الحركات الحداثية والتقليد الثقافي
إن «الأرض الخراب» لإليوت في اعتقادي هي التبرير «لحركة» تجربتنا الحديثة منذ عام ١٩٠٠.
إن المناخ الفني هنا لا يمكن أن يدعم أي شيء بخلاف الأشياء الأحدث، والأجدد، والأكثر عصرية، والدادائية، والسيرك، والمنوعات، وموسيقى الجاز، والإيقاع المحموم، والسينما، وأمريكا، والطائرات، والسيارات. تلك هي آفاق تفكير الناس هنا.
التعاون الحداثي
في جميع الحقب الزمنية، يميل الفنانون الكبار لمعرفة أحدهم الآخر، وتعاونهم (أو تنافسهم، كما في حالة بابلو بيكاسو وهنري ماتيس) يتأتى من منطلق «ما الذي يجري؟» وهذا المنطلق يمكن أن يتجاوز ذلك الخاص بأي حركة فنية مقيدة ببيان مبادئ. وربما كان كلود ديبوسي هو أول شخص يسمع «طقوس الربيع»، بالجلوس إلى البيانو لعزفها مع ملحنها، الذي كان أيضًا صديقًا لموريس رافل، وإريك ساتيه، وجان كوكتو، وأندريه جيد، وبول كلاودل، وبول فاليري، وبابلو بيكاسو، وفرناند ليجيه، وأندريه ديرين. وكان بيكاسو، شأنه شأن سترافينسكي، على معرفة وثيقة بالحركة الطليعية الباريسية في جميع الفنون، منذ تصميمه البارع لغلاف مقطوعة سترافينسكي «راجتايم»، الذي أتى من خلال توصية بليز سندرار لدار نشر «إيسيون دي لا سيرين»، وتصميماته لباليه «العرض» لساتيه، الذي أنتجه سيرجيه ديجليف. وغالبًا ما تُستقى معلومات عن تطور الفن في السير الذاتية أكثر من تلك المستقاة من البيانات أو دعاية النقاد؛ فالتفاعلات العملية المثيرة للأنظار بين سترافينسكي، ورافل، وساتيه، وليون باكست، وألكسندر بينوا، وماتيس، وبيكاسو، وكوكتو، وجيد، وكثيرين آخرين داخل فرقة الباليه الروسي، هي التي أدت للأعمال ذات الطابع الطليعي الواضح، مثل: «طقوس الربيع» و«العرض»، وكذا لأعمال أكثر تقليدية في الفكرة، ولكنها تظل حداثية أسلوبًا، مثل: «الكرنفال» المأخوذة عن شومان، أو «الغزلان» لفرانسيس بولانك. وقد كانت فرقة الباليه الروسي من أماكن التجمعات الحداثية البارزة، لا سيما لقدرة ديجليف الفريدة على حث الفنانين الطليعيين على العمل معًا.
هذا النوع من التعاون بين الفنانين، وكذلك التعاون الذي قام بين مجموعة بروك للرسامين التعبيريين (إرنست لودفيج كيرشنر، وإيريش هيكل، وماكس بيشتاين وآخرين) أو بين شونبرج وآلبان بيرج وأنطون ويبرن، الذين عملوا جميعًا معًا بودٍّ وصداقة خالصة، هو الذي منحهم، ومنحنا أيضًا، معنى «الحركة الحداثية» كنزعة عامة في ذلك العصر، مثلما حدث عندما قرأ باوند وإليوت الحلقات الأولى من رواية جويس «يوليسيس» في النسخة المطبوعة، وأدركا أن التوازيات بين الماضي والحاضر يمكن أن تتاح من خلال الإشارة الضمنية، وبعدها كتبا «الأناشيد» و«جيرونشن» و«الأرض الخراب». ويمكن قراءة مقاله «التقليد والموهبة الفردية» (١٩١٩)، بما يحمله من تأييد لوجود وعي لدى المؤلف بأن «كل الأدب في أوروبا بدءًا من هوميروس، وفي القلب منه كل أدب بلاده، له وجود متزامن، ويشكِّل نظامًا متزامنًا» كتبرير لأعمال المؤلفين الثلاثة في هذا الوقت. ومع ذلك، فغالبًا ما تُترك لنا مهمة استنتاج النوايا الفنية؛ لأن الحداثيين العظماء لم يكونوا دائمًا يشرحون أفكارهم أو يكتبون بيانات؛ فقد ابتكر بيكاسو وبراك الحركة التكعيبية دون أن ينبسا بكلمة واحدة توضيحية عنها؛ فقط اكتفيا بمشاهدة ومناقشة النشاط العملي أحدهما للآخر في الاستديو. ويمكننا فقط استنتاج ما طرأ عليهما من «تطور» في الفترة من عام ١٩٠٧ إلى ١٩١٥ من التكعيبية «التحليلية»، والتي تُعنَى في الأساس بتشويه هندسي وعر لجسم الشيء من وجهات عديدة، في نوع من الوحدة اللونية، مع وجود دلائل قليلة للغاية على اللون المحلي (بحيث يمكن أن يبدو رأس في لوحة وكأنه منظر طبيعي لصخور) نحو تكعيبية «تركيبية» أكثر استيعابًا، وتستخدم ألوانًا أكثر بكثير، وأشكالًا هندسية أكثر تسطُّحًا، ويمكن أن تبدو كعناصر مُجمَّعة على سطح لوحة من قماش القنب.
