الحركات العلمية والعقلية
مقدمة
قلنا في الفصل السادس من الباب الأول: إن الشام كان في العهد الأول من العصر الأموي مجالًا خصبًا لنشوء حركات علمية وأدبية لأسباب؛ منها أن الشام أرض عريقة في العلم والفن، ومنها أن تأسيس الدولة الجديدة اقتضى إيجاد حركة علمية وأدبية تلائم الحركات السياسية وتماشيها، ولكن طبيعة الإنشاء تقضي أن تكون الباكورة ساذجة؛ فلذلك لم نسمع بأثر كبير لهذه الحركات في تلك الحقبة.
- (١)
اتساع رقعة البلاد اتساعًا عظيمًا، اضطر الخلفاء إلى اتخاذ الكُتَّاب العديدين والتراجمة.
- (٢)
ميل الخلفاء إلى رفع شأن الخلافة والإسلام وتقوية مركزهما في العالم المُتمدن. ولا شكَّ في أن العلم والفن هما من أقوى دعائم الحضارة.
- (٣) اختلاط العرب بالطبقة المثقفة من أبناء الأمم المفتوحة من أهل الشام وفارس ومصر والأندلس. قال عبد الملك بن مروان في وصف الزعيم الشامي الخطيب العالم المشهور روح بن زنباع الجذامي إنه: «شامي الطاعة، عراقي الخط، حجازي الفقه، فارسي الكتابة.»٢
وصفوة القول هي أن بني أمية في هذه الفترة قد خطوا خطوات مفيدة في ترقية علوم الدين والأدب والفن والعلم — كما يتجلَّى ذلك فيما يلي:
(١) القرآن
- (١) عبد الله بن كثير (؟–١٢٠) المكي، وهو من الأئمة الفقهاء ومتقني القُرَّاء، تولى قضاء مكة، فيها نشأ وفيها مات.٣
- (٢) عاصم بن أبي النجود (؟–١٢٨) هو شيخ قُراء الكوفة، أخذ القراءة عن أبي عبد الرحمن السلمي وزر بن حبيش، وكان من المحدثين الثقات.٤
- (٣) عبد الله بن عامر اليحصبي (؟–١١٨) قارئ دمشق وقاضيها في خلافة عبد الملك.٥
- (٤) يزيد بن القعقاع (؟–١٣٢) شيخ قراء المدينة ومفتيها.٦
- (٥) حمزة بن حبيب الزيات التميمي (؟–١٥٦) من قُراء الكوفة وعالمها وزاهدها. قال الثوري: ما قرأ حمزة حرفًا من كتاب الله إلا بأثر.٧
- (٦)
أبو عمرو بن العلاء (؟–١٥٥) من قُرَّاء البصرة وأئمة العربية والأدب فيها. قال أبو عبيدة: كان أعلم الناس بالأدب والعربية والقرآن والشعر.
- (٧)
نافع بن عبد الرحمن (؟–١٦٩) من قُراء المدينة وفقهائها الأجلاء الزهاد.
(٢) الحديث
(٣) التفسير
(٤) الفقه
(٥) علم الكلام
(٦) الشعر
فمن شعراء بني أمية: أعشى ربيعة عبد الله بن خارجة (؟–٨٥)، ونابغة بني شيبان عبد الله بن محارق، وكان من شعراء عبد الملك وله معه أخبار كثيرة، وعدي بن الرقاع من شعراء الوليد، وأبو صخر عبد الله بن سليم الهذلي من شعراء عبد الملك.
ومن شعراء المهالبة: زياد الأعجم (؟–١٠٠)، وثابت ابن قطنة بن كعب من شعراء يزيد بن المهلب، وحمزة بن بيض (؟–١٢٠).
ومن شعراء الشيعة: الكميت بن زيد (؟–١٢٦)، وأيمن بن حزيم الأسدي (؟–٨٦).
ومن شعراء الخوارج: الطرماح بن حكم (؟–١٠٠)، وعمران بن حطان (؟–٨٩)، وإسماعيل بن يسار (؟–١١٠).
