قلنا في مقدمة الباب الخامس من الفصل الأول: إن ديار
الشام كانت قبل الفتح الإسلامي ديارًا ذات حضارة وتراتيب
إدارية، فلما جاء الإسلام جمدت تلك الأوضاع على حالتها
الأولى بعد عهد الفتح، فلما أن دخلها معاوية واتخذها عاصمة
مُلكه، أخذت الأوضاع المدنية القديمة للبلاد تبرز من جديد
في هذا العهد الجديد، واستعان معاوية ومروان وأخلافهما
بذوي المقدرة والكفايات الجليلة في إدارة البلاد وحكمها
وخراجها بالمقدار الذي تسمح لهم به الظروف والأحوال آنئذٍ،
وقد استمر هذا التعاون الحضاري طول العصر الأموي، وبخاصة
حين كثر المسلمون من أهل الشام الأصليين، فأخذوا يحتلون
مرافق الدولة، وبخاصة حين عَرَّب عبد الملك دواوين الدولة،
وسار بها سيرة جديدة، وكان لتسامح الخليفة عمر بن عبد
العزيز أثر كبير في تنشيط العناصر غير المسلمة، وتشجيعها
على بذل قصاراها في خدمة الدولة، والقيام بمصالحها كما
سنرى بعد.
ثم إن التسامح الديني الذي كان يتحلَّى به الأمويون
بصورة عامة، جعل ذوي الكفاءات والمزايا من نصارى الشاميين
والحلبيين والحمصيين والحمويين والأنطاكيين يلتقون حول سور
الدولة، فيشيدونه ويرفعونه ويزخرفونه.
(١) الخلافة
قلنا إن معاوية ثم يزيد قد سلكا بالخلافة مسلكًا جديدًا،
لم تكن عليه في عهد الرسول أو خلفائه الراشدين، فحولاها من
طور ابتدائي عربي ساذج قريب من النفسية البدوية، إلى طور
ثانوي أعجمي معقد، قريب من الأساليب البيزنطية والفارسية
والقبطية. ولقد ازداد هذا التعقيد حين توسعت أرجاء الخلافة
الأموية إلى إمبراطورية واسعة تمتد من بلاد الهند وحدود
بلاد الصين الواسعة شرقًا إلى شواطئ المحيط الأطلسي وشمال
إفريقية غربًا، وتسيطر على جميع بلاد الإمبراطورية
المقدسة، والمقاطعات الشرقية والإمبراطورية الرومانية، ما
عدا آسية الصغرى، وقد استمدَّ الخليفة الأموي في هذه
الفترة عظمته الدنيوية والحضارة من عظمة هذه الرقعة
الجبارة الواسعة، الممتدة من أقصى المشرق إلى أقصى المغرب،
والمسيطرة على أغنى بقاع الأرض المعروفة، وأكثرها حضارةً
وعلمًا وأنظمة وقوانين.
ولما انقضى العهد
الأموي الأول، وحلَّ العهد الثاني انتظمت شئون الخلافة من
حيث المظاهر والتراتيب، وخصوصًا بعد عهد عبد الملك وابنيه
الوليد وسليمان. وانقضى العهد الأموي والخلافة مستوفية
لكلِّ مظاهر الفخامة والسلطان وما يتبعها من أساليب
الحكم.
أما من حيث نظام الخلافة ووراثتها فإن الأمر لم يستقر
على شيء؛ فقد وُجد في العصر الأموي ثلاثة منازع
مختلفة:
(١)
المنزع الإسلامي، الذي يقضي بجعل أمر
الخلافة شورى بين المسلمين، يختارون لها
الأصلح والأكمل.
(٢)
المنزع القبلي الجاهلي، الذي يجعل الخلافة
كمشيخة القبيلة الجاهلية، لا يختار لها إلا
الكفء المسن المجرب الكامل.
(٣)
المنزع الوراثي، الذي تتناقل فيه الخلافة من
الأب إلى ابنه.
وقد رأينا أن
معاوية الأول قد نزع بها المنزع الثالث، فعهد بها إلى ابنه
يزيد، وأجبر الناس على ذلك، أما حفيده معاوية الثاني الذي
كان قدريًّا ميالًا إلى الاعتزال، فنزع إلى المنزع الأول
فتركها للمسلمين، وانتقد أباه وجده، وخطب الناس في ذلك
يقول: «إن جدي معاوية نازع الأمر من كان به أولى وأحق، ثم
تقلَّده أبي، ولقد كان غير خليق به.»١ ورفض أن يعهد لأخيه خالد، ولما ألحَّ عليه بنو
أمية بها قال لهم: «لا والله، ما سعدت بحلاوتها فكيف أشقى بمرارتها».٢ ثم جاء سليمان بن عبد الملك فنزع إلى المنزع
الثاني، وعهد بها إلى شيخ بني أمية وأعقلهم وأفضلهم، وهو
عمر بن عبد العزيز، ولم يعهد بها إلى أخيه أو ابنه.
ومما هو جدير بالملاحظة أن الخلافة قبل أن يأخذها عبد
الملك، ويفرض سلطانه بالقوة كانت منقسمة بين المنازع
الثلاثة: فابن الزبير يمثل المنزع الإسلامي، ومروان
بن الحكم يمثل المنزع القبلي، وخالد بن يزيد يمثل المنزع
الوراثي. ومهما يكن من شيء فإن العصر الأموي انتهى، ولم
تستقر الخلافة على منزع من المنازع الثلاثة إلى أن جاء
بنو العباس، فسلكوا بها المنزع الوراثي الصرف.
(٢) الوزارة والكتابة
لم يتخذ الأمويون في عهديهم الأول والثاني وزيرًا بالشكل
الذي رأيناه في العصر العباسي، وإنما كان لهم كتَّاب
وحسَّاب، يتولون الكتابة لهم، وقد أضحت الكتابة في هذا
العهد صناعة لها عادات وتقاليد، وبعد أن كان الكاتب في
العصر النبوي وعصر الخلفاء الراشدين، يتولى كتابة الرسائل
التي تُملى عليه، والحسابات وضبط ديوان الدولة ومراسلاتها،
صار في هذا العصر يتولى مهام شئون الدولة وينشئ رسائلها،
ويُشترط فيه أن يكون ذا ثقافة واسعة في العربية وآدابها،
مطلعًا على سير الأولين، وأخبار الأقدمين وأحوالهم
وسياساتهم. وقد كان يسمى الكاتب وزيرًا أو صاحب السر، وقد
نبغ في هذا العصر جماعة من أمناء السر، نذكر منهم أبا
العلاء سالم بن عبد الله، كاتب هشام بن عبد الملك، والوليد
بن يزيد، وقد رووا أنه نقل بعض رسائل أرسطو إلى الإسكندر
من اليونانية إلى العربية، وأن له مجموعة رسائل في مائة ورقة.٣ وهو أستاذ عبد الحميد بن يحيى الكاتب، شيخ
البلغاء الكتاب، وكاتب مروان بن محمد. روى ابن عساكر: قال
زياد الأعجم: حضرت جنازة هشام، فسمعت عبد الحميد
يقول:
وما سالم عما قليل بسالم
وإن كثرت أحراسه ومواكبه
وإن كان ذا باب شديد وحاجب
فعما قليل يهجر الباب
حاجبه
ويصبح بعد الحجب للناس مفردًا
رهينة بيت لم تستَّر
جوانبه
ومنهم عبد الحميد
بن يحيى بن سعد، كاتب مروان، وهو شيخ الصناعة وكاتبها
الأول، وقد خلف لنا عهدًا كتبه عن لسان الخليفة مروان
بن محمد، إلى عبد الله بن مروان حين بعثه لقتال الضحاك
بن قيس الشيباني الخارجي.٤ وهو عهد رائع بأسلوبه وطرق أفكاره. وقد كانت
الكتابة في العصر الأموي الأول مقصورة على كتابة رسائل
الخليفة أو العامل أو الأمير، أو كتابة الخط الحسن بين يدي
هؤلاء، ولما اتسعت رقعة الدولة ازدادت الأعمال، وشُغل
الخلفاء عن أن يقرءوا الكتابة بأنفسهم، فعهدوا بها إلى
كبار كتابهم، حتى أوشكت في آخر دولتهم أن تصبح صناعة عتيدة
مميزة القواعد والأصول، متشعبة الفروع؛ بما أدخله عليها
الجيل الناشئ في الإسلام من أبناء الموالي، ممن كانوا
يعرفون اللغات الرومية أو اليونانية أو الفارسية أو
السريانية أو القبطية، وهي لغات ذات حضارة وأنظمة ورسوم
وفضائل إدارية متعددة.