حتى الأشكال الأكثر إثارة على مستوى الوعي الذاتي والمستوى السياسي من الاستفزاز الفني، مثل «بيانات الحركة المستقبلية» العديدة (عن الرسم، والموسيقى، والرغبة، وما إلى ذلك) غالبًا ما لا تعدو كونها مجرد تحالفات مؤقتة بين الفن والفكرة. وقد كان المستقبليون والدادائيون، على الجانب الآخر، يسيرون على نفس نمط هؤلاء الذين كانوا يفضلون العمل في إطار اتجاه نظري متشدق، كان يدَّعي أنه «طليعي» من خلال انتشار الأفكار الثورية. ثمة تطورات أخرى في البيانات كانت أكثر توجهًا نحو الجانب الفني؛ ومن ثم يقوم باوند بدفع إف إس فلينت لكتابة بيان للشعر التصويري يؤيد «المعالجة المباشرة «للشيء»، سواء كانت موضوعية أم ذاتية»، والتركيب «في تسلسل الجملة الموسيقية»، وما إلى ذلك.
مفاهيم التطور: الفن والتجريد
كانت مثل هذه الأفكار في غاية الأهمية بالنسبة للحداثة كحركة فنية منغمسة في حقبة من حقب التغير الفكري الكبير. وهكذا لا يكون هناك غرابة في أن أصبحت الأفكار الخاصة بالتطور «الضروري» للفن جزءًا مهمًّا من الحركة في العموم؛ وكان هذا يعني أن التفسير النقدي كان لازمًا تمامًا مثل البيانات. ومن الأمثلة الجيدة على نوعية التغير الحداثي التي كانت بحاجة إلى تفسير وشرحٍ نمو التجريد في الرسم، والذي انطوى على هدم لتقاليد واقعية القرن التاسع عشر، من أجل صناعة فن حداثي يرفض أي أهداف نحو التحلي بشفافية خانعة، حتى وإن كانت عبقرية، تجاه العالم. ولذلك أصر على وجود وعي المشاهد بالتقاليد الخاصة بالعمل الفني، ومن ثم جلب علاقة إيحائية أكثر انحرافًا بكثير تربط العمل بالعالم.
لون الزنجفر يجذب ويهيج كشعلة لهب يركز عليها رجل نظرته الجائعة؛ فلون أصفر ليموني متوهج يسبب ألمًا بعد فترة، تمامًا مثلما تؤلم النغمات العالية للبوق الأذن؛ فتزداد العين تهيجًا، ولا تستطيع تحمل الأثر لفترة طويلة للغاية، وتبحث عن سلام عميق في الأزرق أو الأخضر.
هذا البحث عن تناغم مجرد للخطوط من أجل إيقاع متناغم قد تم الوصول به إلى حدود بعيدة غالبًا ما تحرم الشكل من كل لمحات الطبيعة. إن التأثير العام للوحات ماتيس هو تأثير أقرب للعودة إلى الفن البدائي، بل ربما عودة إلى الفن البربري … إن الفن البدائي، مثل فن الأطفال، لا يقوم على محاولة لتجسيد ما تدركه العين بقدر ما يقوم على محاولة لوضع خط حول تصور ذهني للشيء.
لا بد أن ينتج عن العلاقة التي وجدتها في جميع الدرجات اللونية تناغم حي بين الألوان؛ تناغم مماثل لتناغم مقطوعة موسيقية.
لا يبحث هؤلاء الفنانون الآن عن إعطاء ما يمكن، في النهاية، ألا يكون سوى صورة منعكسة باهتة للمظهر الفعلي، ولكن يبحثون عن إيقاظ القناعة بحقيقة جديدة وقاطعة. إنهم لا يسعون لتقليد الشكل، وإنما يسعون لخلق شكل. لا يسعون لمحاكاة الحياة، بل لإيجاد مكافئ للحياة. أعني بذلك أنهم يتمنون خلق صور من شأنها، من خلال وضوح بِنْيَتها المنطقية ووحدة تركيبها المحبوكة بدقة، أن تروق لخيالنا الفاتر والمتأمل بشيء بنفس الإشراق والوضوح مثلما تروق الأشياء في الحياة الواقعية لأنشطتنا العملية. في الواقع، هم لا يستهدفون الخيال، بل يستهدفون الواقع.