وهناك شعراء لم يدخلوا في معترك السياسة، بل انصرفوا إلى التشبب والغزل، وأكثرهم في الحجاز كابن أبي ربيعة (؟–٩٣)، وعبد الله بن عمر العرجي، وعبد الله بن قيس الرقيات (؟–٧٥)، وكُثيِّر عزة (؟–١٠٥)، والأحوص (؟–١٠٥)، ومجنون ليلى، وقيس بن ذريح، والأقيشر الأسدي، وليلى الأخيلية وصاحبها ثوبة بن الجمير، وأبو العطاء السندي وغيرهم.
(٧) الخطابة
كانت الخطابة بالغة أوجَها في عهد الراشدين والأمويين؛ لحاجة القوم إليها في حَثِّ الناس، وتبين سياسة الدولة ومناهجها، فالخلفاء والأمراء كعبد الملك وعمر بن عبد العزيز وابنا عبد الملك والحجاج وزياد وطارق بن زياد، وقد خلف لنا هذا العصر عددًا كبيرًا جدًّا من الخطب البليغة في عباراتها الغنية بأفكارها، وقد جمعت في جمهرة خطب العرب للأستاذ زكي صفوت.
(٨) علوم العربية
(٩) السيرة والتاريخ
(١٠) علوم الأقدمين
ويُراد بها علوم الحكمة والأخلاق والفلسفة والطب والرياضيات والفلك والمنطق والكيمياء والصيدلية. وقد كان المسلمون في هذا العصر يترجمون علوم اليونان بواسطة الترجمات السريانية، ثم أخذوا يترجمون عن اليونانية بلا واسطة. وللسريان فضل كبير في إحياء العلوم اليونانية، وكان لمدارس السريان التي أسَّسوها قبل الإسلام في الرها وقنسرين ونصيبين فضل كبير في تخريج العلماء حتى ما بعد الإسلام. كما كان لمدارس الفرس كمدرسة جنديسابور في خوزستان، وكان العرب يقصدونها للتعليم، ومن طلابها الحارث بن كلدة، طبيب العرب الأشهر. ولما قسا الرومان على العلماء والنصارى هاجروا إلى العراق وفارس، فنشروا علوم اليونان، ولما جاء الإسلام أفاد من خبرة هؤلاء بعد أن تعلموا العربية، واعتنقوا الدين، وترجموا كتب الأقدمين، ولكن ترجماتهم الأولى كانت مشوشة، فاضطر العرب أن يعيدوها ثانية في العصر العباسي، وكان الخلط بين أفلاطون وأفلوطين كثيرًا.
(١١) التدوين
(١٢) مجالي الحضارة
خطت الأمة العربية في هذا العهد خطوات عجيبة في مضمار الحضارة في المعاش والمسكن والسوق والمدنية، وازدهرت القصور والدور والمساجد والأسواق والمزارع لعناية الأمويين بذلك، وتدفق الأموال عليهم، ويمكننا إجمال القول في ذلك بما يلي:
البناء
وفي فلسطين بنى الأمويون مسجد قبة الصخرة، وهو من أروع المساجد زخرفة وفخامة في عهد عبد الملك، كما بنى عبد الملك مسجدًا ضخمًا إلى جانب قبة الصخرة، وهو المعروف اليوم بالمسجد الأقصى، وبمسجد عمر حيث أدَّى عمر الصلاة.
وفي دمشق بنى الوليد مسجد دمشق الأعظم والمستشفيات الكثيرة. وفي الحجاز وسَّع الوليد مسجد الحرم المكي ومسجد النبي، وجعلهما من أضخم المساجد. وفي حلب بنى سليمان مسجد حلب الأعظم.
التعليم
الفنون الجميلة
اضطرَّ الخلفاء لما أرادوا زخرفة المساجد والقصور والمشافي والحمامات إلى ترويج الفنون الجميلة من نحت وزخرفة وتصوير، ولكن لما حرَّم الإسلام تصوير الأشخاص فقد روى «البخاري ٧: ٦١»: «أَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَذَابًا عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْمُصَوِّرُونَ.» وجَّه الأمويون عناية فنانيهم من رجال الفسيفساء والتصوير والنحت إلى إتقان الزخارف والصور الخالية من الصور الإنسانية أو الحيوانية. وإن في الآثار الباقية إلى اليوم في مساجد دمشق والصخرة وقصر الحير وخربة الفجر والمشتى وقصر عمرة، لوحات رائعة للفن الإسلامي، ولكن يظهر أنهم كانوا يشذون في بعض الأحيان، فيصورون بعض الأناس والحيوانات في قصورهم وحماماتهم.