(٣) الحجابة
قلنا في الباب الخامس من الفصل الأول: إن الحجابة وهي
وظيفة تشبه في عصرنا «رئاسة تشريفات البلاط»، وقد عظم
أمرها في العهد الأول للدولة الأموية، وإن معاوية ويزيد قد
تشدَّدا في حجابتهما، وزادا في منع الناس من ملاقاتهما،
إلَّا في الأمور الهامة، على عكس ما كان عليه الأمر في عهد
الخلفاء الراشدين، فلما جاء العصر الثاني لهذه الدولة زاد
الخلفاء في الاحتجاب، إلَّا في عهد عمر بن عبد العزيز،
فإنه سلك مسلك الراشدين في السماح للناس بالدخول إليه، قال
عبد الملك بن مروان لصاحب حجابه: قد وليتك حجابة بابي إلا
عن ثلاثة: المؤذن للصلاة فإنه داعي الله، وصاحب البريد
فأمرٌ ما جاء به، وصاحب الطعام لئلا يفسد.٥
فنحن نرى من ذلك أن الناس كلهم محجوبون عن الخليفة إلا
هؤلاء الثلاثة الذين يجيئون الخليفة لا لغرض خاص أو لمصلحة
عامة، وإنما غرضهم متعلق بمصلحة الخليفة نفسه. ويروي صاحب
الفخري أن عبد الملك — وهو الذي نظم أمور الدولة الإدارية،
وسلك بها مسلكًا جديدًا — قد أوصى أخاه عبد العزيز بن
مروان حين ولَّاه على مصر بقوله: «ابسط بشرك، وألِنْ كنفك،
وآثر الرفق في الأمور، فإنه أبلغ بك، وانظر حاجبك، فليكن
من خير أهلك، فإنه وجهك ولسانك، ولا يَقِفَنَّ أحدٌ ببابك
إلا أعلمك مكانه؛ لتكون أنت الذي تأذن له أو ترده.»٦ فهو يوصيه بأن يختار للحجابة رجلًا من أشرف
الناس، بل من خير رجال أسرة الخليفة، وأن يخبره عن كل شخص
يقصده حتى يرى الخليفة فيه رأيه، ولا يتصرف الحاجب من عند
نفسه؛ لأن الخليفة أعرف بالناس وأحوالهم، ويُقرر ابن خلدون
أن الحجاب في الدول يعظم حين تهرم.٧
(٤) الجيش
كان الجيش في العصر الأموي جيشًا عربيًّا خالصًا إلا
البحرية، فإنها كانت تعتمد على جماعات من أبناء الأمم
المفتوحة من روم وفرس ونبط وزط — كما رأينا ذلك في الفصل
الأول والباب الخامس — ونضيف ها هنا أن الخليفة نفسه هو
الذي كان يختار قائد جيشه وبحريته، وأن هذا القائد كان
يُمثل الخليفة، وينوب عنه في إقامة الصلاة، وتوزيع الغنائم
والفيء والصدقات، وأن له حق التصرف فيما عدا حصة بيت المال
من المغانم والفيء على الشكل الذي يرتئيه، وإذا ما اجتمع
أكثر من قائد في الجيش كان الخليفة يُسمِّي أحدهما لإقامة
الصلاة والخطبة في الأجناد، وكان الجيش يتألف من صنفين:
الفرسان والرجالة، وكان الأولون يتسلحون بالدروع والسيوف
والرماح والخوذ المصنوعة من الصلب والمحلاة بريش النسور،
بينما يتسلح الآخرون بالدروع والسيوف والقسي والسهام، وقد
لعبت السهام دورًا كبيرًا في فوز المسلمين بالحروب والفتوح
في بلاد الروم والمشرق، وكان الرسول وخلفاؤه الراشدون
ومعاوية وأخلافه، يحضون الناس على الفروسية وإتقان فن
الرمي، قال عليه الصلاة والسلام: «ارْكَبُوا وَارْمُوا
وَأَنْ تَرْمُوا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ تَرْكَبُوا.»
وقال: «وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ
قُوَّةٍ، أَلَا إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ، أَلَا إِنَّ
الْقُوَّةَ الرَّمْيُ، أَلَا إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ».٨ وقد عُني المسلمون في العصر الأموي — وبخاصة
في عهدَي معاوية وعبد الملك — بالرماية وتدريب الناس على
ركوب الخيل، وإقامة الحصون والقلاع، والسفن البحرية
المحصنة. وقد كان الرماة في البر والبحر أعظم عناصر الجيش
العربي، وكان الرجالة يقفون في صفوف متراصة يتقدمهم حاملو
الرماح لصد المهاجمين، ويرتدون أقبية قصيرة إلى ما تحت
الركبة وسراويل تساعدهم على المشي، وكانت وسائل النقل هي
الخيل والبغال والجمال، كما كان الكثير من الجنود يقطعون
المسافات القريبة مشيًا، وكانوا إذا خيَّموا في أرض يقيمون
الأكواخ أول الأمر، فإذا استقاموا بنوا العشش، ثم إذا طال
بهم الأمر بنوا المعسكرات الدائمة والقلاع، وإذا ما دخلوا
بلادًا لم يمكن الخليفة أو الأمير من الاختلاط بالأهلين،
بل يبنون لهم المدن، ويختطون لها الخطط كالبصرة والكوفة في
العراق، والفسطاط في مصر، والقيروان في إفريقية.
والبحرية الأموية تجربة نشأت في أيام عثمان بإشراف
معاوية — كما رأينا ذلك قبلًا — وقد استمر الخلفاء من
بعده، وخاصة عبد الملك والوليد وسليمان في تقويتها.٩ وإعداد العدد اللازمة كل عام؛ لغزو الشاتية
والصائفة. وقد تم للعرب في هذه الفترة فتح جزائر البحر
الأبيض المتوسط، وغزو أوروبا الجنوبية الغربية، وقد كان
لتقدم العرب في البحر وصناعة السفن تأثير كبير في البحرية
الغربية، الذي نقلت عنها البحارة العرب المسلمين كثيرًا من
المصطلحات، وما تزال تحتفظ بها إلى أيامنا هذه.
وكانت أخشاب السفن من «لبخ وسنديان وأرز»، تستورد من
أوروبا عن طريق موانئ إيطاليا، أو من جبل لبنان. وكان عند
العرب نوعان من السفن: نوع يسير في البحر الأبيض المتوسط،
ونوع يسير في المحيط الهندي والبحر الأحمر، وكان النوع
الأول أضخم، توضع فيه مسامير الحديد، أما النوع الثاني
فكان أصغر، ولا توضع فيه المسامير بل يخاط بحبال الليف والقنبار١٠ خوفًا من جبال المغناطيس وهي جبال كثيرة علاها الماء.١١ والسفن الضخام تتسع لبضعة آلاف رجل مقاتل مع
عُددهم وأغذيتهم وشرابهم وحبالهم وسفن النجاة.