إن هذا يؤكد على تأملنا للعمل الفني في حد ذاته، وهو أمر في غاية الأهمية؛ فنحن نستشعر «تلك الوحدة الزخرفية للتصميم التي تميز جميع فناني هذه المدرسة». وماتيس، على وجه الخصوص، إنما «يستهدف إقناعنا بأشكاله من خلال استمرارية وتدفق خطه الإيقاعي، ومن خلال منطق علاقاته المكانية، وفوق كل ذلك من خلال استخدام جديد تمامًا للألوان».
الحد المنطقي لمثل هذا المنهج سيكمن بلا شك في محاولة التخلي عن كل تشابه مع أشكال الطبيعة، وخلق لغة مجردة على نحو بحتٍ للشكل؛ أي موسيقى مرئية. وأعمال بيكاسو الأخيرة تظهر ذلك بوضوح كافٍ.
ويتكرر ظهور الأفكار الخاصة بالتجريد في جميع لغات أوروبا، في محاولة لإظهار أن الفنانين الحداثيين قد عملوا «على نحو تقدمي» على التخلي عن التناظر الفوتوغرافي، وكأن الهدف هو أن يصبحوا «تجريديين» أكثر وأكثر، ولكن، مثلما رأينا، بطرق شديدة الاختلاف (أبدي بيت موندريان أسفه لعدم وصول بيكاسو مطلقًا لهذه المرحلة).
لغات جديدة للفنون
يُفسَّر هذا النوع من التقدم الحداثي كتطوير وتعديل لما مضى؛ ومن ثم يمكن توضيح الصلات بأي فن سابق بشكل أكثر وضوحًا، ولكن هؤلاء الفنانين الذين غيروا اللغة الأساسية للفن كانوا الأكثر تطرفًا بشكل واضح. والشخصيات البطولية في بداية الحقبة الحداثية — بيكاسو، وجويس، وكاندينسكي، وشونبرج، وسترافينسكي، وباوند، وإليوت، وأبولينير، ومارينيتي — جميعهم فعل هذا فيما يتعلق بفنونهم الخاصة؛ فنجد بيكاسو مع «آنسات أفينيون» (١٩٠٧) بشخصياتها العارية القبيحة المنفعلة البائسة، وببعض وجوهها التي تشبه الأقنعة الأيبيرية، فيما كانت الأخرى مشوَّهة مثل وجوه مرضى الزُّهري. وهناك جويس مع الصفحات الأولى من مقاله «لوحة الفنان» (١٩١٤)، التي تعد تجسيدًا استثنائيًّا للتجربة المرئية وتيار الوعي لدى طفل صغير. وشونبرج مع الحركة الأخيرة من مقطوعته «الرباعية الوترية الثانية» (١٩٠٨)، التي يطفو فيها الصوت الذي أضافه بشكل مطرد إلى أعلى داخل «النغمة الجديدة» لموسيقى ليس بها نقاط مرجعية مقامية. وسترافينسكي مع «طقوس الربيع» (١٩١٣) بوحشيتها البدائية يتبعها تغيرات متنافرة غير مسبوقة في الإيقاع، ثم اندفاع أوجي أخير في «رقصة الأرض»، وفيها ترقص فتاة عذراء حتى الموت على سبيل التضحية.
كذلك تحدَّت الترابطات الحرة غير المنطقية للشعراء؛ أمثال: أبولينير، وسندرار، وباوند، وإليوت، وجوتفريد بن، وجاكوب فان هوديس، وأوجست سترام وآخرون، اللغةَ الأساسية للترتيب المنطقي، ودلالاتها بالنسبة للتوافق الاجتماعي. فترى بروفروك؛ بطل قصيدة إليوت، يقول: «لنَمْضِ إذن»، لننطلق عبر شوارع بوسطن القذرة، التي قد تقودنا نحو «سؤال مُلحٍّ» مثلما تفعل القصيدة ذاتها. ولكن في قصيدة تحوي — على الأقل — خمسة عشر سؤالًا، من الصعب تحديد المُلحِّ منها، لمَّا كانت جميعها تتسبب فيما يبدو في حرج لبروفروك. إن الفكرة المجددة لهذه القصيدة لا تعتمد فقط على ما تحويه من مجموعة مدهشة من التلميحات، لكلٍّ من دانتي، ولافورج، وهسيود، وسِفر الجامعة، ومارفيل، ويوحنا المعمدان وآخرين، ومحاكياتها الساخرة الأسلوبية لشكسبير وسوينبرن، من ضمن كثيرين آخرين، وإنما تعتمد على العمل غير المسبوق الذي تظل تدفعنا للقيام به، عبر مساحاتها البيضاء العديدة، والتي تعد أيضًا فجوات مفاهيمية بين الفقرات التي تتبع منطقًا ترابطيًّا وليس سرديًّا، وليس لها حتى ترتيب متماسك نفسيًّا. هل حقًّا يواجه بروفروك ألغاز الكون وأسراره، أم هو مجرد رجل واسع الاطلاع والتخيل بشكل عميق مذعور من الذهاب إلى حفل شاي ليغازل امرأة جذابة؟ كما هو الحال مع قدر كبير للغاية من الفن الحداثي، فإن القارئ أو المشاهد أو المستمع هو المنوط بإيجاد علاقة جزء بالذي يليه، ثم الذي يليه، في إطار عملية اقتفاء ومعرفة منطق يختلف تمامًا في الواقع عن منطق الفن الذي جاء قبله، والذي يظل يمثل تحديًا بعد مرور مائة عام.
