الدولة الأموية في الأندلس
تولى عبد الرحمن الثالث الإمارة في وقت عصيب، وكان عمره ٢٣ سنة، ولكنه كان يتمتع بمزايا جليلة؛ فنشط لاسترجاع الأمصار والمقاطعات المستقلة، ووسَّع الفتوحات الإسلامية، وأخذ يُعد العدة لخصومه في الجنوب من الفاطميين، وفي الشمال من الفرنج، فحمل على أنصار الخلفاء الفاطميين في شمال إفريقية، واستولى على قسم كبير من الأراضي التي ألحقوها بدولتهم، وغزا موانئهم بأسطوله الضخم الذي ضاهى أسطولهم، وبعث بجيوشه نحو الشمال، فغزا بلاد الباسك (البشكنس)، واستولى على كثير من قلاعهم، واستولى على بلاد «تافار».
شجرة الدولة الأموية الأندلسية في فترة الخلافة
ولما تمَّ له ذلك السلطان الواسع رأى أن الخلفاء العباسيين قد اضمحل نفوذهم وكثر منافسوهم، وبخاصة حين قوي الفاطميون ونازعوهم الخلافة، فرأى وهو ابن الخلائف الأمويين أن يُعلنَ خلافته، واتخذ لنفسه لقب «الناصر لدين الله»، وكان ذلك في «ذي الحجة ٣١٦ﻫ/كانون الثاني سنة ٩٢٩م».
فلما مات خلفه الحكم الثاني (٩٦١–٩٧٦م) وتلقب بالمستنصر بالله، وكان أحسن سيرة وعدلًا من الناصر، وفي زمانه حاول الأمير «أرذون» استعادة عرش مملكته ليون فلم يفلح، وانصرف المستنصر إلى الإصلاح والعمران وبعث البعوث، وبناء الدور والقصور، وإشادة الجوامع والجامعات، وفي عهده ازدهرت جامعة قرطبة التي أسسها عبد الرحمن الثالث أيما ازدهار لما كان يتمتع به من حب العلم، ورعاية أهل الفكر، ولم يضارعها في العالم جامعة سوى جامعة المدرسة النظامية في بغداد، وجامعة الجامع الأزهر في القاهرة.
فلما مات الحاجب المنصور بدين الله في سنة ١٠٠٢م وكان هو القوة الناظمة لشئون الدولة، والمحرك الحقيقي لجهازها، والدكتاتور المطلق في أمورها وأعمالها الإدارية والثقافية والعمرانية والحربية، وبموته خلت الساحة، وظلَّت الأندلس طوال قرابة قرن مسرحًا للطامعين من العرب والبربر والصقالبة والقوط، على الرغم من أن الحاجب المنصور كان قد سمَّى ابنه عبد الملك المظفر خلفًا له فجعل الحجابة وراثية، ولكن المظفر بن المنصور لم يستطع أن يملأ فراغ أبيه على ما كان عليه من الصفات إلى أن مات في سنة ١٠٠٨م مسمومًا، فخلفه على الحجابة أخوه عبد الرحمن بن المنصور، وكان أهوج أخرق، فأعلن أنه صاحب الحق في الخلافة، وثار الناس عليه لذلك، ولم يكن الخليفة قويًّا ليستطيع أن يضعه عند حدِّه، وكان الحكام الحقيقيون هم الأجناد ومتغلبة الوجوه من أهل قرطبة أو الصقالبة أو البربر أو القوط، إلى أن انتهى الأمر بتنازل هشام عن الخلافة لابن عمه محمد في سنة ١٠٠٩م فتلقَّب بالمهدي، فلم يكن أحسن سيرةً من ابن عمه؛ فقد كان مهملًا سكيرًا، فخلع بعد فترة قصيرة، ثم استخلف ابن عمه سليمان، ثم ابن عمه عبد الرحمن الرابع، ثم ابن عمه عبد الرحمن الخامس، فكانوا كلهم ضعافًا مغلوبًا على أمرهم يُستخلفون ويخلعون، وقد عرف ثلاثة منهم بأنهم وُلُّوا الخلافة غير مرة وخُلعوا عنها غير مرة، وبويع أحدهم (هشام الثاني) مرتين وخُلع مرتين ثم ضاع! أما عبد الرحمن الخامس المُلقَّب بالمستظهر بالله فكان على الرغم من سذاجته خليفة صالحًا، وقد استطاع وزيره العالم الفقيه ابن حزم الأندلسي أن يرفع من شأنه بين العامة بعض الشيء، ولكن ما لبث أن ساءت سيرته فيهم، فثاروا عليه فاختبأ منهم وتعقَّبوه، فهرب من قميم حمام، وأُخرج وهو في قميص مسود وعلى شكلٍ مزرٍ، فجيء به إلى محمد الثالث الملقب بالمستكفي وضُربت عنقه بين يديه، ولم يكن محمد المستكفي أصلح من أسلافه، فقد كان همه منصرفًا إلى الطعام والنساء، ولم تكن نهايته أحسن من نهاية سلفه، فقد ثار الناس عليه وخرج متزييًا بزي النساء، وانتهى به المطاف أن سمَّه بعض حاشيته سنة ١٠٢٥م، وتغلبوا على البلاد، وضاع شأن الخلافة، إلى أن كانت سنة ١٠٢٧ فظهر أحد أبناء هذه الأسرة، وهو هشام بن محمد بن عبد الملك بن عبد الرحمن الناصر فاستعاد عرش الأمويين، وتلقب بالخليفة المعتد، ولكنه لم يستطع أن يمتلك زمام الأمور، فضاق أهل قرطبة بالخلافة والخلفاء وخلعوه في سنة ١٠٣١م، وهكذا انقضى عهد الخلافة الأموية في الأندلس، وتولى الأمر ملوك الطوائف في المقاطعات.