شديدًا، لم يكن في هذه الأمة مثله قط، حتى كره أهل الشام وأهل العراق القتال، وملُّوه من طول تباذلهم السيف.»
(٣) عام الجماعة
ومنذ سنة ٤٢ﻫ استقرت الأمور لمعاوية في كافة أرجاء العالم الإسلامي، ولم يكن له خصوم سوى العلويين، وكانوا متفرقين في الحجاز والعراق ومصر، وسوى الخوارج الذين كانوا يكرهون الأمويين والعلويين معًا. ويرونهم مارقين من الدين.
فقال له المغيرة: «ويحك اتقِ السلطان وغضبه وسطوته، فإن غضب السلطان أحيانًا مما يهلك أمثالك.» وظل حجر على عدائه حتى مات المغيرة، وولي الكوفة بعده زياد ابن أبيه، فاتبع طريقة من كان قبله، فضاقت الشيعة ذرعًا وأخذوا يتشاورون في الأمر، واتفقوا على أن يسبوا معاوية في المجتمعات العامة، إلى أن يكف الأمويون عن سب علي، فلما بلغت هذه الأخبار زيادًا، وكان يقيم بالبصرة، فقدم الكوفة واستدعى حجرًا فهدده، ثم بعث به وبجماعة آخرين إلى معاوية، فقتل منهم ثمانية، وأخذ زياد ومعاوية يضيِّقون على الشيعة حتى صار الناس يكتمون تشيعهم، وركدت الحركة العلوية إلى حين.
(٤) الفتوح في عهد معاوية
وأما في الغرب فإنه أمر في سنة ٥٠ عقبة بن نافع، الذي كان يرابط ببرقة وزويلة بعشرة آلاف جندي من أهل الشام لفتح إفريقيا (تونس)، فتم له فتحها، وأسلم على يديه كثيرون من البربر أدخلهم في جيشه، وحسن بلاؤهم، واستعان بهم في فتح السودان، وكان هؤلاء البربر نواة الجيوش الإسلامية التي تممت فتح شمال إفريقية والأندلس. وقد كان لعقبة بلاء عظيم في فتوح إفريقية ونشر الإسلام بين ربوعها، وهو الذي مصَّر مدينة القيروان؛ لتكون لهم معسكرًا ولأهلهم مقرًّا.
وفي عهد معاوية ظهر الجراجمة (أو المردة)، كما يسميهم المؤرِّخون المسلمون، وهم سكان جبال لبنان، الذين تحصنوا في قللهم حينما فتح المسلمون ديار الشام، وتغلبوا على سهولها وسواحلها، ولم يستطيعوا الوصول إلى هؤلاء فتركوهم. قال المطران الدبس في تاريخ سورية: إن الخلفاء الراشدين صرفوا اهتمامهم، عند أخذ سورية وطردهم ملوك الروم منها، إلى فتح مدنها، ولم يكترثوا لسكان جبالها؛ لقلة أهميتها وعدم المنفعة منها، ولتعسر مسالكها، وإن ملوك الروم ما انقطعت مطامعهم في استردادها، وظلوا يوسوسون لسكانها؛ ليلبكوا أمرها، ولا تستقيم حالها؛ ليتيسر لهم العود إليها، كما حاولوا مرات فلم يظفروا؛ فمن ذلك أنهم وسوسوا للموارنة، وكانت مساكنهم في الجبال من جبال الجليل إلى جبال أنطاكية، فلبكوا حكومتهم وتوافرت غزواتهم في السهول، حتى اضطروا بعض الخلفاء أن يعقد صلحًا مع ملوك الروم. ثم ينقل عن المؤرخ توافان أن المردة خرجوا من لبنان فضبطوا كل ما كان من الجبل الأسود (جبل الأقرع) إلى المدينة المقدسة، واستحوذوا على قمم لبنان، وانضم إليهم كثير من العبيد والأسرى والوطنيين، حتى أصبح عددهم ألوفًا في مدة وجيزة، وسمع معاوية وأصحاب مشورته بذلك فخشوا جدًّا من عاقبته، وأرسلوا وفدًا إلى قسطنطين يطلبون الصلح، ويَعِدون بوفاء جزية كل سنة، فتقبل الملك وفدهم بالإعزاز، وأوفد معهم إلى سورية البطريق يوحنا المُسمى بتسيكود … وقابله معاوية بالترحاب، وبعد المداولة بشروط الصلح قرَّ رأيهم على كتابة عهدة موثقة باليمين، على أن يدفع العرب كل سنة إلى الرومانيين ثلاثة آلاف ذهب وثمانية آلاف أسير، وخمسين جوادًا من الخيل الجياد، بين الرومانيين والعرب على هذه الشروط إلى ثلاثين سنة، ودُونت العهدة ووقَّع على نسختين منها؛ لكل فريق نسخة، وعاد ذاك الرجل الشهير البطريق يوحنا إلى الملك بهدايا نفيسة جدًّا (ويظهر أن ما يذكره تيوفان هو ما فعله معاوية حين وقعت الفتنة بينه وبين علي، وإنما رضي بذلك لئلا يثير عليه هؤلاء بينما هو منصرف إلى محاربة علي).