ويظهر أن أعظم الموانئ الإسلامية في البحر الأبيض
المتوسط كان مدينة طرسوس المهيمنة على مراكز الدفاع عن
داخلية البلاد، ومدخل البلاد الجنوبية الشهيرة بأبواب
قليقية وهو ممر طوروس، فجعلها العرب قاعدة حملاتهم الحربية
على الروم. ولا تبعد طرسوس أكثر من أربعمائة وخمسين ميلًا
من البوسفور في خط مستقيم.١٢
ويظهر أن قتال العرب في البحر في أيام معاوية كان قتالًا
عربيًّا؛ فإنهم لعدم معرفتهم بالبحر وأساليب القتال فيه قد
قاتلوا على طريقة قتالهم البري، فقد وصف لنا الطبري أول
معركة بحرية كبرى جرت بين المسلمين والغرب، وهي المعروفة
بمعركة ذات الصواري؛ أنهم ربطوا السفن العربية إلى السفن
البيزنطية، وتواثب الرجال على الرجال يقتتلون بالسيوف
والرماح، ويتواجئون بالخناجر، حتى صار ماء البحر ممزوجًا
بالدم، وأن الدم قد غلب عليه، وأن الأمواج قد طرحت جثث
القتلى ركامًا.١٣ وكان فوز العرب عظيمًا، ولكن مقتل عثمان وما
تلاه من الفتن حال دون فتح القسطنطينية، على الرغم من
المحاولات الكثيرة، ويظهر أن النار اليونانية هي التي وقفت
أمام المسلمين، ففتكت بسفنهم وحالت دون أمانيهم. وقد نقل
الدكتور حتي عن «تيوفانس» وصف تلك النار فقال: ولقد قيل إن
المدينة نجت من أيدي العرب بفضل النار اليونانية. وقد كانت
من مادة شديدة الالتهاب، بحيث تلتهب على سطح الماء، ويُعزى
اكتشافها إلى مهاجر دمشقي اسمه «كالينيكوس». وقد أسهبت
المراجع في ذكر هذه النار، ووصف ما أنزلته من الضرر بسفن
العرب، كذلك أكد أغابيوس المنبجي — الذي أخذ عن تيوفانس —
أن الروم قد تعودوا استخدام النار في الحرب، وكانوا أسبق
الشعوب إلى استعمالها.١٤ ولكن المحاولات العربية لفتح القسطنطينية لم
تقف؛ ففي عهد يزيد وعبد الملك وفي عهد سليمان، كانت
الحملات تُشَن في البحر على السفن الرومية. وقد استخدم
المسلمون النفط والمدفعية في حروبهم البحرية مع الروم.١٥
وقد بلغ عدد الأسطول الإسلامي في عهد سليمان بن عبد
الملك الذي بعث أخاه مسلمة لفتح القسطنطينية ألفًا
وثمانمائة سفينة، بعد أن فشلوا في البر والبحر، وقد كان من
أعظم أسباب هذا الفشل طول مدة الغزو، والحيلة التي قام
بها البون للفتك
بالمسلمين، وقد ذكرها ابن عساكر حيث يحدثنا في ترجمة
شرحبيل بن عبيدة بن قيس العقيلي، وكان من الفرسان الذين
شهدوا هذه الغزوة للقسطنطينية مع مسلمة، أن البون كتب إلى
صاحب برجان يقول له: بلغك نزول العرب بنا وحصارهم إيانا،
وليسوا يريدوننا خاصة دون غيرنا من جماعة من يخالف دينهم،
وإنما يقاتلون الأقرب فالأقرب والأدنى فالأدنى، فإذا كنت
صانعًا «شيئًا» — يوم نؤتيهم الجزية علينا عنوة، ثم يفضون
إليك وإلى غيرك — فاصنعه يوم يأتيك «كتابي» هذا.
فكتب صاحب برجان إلى مسلمة: «أما بعد، فقد بلغنا نزولك
بمدينة الروم، وبيننا وبينهم من العداوة ما قد علمتم، وكل
ما وصل إليهم فهو لنا سارٌّ، فمهما احتجت إليه من مدد أو
عون أو مرفق، فأعلمنا يأتيك منه ما أحببت.»
فكتب إليه مسلمة: «إنه لا حاجة لنا بمدد ولا عدة، ولكننا
نحتاج إلى الميرة والسوق، فابعث إليه ما استطعت.»
فكتب إليه صاحب برجان: «إني قد وجهت إليك سوقًا عظيمًا،
فيه كل ما أحببت من باعة، يَضعُفون عن النفوذ إليكم به ممن
يمرون به من حصون الروم، فابعث من يجوز به إليك.» فوجه
إليهم خيلًا عظيمة، وولَّى عليهم، ونادى في العسكر: ألا من
أراد البيع والشراء فليخرج. فخرج عدد عظيم من غير خوفٍ ولا
حذر، حتى أفضوا إلى عسكر السوق في مرج واسع، حتى ضاقت بهم
الجبال وكتائب برجان في تلك الجبال وغياضه، فلما نزلوا شدت
عليهم الكتائب، فقتلوا ما شاءوا وتضعضع جند مسلمة.١٦ وهلكت سفنه الثمانمائة وألف، ولم يَنْجُ منها
إلا خمسة، فاضطر الخليفة عمر بن عبد العزيز أن يستدعي
مسلمة، ويستنفر المسلمين لإرسال العُدد والطعام والخيل إلى
إخوانهم في بلاد الروم، فرجعوا، وكانت هذه الحملة في البر
والبحر آخر الحملات الكبرى، التي قام بها المسلمون نحو
بلاد الروم، وأما الحملات التي في العصر الأموي فلم تكن
ذات بال.
وصفوة القول: إن الجيش الأموي بنوعيه من بري وبحري قد
قوي قوة هائلة، فاستطاع أن يفتح العالم المتمدن القديم من
أقصى المشرق إلى أقصى المغرب؛ وما ذلك إلا لتنظيمه وقوته
وكثرة عدده. ويلاحظ أن الجيش الأموي كان مُرتبًا على أحسن
التراتيب المعروفة عند الروم والساسانيين. أما تنظيم جنود
الجيش فلم يكن صفوفًا
صفوفًا، وإنما كان على شكل كراديس — أي كتل صغيرة — تنجد
الواحدة الأخرى، ويقال: إن أول من اقتبس هذا النظام
البيزنطي هو خالد بن الوليد وطبَّقه في معركة
اليرموك.
(٥) العمالة
برز في العهد الثاني من العصر الأموي عمال ذوو كفايات
جبارة. ولا غَرْوَ؛ فإن اتساع رقعة الإمبراطورية، وعظم
مسئولية الخليفة اضطرتاه أن يتنازل عن سُلُطاته الكبرى إلى
عمال يثق بهم، ويتخيرهم من أولي العقل الواسع والإدارة
الجيدة والإخلاص للدولة، ولعل أبرز هؤلاء العمال اسمًا:
الحجاج بن يوسف الثقفي، وموسى بن نصير، ومحمد بن القاسم
الثقفي، وقتيبة بن مسلم، وغيرهم من عظماء التاريخ
الإسلامي. وقد كان العامل ممثلًا للخليفة في أمور الدنيا
والدين، يقوم بما يقوم به الخليفة في العامة؛ فيخطب الناس
ويؤمهم، ويتولى إدارة البلاد وبعث القوات للغزو والفتح،
ويولي القيادات والإمارات من يراه كفأً لها من أهل بيته،
أو من كبار رجاله حاشيته.
(٦) التنظيمات الإدارية
نظم عبد الملك بن مروان تراتيب الدولة ترتيبًا جعل
المؤرخين يعتبرونه المنظم الحقيقي لشئون الدولة من إدارية
ومالية وديوانيات وما إلى ذلك:
تنظيمات الضرائب والخَرَاج وما إلى ذلك
ذكرنا في الفقرة الثامنة من الباب الخامس في الفصل
الأول شيئًا عن التنظيمات والضرائب التي كانت على عهد
معاوية والخلفاء من قبله؛ وقد استمرت التنظيمات
المالية التي أدخلها معاوية على نظام الجزية والخراج؛
فقد كتب إلى وردان مولى عمرو بن العاص في مصر أن زد
على كل امرئ من القبط قيراطًا، فكتب إليه وردان كيف
أُزيد عليهم وفي عهدهم ألَّا يزاد عليهم؟! فقد كتب لهم
عمرو أنهم آمنون على أموالهم ودمائهم ونسائهم
وأولادهم، لا يُباع منهم أحد، وفرض عليهم خراجًا لا
يُزاد عليهم، وأن يدفع عنهم خوف عدوهم.١٧
ويظهر أن الخلفاء بعد معاوية قد زادوا بعض الضرائب
والموارد المالية، فلما جاء عمر بن عبد العزيز أمر
بإعادة الحال إلى ما كانت عليه أيام الخلفاء الراشدين؛
فألغى الضرائب الجائرة، ومنها هدايا النيروز والمهرجان.١٨
فلما جاء عبد الملك استقلَّ الجزية التي كان يدفعها
أهل الجزية، فكتب إلى واليه عليها الضحاك بن عبد
الرحمن الأشعري أن يزيدها عليهم، فأحصى العامل
«الجماجم»، وأحصى ما يكسبه الواحد في سنة، ثم طرح
نفقته مع عيالهم وكسوتهم، وطرح أيام الأعياد في السنة
فوجد أن الذي يحصل بعد ذلك في السنة لكل واحد أربعة
دنانير، فألزمهم ذلك جميعهم، وجعلهم كلهم طبقة واحدة؛١٩ أي إنه لم يُفرِّق بين الأغنياء
والمتوسطين، وكذلك أعيدت (ضرائب هدايا النيروز
والمهرجان) التي قُدِّرت في عهد معاوية بمبلغ عشرة
ملايين درهم.٢٠ و«ضريبة أجرة سك العملة» و«ضريبة الصحف»
التي تُكْتَب عليها المعاملات الرسمية و«ضريبة النكاح»
و«ضريبة أجرة البيوت» و«ضريبة الجزية والخراج» من
المسلمين، مع أن الإسلام يمنع ذلك منعًا باتًّا، ولكن
الموارد كانت قد قلَّت، فاضطر الخلفاء وعُمَّالهم إلى
أخذ هذه الضرائب منهم من جديد، بعد أن كان عمر بن عبد
العزيز قد ألغاها.
