عبد الملك بن مروان
(١) أوَّليته
(٢) خلافته
قصيدة أعشى همدان الشيعي التي كان الشيعة يكتبونها سرًّا:
ولما قُتل ابن الزبير وصفا أمر الحجاز لعبد الملك، ولَّى عليه الحجاج بن يوسف من ٧٣–٧٥ﻫ حين ولَّاه على العراق، فسار إليه في جيش لجب من أهل الشام، ولما بلغ القادسية أمر الجيش بالاستراحة، واستمر هو في الكوفة فدخلها، وألقى في مسجدها خطبته المشهورة التي أولها:
(٣) الحوادث الكبرى في عهده
فتنة الخوارج
ذكرنا في الباب الخاص بمعاوية بن أبي سفيان شيئًا من أمر الخوارج في عهده؛ فقد كانوا يكرهونه أشد الكراهية، فعهد معاوية إلى المغيرة بن شعبة — وكان داهية قويًّا — ففتك بهم، وقبض على جماعة منهم: حيان بن ظبيان، ومعاذ بن جوين الطائي وغيرهما، وأخطرهم إلى الجلاء عن الكوفة، فجمعوا إخوانهم، فبعث إليهم المغيرة جيشًا بقيادة معقل بن قيس الرياحي، والتقى الجمعان بالمذار بالقرب من البصرة فقُتلوا عن آخرهم.
وممن فتك بهم الحجاج من الخوارج طائفة منهم تُسمَّى الصفرية المقيمة في الموصل وبلاد الجزيرة، وكان على رأسها رجل صالح عابد اسمه صالح بن مسرح التميمي، وشبيب بن يزيد الشيباني، خرجوا في الجزيرة ففتكوا بجيش محمد بن مروان عامل الجزيرة، فاستنجد بالحجاج فأنجده بجيش لقي الخوارج منه بلاءً عظيمًا، ولكنه لم يستطع أن يفرق جموعهم على قلتهم بالنسبة إلى عدد خصومهم. وقد اضطر الحجاج أن يسأل عبد الملك مده بجيش من أهل الشام للفتك بالصفرية، فبعث إليه عبد الملك ستة آلاف، حمل عليهم شبيب بن يزيد أكثر من ثلاثين حملة، فصمدوا إلى أن هلك شبيب غرقًا، فحمل أهل الشام عليهم وأفنوهم، وبموت شبيب طويت صفحة رائعة من صفحات الفروسية التي تحلَّى بها هؤلاء الخوارج، وبالقضاء على الصفرية والأزارقة وغيرهم من الخوارج صفا الجو في العراق لعبد الملك.
فتنة لبنان
الفتن بين قيس وكلب
- (١)
يوم مرج راهط: وقد تقدمت بعض أخباره، وهو لمروان بن الحكم على الضحاك بن قيس الفهري.
- (٢) يوم بنات قين: لما تولَّى عبد الملك ووقعت الفتنة بين القبائل القيسية واليمانية، خرج زفر بن الحارث الكلابي بعد أن انقضى يوم مرج راهط إلى قرقيسياء، فتحصَّن بها وجعل يُغير على بلاد كلب، وكانت كلب تفعل ذلك بقيس، وكان عمير بن الحباب السلمي يُغير مع زفر ببني تغلب، فغزا زفر تدمر وعليها عامر بن الأسود الكلبي، وجرت بين الطرفين معركة عند بنات قين، وهو ماء، وقد فازت فيه قيس على اليمانية.٢١
- (٣)
يوم ماكسين: بين قيس وتغلب، وعلى رأس قيس عمر بن الحباب، وعلى رأس تغلب شعيث بن مليل، وماكسين من قرى الخابور، بينها وبين رأس العين يوم أو يومان، فقتل من تغلب خمسمائة، منهم شعيث، وإلى هذا اليوم يشير جرير بقوله:
تركوا شعيث بني مليل مسندًاوالآسيين وأقعصوا شعرورا - (٤)
يوم الثرثار الأول: هو نهر ينزع من هرماس نصيبين شرقي سنجار ويفرغ في دجلة، استنجدت فيه بنو تغلب ببني النمر بن قاسط، وقال لهم شيخها مالك بن مسمع: ما أحسبكم إلَّا من نبيط تكريت، ولو كنتم من بني تغلب حقًّا لدافعتم عن أنفسكم وحرمكم. فقالوا له: إنا حيٌّ فينا ما قد علمت من النصرانية، ومضرُ مضرُ، وأي السلطانين غلب فهو مع قيس. فقال مالك: اذهبوا فإن أمدَّهم السلطان بفارس فلكم فارسان، وإن السلطان اليوم لفي شغل عنكم وعنهم. فذهبت بنو تغلب وأمَّرت عليها زياد بن هوبر التغلبي، والتقى الجمعان، فقتلت بنو تغلب مقتلة كبيرة من قيس حتى قال الأخطل:
لما رأونا والصليب طالعًاومارسرجيس وسمًّا ناقعاوالخيل لا تحمل إلَّا دارعًاوالبيض في أيماننا قواطعاخلَّوا لنا الثرثار والمزارعاوحنطة طيسًا وكرمًا يانعافأجابه جرير:
ستعلم ما يُغني الصليب إذا عدتكتائب قيس كالمهنأة الجرب - (٥) يوم الثرثار الثاني: تجمَّعت قيس واستمدت، وعليها عمير بن الحباب، ومعهم زفر بن الحارث، وعبد الملك مشغول عنهم، فهاجموا بني تغلب وقتلوها قتلًا عظيمًا.٢٢
- (٦) يوم الفدين: أغار فيه عمير بن الحباب على الفدين، وهي لتغلب على الخابور ففتك بهم.٢٣
- (٧)
يوم السكر، أو سُكر العباس: لقي فيه عمير بن الحباب على السكر — وهي قرية لتغلب على الخابور — بني تغلب وفتك بهم.