كان هذا السعي لإيجاد طريقة جديدة جذريًّا ومحددة تمامًا لترتيب أي عمل فني أساسيًّا لبعض الفنانين لتصوُّرهم لمهمتهم؛ مثل هؤلاء الذين اتبعوا شونبرج في خروجه عن حدود المقامية المتدرجة لمقطوعته «الرباعية الثانية» و«بييرو في ضوء القمر»، نحو تطوير تقاليد جديدة للموسيقى الاثنتي عشرية. ويوضح شونبرج — بشكل خاص — الطريقة التي أراد بها هؤلاء الفنانون الطليعيون الذين استهدفوا إحداث تغيير جذري في النموذج، أيضًا أن تدوَّن أسماؤهم في «تاريخ فني» تقدمي. ولذلك يهاجم هؤلاء الذين يتجاوزون «القوانين» أو «القواعد» التي كان يرى (ببعض المبالغة) أنها قد «شُرِعت» للموسيقى الألمانية، ولكنه بعد ذلك توصل إلى بعض القوانين الخاصة به، مخبرًا تلميذه جوزيف روفر في صيف ١٩٢١ أنه قد توصل إلى «اكتشاف ستضمن الموسيقى الألمانية بفضله تفوقها وسيطرتها على مدى الأعوام المائة القادمة». وقد جاء أول توضيح لسمات وخصائص نظامه الجديد «للنغمات الاثنتي عشرة» للعالم في مقال تلميذه إرفين شتاين بعنوان «المبادئ الشكلية الجديدة» في عام ١٩٢٤. بشكل بسيط للغاية، لا بد أن تبنى الحركة الموسيقية للعمل من «صف» واحد من النغمات، وهي «المجموعة الأساسية» التي تستخدم جميع النغمات الاثنتي عشرة للسلم الكروماتيكي، بترتيب ثابت يظل كما هو بلا تغيير على مدار المقطوعة. يمكن وضع سلسلة النغمات في اللحن المعاكس، أو الترجيع، أو الترجيع العكسي، والبدء من أي نغمة من النغمات الاثنتي عشرة (وهذا يعني أن المؤلف لديه ثمانية وأربعون صفًّا من النغمات متاحة لأي مقطوعة، ولكن النموذج يتضمن، بالرغم من ذلك، عددًا مذهلًا من القيود).
كانت مقطوعة «خماسية آلات النفخ» لشونبرج، المقطوعة رقم ٢٦ عام ١٩٢٤، هي أول مقطوعة طويلة يتم تأليفها بالكامل وفقًا لهذا المنهج (وهذا العمل هو ما يدرسه سترافينسكي عن كثب في عام ١٩٥٢، بعد سنوات، في إطار «تحوله» إلى منهج شبه تسلسلي في التأليف). من الممكن أن تبدو الموسيقى الاثنتي عشرية شبيهة إلى حد كبير بنمط معياري للبناء الهندسي — بما تحويه من قواعد لاتباعها قد تقضي على أي نوع من التعبيرية الشخصية — وكان التبرير لهذا الإجراء بالنسبة لشونبرج علميًّا بشكل موضوعي؛ فقد زعم أن تجاربه قد كشفت عن الطبيعة الحقيقية للعلاقات بين الأصوات، من خلال اكتشاف توليفات من النغمات اللافيثاغورثية. والمذهل في الأمر أنه بحلول ٢٣ يوليو من عام ١٩٢٥، كان آلبان بيرج قد كتب كونشيرتو الحجرة، الذي يعد عملًا منهجيًّا رسوليًّا للغاية، ووصل بالتأليف الموسيقي اللامقامي والاثني عشري إلى مستويات معقدة ورمزية رقمية. غير أن تفصيلة «المنهج» الاثني عشري لا تهم كثيرًا بقدر أهمية المزيج الغريب من «الأفكار» الطليعية عن أهميته الفلسفية وشبه العلمية التي نسبها إليه شونبرج ومترجموه، وأبرزهم تيودور دبليو أدورنو.