تعريب الدواوين
قال البلاذري:
«لم يزل ديوان الشام بالرومية حتى ولي عبد الملك
بن مروان، فلما كانت سنة ٨١ أمر بنقله؛ وذلك أن رجلًا
من كتاب الروم احتاج أن يكتب شيئًا فلم يجد ماءً، فبال
في الدواة، فبلغ ذلك عبد الملك فأدَّبه، وأمر سليمان
بن سعد بنقل الديوان، فسأله أن يعينه بخراج الأردن
سنة، ففعل ذلك وولاه الأردن، فلم تنقضِ السنة حتى فرغ
من نقله، وأتى به عبد الملك فدعا بسرجون كاتبه فعرض
ذلك عليه، فغمه وخرج من عنده كئيبًا، فلقيه قوم من
كُتاب الروم فقال: اطلبوا المعيشة من غير هذه الصناعة،
قد قطعها الله عنكم.»٢١
وكما فعل عبد الملك بديوان الشام فعل الحجاج بديوان
فارس؛ فقد روى البلاذري أيضًا قال: «لم يزل ديوان خراج
السواد وسائر العراق بالفارسية، فلما ولي الحجاج
العراق استكتب زادان فروخ بن بيري، وكان معه صالح بن
عبيد الرحمن مولى بني تميم يخط بين يديه بالعربية
والفارسية»، ووصل زادان فروخ صالحًا بالحجاج، فخف على
قلبه، فقال له ذات يوم: إنك سببي إلى الأمير، وأراه قد
استخفني ولا آمن أن يقدمني عليك وأن تسقط، فقال: لا
تظن ذلك، هو أحوج إليَّ منه إليك؛ لأنه لا يجد من
يكفيه حسابه غيري، فقال: والله لو شئت أن أحول الحساب
إلى العربية لحولته، قال: فحول منه شطرًا حتى أرى،
ففعل، ولما قتل زادان فروخ استكتب الحجاج صالحًا،
فأعلمه الذي كان جرى بينه وبين زادان في نقل الديوان،
فعزم الحجاج على أن يجعل الديوان بالعربية، وقَلَّد
ذلك صالحًا، وكان عبد الحميد بن يحيى، كاتب مروان
يقول: لله در صالح، ما أعظم منته على الكُتَّاب.»٢٢
ولا ندري من الذي بدأ بالعمل عبد الملك أو الحجاج؟
ومهما يكن من أمر، فإن التعريب قد تمَّ في عهد عبد
الملك. أما ديوان مصر فقد نقل من اليونانية إلى
العربية في عهد ابنه الوليد.٢٣ يقول الدكتور حسن إبراهيم: أما مصر فكانت
اللغتان اليونانية والعربية مستعملة في دواوين
الحكومة؛ الأولى على أنها اللغة الرسمية التي كانت
تُدوَّن بها الأعمال في تلك الدواوين، والثانية لأنها
لغة الحاكم العربي. وقد لوحظ في بعض الأوراق البردية
التي عثر عليها الباحثون كتابات باللغة القبطية في
أسفل الصحف أو في ظهرها إلى جانب اللغتين اليونانية
والعربية؛ مما يدلنا على أنها كانت في الدرجة الثالثة
من الأهمية. وقد ظلت الدواوين تدون باليونانية في مصر
إلى أن انتقلت الخلافة إلى الوليد، فسار على سياسة
أبيه في تعريب الدواوين فحوَّل ديوان خراجها إلى
العربية، وقام بتنفيذ هذه السياسة واليه على مصر عبد
الله بن عبد الملك بن مروان (٨٦–٩٠ﻫ).
ويقول السيد أمير علي: «إن النظام الإداري والسياسي
للإدارات الإسلامية في عهد الدولة الأموية لم يكن من
عمل معاوية، بل إن عبد الملك هو المؤسس الحقيقي لهذا
النظام، فهو الذي صبغ الإدارة المالية بالصبغة
العربية، وبتحويله الدواوين إلى العربية تقلص نفوذ أهل
الذمة والمسيحيين من غير العرب.»٢٤
ديوان الطومار والطراز
وفي عهد عبد الملك وُجد ديوان الطراز والطومار، أما
الطراز فهو أن تُرْسَم أسماء الملوك والسلاطين
وعلاماتهم على الأثواب والأقمشة الحريرية والديباجة
الخاصة بهم.٢٥ وأما الطومار فهو الأوراق الرسمية التي
تكتب عليها الرسائل السلطانية والوثائق الدولية. وقد
كانت هذه الطرز والطوامير تصنع بمصر، وقد ظلت كذلك إلى
زمن عبد الملك، فلما نقل الدواوين إلى العربية أمر
بترجمة ما يكتب عليها، فإذا هو «باسم الآب والابن
والروح القدس» فأكبر ذلك، وقال: ما أغلظ هذا في أمر
الدين والإسلام، وكتب إلى أخيه عبد العزيز — أمير مصر
— بإبطال هذا الطراز، واستبداله بالشهادة، ومعاقبة من
يخالف ذلك. وكانت الطرز والطوامير تُرْسَل من مصر إلى
بلاد الروم — كما كانت الدنانير تُضرب في بلاد الروم،
وتُرْسَل إلى بلاد الإسلام — فلما وصلت الطوامير
والطرز على الشكل الجديد إلى بلاد الروم، استنكر
الإمبراطور ذلك، وكتب إلى عبد الملك «أن عمل القراطيس
بمصر وسائر ما يُطرز هناك للروم، ولم يطرز بطرزهم، فإن
كان مَن تقدَّمك من الخلفاء قد أصاب فقد أخطأت، وإن
كنت قد أصبت فقد أخطئوا، فاختر إحدى الحالتين.» وبعث
إليه الكتاب مع هدية يسترضيه بها، ويدعوه إلى الرجوع
عما بدأ به، فردَّ عليه عبد الملك هديته، وأخبر الرسول
أنه لا رد عنده على الرسالة. فكرر الإمبراطور رسائله
وعبد الملك لا يجيب. ثم إن الإمبراطور غضب وكتب إليه:
«إنكم أحدثتم في قراطيسكم ما نكرهه، فإن تركتموه وإلا
أتاكم من الدنانير من ذكر نبيكم ما تكرهونه.» فاستاء
عبد الملك واستشار خالد بن يزيد، فقال له: يا أمير
المؤمنين حرِّم دنانيرهم فلا يُتعامل بها، واضرب للناس
سككًا، ولا تعفِ هؤلاء الكفرة مما كرهوا في الطوامير.٢٦ فاستمر عبد الملك في عمله، وكان ذلك
حافزًا له على ضرب العملة العربية.
