الوليد بن عبد الملك
(١) أوَّليته
(٢) خلافته
ثم تتابع الناس على البيعة. وكان الوليد موفقًا في اختيار رجاله، وهو إنْ فقد الحجاج فقد عوضه عنه بعدد من القُوَّاد الفاتحين المدبرين، نذكر منهم: قتيبة بن مسلم الباهلي، ومحمد بن القاسم بن محمد الثقفي، وموسى بن نصير، وعبد الرحمن الغافقي، الذين فتحت في عهدهم الهند والصين والأندلس وجنوبي فرنسة، وتوسع الملك الإسلامي إلى أقصى حدوده، كما سنرى. وفي عهده تمت عدة من المشاريع الاجتماعية والعمرانية والإدارية الخالدة التي سنتحدث عنها بعد.
(٣) الفتوح في عهده
فتوح المشرق
في سنة «٨٦» بعث الحجاج بن يوسف من قِبله قتيبة بن مسلم الباهلي أميرًا على خراسان، فأتاها ورتب أمورها، ثم سار حتى قطع نهر بلخ بجيش كثيف. وتلقف أخباره ملوك ما وراء النهر فخافوا، وتلقاه ملك الصغانيان بالهدايا وهو يحمل مفاتيح بلاده من ذهب، فدخلها، ثم سار إلى «أخرون» و«شومان» في طخارستان، فصالحه صاحبها، ثم انصرف إلى مرو، وبعث أخاه صالح بن مسلم ومعه نصر بن سيار لفتح كاشاه وأورشت في فرغانة، وأخسكيث مدينة فرغانة، وقد أبلى نصر بلاءً عظيمًا في تلك الفتوح خلَّد اسمه.
وفي سنة ٨٧ كتب قتيبة إلى نيزك طرخان صاحب باذغيس في إطلاق من عنده من الأسرى، فأطلقهم وكتب إلى قتيبة يسترضيه ويخضع له، فلما أمِن قتيبة جانب نيزك سار نحو بيكند، وهي أدنى مدائن بخارى إلى النهر، فاستنصر صاحبها بالصغد وتجمعوا عليه، فانقطعت أخباره عن الحجاج مدة شهرين، فقلق وأخذت الناس تدعو لهم في المساجد، وجَدَّ قتيبة في غزوه، فهزم عدوه وفتح بيكند، وقتل من كان بها من المقاتلة، وغنم المسلمون مغانم كثيرة، وأسرى لا يحصون، وكان فيهم رجل أعور، فقال لقتيبة: أنا أفدي نفسي بخمسة آلاف حريرة قيمتها ألف ألف، فاستشار قتيبة الناس فقالوا: وما عسى أن يبلغ كيد هذا؟ فقال قتيبة: لا والله. فأمر به فقتل، ثم رجع مسلم إلى مرو.
وفي سنة ٨٨ غزا نومشكت فصالحه أهلها، ثم اجتمع عليه الصغد والترك والفرغانيون في مائتي ألف فشتت شملهم وغنم.
وفي سنة ٨٩ غزا بخارى، ولم يتمكن من القضاء على ملكها فرجع، وجاء كتاب من الحجاج يقول له فيه: صوِّرها وابعث إليَّ بصورتها وما يُحيط بها من الجبال والسهول، فبعث بذلك إليه فأجابه بقوله: تُب إلى الله جلَّ ثناؤه مما كان منك، وأْتها من مكان كذا وكذا. فعمل قتيبة بما أشار عليه الحجاج فاستطاع فتحها في سنة ٩٠، وفتك بصاحبها وبمن جاء لنصرته من الصغد والترك، وقد أبلى الأزد وتميم في ذلك اليوم أحسن بلاء، وخرج خاقان وابنه، وكتب قتيبة إلى الحجاج يبشره بالنصر.
وفي تلك السنة اضطر ملك الصغد إلى مصالحته.
وفي تلك السنة تمكَّن قتيبة من فتح الطالقان.
وفي سنة ٩١ غزا شومان وكش ونسف، ففتحها وغنم عدة مغانم.
وفي سنة ٩٣ غزا ملك خوارزم فصالحه، ثم توجه إلى سمرقند ففتحها، وصالحه صاحبها غورك على ألفي ألف ومائتي ألف مثقال كل عام، وأن يعطيه بتلك السنة ثلاثين ألف فارس، وأن يخلوا المدينة لقتيبة فلا يكون لهم فيها مقاتل، فبنى فيها قتيبة مسجدًا ويدخل ويُصلي ويخطب ويتغدَّى ويخرج، فدخلها ولم يخرج، وأتى بالأصنام وكانت كالقصر العظيم، وأخذ ما عليها وأمر بها لتحرق، فجاءه غورك فقال له: لا تحرقها، فإن فيها أصنامًا إنْ أحرقتها أتلفتك. فقال: أنا أحرقها بنفسي. ثم كبروا حرقها فاحترقت، فوجدوا من بقايا مسامير الذهب خمسين ألف مثقال، وأصاب بالصغد جارية من بنات الملوك، بعث بها إلى الوليد، فولدت له ابنه يزيد، ثم رجع قتيبة إلى مرو.