- (٨)
يوم المعارك: وهو موضع بين الحضر والعقيق من أرض الموصل، اجتمعت فيه بنو تغلب بعد يوم السكر، فالتقوا بقيس فهزمت تغلب.
- (٩)
يوم لِبى: وهو دير فوق تكريت من أرض الموصل، تناصفوا فيه، فتغلب تقول: هو لنا، وقيس تقول كذلك.
- (١٠)
يوم بلد: تناصفوا فيه، فتغلب تقول: هو لنا، وقيس تقول كذلك.
- (١١)
يوم الشرعبية: وهي ببلاد تغلب، كان لتغلب على قيس، وفيه يقول الأخطل:
ولقد بكى الجحاف لما أوقعتبالشرعبية إذ رأى الأهوالا - (١٢)
يوم البليخ: وهو نهر بين الرقتين، التقوا وعلى قيس عمير، وعلى تغلب ابن هوبر، فهُزِمت تغلب وبقرت بطون نسائها كيوم الثرثار (الأنساب ٥: ٣٢٢).
- (١٣)
يوم الحشَّان: وهو تل قريب من الشرعبية، جمعت فيه تغلب حاضرتها وباديتها وصارت إلى الحشان، ولقيهم عمير بن الحباب وزفر بن الحارث، والهذيل ابنه، فاقتتلوا قتالًا طويلًا حتى قُتل عمير، وبعثت بنو تغلب برأس عمير إلى عبد الملك، وهو بالغوطة مع وفد، فأعطى الوفد وكساهم، فلما صالح عبد الملك زفر بن الحارث بعد ذلك واجتمع الناس عليه. قال الأخطل قصيدته التي يُعاتب فيها عبد الملك، وفيها يقول:
بني أمية قد ناضلت دونكمأبناء قوم همُ آووا وهم نصروا - (١٤) يوم الكحيل: من أرض الموصل في عبر دجلة الغربي؛ وذلك أن تغلب لما قتلت عميرًا جاء تميم بن الحباب إلى زفر واستنصره للانتقام لأخيه، فامتنع ثم قتل، وأغار على تغلب عند الكحيل فقتل وأسر وبقر بطون النساء.٢٤
- (١٥)
يوم البشر أو الرحوب: وهو جبل في عبر الفرات الغربي؛ وسببه أن الأخطل قدم على عبد الملك وعبده الجحاف بن حكيم السلمي، فقال له: أتعرف هذا يا أخطل؟ فقال: نعم، الذي أقول فيه:
ألا سائل الجحاف هل هو ثائربقتلى أصيبت من سليم وعامروأتى على القصيدة، فتغالظا في الكلام، ثم خرج الجحاف حتى أتى الرحوب عند جبل البشر، وهو ماء لبني جشم بن بكر، قوم الأخطل، ففتك بهم، فأُخذ الأخطل وعليه عباءة وسخة، فظن آخذه أنه عبد، وسُئل، فقال: أنا عبد، فأطلقه، وقُتل أبوه يومئذٍ، ثم إن الجحاف استخفى خوفًا من عبد الملك، فدخل بلاد الروم، فأقام بطرابندة، ثم استأمن عبد الملك فأمَّنه، ثم قدم العراق وقصد الحجاج فأكرمه ثم حجَّ وتاب.٢٥
(٤) الفتوح
فتح المسلمون في عهد عبد الملك فتوحًا في المشرق وأخرى في المغرب، فأما فتوح المشرق: ففي سنة ٧٤ ولَّى عبد الملك بلاد خراسان أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد، فلما أتاها ولى ابنه عبد الله بن أمية على سجستان، فلما قدمها غزا رتبيل، الذي مَلَك بعد رتبيل الأول المقتول، وكان هيَّابًا للمسلمين، فلما وصل عبد الله إلى بست أرسل رتبيل إليه يطلب الصلح وألف ألف وهدايا ورقيقًا، فأبى عبد الله وكان غرًّا، فخلى له رتبيل البلاد حتى أوغل فيها، ثم طوق عليه فأخذه، فطلب عبد الله أن يخلي عنه وعن المسلمين، ولا يأخذ شيئًا، فأبى رتبيل وقال: نأخذ ثلاثمائة ألف درهم، ويكتب لنا كتابًا