سك العملة
رأينا في النقطة الرابعة من الباب الخامس للفصل
الأول أن عمر بن الخطاب كان أول من ضرب الدراهم على
النمط الفارسي، وأنه زاد عليها في بعضها: «الحمد لله»،
وفي بعضها: «محمد رسول الله»، وأن معاوية ضرب بعض
الدراهم والدنانير، وكذلك فعل بعض عُمَّاله في العراق،
ولكن هذا كله لم يكن شيئًا جوهريًّا؛ فقد استمرت
الدنانير البيزنطية والدراهم الفارسية مسيطرة على
النظام النقدي الإسلامي إلى عهد عبد الملك. وقد كانت
الدراهم المعروفة في العالم الإسلامي إلى زمن عبد
الملك هي:
ولم يُغَيِّر الأمويون قبل عبد الملك في نظام
العملة، فلما تولى عبد الملك وبدأ إصلاحاته، رأى ضرورة
إيجاد دار لضرب العملة في دمشق بعد إلغائه التعامل
بالعملة الأجنبية من دينار رومي ودرهم فارسي.٢٨ قال البلاذري: كانت الدراهم من ضرب
الأعاجم مختلفة، كبارًا وصغارًا، وكانت دنانير هرقل
ترد على أهل مكة في الجاهلية، وترد عليهم دراهم الفرس
البغلية، فكانوا لا يتبايعون بها إلا على أنها تبر،
فأقر ذلك رسول الله، وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي
ومعاوية، ثم ضرب مصعب بن الزبير في أيام عبد الله بن
الزبير دراهم قليلة، كُسرت بعد. فلما ولي عبد الملك بن
مروان وفحص عن أمر الدراهم والدنانير، فكتب إلى الحجاج
بن يوسف أن يضرب الدراهم على خمسة عشر قيراطًا من
قراريط الدنانير، وضرب هو الدنانير الدمشقية؛ فأول من
ضرب الذهب عبد الملك عام الجماعة سنة ٧٤، والحجاج ضرب
الدراهم آخر سنة ٧٥ﻫ، ثم أمر بضربها في جميع النواحي
سنة ٧٦.٢٩
ويروي البلاذري أيضًا عن عباس بن هشام الكلبي أن
الحجاج سأل ما كانت الفرس تعمل به في ضرب الدراهم،
فاتخذ دار ضرب، وجمع فيها الطباعين، فكان يضرب المال
للسلطان مما يجمع له من التبر وخلاصة الزيوف والستوفه
والبهرجة، ثم أذن للتجار وغيرهم في أن تضرب لهم
الأوراق. فلما ولي عمر بن هبيرة العراق ليزيد بن عبد
الملك خلص الفضة أبلغ من تخليص من قبله، وجدَّد
الدراهم فاشتد في العيار. ثم ولي خالد بن عبد الله
القسري العراق لهشام بن عبد الملك، فاشتدَّ في النقود
أكثر من شدة ابن هبيرة، حتى أحكم أمرها أبلغ من
إحكامه، ثم ولي يوسف بن عمر، فأفرط في الشدة على
الطباعين وأصحاب العيار، وقطع الأيدي وضرب الأبشار،
فكانت الهبيرية والخالدية واليوسفية أجود نقود بني
أمية، ولم يكن المنصور يقبل في الخراج من نقود بني
أمية غيرها.٣٠
والحق أن عملية عبد الملك في سك العملة عملية جريئة
ومفيدة؛ فقد كان العالم المتمدن القديم يُكبِر العملة
الذهبية البيزنطية، وينظر إليها وكأنها شيء مقدس ذو
سلطان لا يقاس به سلطان آخر، أما الفرس فكان لهم أن
يسكوا العملة الفضية فقط. نقل البروفسور ميتز عن
الرحالة الهندي Casmas
في منتصف القرن السادس الميلادي خبر مناظرة جرت في
مجلس ملك سرنديب بين تاجر رومي وآخر فارسي، أراد كل
منهما أن يثبت أن ملك بلاده أقوى، وغلب التاجر الرومي
صاحبه آخر الأمر، وذلك بأن أخرج قطعة ذهبية من العملة
البيزنطية التي يتعامل بها في جميع البلاد، على حين أن
الفارسي لم يستطع أن يُخرج إلَّا عملة من الفضة. ثم
يُعلِّق على هذه الحكاية بقوله: من الصحيح في هذه
الحكاية أنه كان بين البيزنطيين وبين الدولة الساسانية
معاهدة خاصة بالعملة، تقضي بأن يضرب الساسانيون نقودًا
من الفضة فقط، ويتخذوا العملة الذهبية عملة لهم؛ ولهذا
شاع في بلاد الإسلام التي كانت تحت حكم الرومان من
قبلُ العملة الذهبية، على حين أن بلاد الفرس كانت
عملتها الجارية الدراهم الفضية.٣١
وهذا يدلنا على المكانة السامية التي كانت للدينار
الذهبي الرومي، فإقدام عبد الملك على امتهان ذلك
الدينار وسك عملة ذهبية جديدة، هو إقدام لا يجرؤ عليه
إلا من كان عنده حزم عبد الملك وسلطان كسلطانه.
ويختلف المؤرخون في السنة التي بدأ عبد الملك فيها
بسك العملة بين سنة ٧٤ وسنة ٧٥ وسنة ٧٦.٣٢ ولكن الباحث الفرنسي
Lavoix قد توصل
بمقارنة المصادر العربية والبيزنطية وفهارس مجموعات
النقود إلى أن إصلاح عبد الملك بدأ حوالي سنة ٧٣ و٧٤ﻫ،
وأن ضرب النقود على أشكالها القديمة قد استمر بعد ذلك
لمدة سنوات أخرى.٣٣ وقد أبقى عبد الملك وزن الدينار العربي
على وزن الدينار الرومي، ولكنه قسم إلى عشرين
«قيراطًا» بدل الاثنين والعشرين قيراطًا إلا حبة، أما
الدراهم فقد أبقاها كما كانت؛ أي إن وزن كل عشرة منها
يساوي سبعة مثاقيل.٣٤
ولكي يحذر الناس من غش النقود الجديدة وضع الخليفة
«صنجات» لوزن العملة، وهي من الزجاج لوزن الدينار
والدرهم، وقد أرسل عبد الملك إلى عامله في العراق
الحجاج بن يوسف؛ لضبط النقود الفضة في العراق والمشرق،
ومنع استعمال العملات القديمة، وقد سار الخلفاء بعد
عبد الملك على سيرته، ولكنهم تشددوا في تخليص العملة
من الغش وتنقية الفضة والذهب وزيادة الوزن، وقد رأينا
في النص الذي نقلناه عن البلاذري أن عمر بن هبيرة قد
خلص الفضة أبلغ من تخليص مَنْ قبله وجدد الدراهم، وأن
الدراهم الهبيرية أجود من الدراهم السابقة. ثم جاء
خالد بن عبد الله القسري في عهد هشام، فاشتدَّ في
تخليصها أكثر من ابن هبيرة، ثم جاء يوسف بن عمر فزاد
في الدقة في العيار، وقطع أيدي الناس على الغش
فيها.
أما صرف الدنانير بالدراهم فقد كان يختلف صعودًا
ونزولًا حسب الظروف العامة، وطبقًا لنظام العرض
والطلب؛ ففي عهد الرسول كان الدينار يساوي ١٢ درهمًا،
وكذلك كان في عهد أبي بكر وعمر.٣٥ وفي خلافة علي كان يساوي عشرة دراهم.٣٦
وقد كان للدينار أجزاء كالنصف والربع، كما كان له
مضاعفات كالدينار المزدوج. وكذلك كان للدرهم أجزاء
كالنصف والربع والدانق، وهو سدس الدرهم، ويساوي
قيراطين وثلثًا، و«الطسوج» و«الفلس».٣٧
وكان للدينار أنواع: فهناك الدينار الجيد الصحيح
العيار الصافي الذهب، وزنه مثقال كامل، وهو خير
الدراهم، وهناك دراهم غير جيدة، قد نقص الناس من وزنها
أو غشوا في ذهبها، وكذلك كان للدراهم أنواع: فمنها
الدرهم «النصرة» وهو ما كان من فضة جيدة صافية، وهناك
دراهم «زيوف» وهي التي تكون فيها المعادن الرخيصة من
نحاس وقصدير كثيرة، وهذه الدراهم تُستعمل في التجارة،
وكانت الحكومة لا تقبله في معاملاتها؛ «دراهم بهرجة أو
نيهرجة» وهي التي لم تضرب في دار الضرب، و«دراهم
ستوفة» وهي دراهم نحاسية تُغطَّى بقشرة من الفضة.٣٨
والحق أن إصلاح عبد الملك في قضايا العملات هو إصلاح
رئيسي أنقذ ثروة البلاد، ثم إن سياسة الوليد في تتميم
أعمال أبيه الإصلاحية قد تممت هذه المشاريع
الحيوية.