ثمة غموض استثنائي شبه فلسفي في كتابات موندريان عن فن كهذا؛ لأن صيغته للتكوين، وللتأثير المتوقع للوحاته، كلاهما يقع تحت نفس المفاهيم شديدة العمومية، مثل «العالمية» أو «العلاقة اللونية المتوازنة»، فيبدو أن لوحاته ترفض التعبير الفردي؛ لأنه «فقط حينما يتوقف الفرد عن كونه عقبة في الطريق يمكن للعالمية أن تتجلى بوضوح»، فالهدف في تناغم داخل العمل؛ ومن ثم: «يسمح «إيقاع» العلاقة بين اللون والبعد (في «التناسب والتوازن» الحتمي) للمطلق بالظهور داخل نطاق نسبية الزمان والمكان.» ويعتمد استمتاعنا بأعمال موندريان (إن لم يكن إعجابنا الفلسفي به) على شعورنا بالتناغم والتوازن، وشعور حدسي بأن أبعاد اللوحة مثيرة بشكل لافت (يفترض أن يكون هذا التوازن مملًّا، ولكن كما أوضح وادينجتون، لا تندرج أبعاد لوحات موندريان تحت أي نسب رياضية واضحة).
يعد موندريان نموذجًا جيدًا للأفلاطونية الحديثة، وكذلك «التشكيلية الجديدة» في لوحاته، ومعه نرى بداية مهمة للمطالبة بفهم الفن، بوصفه تجسيدًا للمفاهيم ذات الطابع المادي لأي نظرية (والذي يحظى بتاريخ طويل، وصولًا إلى الفن المفاهيمي لفترة ما بعد الحداثة)؛ نظرًا لأنه كان مدفوعًا لإيجاد لغة داخل اللوحة تتبع قناعاته الدينية والفلسفية بشأن البساطة (بعيدًا عن أي دلالة رمزية أو إشارة إلى أشياء واقعية، كتلك التي توجد في أعماله السابقة).
إن الفلسفة بمنزلة دافع للرسم. ويعد هذا من الدوافع المألوفة لدى فناني حركة دي ستيل، ولآخرين في هذه الفترة، ممن كانوا يتعقبون حلم إيجاد لغة تتسم بالبساطة والوضوح والتحديد والكفاية، تتجاوز حدود الألغاز البراجماتية للحياة اليومية. ومع قيام شونبرج وآخرين بإعادة كتابة القواعد اللغوية المقامية للموسيقى التي كانت مقبولة فيما مضى، بحث موندريان وزملاؤه عن قواعد لغوية للرسم من شأنها أن تكون مستقلة عن التقليد المحلي، ولكنها، شأنها شأن موسيقى شونبرج، قريبة إلى «واقع أكثر بساطة». من الصعوبة بمكان أن ترى في هذا النوع من الأعمال أي شيء يسبب هذه التأثيرات المزعومة له. ربما تعمل بمنزلة رمز، من خلال تذكير تابعيه بمعتقد ديني تصوفي، ولكن تأثيراته تأملية إلى حدٍّ كبير؛ ومن ثم تعمل على تغيير الفرد. ويمكن لمثل هذه الأعمال، بوصفها تصميمات متناغمة، وليس كرموز دينية، أن تمنح قدرًا كبيرًا من المتعة.
الحداثة والحركات الفنية
هل كان الفنانون الذين ناقشناهم أعلاه جزءًا من «الحركة الحداثية»؟ الأمر ليس على هذا النحو إذا كان يشار بذلك ضمنيًّا إلى مجموعة واحدة من الأفكار المتفق عليها مركزيًّا، كأفكار حزب سياسي، على الرغم من أن بعضًا منها، كما أشرتُ، حقق انتشارًا واسعًا للغاية. وبالنظر إلى التعددية والانشقاق اللذين يميزان هذه الفترة، يمكن أن نرى أن الجماعات الطليعية الحداثية: الفيكتوريين، والتصويريين، والمدرسة الفيينية الثانية، ودي ستيل، والدادائيين، والسرياليين وما إلى ذلك، قد أحدثوا تغيرًا جيليًّا خطيرًا. وحين تجتمع الجماعات ذات العقليات المتشابهة قليلًا أو كثيرًا، كما في الحركة الفيكتورية، يمكننا أن نرى أن باوند وإليوت وجويس ولويس وآخرين مثل هولمي وفلينت، اللذين كانا على اتصال وثيق بهم، قد تعاونوا معًا بشكل مؤقت، في «حركة» يتجلى من خلالها وعى ذاتي جمعي بأقصى وضوح، ولكن على نحو زائف في الغالب، تجلى من خلال بيان أحدهم، كما في عددين من أعداد مجلة «بلاست» لويندهام لويس، ما يترتب عليه، كما يعتقد، إحداث «ثورة حديثة عظيمة» في جميع الفنون، ضد «الشعيرات الباكية» و«التآخي مع القردة» لدى الفيكتوريين. لقد كانت بالنسبة له ولباوند نهاية الحقبة المسيحية.
