الفصل الثاني
الدولة الأموية في الأندلس
فترة الإمارة
في الوقت الذي كان بنو العباس يستولون فيه على المُلك من بني
أمية في المشرق كان زمام أمر الأندلس منذ سنة ١٢٧ﻫ بيد قوية، هي يد
يوسف بن عبد الرحمن الفهري، الذي أراد فرض نفوذه على هذه الديار
والقضاء على الخوارج والبربر، ولعله كان يرمي إلى الاستقلال
بالأندلس بعد أن رأى الدولة الأموية تنهار، وتحل محلها الدولة
العباسية، وبينا كان يعد العدة لذلك؛ إذ فوجئ بمقدم أحد أفراد
البيت الأموي يفلت من أيدي العباسيين، ويدخل الأندلس عن طريق
إفريقية في «ربيع الآخر سنة ١٣٨ﻫ/أيلول سنة ٧٥٥م»، فرحب به أهل
الجنوب والمغرب، وكل من في الأندلس من المضرية واليمنية وأهل
الشام، وخاف يوسف بن عبد الرحمن الفهري مغبة الأمر، فجمع جموعه
وزحف نحو جيوش عبد الرحمن، فتلاقى الجمعان، وقُتل عدد كبير من جنود
الفهري، وتم النصر لعبد الرحمن، ودخل قرطبة فبايعه الناس بالإمارة
في ذي الحجة سنة ١٣٨، وعمل على توطيد الأمور ولم يكن عمره يومئذٍ
يتجاوز السادسة والعشرين؛ فأحسن السياسة والإدارة، وقضى بقية ملكه
الذي هو اثنتان وثلاثون سنة في كفاح وجهاد، حتى قضى على الثوار
والخوارج من أهل البلاد، وعلى الأعداء والكفار من خارجها، وثبَّت
أركان دولة جديدة لبني أمية.
وكان أول ما اهتمَّ به بعد أن استقرت له الأمور بعض الاستقرار
أنه تتبَّع فلول خصومه في الداخل فقضى عليهم، وفي طليعتهم يوسف
الفهري. وفي سنة «١٦٢ﻫ/٧٧٧م» ائتمر بعض خصومه — وفي طليعتهم صهر
يوسف الفهري — على إعلان ثورة عارمة، وتعاقدوا مع شارلمان ملك
الفرنجة على أن يزحف هو على الأندلس، وأن يشدوا أزره، فزحف في سنة
٧٧٨م، وبلغ حدود سرقسطة، ولكن عبد الرحمن اضطره على التراجع، وقُتل
عدد كبير من قادته، وفيهم القائد رولان الذي دافع دفاعًا قويًّا
خلَّد ذكره في القصائد الأدبية المعروفة بقصائد رولان الفرنسي
Chanson de Roland التي تعد من
أقدم الشعر الكلاسيكي وأعرقه.
وما إنْ قضى عبد الرحمن على خصومه حتى انصرف إلى تأسيس دولته
الجديدة على قواعد صحيحة وقوية، إلى أن مات في «ربيع الآخر سنة
١٧٢ﻫ/تشرين الأول سنة ٧٨٧م»،
بعد أن حكم الأندلس ثلاثًا وثلاثين سنة، فخلفه ولده هشام، وسار على
غرار أبيه في تنظيم شئون الدولة الزاهرة القوية، وكان حازمًا
عاقلًا عادلًا، قوي الإرادة، متين العقيدة، متحمسًا في دينه، أحسن
تصريف الأمور إلى أن توفي سنة «١٨٠ﻫ/٧٩٦م»، فخلفه ولده الحكم بعهد
أبيه، وكان شديدًا طاغية جبارًا ميالًا إلى اللهو إلا أنه كان مع
ذلك يتمتع بكثير من صفات الحكم كالعدالة، والحزم والدهاء، وقد
اكتشف في سنة «١٨٩ﻫ/٨٠٥م» مؤامرة واسعة، دبَّرها رجال الدين لخلعه،
فقد ضاقوا بلهوه ذرعًا، وفي طليعتهم الأئمة يحيى بن يحيى الليثي،
وعيسى بن دينار فقيه الأندلس، وطالوت الإمام المالكي، وقد أعانهم
في هذه المؤامرة نفر من الأعيان والوجوه كمالك بن يزيد التجيبي،
وموسى بن سالم الخولاني، وعيسى بن عبد البر، وأخيه أبي كعب، ويحيى
بن مضر القيسي، وعلى رأسهم بعض بني أمية وهم عمه مسلمة المشهور
بكليب، وأمية بن عبد الرحمن، ومحمد بن القاسم المرواني، ولكن الحكم
اكتشف مؤامرتهم ففر قسم منهم، وتمكن من قسم ففتك بهم وصلبهم، ولكن
العامة غضبت لهذا التصرف الجائر، وثارت في «الربض» بزعامة أحدهم
واسمه دبيل، فتمكن الحكم منهم وسحقهم دون ما رحمة، وهدأت الثورة
إلى حين ثم ثاروا ثورةً عنيفةً أذهبت عددًا من الضحايا، وهي التي
تعرف بثورة الحفرة في «١٩١ﻫ/٨٠٧م». ثم التفت الحكم إلى تهيئة جيش
كبير لغزو الفرنجة في الشمال، فأرسل عليهم عدة حملات كان آخرها
حملة سنة «٢٠٠ﻫ/٨١٥م»، فقد سيَّر الحاجب عبد الكريم بن عبد الواحد
بن مغيث إلى جيليقية، وكان الجلالقة وأخلافهم من الباسك «البشكنس»
يفسدون الحرث والنسل، فتوغل عبد الكريم في ديارهم وهزم جيشهم.
