فترة الطوائف
انقضى عهد الخلافة الأموية في الأندلس، وقامت على أنقاضها طوائف متعددة، تُشكل دويلات صغيرة في شبه الجزيرة كلها؛ فقرطبة وما إليها تحت تصرف بني جهور، وإشبيلية ومقاطعاتها تحت سلطان بني عباد، وغرناطة وما حولها تحت إمرة بني زيري من البربر، وغرناطة وجوارها تحت إدارة وزير يهودي يُسمَّى إسماعيل بن نغرالة «صمويل بن نجزيله»، ومالقة والمقاطعات المجاورة لها تحت إدارة بني حمود، ثم انتقلت إلى بني زيري، وطليطلة تحت إدارة بني ذي النون البربر، وسرقسطة وما حولها خاضع لحكم بني هود.
وهكذا تفسَّخت بلاد الأندلس، تفرق أهلها مذاهب وأحزابًا، وكان النفوذ البربري هو الغالب، بينما أخذ ظل السلطان العربي ينزوي. ومما هو جدير بالذكر أن الإسلام إنما استطاع أن يثبُت في الأندلس بعض الوقت على الرغم من تناحر أهله، فما ذلك إلا لتناحر خصوم المسلمين من قادة النصرانية وملوكها، وأنهم حين استطاعوا توحيد كلمتهم استطاعوا ضرب الإسلام في الصميم، وقضوا على آخر معاقله في شبه الجزيرة.
وليس في تاريخ هذه الأسر المتغلبة ما يستحق الذكر، كما أنه ليس من بينها أسرة يجدر أن نُعنَى بها إلا أسرة بني عبَّاد أصحاب إشبيلية.
(١) المرابطون
كانت قبيلة لمتونة — وهي إحدى قبائل صنهاجة البربرية — ممتدة مضاربها من بلاد السنغال حتى شمالي إفريقية، وقد نبغ فيها بعض الزعماء السياسيين، وأشهرهم يحيى بن إبراهيم الجدالي، فرأى أن يبني حركته السياسة على حركة دينية، فذهب إلى الحج سنة (١٠٤٨-١٠٤٩م)، واتصل في مراكش أثناء عودته بالفقيه عبد الله بن يس الجزولي الصوفي فاستقدمه معه، وأسكنه مع نفر من متصوفي قومه ومجاهديهم في جزيرة بالسنغال، وابتنى لهم رباطًا، فأخذ الإمام الجزولي يشرح لهم عقائد الدين، وبيَّن لهم فضائل الجهاد والرباط في سبيل الله، ثم تكاثر هؤلاء المريدون المرابطون، فاستعان بهم يحيى الجدالي على محاربة أمراء الأطراف، وعظم نفوذه ولم يمت في سنة ١٠٥٦م، حتى ترك لأخيه أبي بكر وابن عمه يوسف بن تاشفين أُسس دولة فتية قائمة على أسس متينة من الدين والاستبسال في نصرته؛ وأخذت هذه الدولة تستولي على الأطراف حتى كانت سنة ١٠٦٢م، فابتنى يوسف بن تاشفين مدينة مراكش، وجعلها عاصمة لدولته الجديدة، ثم استولى على فاس في سنة ١٠٧٠م، وعلى طنجة في سنة ١٠٧٨م، ثم امتدَّ سلطانه ما بين سنتَي ١٠٨٠–١٠٨٢م على جميع إفريقية الشمالية من المحيط الأطلسي حتى بلاد الجزائر.
(٢) دولة الموحدين
ما إنْ زالت دولة المرابطين حتى ظهرت دولة المُوحدين، وهم جماعة من البربر ينتهون إلى قبيلة معمودة البربرية القوية، وكان مبدأ دعوتهم أن أحد الفقهاء المثقفين الذين تلقوا العلم في المدرسة النظامية ببغداد، واسمه محمد بن تومرت المهدي، رأى الجهالة التي حلَّت بقومه، وفساد الوضع الاجتماعي والديني، فآلى على نفسه أن يقوم بحركة تهدف إلى إحياء الدين، والقضاء على البدع والضلالات، وتعمل على بث التوحيد، وعاضده في حركته الإصلاحية الدينية زعيم سياسي اسمه عبد المؤمن بن علي من قبيلة زنانة البربرية، فاتفق الرجلان على القيام بهذه الحركة الدينية الدنيوية، وتعهد عبد المؤمن بأن يتولَّى الحركة الدنيوية، ويقود جماعات الموحدين لنشر دعوتهم، فامتدت الحركة حتى استولت على بلاد مراكش وفاس، وجبال الأطلس إلى أن مات ابن تومرت في سنة ١١٣٠م، فقام عبد المؤمن بأعباء الدعوة، وعظم سلطانه. وكانت دولة المرابطين في دور النزاع، فاستولى على أملاكها في شمالي إفريقية، ثم بعث قائده الأمير برَّاز إلى الأندلس، فقضى على بقايا المرابطين، ووسَّع رقعة الإمبراطورية الموحدية.