نفس الوعي الذاتي يؤثر على كاندينسكي وشونبرج في الفترة من عام ١٩٠٩ حتى عام ١٩١٤، وكذلك الأعضاء الآخرين لجماعة «الفارس الأزرق» (ومنهم أوجست ماك، وفرانز مارك، وجابرييل مونتر). وفي مطبوعتهم «التقويم» الصادرة عام ١٩١٢ دليل على تغير مماثل للأفكار في ميونيخ. وهذا يعني أنه قبل ظهور «النظرية» بزمن طويل، لا يتسنى فهم كثير من الفن الحداثي إلا من خلال التنظير شبه الفلسفي، اللاهوتي، والسيكولوجي الذي ساعد على الإيحاء بها، كما في أعمال مثل «الجانب الروحي في الفن» (١٩١٢) لكاندينسكي، و«رؤية» (١٩٢٥) لدبليو بي ييتس، وكتابات جماعة دي ستيل.
واقع قرننا هو التكنولوجيا؛ اختراع وإنشاء وصيانة الآلات؛ فأن تكون مستخدمًا للآلات يعنى أنك أصبحت بمنزلة روح هذا القرن؛ فقد حلت محل الروحانية المتسامية للعصور الماضية.
إن الجميع سواءٌ أمام الآلة، فأنا أستطيع استخدامها؛ إذن يمكنك أنت أيضًا. من الممكن أن تسحقني، ونفس الشيء يمكن أن يحدث لك. لا وجود للتقاليد في التكنولوجيا، ولا وجود للوعي الطبقي. كل إنسان يمكن أن يكون سيدًا أو عبدًا للآلة.
غالبًا ما كان المقصد من مثل هذه البرامج المثالية أن تكون ديمقراطية وعادلة، وإن ندر أن تكون كذلك في الواقع، كما أوضح فيلم تشارلي شابلن «الأزمنة الحديثة» (١٩٣٦) لقطاعات جماهيرية ضخمة عبر أوروبا وأمريكا.
إن الانتشار العام للأفكار من خلال التفسير النقدي للحقبة (كما في أعمال فراي وبِل المستشهد بها أعلاه)، وليس فصاحة وبلاغة البيانات؛ هو ما يقربنا لأقصى حدٍّ للتغيرات في الفكر والشعور التي يمكن أن تحدثها خبرة الأعمال الفنية الجديدة. وكانت استجابات العديد من الكُتَّاب، مثل استجابات فوكسيل وأبولينير إزاء المرحلة الأولى من التكعيبية؛ هي ما وسعت نطاق استقبال لغة الفنانين الجديدة؛ وذلك من خلال ابتكار أساليب خطاب مقاربة لتفاصيل الأسلوب المستخدم. لذلك ثمة فجوة بين وعينا بالقصدية المجددة لدى براك وبيكاسو في ١٩١٠-١٩١١، والتأويلات الاستنباطية اللاحقة لأعمالهم، التي ساعدت على ظهور مفهوم الطليعية التكعيبية، على سبيل المثال، في أعمال جليزس ومتزينجر والدعاية لمعرض «جماعة المقطع الذهبي» بحلول عام ١٩١٢.
وهذا النوع من الاستقبال هو ما أصبح من خلاله الفنانون في جميع الأوساط على وعي بحركة أوروبية أرادت أن «تجدد»، وظنَّت نفسها «حديثة» أو «حداثية».
الكلاسيكية الجديدة
غير أنه يجب التمييز بين هذا النوع من التغير الطليعي الواعي بالذات في لغة الفن، وبين رغبة ربما تكون أبسط وأكثر ملاءمة من الناحية الاجتماعية في «التجديد»؛ فالكثير من الفنانين لم تكن لديهم الرغبة في اعتبارهم مقيدين بشكل أو بآخر، سواء لخير أو لشرٍّ، داخل الحس الدعائي لشخص آخر للميول «الرجعية» أو «التقدمية». ويعد سترافينسكي مثالًا سيئًا لهذا؛ فقد أنتج بعضًا من أكثر أعمال القرن العشرين ثورية، إلا أنه لم ينتمِ أبدًا لأي حركة حداثية من النوعية المذكورة أعلاه. ومع ذلك، كان من المدهش بعد باليهاته التجريبية والميالة للمواجهة والصدام — وأبرزها «طقوس الربيع» (١٩١٣)، و«حفل الزفاف» (١٩١٤–١٩١٧، أوركسترا ١٩٢٣) — أن يتجه لإنتاج أعمال مثل «بولسينيلا» (١٩١٩-١٩٢٠)، بلغة أسهل كثيرًا، بل بأسلوب كلاسيكي جديد يعتمد على المحاكاة. وقد اشتق هذا الباليه، الذي يصاحبه أغنيات من موقع الأوركسترا، من توزيع موسيقي وإعادة تأليف جزئية للغاية لأعمال تنسب في الأساس لبيرجولزي، فيما تولَّى بيكاسو تصميم الأزياء. كان الباليه كلاسيكيًّا وواضحًا، ولم يكن يحمل الطابع الروسي على الإطلاق، وكان فرنسيًّا ولم يكن ألمانيًّا؛ ومن ثم كان أقرب بشكل خطير لأن يكون مجرد محاكاة ومزج بين أعمال أخرى من هذه الفترة؛ مثل: باليه «متجر الألعاب السحري» لراسبيجي-روسيني (١٩١٩)، و«السيدات المرحات» لتوماسيني-سكارليتي (١٩١٧)، والتي كانت أيضًا عبارة عن إعدادات أفضل وأكثر إثارة لموسيقى سابقة.
