الحضارة الأندلسية والحركات العلمية
ازدهرت الحضارة الإسلامية في الأندلس أيام الخليفة عبد الرحمن الثالث، فقد حكم نحوًا من خمسين عامًا (٩١٢–٩٦١م)، عمل فيها على السير بالبلاد قُدُمًا في سبيل العلم والفن، بعد أن وطَّد أبوه وجده دعائم السيادة والقوة فيها، واعتنى بكلِّ نواحي الحياة من زراعة وتجارة وصناعة وعمران، كما اعتنى بمجالي الحياة الزاهية من ملاعب وحدائق.
أما الآثار العمرانية التي خلفتها الحضارة الأندلسية فهي كثيرة، وما يزال كثير من أطلالها وأشخاصها ماثلًا، وأجلُّها:
(١) جامع قرطبة الأعظم
الذي بدأ به مؤسس الأسرة الأموية في الأندلس سنة ٧٨٥-٧٨٦م، ودام البناء فيه اثني عشر شهرًا، استعان فيها ببعض المعماريين القوط، وبأطلال من المعابد القديمة، وتعاقب الأمراء الأمويون بعده على توسيعه وتكميله، فشيد هشام الأول مئذنته، وزاد عبد الرحمن الثاني أروقته ومحاريبه، ورفع محمد الأول مقصورته، وشيد عبد الرحمن الثالث منارته العظيمة ٩٥١م، وزاد الحكم الثاني امتداد أروقته الاثني عشر، وشيَّد إلى جانبه دارًا ذات ثماني زوايا، تعلوها قبة معقودة على رخامات حلزونية الشكل، ومقصورة جديدة لها أقواس متقاطعة مفلطحة وقبب ذات أضلاع رائعة الشكل، وفي زمن الحاجب المنصور زيدت أروقة الجامع فبلغت تسعة عشر، وفي كل رواق خمسة وثلاثون عمودًا، وأحيط الجامع بسور ذي شرفات عالية، وواحد وعشرين بابًا شامخًا مزدانًا بالرخام والنحاس المكفت، وفي وسط الجامع حوض عظيم للوضوء تقوم من حوله أعمدة تحمل عقودًا من الرخام للزخرفة والزينة.
ومن الآثار العمرانية الجليلة التي لم يبقَ لنا منها اليوم إلَّا اسمها ووصفها:
(٢) مدينة الزهراء
التي روى المؤرِّخون أن الخليفة عبد الرحمن الثالث قد سماها باسم جاريته المحبوبة «زهراء»، وشرع في بنائها سنة ٩٣٦م على أسفل الجبل المعروف بجبل العروس، شمالي قرطبة، وأن عشرة آلاف عامل ظلوا يعملون فيها خمسًا وعشرين سنة، وكانت مُكوَّنة من ثلاث طبقات؛ أقيمت في الطبقة الأولى البساتين والحدائق والأنهار، والطرقات المؤدية إلى الطبقة الثانية التي جعلت للموظفين والخدم والإماء والموالي والحرس، وكانت الطبقة الثالثة مقرًّا للخليفة وأسرته ورجال بلاطه، وأعظم ما في هذه الطبقة قاعة العرش والاستقبال المبنية بالرخام والمرمر وصفائح الذهب، وفي وسطها تشرق «الجوهرة المضيئة» التي أهداها إليه الإمبراطور «ليو» البيزنطي ملك القسطنطينية، ويذكر المؤرخون أن أبواب الزهراء كانت ثمانية مصنوعة من الرخام الملون والبلور والأبنوس والنحاس المكفت والعاج، وأن غرفة نوم الخليفة كانت رائعة بفسقيتها الفخمة المزدانة بتماثيلها الذهبية الاثني عشر، وأن طول القصر كان ٢٧٠٠ ذراع، وعرضه ١٥٠٠ ذراع، وفيه ألف وخمسمائة باب وأربعة آلاف وثلاثمائة عمود، وقد تهدم أكثر هذه المدينة في ثورة البربر سنة ١٠١٠م، أما اليوم فلا يُعرف لها أثر، ويظن أن أكوام الردم الواقعة في «قرطبة القديمة» على مسافة ميل من المدينة الجديدة هي أطلال مدينة الزهراء.
ومن الآثار العمرانية الخالدة الباقية:
(٣) مدينة الحمراء
التي أشرنا إليها في كلامنا عن دولة بني نصر، فقد شيدت في ساحة من أعظم ساحات غرناطة من الآجر المتقن الجميل، على شكل هندسي رائع ممتاز بعقوده وأقواسه وقبابه وزخارف سقوفه، ويحيط بالمدينة ساحتان واسعتان تؤديان إلى جنان واسعة تؤدي إلى مدخل القصر، وفي الجنوب ساحة واسعة تُسمَّى ساحة الريحان تؤدي إلى البرج الأعظم، والقاعة الكبرى المعروفة بقاعة السفراء، ويتصل الحريم الجنوبي الشرقي لساحة الريحان بدار عظيمة عُرِفت بدار الأسود التي تؤدي إلى قاعات الحكم، وإلى يمينها دار ابن سراج، وإلى يسارها دار الأختين.
أما دار الأسود، فهي مدينة صغيرة سميت بذلك للأسود الرخامية الفخمة الجميلة التي تُزيِّن باحتها وتحمل بركتها، وتزدان جبهة هذه الدار بصور مشاهد الصيد والطرد، وصور عشرة أشخاص من الأمراء متكئين على سُرر وأرائك، وقد فرشت أرض الدار بالمربعات الرخامية البيض، وترتيب أسافل حيطانها بالقاشاني الملون بعلو أربعة أقدام، ومن فوقها أفاريز خشبية رائعة الحفر والنقش، ومن فوقها كان السقف ذو المتدليات، ومن تحته العمد الرشيقة والقناطر ذات شكل نعل الفرس، ويحيط بالجدران نقوش وزخارف رائعة لا حدَّ لها، وقطع قاشانية بديعة وأشكال رخامية متقنة، وخطوط هندسية ونجوم ومثمنات، وصور نباتات يحار البصر في إدراك مبتداها، ومن فوق ذلك نقوش خطية جميلة متعددة امتدت على طول الإفريز والتفت حول القناطر والكوى والنوافذ، وقد انتشرت في جنبات القصر كله زخارف ودهانات ونقوش بألوان ساحرة متناسقة بالغة الروعة، والحق أن هذا القصر على الرغم من مرور الأعوام على بنائه ما يزال رائعًا جديدًا فخمًا شاهدًا على عظمة الفن العربي وروعته وخلوده.
هذا وصف موجز لبعض مظاهر الحضارة الأندلسية من الناحية العمرانية، فأما من الناحية العلمية فقد عُني الأندلسيون بالفقه الإسلامي واللغة العربية والفلسفة، وقد نبغ فيهم أو عاش بينهم نَفَرٌ من الفحول؛ كابن مسرة الفيلسوف، وأبي علي القالي اللغوي، وابن القوطية المؤرخ، وابن درَّاح الشاعر، وابن شهيد الكاتب، وداود بن علي الأديب، وابن حزم العبقري المؤلف، وأبي القاسم الزهراوي الطبيب، وابن طفيل وابن رشد الحكيمين، ومحيي الدين بن عربي الصوفي، وابن الخطيب وابن خلدون المؤرخين.