ولا يغزو بلادنا، ولا تُحرق ولا تُخرب، فقبل عبد الله، وبلغ ذلك عبد الملك فعزله، وولاها الحجاج إضافة إلى العراق، فبعث الحجاج المهلب بن أبي صفرة، وعبيد الله بن أبي بكرة، فسار عبيد الله وغزا بلاد رتبيل، وأمره الحجاج ألَّا يرجع حتى يستبيح بلاده، ويهدم قلاعه، ويقيد رجاله، فأصاب من الغنائم ما شاء الله وهدم الحصون، وكذلك سار المهلب إلى ما وراء النهر وفتح حصونها، وأقام حتى بلغ «كش» وأقام فيها.
وفي سنة ٨٠ استأذن الحجاج عبد الملك في تسيير جند عظيم إلى بلاد رتبيل، فأذن له فجهز أربعين ألفًا من أهل البصرة والكوفة، وأعطى الناس أعطياتهم، وأنفق عليهم ألفي ألف — كما قلنا — وزوَّدهم بالخيل والسلاح والعدد والذخيرة، وبعث فيهم الأبطال والفتيان، وأمَّر عليهم عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث، وسُمِّي هذا الجيش جيش الطواويس؛ لقوته وكماله، فبلغ بلاد رتبيل وفتك بهم، وغالى في اللحاق بهم، وكتب بذلك إلى الحجاج فهنأه وأمره باستمرار الغزو، فكان من أمره ما كان من خلع الحجاج وحصول معركتَي دير الجماجم ومسكن بين جند الحجاج وجند عبد الرحمن، وهروب عبد الرحمن ثانية إلى بلاد رتبيل.
وفي سنة ٨٥ عزل الحجاج يزيد بن المهلب عن خراسان وولاها أخا المفضل، ففتح باذغيس وأصاب مغنمًا كثيرًا، ثم غزا «أخرون» و«شومان» فغنم وفتح.
(٥) الأعمال الكبرى في عهده
-
(١)
ضرب الدراهم والدنانير: قال ابن الأثير في سنة ٧٦: وفي هذه السنة ضرب عبد الملك الدنانير والدراهم، وهو أول من أحدث ضربها في الإسلام، فانتفع الناس بذلك، وكان سبب ضربها أنه كتب في صدور الكتب إلى الروم قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ، وذكر النبي ﷺ مع التاريخ، فكتب إليه ملك الروم إنكم قد أحدثتم كذا وكذا، فاتركوه وإلَّا أتاكم في دنانيرنا ما تكرهون، فعظم ذلك عليه، فأحضر خالد بن يزيد بن معاوية، فاستشاره فقال: حرِّم دنانيرهم واضرب للناس السكة فيها ذكر الله تعالى، فضرب الدنانير والدراهم. ثم إن الحجاج ضرب الدراهم، ونقش فيها قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ، فَكَرِه الناس ذلك لمكان القرآن.٢٨ ونهى أن يضرب أحد غيره، فضرب سمير اليهودي فأخذه ليقتله، فقال له: عيار دراهمي أجود، فلِمَ تقتلني؟ فلم يتركه، فوضع للناس صنج الأوزان ليتركه، فلم يفعل، وكان الناس لا يعرفون الوزن إنما يزنون بعضها ببعض، فلما وضع سمير الصنج كف بعضهم عن بعض. وأول من شدَّد في أمر الوزن، وخالص الفضة، أبلغ من تخليص من قبله عمر بن هبيرة أيام يزيد بن عبد الملك. وكانت دراهم الأعاجم مختلفة كبارًا وصغارًا. ونقل البلاذري عن الحسن بن صالح قال: «كانت الدراهم من ضرب الأعاجم مختلفة كبارًا وصغارًا، فكانوا يضربونها مثقالًا (وهو وزن عشرين قيراطًا)، ويضربون منها وزن اثني عشر قيراطًا، ويضربون عشرة قراريط، وهي أنصاف المثاقيل. فلما جاء الإسلام واحتيج في أداء الزكاة إلى الأمر الواسط، فأخذوا عشرين قيراطًا واثني عشر قيراطًا وعشرة قراريط، فوحَّدوا ذلك ٤٢ قيراطًا، فضربوا على وزن الثلث من ذلك، وهو ١٤ قيراطًا، فوزن الدرهم قيراطًا وزن سبعة مثاقيل.»