ظن سترافينسكي أن «بولسينيلا» عمل ثوري آخر، في وضعه للأصوات الأوركسترالية جنبًا إلى جنب وكأنها تباينات لونية (على سبيل المثال، في الثنائي الجازي الرائع بين آلة الترومبون والكونترباص)، ولكن العمل كان ساحرًا أكثر من اللازم لدرجة جعلته لا يبدو تجريبيًّا، والدمج بين اللحن الرشيق وشخصيات الكوميديا المرتجلة ذات الطابع الكلاسيكي الجديد التكعيبي لبيكاسو جعل العمل (والفضل في ذلك يرجع مرة أخرى إلى دياجليف) عصريًّا بشكل جدي. بحلول عام ١٩٣٤، استطاع كونستانت لامبرت أن يشكو من أن «أي ملحن بلا غريزة إبداعية وبلا إحساس بالأسلوب، يمكنه أن يأخذ كلمات من العصور الوسطى، وينظمها على طريقة بيليني، ويضيف إيقاع القرن العشرين، ويطورهما بالطريقة التسلسلية والشكلية المميزة للقرن الثامن عشر، وأخيرًا يقوم بتلحين العمل برمته بآلات الجاز.» ولكن سترافينسكي لم يكن من هذا النوع من المؤلفين، والباليهات الكلاسيكية الجديدة العظيمة التي تلت «بولسينيلا»، بدءًا من «أبوللو» ووصولًا إلى «آجون»، التي اعتمدت جزئيًّا على الموسيقى الاثنتي عشرية؛ تعد الآن أساسية لذخيرة الباليه الحديث؛ بفضل عبقرية تصميمات الرقصات التي وضعها جورج بالانشين.
اعترض سترافينسكي: «كلا، كلا! إن موسيقاي ليست موسيقى حديثة ولا موسيقى للمستقبل، إنها موسيقى اليوم؛ فلا يمكن للمرء أن يعيش في الأمس ولا الغد.»
«ولكن من هم الحداثيون إذن؟»
ابتسم سترافينسكي قائلًا: «لن أذكر أي أسماء، ولكنهم هؤلاء السادة الذين يتعاملون مع صيغ كبديل عن الأفكار. وقد فعلوا ذلك كثيرًا جدًّا لدرجة جعلتهم يضعون كلمة «حديث» تلك تحت طائلة الشبهات. أنا لا أحبها. لقد بدءوا بمحاولة الكتابة لكي يصدموا البرجوازيين، وانتهوا بإرضاء البلاشفة.»
علم شونبرج بهذا الحوار، فقام بكتابة رد في مقاله «إيجور سترافينسكي: مدير المطعم» بتاريخ ٢٤ يوليو ١٩٢٦، وجاء في سطره الأول: «إن سترافينسكي يسخر من الموسيقيين المتلهفين (على عكس ما يفعل؛ فهو يريد ببساطة أن يؤلف موسيقى اليوم) لتأليف موسيقى المستقبل.» ها نحن هنا أمام اثنين من كبار المؤلفين الموسيقيين (وأتباعهما) يصارعان من أجل كسب تأثير طويل المدى: شونبرج الذي يُقدَّس باعتباره موسيقيًّا تقدميًّا، وسترافينسكي الذي تعرض للتشهير والذمِّ (من قِبل أدورنو في عام ١٩٤٨) لسقوطه في حالة من الارتداد «الصبياني» أدت إلى الأعمال الكلاسيكية الجديدة التي تعتمد على المحاكاة والمزج.
إن القواعد (وتحديدًا قواعد الموسيقى الاثنتي عشرية) لم توضع اعتباطًا، إنها تكوينات من القوة التاريخية الموجودة في المادة. في الوقت ذاته، تعتبر هذه القواعد صيغًا تضبط بها نفسها لتواكب هذه القوة. وفيها يتولى الوعي زمام الأمور من أجل تنقية الموسيقى من رواسب المخلفات العضوية المتحللة (تحديدًا مخلفات الأساليب السابقة). هذه القواعد تشن حربًا ضروسًا ضد الوهم الموسيقي.
هذه نظرية ماركسية كتبت في علم الجمال، بإدراكه لوجود جدلية داخلية للتاريخ، وتحديه «للوعي الزائف» للبرجوازية الفردية، وهي متضمنة داخل التقليد الموسيقي المقبول حتى الآن.
في هذا العمل، يظهر سترافينسكي في ضوء البنائي، في ضوء الهندسة؛ فكل أفكاره تترجم إلى سطور تتميز بالدقة والبساطة والكلاسيكية؛ والصدقية المطلقة لكتاباته، المتجددة دائمًا، تكتسب هنا في جفافها ودقتها قوة وسلطة دون تكلف.