١
وفي أواخر عهد الحكم قامت ثورة داخلية عنيفة في ربض قرطبة، كادت
أن تطيح بعرشه لطغيانه وشدته، وكان من ورائها الفقهاء، ونفر من
الأعيان وعدد كبير من المولدين، وهم سكان البلاد الأصليين الذين
أسلموا، ولكنه تمكن من زعمائهم وصلبهم في سنة «٢٠٢ﻫ/٨١٧م»، وقضى
على روح الثورة، واجتث جذورها بكثرة من فتك بهم، فهدأت له الأمور
إلى أن أدركه الأجل في سنة «٢٠٦ﻫ/٨٢٢م»، فخلفه ابنه عبد الرحمن
الثاني وله من العمر ٣١ سنة، فقام بالأمر أحسن قيام، وبعث عدة
حملات عسكرية إلى جيليقية وبسكونية وغاليسيا، وقضى على عدة ثورات
داخلية قام بها مناوئوه من المولدين والثوار، وجهز عدة أساطيل لغزو
«الباليار»، فأخضع أهله لحكمه وغزا سواحل إيطاليا وفرنسا، وقضى على
كثير من الفتن الداخلية وشيَّد كثيرًا من المعاهد والمدارس، وأحيا
العلوم والآداب وازدهرت البلاد في عهده إلى أن هلك في سنة
«٢٣٨ﻫ/٨٥٢م»، وله واحد وستون عامًا؛ فخلفه ابنه محمد
(٢٣٨–٢٧٣ﻫ/٨٥٢–٨٨٦م)، فلم يكن في عهده شيء بارز. ثم لما هلك محمد
خلفه ولداه المنذر (٢٧٣–٢٧٥ﻫ/٨٨٦–٨٨٨م)، ثم عبد الله
(٢٧٥–٢٩٩ﻫ/٨٨٨–٩١٢م)، ولم يكن في عهدهما ما يستحق الذكر، كما أنهما
لم يكونا مُتصفين بشيء من الصفات النادرة، التي كان البيت الأموي
يتصف بها من إدارة وحزم وسياسة ودهاء وكياسة، وقد ظهرت في عهدهما
بعض الفتن الداخلية الكبيرة، وتآمر عبد الرحمن الثالث على جده
الخليفة عبد الله مع الحجام، فسمَّه بمبضع الفصاد
٢ فقتله وتولَّى الخلافة بعده، وقامت في عهد محمد وعبد
الله عدة ثورات داخلية، وانفصلت بعض المقاطعات عن الدولة مُعْلنة
استقلالها؛ كمقاطعة ألرية الجبلية وعاصمتها مدينة أرجذونة، حتى عقد
صاحبها معاهدة استقلال مع الخليفة محمد لقاء جعل من المال.
واستقلت مقاطعات أرغونة وسرقسطة وتطيلة، وتعهد أصحابها بنو
القسي، وهم من القوط المسلمين بدفع مبلغ من المال لقاء استقلالهم،
وتعاهدوا مع جيرانهم من الفرنجة في غاليسيا، وانفصلت مقاطعة طليطلة
بقيادة أصحابها بني ذي النون البربر، كما انفصلت مقاطعة إشبيلية
تحت زعامة بني الحجاج، الذين ينتسبون إلى سارة حفيدة غيطشة آخر
ملوك القوط. واستقلت مقاطعتا ماردة وباحة تحت إمرة عبد الرحمن
بن مروان الجليقي، كما استقلت قرطبة وما حولها بزعامة الأمير ابن
حفصون، وهو أحد نبلاء القوط، الذين تظاهروا بالإسلام، وتغلبوا على
قسم كبير من البلاد.
وقد أحسَّ المسلمون في أواخر عهد الأمير عبد الله أن البلاد قد
تجزَّأت، وأنها آخذة في الاضمحلال، وتحتاج إلى أمير كبير ينظم
أمورها ويوحدها، فكان عبد الرحمن الثالث هو ذلك الرجل
المنشود.