ولما مات مؤسس دولة الموحدين عبد المؤمن في سنة ١١٦٣م خلفه ولده أبو يعقوب يوسف (١١٦٣–١١٨٤م)، ثم حفيده يعقوب المنصور (١١٨٤–١١٩٩م)، فسارا على غرار عبد المؤمن، وتوسَّعت رقعة الدولة، فبلغت من المحيط الأطلسي إلى حدود مصر مع سائر بلاد الأندلس.
ولما مات المنصور سنة ١١٩٩م خلفه ابنه محمد الناصر (١١٩٩–١٢١٤م)، وتجمعت ملوك الفرنجة في عهده لقتاله والقضاء على الإمبراطورية الموحدية، فلقيهم بجيش عدده تسعة وخمسون ألف مقاتل، فمزقوا شمله وهرب الناصر إلى مراكش. وتعاقب على الملك بعده تسعة نفر من أسرته، لم يكن في سيرتهم ما يستحق الذكر إلى أن سقطت دولتهم بيد بني مرين البربرية في سنة ١٢٦٩م.
أما الأندلس بعد انهزام الناصر فقد تقاسمها أمراء الفرنجة وبعض متنفذة المسلمين، ومن أشهرهم بنو نصر أصحاب آخر دولة مسلمة في الأندلس.
(٣) دولة بني نصر
قام بعد القضاء على دولة الموحدين أمير مسلم عظيم في سنة ١٢٣١م، يحاول الوقوف أمام ملوك النصارى، وهو محمد بن يوسف بن أحمد بن نصر المعروف بابن الأحمر، مؤسس دولة بني نصر أو دولة بني الأحمر، وكان محمد رجلًا قويًّا حازمًا، أعلن إمارته على الأندلس، واستولى على بلاد جيان، ووادي آش، وبسطة، وغرناطة، ولما سقطت غرناطة بيد النصارى في حزيران سنة ١٢٣٥م، حاول محمد أن يستردها فلم يُفلح، واضطر أن يصالح الملك فرديناند الثالث صاحب قشتالة (١٢١٧–١٢٥٢م)، وظل على ذلك إلى أن مات، فخلفه ابنه محمد الثاني (٦٧١ﻫ/١٢٧٢–١٣٠٢م)، وحاول أن يتحلل من معاهدة الصلح مع فرديناند ومن الجزية التي كان يدفعها أبوه إليه، فاتصل ببني مرين أصحاب مملكة مراكش، وطلب إليهم أن يعاونوه على فرديناند، فأنجده السلطان أبو يوسف المريني، كما أنجد المرابطون والموحدون ملوك الأندلس ضد النصارى من قبل، وزحفت جيوش بني مرين على الأندلس، ولكنها لم تستطع أن تقضي على النفوذ النصراني، فعمد محمد الثاني إلى المخاتلة والمراوغة، وعقد معاهدات مع ملك قشتالة، واستطاع أن يأمن شره، ويعيش فترة من الزمن في هدوء وسكينة، استطاع أن يُعنى فيها بأمور البلاد وعمرانها، فشيد بعض القصور والأماكن العامة، وأجلُّها وأشهرها «قصر الحمراء» الخالد في غرناطة، التي غدت كالبقعة البيضاء في البساط الأسود، فقد استولى النصارى من أصحاب قشتالة وليون على كل بقاع الأندلس إلا عليها. في سنة «٥١٢ﻫ/١١١٨م» كانت قد سقطت مدينة سرقسطة. وفي سنة «٥٢٤ﻫ/١١٣٠م» سقطت مدينة تطيلة. وفي سنة «٥٤١ﻫ/١١٤٧م» سقطت مدينة إشبونة، وفي سنة «٥٤٢ﻫ/١١٤٨م» سقطت مدن طرطوشة ولادة وأفراعة. وفي سنة «٦٢٧ﻫ/١٢٢٩م» سقطت جزيرة ميورقة. وفي سنة «٦٢٨ﻫ/١٢٣٠م» سقطت ماردة وبطليوس. وفي سنة «٦٣١ﻫ/١٢٣٣م» سقطت مدينة أبدة. وفي سنة «٦٣٣ﻫ/١٢٣٦م» سقطت مدينة قرطبة. وفي سنة «٦٣٤ﻫ/١٢٣٧م» سقطت بياسة وأستجة والمدور. وفي سنة «٦٣٦ﻫ/١٢٣٨م» سقطت مدينة بلنسية. وفي سنة «٦٣٨ﻫ/١٢٤٠م» سقطت شاطبة ودانية. وفي سنة «٦٤٠ﻫ/١٢٤٢م» سقطت مدينة لقنت وأريولة وقرطاجنة. وفي سنة «٦٤١ﻫ/١٢٤٣م» سقطت مرسية. وفي سنة «٦٤٤ﻫ/١٢٤٦م» سقطت مدينة جيان. وفي سنة «٦٤٦ﻫ/١٢٤٨م» سقطت مدينة إشبيلية، ولم يأتِ منتصف القرن السابع للهجرة حتى أضحت مقاطعات الأندلس الشرقية والوسطى تحت يد النصارى، ولم يبقَ بيد بني الأحمر إلَّا بعض المدن الصغيرة.