(٥) الأمور الإدارية
أوليات معاوية في الإدارة
ولاية العهد
وقد علق ابن طباطبا على هذه الوصية بقوله: وفي هذه الوصية دليل على ما سبق من وفور رغبته في تدبير الملك، وشدة كلَّفه بالرياسة.
قال ابن خلدون: «والذي دعا معاوية لإيثار ابنه يزيد بالعهد دون من سواه، إنما هو مراعاة المصلحة في اجتماع الكلمة، واتفاق أهوائهم باتفاق أهل الحل، والعقد عليه حينئذٍ من بني أمية، إذ بنو أمية يومئذٍ لا يرضون سواهم، وهم عصابة قريش وأهل الملة أجمع، وأهل الغلب منهم، فآثره بذلك دون غيره ممن يظن أنه أولى بها، وعدل عن الفاضل إلى المفضول؛ حرصًا على الاتفاق، واجتماع الأهواء الذي شأنه أهم عند الشارع، وإنْ كان لا يُظن بمعاوية غير هذا؛ فعدالته وصحبته مانعة من سوى ذلك، وحضور الأكابر لذلك وسكوتهم عنه دليل على انتفاء الريب فيه؛ فليسوا ممن تأخذهم في الحق هوادة، وليس معاوية ممن تأخذه العزة في قبول الحق، فإنهم كلهم أجلُّ من ذلك، وعدالتهم مانعة منه، وفرار عبد الله بن عمر من ذلك إنما هو محمول على تورعه من الدخول في شيء من الأمور، مباحًا كان أو محظورًا كما هو معروف عنه، ولم يبقَ في المخالفة لهذا العهد الذي اتفق عليه الجمهور إلَّا ابن الزبير، وندور المخالف معروف، ثم إنه وقع مثل ذلك بعد معاوية من الخلفاء، الذين كانوا يتحرون الحق ويعملون به، مثل عبد الملك وسليمان من بني أمية، والسفاح والمنصور والمهدي والرشيد من بني العباس، وأمثالهم ممن عُرفت عدالتهم وحسن رأيهم للمسلمين والنظر لهم، ولا يعاب عليهم إيثارهم أبناءهم وإخوانهم، وخروجهم عن سنن الخلفاء الأربعة في ذلك، شأنهم غير شأن أولئك الخلفاء، فإنهم كانوا على حين لم تحدث طبيعة الملك، وكان الوازع دينيًّا، فعند كل أحد وازع، فعهدوا إلى من يرتضيه الدين فقط، وآثروه على غيره، ووكلوا كل من يسمو ذلك إلى وازعه، وأما من بعدهم من لدن معاوية، فكانت العصبية قد أشرفت على غايتها من الملك والوازع الديني قد ضعُف، واحتيج إلى الوازع السلطاني والعصباني، فلو عهد إلى غير من ترتضيه العصبية لردت ذلك العهد وانتقض أمره سريعًا، وصارت الجماعة إلى الفرقة.»
والحق أن معاوية قد عمل ما فيه المصلحة والخير لبيته، ولكنه سلك بالمسلمين في طريق وعرة، فلو أنه تركها للعقلاء — وهم كُثُر إذ ذاك — لما أوقع الناس في المشاكل التي وقعت، ولجنَّب المسلمين تلك الويلات التي كان أولاها قتل الإمام الحسين، وثانيها نهب المدينة واستباحتها، وثالثها غزو الكعبة، ولكنه اجتهاد اجتهَدَه، نراه أخطأ فيه، ويرى ابن خلدون أنه أصاب وسلك المحجة.