٢٩ وروي عن أبي الزناد: أن عبد الملك أول من ضرب الذهب عام الجماعة، ويقال إن مصعبًا ضرب الدراهم في العراق قبل عبد الملك، وكذلك ضرب الدنانير.٣٠ وقد اتخذ عبد الملك في دمشق، والحجاج في العراق دار ضرب، جمعا فيها الطباعين لطبع التبر والفضة والزيوف.٣١ وقال السيوطي: أول من ضرب الدنانير والدراهم في الإسلام عبد الملك، ونقش اسمه عليها سنة ٧٥، أخرجه ابن سعد، وهو أول من عمل الموازين. ونقل عن ابن سعد قال: فلما كانت مثاقيل التي ضرب عليها عبد الملك اثنين وعشرين قيراطًا، الأصبة بالشامي، وكانت العشرة وزن سبعة. ونقل عن مرآة الزمان أنه نقش عليها في وجه «لا إله إلَّا الله محمد رسول الله»، وفي الآخر أرَّخ وقت ضربها، وقيل: جعل في وجه قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ، وفي الآخر «محمد رسول الله»، وزاد الحجاج: أرسله بالهدى ودين الحق.٣٢ قلت ويظهر أن هناك محاولات فردية كانت لمصعب بن الزبير، فقد رووا أنه ضرب دراهم ودنانير كما كان في العراق، كما رووا أن زياد ابن أبيه هو أول من فعل ذلك.
-
(٢)
تمصير واسط: في سنة ٨٣ بنَى الحجاج مدينة واسط؛ وسبب ذلك أن بعض جنوده الشاميين سكر، وتعدَّى على بعض البيوت في الكوفة، فقتله صاحب البيت، وأهدر الحجاج دمه لما علم من زوجة صاحب البيت أنه أراد بها سوءًا، ثم أمر مناديه ينادي: ألَّا ينزلن أحد على أحد، وأخرج الجند الشاميين، فبعث لهم روَّادًا يرتادون فاختاروا موضع واسط، فاختط الحجاج مدينة هناك.
(٦) خاتمته ومناقبه
في منتصف شوال سنة ٨٦ مات عبد الملك وله ستون سنة، وقيل ثمان وخمسون، وكانت خلافته من لدن قتل الزبير ثلاث عشرة سنة وأربعة أشهر إلَّا أسبوعًا، ولما اشتدَّ مرضه قال الطبيب: إنه شرب الماء فاشتدَّ عطشه، وطلب الماء فمات لما شربه. وقد أوصى بنيه قبل موته بقوله: «أوصيكم بتقوى الله، فإنها أزين حلية وأحصن كهف. ليعطف الكبير على الصغير، وليعرف الصغير حق الكبير، وانظروا مسلمة فاصدروا عن رأيه، فإنه نابكم الذي عنه تفترون، ومجنُّكم الذي عنه ترمون، وكونوا بني أم بررة، لا تدب بينكم العقارب، وكونوا في الحرب أحرارًا فإن القتال لا يُقرب منية، وكونوا للمعروف منارًا، فإن المعروف يبقى أجره وذكره، وضعوا المعروف عند ذوي الإحسان فإنهم أصون له، وأشكر لما يؤتى إليهم منه، وتعهدوا ذنوب أهل الذنوب، فإن استقالوا فأقيلوا، وإنْ عادوا فانتقموا، ثم التفت إلى الوليد فقال له: لا ألفينك إذا مت تعصر عينيك وتحن حنين الأمة، ولكن شمِّر واتزر والبس جلد نمر، ودلني في حفرتي وخلني وشأني، وعلك وشأنك، ثم ادعُ الناس إلى البيعة، فمن قال برأسه كذا (أي لا) فقل بالسيف (أي اضرب عنقه).