شئون البريد
قلنا في الباب الخامس من الفصل الأول: إن شئون
البريد نُظمت في عهد معاوية، ولكنها لم تُحكَم إلا في
عهد عبد الملك؛ فقد أدخل عبد الملك تحسينات جديدة إلى
إدارة شئون البريد. ويروي القلقشندي بعد روايته الأولى
— أن البريد وُضع في عهد معاوية — أن هناك رواية أخرى
هي أن أول من وضع البريد هو عبد الملك، حين خلا وجهه
من الخوارج عليه كعمرون بن الأشدق وعبد الله بن
الزبير. وينقل القلقشندي عن العسكري أن عبد الملك إنما
أحكمه. وذكر عنه أنه أمر حاجبه ألَّا يحجب عنه صاحب
البريد، فمتى جاء من ليل أو نهار؛ فربما أفسد على
القوم سنةً حبسُهم البريد ساعة، ويظهر أنهم كانوا
يحملون على البريد أشياء أخرى غير الرسائل من كلِّ ما
يريدون الحصول عليه بسرعة؛ فقد رووا أن الوليد أمر أن
يُحمَل إليه الفسيفساء — وهي الفصوص المذهبة — إلى
دمشق؛ ليصفح بها حيطان المسجد الجامع بدمشق، ومساجد
مكة والمدينة والقدس.٣٩
كما رُوِي عن أبي هلال العسكري في كتاب الأوائل أن
أول من حُمل إليه الثلج الحجاج بن يوسف بالعراق.٤٠ وصاحب البريد مركزه في العاصمة، وله نواب
وعيون في سائر أجزاء الدولة، يرسلون إليه بالرسائل
والأخبار، وهو يتولى عرضها على الخليفة، وله أيضًا
النظر في أحوال موظفي مصلحة البريد ودوابه وأمكنته
وأحواله ورجاله، وربما سموا بأصحاب الخرائط. ولا بدَّ
لصاحب البريد أن يكون عارفًا بالطرق والمسالك إلى جميع
نواحي الدولة، بحيث يجد عنده الخليفة أو الأمير كل
المعلومات المطلوبة لإنفاذ الجيوش وإرسال البُرُد.
وتنظيم البريد من أدلة قوة الدولة وسلطانها. فإذا ما
ضعف واختلت شئونه دلَّ ذلك على انهيار الدولة، وآذن
ذلك بسقوطها؛ فقد ذكر صاحب التعريف فيما نقله صاحب صبح
الأعشى أن البريد ظل طوال الدولة الأموية معتنًى به،
ثم لم يزل البريد قائمًا والعمل عليه دائمًا، حتى آن
لبناء الدولة المروانية أن يُنقض، ولحبلها أن ينتكث،
فانقطع ما بين خراسان والعراق؛ لانصراف الوجوه إلى
الشيعة القائمة بالدولة العباسية. ودام الأمر على ذلك
حتى انقضت أيام مروان آخر خلفاء بني أمية.٤١
وقد كان المشرف على البريد موظفًا خاصًّا يسمى «صاحب
البريد»، وهو الذي يتولى إرسال البُرُد إلى الخليفة من
الأطراف، وينقل عن الخليفة ما يريد إيراده إلى
الأطراف. وكان للبريد ألواح من فضة مجلدة بديوان
الإنشاء تحت أمر كاتب السر.٤٢ وكان للبريد محطات ومراكز وخيول، أما
المراكز فهي المواقف التي ترتبط فيها الخيول، وليس
لهذه المراكز أبعاد معينة بل تختلف تبعًا للمياه،
والقرى، والمدن، قربًا وبُعدًا.٤٣ وقد فصَّل صاحب صبح الأعشى مراكز البريد
في الديار المصرية والشام والحجاز.
شئون القضاء
ذكرنا في الفقرة الثامنة من الباب الخامس في الفصل
الأول شيئًا عن القضاء في عهد معاوية، ونضيف ها هنا أن
القضاة في العصر الأموي كانوا يُنتقون من كبار الفقهاء
ورجال التشريع من الصحابة أو التابعين. وقد كان هؤلاء
القضاة يقضون طبقًا لأحكام الكتاب الكريم أو السنة
النبوية أو القياس، وهو «رد الفروع المسكوت عنها إلى
الأصول المنطوق بها والمُجمَع عليها»، حتى يجد القاضي
طريقًا إلى العلم بأحكام النوازل وتمييز الحق من الباطل.٤٤ يوضح ذلك قول عمر في كتابه إلى أبي موسى
الأشعري لما ولَّاه قضاء الكوفة: القضاء فريضة محكمة
وسُنَّة متبعة … الفهم الفهم، إذا أدلى إليك فإنه لا
ينفع حق لا تقاد له. ساوِ بين الناس في وجهك ومجلسك
وعدلك، حتى لا يطمع قوي في جنبك، ولا ييأس ضعيف من
عدلك. البينة على المُدَّعي واليمين على من أنكر.
الصلح بين الناس جائز إلا صلح حرَّم حلالًا وأحلَّ
حرامًا. الفهم الفهم فيما تلجلج في صدرك مما ليس في
كتاب ولا سنة، فاعرف الأشباه والأمثال وقس الأمور برأيك.٤٥
ويشترط في القاضي أن يكون عارفًا بالكتاب والسنة
وإجماع الأمة واختلاف السلف، فقيه النفس، يعقل وجوه
القياس إذا ورد، عالمًا بتخريج الأخبار إذا اختلفت،
وترجيح أقاويل الأئمة إذا اشتبهت، وافر العقل أمينًا،
متثبتًا حليمًا ذا فطنة وتيقظ، لا يُؤتى من غفلة، ولا
يُخدع بغرة، صحيح حواس السمع والبصر، عارفًا بلغات أهل
قضائه، جامعًا للعفاف، نزهًا بعيد الطمع، عدلًا
رشيدًا، صدوق اللهجة، ذا رأي ومشورة، إذا حكم فصل، لا
تأخذه في الله لومة لائم، ذا هيئة وسكينة ووقار، ولو
كان من قريش كان أولى.٤٦
وقد اشترط فيه شروط، هي: البلوغ والعقل والحرية
والذكورة والإسلام والعدالة والسمع والبصر والعلم.٤٧
ولما تطورت الدولة واتسعت رقعتها تعدد القضاء، فوجد
قضاء المظالم والحسبة والشهود.
أما قضاء المظالم، فهو القضاء الذي يتولَّى صاحبه
القضاء من القضايا والمشاكل التي لا يستطيع القاضي
حلها، إما لكون أحد المتخاصمين ذا نفوذ أو سلطان، وإما
لتعذر حل القضية عند القاضي، ولهذا يشترط في صاحب
المظالم أن يكون رجلًا جليلَ القَدْر، ذا مكانة سامية
وقدر رفيع. ولم يجلس للمظالم أحد من الخلفاء الراشدين؛
لأن الناس كانوا في الصدر الأول بين من يقوده التناصف
إلى الحق، أو يزجره الوعظ عن الظلم؛ إلا عليًّا فإنه
احتاج إلى النظر فيها؛ على أنه لم يفرد لسماع الظلامات
يومًا معينًا أو ساعة معينة، وإنما كان إذا جاءه متظلم
أنصفه، ثم أفرد يومًا خاصًّا معينًا للنظر في أحوال
المتظلمين وتصفح قصصهم. وأول من فعل ذلك عبد الملك بن
مروان، لكنه كان إذا وقف منها على مشكل احتاج فيه إلى
حكم رده إلى قاضيه ابن إدريس الأزدي، وكان ابن إدريس
هو المباشر، وعبد الملك الآمر، وهذه دلالة واضحة على
حسن تصرف عبد الملك، ومقدار عدالته واحتياطه في أمور
المسلمين. وكانت محكمة المظالم غالبًا ما تكون برئاسة
الخليفة أو نائبه، أو الوالي، ومحلها المسجد الجامع،
وكان صاحب المظالم يُحاط بخمس جماعات:
(١)
الحُماة والأعوان، وقد اختيروا بحيث
يستطيعون التغلب على من يلجأ إلى القوة
والعنف أو الفرار من القضاء.
(٢)
القضاة والحكام، ومهنتهم الإشارة على
صاحب المظالم بأقوم الطرق لردِّ الحقوق
إلى أصحابها وإعلامه بما يجري بين الخصوم
لإلمامهم بشتى الأمور.