فرد على أمير المؤمنين بكتاب شكر فيه نعمة الله عليه، وبلاءه في قتال الكافرين، واستمداده العون من الله.
وفي سنة ٩٦ غزا بلاد الصين ووصل كاشغر، وجمع مع المقاتلة عيالهم ليضعهم بسمرقند، فلما وصل أرض الصين كتب إليه صاحبها: أن ابعث إليَّ رجلًا يخبرني عنكم وعن دينكم، فبعث إليه بعشرة لهم جمال وألسن وبأس وعقل وصلاح، فلما أتوه سألهم عن حالهم وعن الإسلام، فأحسنوا إجابته وأخبروه أن قتيبة قد حلف ألا يعود حتى يطأ أرضكم ويختم ملوككم ويعطوا الجزية، فقال لهم: فإنا نخرجه عن يمينه، فنبعث إليه بتراب أرضنا فيطأه، ونبعث إليه ببعض غلماننا فيختمهم، ونبعث إليه بالجزية، فقبل قتيبة. وقد بلغه خبر موت الوليد فرجع بعد أن نشر لواء الإسلام في المشرق، وأباح للناس قراءة القرآن بالفارسية والتركية.
فتوح بلاد الروم
في سنة ٨٧ بعث الوليد أخاه مسلمة لغزو الروم، فوصل سوسنة من ناحية المصيصة، وفتح حصونًا وقتل منهم مقتلة عظيمة، وقيل إن الذي غزا هو هشام بن عبد الملك، وأنه فتح حصن لولق، وحصن الأحزم، وحصن بولس، وحصن قمقم.
وفي سنة ٩٢ غزا مسلمة بلاد الروم، ففتح حصونًا وجلا أهل سوسنة عنها إلى الروم.
وفي سنة ٩٣ غزا مسلمة ففتح ثلاثة حصون، وفي تلك السنة غزا العباس بن الوليد الروم، ففتح سبسطية والمرزبانيين وطرسوس، وفتح المصيصة وحصن الحديد، وغزالة من ناحية مليطة.
وفي سنة ٩٥ كان الغازي ببلاد الروم العباس بن الوليد، ففتح حصون طولس والمرزبانيين وهرقلة.
فتوح المغرب
وفي سنة ٩٣ (سنة ٧٦٢م) قدم موسى ففتح ماردة، ثم التقى بطارق فعاتبه وأنبه في سجنه، وعلم الخليفة بأمر طارق، فكتب إلى موسى بإطلاقه، فأطلقه وسارا لإتمام الفتح، فغنما إقليم «أرغونة» وقشتالة، وكتالونة، وسرقسطة، وبرشلونة، حتى بلغا جبال البرانس في عهد قصير، وتم لهم فتح الأندلس كلها، ولجأ أشراف الأندلس إلى الجبال الشمالية الغربية، ولم تقف أطماع القائدين عند هذا، وعزما على مواصلة الفتوح والوصول إلى القسطنطينية عن طريق البر، وجعل البحر الأبيض المتوسط بحرًا عربيًّا، ولما بلغ ذلك الوليد طلب إليهما الكف عن ذلك لما فيه من المغامرة، ثم إن الوليد طلب إلى القائدين أن يجيئاه، فرحل موسى إلى دمشق بعد أن ولَّى ابنه عبد العزيز على الأندلس، وبينما هو في الطريق بعث إليه سليمان أخو الوليد أن يتأخر في الطريق فإن الوليد مريض، وذلك طمعًا في استئثاره بالغنائم والتحف، فلم يلتفت موسى لقوله، واستمرَّ في طريقه حتى دخل دمشق، فحنق عليه سليمان وعزله حين تولى الأمر، وما إنْ دخل حتى مات الخليفة.
(٤) أعمال جليلة في عهده
توسيع مسجد الرسول ﷺ
كان الوليد مغرمًا بالعمران وإشادة المساجد والأماكن العامة؛ ففي سنة ٨٨ بعث الوليد إلى عامله على المدينة عمر بن عبد العزيز، يأمره بإدخال حجر أزواج الرسول في المسجد، وأن يشتري ما في نواحيه حتى يكون مائتي ذراع في مائتين، ويقول له: أن قدِّم القبلة إن قدرت، وأنت تقدر لمكان أخوالك، وأنهم لا يخالفونك، فمن أبى منهم فقوِّموا ملكه قيمة عدل، واهدم عليهم، وادفع الأثمان إليهم، فإن لك في عمر وعثمان أسوة حسنة. فأحضرهم عمر، وأقرأهم الكتاب فأجابوه إلى الثمن، فأعطاهم إياه.