(٦) موت معاوية ومناقبه
ولما أغمي عليه وأفاق، قال لأهله: اتقوا الله عز وجل؛ فإن الله سبحانه يقي من اتقاه، ولا واقي لمن لا يتقي الله. ثم أوصى بنصف ماله أن يُرد إلى بيت المال، ثم قضى. وصلى عليه الضحاك بن قيس الفهري، وكان يزيد غائبًا بحوارين، فأقبل وأبوه مدفون، فأتى قبره وصلى عليه ودعا له.
وكان مدبرو الدولة في عهده هم «القاضي»، وكان على قضائه فضالة بن عبيد، ثم عائذ الخولاني، وقد نقلنا عن السيوطي قبلًا أنه أول من استقضى في الإسلام. و«صاحب الشرطة»، وكان على شرطته قيس بن حمزة الهمذاني، ثم زميل بن عمرو العذري، و«الكاتب»، وهو سرجون بن منصور الرومي، و«صاحب الحرس»، وهو المختار، رجل من الموالي، و«الحاجب» سعد مولاه، و«صاحب ديوان الخاتم»، وهو عبد الله بن محصن الحميري. ويظهر أن هؤلاء هم الذين سماهم المسعودي وزراء، وهو قصد بالوزارة معناها اللغوي الواسع؛ إذ لم يُعرف عن معاوية أنه استوزر أحدًا وزارة تفويض أو وزارة تنفيذ.
قال أستاذنا كرد علي: «ولم يكد معاوية يتولى الأمر بالشام حتى أخذ بما أوتيه من علم وحلم، يضع أساس الملك، ويسير في رعيته سيرة حسنة حبيبة إليهم، وكان يتأتى الأمور ويداري الناس على منازلهم، ويرفق بهم على طبقاتهم، فأوسع الناس من أخلاقه، فأفاض عليهم من بره وعطائه وشملهم من إحسانه، فاجتذب القلوب واستدعى النفوس حتى آثروه على الأهل والقرابات، وعُدَّ مُربِّي دول وسائس أمم وراعي ممالك.»
ومن خير ما يصور لنا عقل الرجل وحنكته وصية له، أوصى بها بني أمية حين حضرته الوفاة، فقال: «إنه لمَّا قرُب مني ما كان بعيدًا، وخفت أن يسبق الموت إليَّ ويسبقكم بي، سبقته إليكم بالموعظة لأبلغ عذرًا، وإنْ لم أردَّ قدرًا، وإن الذي أخلفه لكم من دنياي أمر تشاركون فيه أو تقبلون عليه، وإن الذي أخلف لكم من رأيي مقصور عليكم نفعه إنْ فعلتموه، مخوف عليكم حرزه إنْ ضيعتموه، فاجعلوا مكافأتي قبول نصيحتي، وإنْ قريشًا شاركتكم في أنسابكم وتفردتم دونها بأفعالكم فقدَّمكم ما تقدمتم فيه، إذ أخر غيركم ما تأخروا له، ولقد جُهر لي فعلمت، وفهم لي ففهمت، حتى كأني أنظر إلى أولادكم بعدكم كنظري إلى آبائهم قبلهم، إن دولتكم ستطول، وكل طويل مملول، وكل مملول مخذول، فإذا انقضت مدتكم كان أول ذلك اختلافكم بينكم، واتفاق المتخلفين عليكم، فيُدبر الأمر بضدِّ ما أقبل به، فلست أذكر عظيمًا يُنال منكم، ولا حرمة تُنتهك لكم؛ إلَّا وما أكف عن ذكره أعظم منه، فلا معول عليه عند ذلك أفضل من الصبر واحتساب الأجر، فيا لها دولة أنست أهلها الدول في الدنيا، والعقوبة في الآخرة، فيمادُّكم القوم دولتكم تمادَّ العنانَينِ في عنق الجواد، فإذا بلغ الأمر مداه وجاء الوقت الذي حده رسول الله ﷺ ضعفت الحيلة وعزب الرأي، وصارت الأمور إلى مصائرها، فأوصيكم عندها بتقوى الله — عز وجل — الذي يجعل لكم العاقبة إنْ كنتم متقين.»
ثم إن معاوية استطاع أن ينتقي خير الرجال لمعاونته في إدارة مملكته الواسعة؛ ففي المغرب عمرو بن العاص، وفي المشرق المغيرة بن شعبة في الكوفة، وزياد ابن أبيه في البصرة. وانتقاء الرجال المعاونين في الإدارة من خير ما يثبِّت أركان الحكم، ويُعين على توطيد أركانه، وخصوصًا في ابتداء تأسيس الدول.