(٣)
الفقهاء، وإليهم يرجع قاضي المظالم فيما
أشكل عليه من المسائل الشرعية.
(٤)
الكُتَّاب، ويقومون بتدوين ما يجري بين
الخصوم وإثبات ما لهم وما عليهم من
الحقوق.
(٥)
الشهود، ومهمتهم الشهادة على أن ما
أصدره القاضي من الأحكام لا ينافي الحق
والعدل (الماوردي لأحكام السلطان،
٧٣–٨٩).
وقال ابن خلدون (ص٣٦٠ مقدمة): «كان الخلفاء من قبلُ
يجعلون للقاضي النظر في المظالم، وهي وظيفة ممتزجة من
سطوة السلطان ونصفة القضاء، وتحتاج إلى علو يد وعظيم
رهبة من الخصمين، وتزجر المعتدي، وكأنه يمضي ما عجز
عنه القضاة أو غيرهم عن إمضائه، ويكون نظره في البينات
والتقرير واعتماد الأمارات والقرائن وتأخير الحكم إلى
استجلاء الحق وحمل الخصمين على الصلح واستحلاف الشهود،
وذلك أوسع من نظر القاضي، وكان الخلفاء الأولون
يباشرونها بأنفسهم إلى أيام المهتدي من
بني العباس.»
وأما الحسبة فهي نوع من أنواع القضاء. وقد كان
الخلفاء يباشرونها بأنفسهم في عهد الخلفاء الراشدين؛
لأنها من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ثم لما
توسعت الدولة صار الخليفة يوليها غيره كالقضاء. قال
ابن الأخوة: المُحتسب من نَصَّبه الإمام أو نائبه
للنظر في أحوال الرعية، والكشف عن أمورهم ومصالحهم.
ومن شرطه أن يكون مسلمًا حرًّا بالغًا عاقلًا عدلًا
قادرًا، ذا رأي وصرامة وخشونة في الدين، عارفًا بأحكام
الشريعة. وقد كانت للمحتسب سلطات واسعة يُشرف فيها على
الأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر، ومراقبة الموازين والمكاييل
والأسواق والمعامل والمصانع والحرف والأطعمة والبضائع
والأشربة، كما يراقب أحوال أهل الذمة وأهل الجنائز
والحاكة والخياطين والدلَّالين والنخاسين والصرافين
والصياغ وأهل الحمامات والأطباء والكحالين والمعلمين
والوعاظ والمنجمين وأهل السفن والمراكب، والأمراء
والولاة والقضاة والشهود، كما يهتم بأمور الزُّناة
والحانات وشراب الخمر، والمُقامرين وغيرهم من أهل
الدعارة، ويراقب أحوال الناس في ملابسهم والظهور بمظهر
الحشمة في الطرقات العامة، كما يُراقب أحوال المباني
والطرقات، وكل ما له علاقة بحياة المدينة الاجتماعية.
ولهذا المحتسب شبيه في العهد البيزنطي وهو المعروف
باسم
Agorannum.
وأما الشهود فهم الذين يشهدون أمام القاضي في النفي
أو الإثبات، ولا بد للشاهد من التزكية. وقد كان الشهود
في عهد الخلفاء الراشدين يزكون علنًا، أما في العصر
الأموي فلقد رووا أن غوث بن سليمان الحضرمي قاضي مصر
سنة ١٣٥ هو أول من سأل الشهود في السر، ولم يكتفِ
بالتزكية العلنية لفساد الأحوال، وكانت القضاة قبله
إذا شهد عند أحدهم شاهد، وكان معروفًا بالسلامة قبِله،
وإن كان غير معروف وقف، وإن كان مجهولًا سأل عنه
جيرانه فما ذكره من خير وشر عمل به فيه.٤٨
وقد يكون للقاضي أعمال أخرى غير القضاء بين الناس،
كالقصص والوعظ وحفظ بيت المال، وحفظ أموال الأيتام
والوصايا؛ فقد كان عبد الرحمن بن حجرة قاضي مصر من
٦٥–٨٣ﻫ، يتناول ألف دينار في العام راتبًا له؛ مائتان
عن القضاء، ومائتان عن القصص، ومائتان عن بيت المال،
وعطاؤه مائتان، وجرايته مائتان.
فنرى من هذا أن القاضي كان يتناول راتبًا ضخمًا،
يكفيه ويحميه من أن يتورط في الرشوة وإضاعة الحقوق.
وقد كان الخلفاء في العصر الأموي يتشددون في مراقبة
أحوال القضاء؛ فقد حكى لنا الكندي في كتاب القضاة أن
هشام بن عبد الملك لما بلغه في دمشق أن يحيى بن ميمون
الحضرمي لم ينصف يتيمًا في مصر، احتكم إليه بعد بلوغه،
عظم الأمر عنده، وكتب إلى عامله على مصر يقول: اصرف
يحيى عما يتولاه من القضاء مذمومًا مدحورًا، وتخيَّر
لقضاء جندك رجلًا عفيفًا ورعًا تقيًّا سليمًا من
العيوب، لا تأخذه في الله لومة لائم.٤٩
الشرطة
ذكرنا في الباب الخامس من الفصل الأول شيئًا عن
أولية هذه الوظيفة. ونضيف هنا أن صاحب هذه الوظيفة هو
المُنفذ لأحكام صاحب المظالم والقاضي، وهو قسيم
المحتسب؛ لأن كلًّا منهما له حق تنفيذ العقوبة، إلا أن
صاحب الشرطة أقوى سلطانًا من صاحب الحسبة، وإليه أمر
استتباب الأمن في البلد، وحفظ النظام، والقبض على
الجُناة والمفسدين، وما إلى ذلك، أما صاحب الحسبة
فوظيفته تتعلق برقابة أهل الفسق من الباعة والسوقة،
وأمثالهم ممن يسيئون إلى الأعمال فيُعاقبهم.
ولصاحب الشرطة أمر العسس في الليل، وكان عمر — رضي
الله عنه — يعس بنفسه في الليل. وفي عهد علي انتظمت
أمور صاحب الشرطة، وكان يُخْتَار من علية القوم
وأمنائهم وأشرافهم. ويظهر أنها كانت تابعة للقاضي في
أول الأمر، ثم انفصلت عنه في أواخر العصر الأموي،
وأصبح صاحبها مستقلًّا بأموره.
وقد كان صاحب الشرطة مسئولًا عن حراسة الخليفة
والناس، كما كان له فروع في المدن الأخرى يتصلون به،
فيوجههم الوجهات الصحيحة لاستتباب الأمن وحفظ النظام،
والقبض على المجرمين والمفسدين، وتنفيذ قرارات القضاة
وأصحاب المظالم.
قال ديمومين: ومنذ عهد الأمويين تلاحظ ظهور وظيفة
صاحب الشرطة، الذي كان في نفس الوقت مُنفِّذ قرارات
القاضي، فيما يتصل بالقانون الجنائي القرآني، كما كان
حاكمًا لعدد من الجنح البسيطة غير محدود، كان يعاقب
عليها آنيًّا، وقد راقب المجرمين وطاردهم؛ ليجلبهم إلى
حضرة القاضي إن أمكن. وإلى حدٍّ كبير كانت الجنح
البسيطة نسبيًّا تدخل ضمن اختصاص صاحب الشرطة، أما
الجنح الأخرى وبعض مخالفات قانونية معينة فقد كان ينظر
فيها حاكم خاص هو المُحتسب.٥٠
(٧) العاصمة والسكان: الأرض الإسلامية
قلنا في الفقرة التاسعة من الفصل الخامس للباب الأول
شيئًا عن العاصمة الأموية دمشق وتأثير حضارتها البيزنطية
القديمة في تكوين الحضارة الأموية؛ ونضيف هنا أن هذه
العاصمة كان لها أثر جبار واضح القسمات في إنشاء الحضارة
الإسلامية الأموية وتطويرها؛ ففي القرن الذي كانت هي فيه
حاضرة العالم الإسلامي، امتدت الفتوح من أقصى المشرق إلى
أقصى المغرب، ومنها وجهت الرسائل والإرشادات والتعاليم
والأنظمة إلى سائر أجزاء المملكة الإسلامية، وفي القرن
الذي حكمت فيه دمشق العالم الإسلامي، وضعت جميع أسس النظم
الإسلامية، وبدأت النزعات العقلية. ثم إن مواهب أهل دمشق
خاصة، وسورية عامة قد لعبت دورًا أساسيًّا في تكوين
الحضارة الإسلامية، التي برعتها أيدي خلفاء عقلاء أذكياء
كخلفاء بني أمية، وجهتها سيوف جند فاتحين من عدنان وقحطان
استوطنوا الشام، وتوجهوا منه لفتح العالم ونشر الإسلام
والعروبة، وعلى الرغم من ثورات الحجاز والعراق وخراسان
وإفريقية، وعلى الرغم من فتن الأزارقة والصفرية والكيسانية
وغيرهم من الفِرق، فإن دمشق ظلت قوية صامدة، تمشي إلى
هدفها الذي رسمته بكلِّ حزم واتئاد. وقد كان لأهل دمشق من
أصليين وفاتحين أثر فعَّال في تطوير الحضارة الإسلامية،
وتدعيم أركان المدنية العربية، وكان مسجد دمشق وبلاطها
مراكز إشعاع فكري وحضاري، وتَرَفي وسياسي وعسكري. فمن هذين
المشعلين استضاءت حواضر الأندلس وإفريقية ومصر والعراق
وخراسان وبلخ ومرو وسمرقند وكشغر والسند، ومن هذين
المركزين الثقافيين تعلمت رجال العالم الإسلامي طُرُق
الحياة وأساليب الإدارة.