في سنة ٩١ قَدِم الوليد إلى الحجاز فحجَّ بالناس، ثم قصد مسجد النبي ﷺ فأخرج الناس منه، وبقي سعيد بن المسيب ما يجترئ أحد من الحرس أن يُخرجه، وما عليه إلَّا ريطتان ما تساويان إلَّا خمسة دراهم في مصلاه، فقيل له: لو قمت! قال: والله لا أقوم حتى يأتي الوقت الذي كنت أقوم فيه. قيل: فلو سلَّمت على أمير المؤمنين؟ قال: والله لا أقوم إليه.
قال عمر بن عبد العزيز: فجعلت أعدل بالخليفة في ناحية المسجد رجاء ألَّا يرى سعيدًا حتى يقوم، فحانت من الوليد نظرة إلى القبلة فقال: مَن ذلك الجالس؟ أهو الشيخ سعيد بن المسيب؟ فجعل عمر يقول: نعم يا أمير المؤمنين، ومن حاله ومن حاله، ولو علم بمكانك لقام إليك، وهو ضعيف البصر.
قال الوليد: قد علمت حاله، ونحن نأتيه، فدار في المسجد حتى أتى القبر، ثم أتى سعيدًا فقال: كيف أنت أيها الشيخ؟ فوالله ما تحرك سعيد، ولا قام. فقال: بخير والحمد لله، فكيف أمير المؤمنين وكيف حاله؟
بناء مسجد دمشق
أعمال عمرانية أخرى
(٥) خاتمته ومناقبه
مات الوليد في دير مران للنصف الثاني من جمادى الثانية سنة ٩٦، وله من العمر ٤٢ سنة ونصف، وكانت خلافته تسع سنين وسبعة أشهر، ودفن خارج الباب الصغير، وصلى عليه عمر بن عبد العزيز، وكان الوليد من محاسن الخلفاء كما رأينا؛ لما سهل الله على يديه من الفتح، ولما تمَّ على يديه من العمران وضروب الإصلاح.
(٦) كبار الرجال في عهده
- (١) سعيد بن جبير الأسدي الكوفي (٤٥–٩٥) حبشي الأصل، تابعي جليل عالم، بل هو أعلم التابعين، أخذ العلم عن ابن عباس وابن عمر، وكان مع علمه ودينه بارعًا بالشطرنج، ولما خرج عبد الرحمن بن الأشعث على عبد الملك والحجاج، انضم إليه سعيد لتألُّمه من سيرة الحجاج وبطشه، فلما قُتل عبد الرحمن ذهب إلى مكة، فقبض عليه أميرها خالد القسري، وبعثه إلى الحجاج فقتله. قال أحمد بن حنبل: قتل الحجاج سعيدًا، وما أحد على وجه الأرض إلَّا وهو مُفتقرٌ إلى علمه.١٦
- (٢) سعيد بن المسيب (١٣–٩٤) المخزومي القرشي، سيِّد التابعين وأحد الفقهاء السبعة بالمدينة، جمع بين الزهد والورع والدين والعلم والفقه والحرمة والنبل، وكان يعيش من التجارة، لا يأخذ عطاء على علمه، وكان أحفظ الناس لأقضية عمر حتى سمي راوية عمر.١٧
- (٣)
يزيد بن المهلب بن أبي صفرة (٥٣–١٠٢) أمير قائد شجاع جواد، تولَّى خراسان سنة ٨٣ بعد أبيه، فمكث إلى سنة ٨٩، ثم عزله عبد الملك خوفًا منه، ثم حبسه الحجاج فهرب إلى الشام، فبقي في عهد الوليد بدمشق إلى أن مات الخليفة، ثم في عهد سليمان ولاه خراسان، وافتتح جرجان وطبرستان، ولما ولي عمر بن عبد العزيز عزله فحبسه بحلب، ولما مات عمر وثب غلمان يزيد فاستنقذوه، وسار إلى البصرة فغلب عليها، ونشب بينه وبين مسلمة بن عبد الملك حروب انتهت بقتله.
- (٤) خالد بن عبد الله بن يزيد القسري (؟–١٢٦) أمير العراقين، الخطيب الجواد، ولي مكة سنة ٨٩ للوليد، ولي العراق لهشام إلى سنة ١٢٠، وكان يُرمى بالزندقة، قُتل بالحيرة.١٨
- (٥)
موسى بن نصير اللخمي (؟–٩٧) كان أبوه من أهل الحجاز، واتخذه معاوية قائد جيشه، ونشأ موسى في خدمة بني أمية، بعثه الوليد واليًا على إفريقية سنة ٨٨، واستطاع أن ينشر الإسلام في إفريقية، وفي زمنه تم للمسلمين فتح الأندلس.
- (٦)
طارق بن زياد (١٠٢) بربري أسلم على يد موسى بن نصير، اتخذه موسى أميرًا على طنجة سنة ٨٩، وعلى يديه تم فتح الأندلس. استدعاه الوليد إلى الشام فقصدها مع موسى سنة ٩٦، وخاتمة حياته مجهولة.