ومما تجدر الإشارة إليه أن دمشق عُدَّت أيام عبد الملك
وأولاده وأحفاده كعبة القُصَّاد؛ لما حبَتها الدولة من
مظاهر الفخامة، ولما أسدت إليها الطبيعة من رونق النضارة،
وقد أكثر الخلفاء والأمراء والكبراء فيها من بناء القصور
والدور والمعاهد والمساجد والحمامات والخانات والأسواق
والمؤسسات العامة. وصفوة القول: إن العصر الأموي هو العصر
الذي ازدهرت فيه بلاد الشام ازدهارًا عجيبًا، وخطت خطوات
مدهشة في سبيل الحضارة. يقول البروفسور ديمومين: إن القرن
الذي حكم خلاله الأمويون ليثير أشد الاهتمام دون شك، مع
أنه أقل فترات التاريخ الإسلامي وضوحًا في الأذهان؛ ففي
هذا القرن وُضِعَت جميع النظم الإسلامية، وبدأت كافة
الاتجاهات الفكرية.٥١
أما سكان الشام والأمصار الإسلامية الأخرى، فقد تطورت
أحوالهم في هذا العهد تطورًا واضحًا، فالشام هو مسكن القوم
الذين شدوا أزر الدولة في الداخل، وخرجوا بسيوفهم إلى
الخارج يهدئون ثورات الثائرين، وينشرون لواء الدولة في
الخافقين، ولولا العصبيات القبلية من يمانية ومضرية والفتن
التي نشبت عن ذلك في المركز أو النواحي لكان لهؤلاء شأن
آخر.
وأما العراق فهو موطن الشيعة العلوية، التي حزَّ في
نفوسها انتصار خصوم آل علي وابتزازهم الحق منهم، فكانت
نفوسهم تغلي حقدًا، وهم دومًا إما في ثورة ناطقة أو في
ثورة صامتة ضد آل أمية، ولولا الولاة الأشداء كزياد
والحجاج وخالد ويوسف بن عمر وغيرهم من رجالات بني أمية لما
هدأ العراق ولا استكان لأمية.
وفي العراق نشأت الفرق المناوئة لبني أمية من خوارج
وكيسانية وأشاعثة ومرجئة ومعتزلة وغيرهم ممن أقضُّوا مضجع
الدولة وآذوا أهلها. «وأنا موقن» أنه لولا قسوة الحجاج
وزياد الممزوجة بالعدل والتعصب للعرب، لما هدأ العراق طوال
عهد الأمويين؛ فقد كان هؤلاء — على ظلمهم وجبروتهم —
يرفعون من شأن عرب العراق، وكان الحجاج يُجِلُّ شيوخ عرب
العراق، وجعل منهم النواة التي غزت الشرق، وسيطرت عليه،
فقد جعل العراق في عهده معقل الجيوش العربية.
وأما الحجاز فقد انقلبت في هذا العهد من العصر الأموي
إلى بيئة ساكنة، يرغب أهلها في الهدوء والحياة الوادعة
اللاهية؛ لأن طبيعة الحجازيين ناعمة مترفة، وقد أتيح لها
أن تبعد عن السياسة، وأغدقت عليها الأموال، فانصرف أهلها
إلى المرح واللهو والغناء وبناء القصور، وبخاصة الرجال
الذين كان الأمويون يحشدونهم من أبناء أهل السابقة من وجوه
المهاجرين والأنصار، فظهرت طبقات ميالة إلى المرح واللهو،
كما ظهرت طبقات ميالة إلى إشادة القصور، ووُجد أناس
ينصرفون إلى العلم والدين، وأناس يميلون إلى الصلاح
والتقوى، وما إلى ذلك مما يبعدهم عن السياسة إلى غيرها،
ولما جاء عبد الملك وأولاده ساروا على تلك السياسة.
وأما الجهات الإسلامية الأخرى من العالم فهي الجهات
المفتوحة، كشمال إفريقية والأندلس والمشرق، فقد رأى أهلها
قوة العرب الفاتحين فخنعوا لهم وهم يتحينون الفرص طوال
العصر الأموي للتخلص من نير هؤلاء القوم الفاتحين. وكانت
هذه البلاد لا تخلو دومًا من فتن وثورات، ولكن حزم بني
أمية وولاتهم استطاعوا أن يوطدوا أقدامهم في تلك الديار،
ويفرضوا الإسلام على أهلها، ولم يكن النتاج الإسلامي في
هذه الديار من النواحي الثقافية والحضارية ذا أثر ملموس،
إلا في أواخر العصر الأموي أو العصر العباسي.
ومما هو جدير بالذكر أن أهل الذمة من نصارى ويهود ومجوس
قد عاشوا تحت لواء بني أمية عيشة هنية رضية؛ لأن الأمويين
كانوا بعيدين عن روح التعصب الديني، كما كانوا يحرصون على
حماية أهل الذمة لقاء ضريبة الخراج والجزية التي أخذوها
على أن يحموهم، ولما كثر دخول أهل الذمة في الإسلام ورأى
الخلفاء — كعبد الملك والوليد وسليمان — أن كثرة دخولهم
سيحرم بيت المال من موارد جسيمة، استمروا يأخذون تلك
الضرائب منهم؛ لأنهم كانوا ينظرون إلى المصلحة العامة، وإن
كان في ذلك مخالفة لظاهر الشرع الإسلامي، ولكن الخليفة
الراشد عمر بن عبد العزيز منع ذلك كله ولم يقبل بأخذها،
وألغى قوانين الاحتيال والمواربة التي اصطنعتها عمال بني
أمية لإجبار أهل الذمة الذين دخلوا في الإسلام لاستمرار
دفع هؤلاء للخراج والجزية.
ومما هو جدير بالذكر أن سكان الدولة الإسلامية في ذلك
كانوا يتأثرون بأحوال الخلفاء؛ ففي عهد عبد الملك انصرف
الناس جميعًا إلى العناية بأمور الدولة، فإن حركة الإصلاح
العامة التي قام بها في الدواوين والمصالح العامة وفي
تنظيم شئون الدولة قد جعل الناس في عصره يهتمون بأمثال هذه
الأمور. فلما ولي ابنه الوليد وكانت في عهده الفتوح واليسر
والرخاء كثر البناء، وتخففت الأعباء عن كاهل المسلمين. وفي
عهد سليمان بن عبد الملك دبَّ الترف والبذخ اللذين كانا
يسيطران على البلاط إلى سائر الأرجاء. وفي عهد عمر بن عبد
العزيز، كان الناس يتدارسون القرآن، ويعملون على إحياء سنن
الشريعة، والانصراف إلى الزهد والنسك والتواضع. ولما ولي
يزيد والوليد الثاني عمَّ اللهو وانتشرت الخلاعة؛ لأن
الناس على دين ملوكهم. وفي عهد هشام كثرت عناية الناس
بتعمير الأرض وتقوية الثغور وحفر القنوات؛ لأنه كان مغرمًا
بهذا عاكفًا عليه.