تعتبر هذه التعددية الأسلوبية، وإمكانية الوصول التي تتأتى في بعض الأحيان من التبسيط سمة نموذجية مألوفة لفترة ما بعد الحرب، التي أصبحت فيها الأساليب الحداثية عصرية، وتمثل دلالة على حدوث زيادة كبيرة في الأعمال الفنية التي تعتمد على هذا التلميح القياسي التاريخي. وكل هذا كان جزءًا من «دعوة لمراعاة النظام» انتشرت في فترة ما بعد الحرب في الفنون (ارتبطت أيضًا لدى المزيد والمزيد من صغار الفنانين، باستدعاء محافظ، بوجه عام، للأشكال الوطنية والقومية من النظام في مجال السياسة). واتجه الحداثيون من شتى الأطياف إلى تكييف أعمال الماضي، وإلى الانتقائية الأسلوبية، وإلى المحاكاة الساخرة، وإلى النزعة الإحيائية المميزة للكلاسيكية الحديثة، وما إلى ذلك.
لم يكن هذا الفن قط مجرد فنٍّ طارد، أو يعتمد على المحاكاة الساخرة. وهذا هو الفارق، مرة أخرى، بين الكلاسيكيين الجدد وأتباع ما بعد الحداثة؛ فالكلاسيكية الجديدة في الفنون تستعين بأفكار المجرد، والمطلق، والمعماري، والخالص، والموجز، والمباشر، والموضوعي، وتمثل علامة لعودةٍ إلى إيمانٍ باللغة «العالمية» للفن، وليس إيمانًا بالاستحداث الجذري للغات جديدة.
ليست مُرضية أو عميقة مثل الأعمال الأصلية؛ نظرًا لوجود فاصل من الوعي الذاتي بين شكلها ومحتواها. فطريقة رسمها أو تلوينها ليست نابعة مما يرغب بيكاسو في قوله بشأن موضوعه، ولكنها نابعة، بدلًا من ذلك، مما يرغب بيكاسو في قوله بشأن تاريخ الفن … [فهو] يمنح مدام فيلدشتاين قناع أعمال إنجر، وكان باستطاعته أن يمنحها قناع لوتريك، ولكنه كان سيصبح منفرًا اجتماعيًّا.
التقليد المتبع
إن أعمال إزرا باوند وتي إس إليوت «أوروبية» الطابع بشكل واضح … فالشاعر «الأوروبي» لديه وعي كبير جدًّا بالعالم الاجتماعي الذي يعيش فيه، وينقده، ولكن بأسلوب تهكمي وليس بأسلوب ساخط، ويؤقلم نفسه عليه، ويهتم بمخزونه المتراكم من الموسيقى والرسم والنحت، بل وحتى بتحفه الثمينة القديمة. وإذا كان الشاعر منخرطًا في التقليد «الأوروبي»، فإنه يصف عناصر الحضارة أينما وجدها: في روما، في بلاد الإغريق، لدى كونفوشيوس، أو حتى في كنيسة العصور الوسطى، ويعقد مقارنة بين ما تتسم به عناصر تلك الحضارة وعنف الحياة المعاصرة وفوضاها.
لقد اتخذ الحداثيون منظورًا شديد الاتساع للثقافة وجدوا فيه أنفسهم؛ فلا تزال مطالبة إليوت ﺑ «حس تاريخي» بها متسع لماري لويد و«تلك العبارة الشكسبيرية» في «الأرض الخراب». ومع ذلك، إذا قرأت القسم الأول من القصيدة منفردًا، فسوف تضطر على الأقل لمعرفة قدر عن تشوسر، وشكسبير، وفاجنر، والعهد القديم، والأسطورة الإغريقية، وأسطورة «النبات»، وبودلير، وما إلى ذلك. في الواقع، وبحسب تعبير إليوت في مقاله «التقليد والموهبة الفردية»: «ليس فقط الأجزاء الأفضل، ولكنها الأجزاء الأكثر فردية من عمل [الشاعر] هي الأجزاء التي قد يؤكد فيها الشعراء الراحلون؛ أي أسلافه، على خلودهم بأقصى قوة.» لأن الأصالة الطليعية هنا نابعة من طريقة استخدام اختيارات إليوت من قواعد ومبادئ الأدب الأوروبي، حسب رؤيته له، لتشكيل وجهة نظر معقدة عن العلاقة بين الحضارات عبر الزمن. وهذا الاستعداد لتعديل أعمال الماضي شائع لدى جويس، وبيكاسو، وسترافينسكي، وبيرج، وشونبرج، وتوماس مان وكثيرين آخرين. والتقليد بالنسبة لسترافينسكي «ينتج من قبول واعٍ ومدروس … فالطريقة تتبدل: (بينما) التقليد يتم ترحيله من أجل إنتاج شيء جديد. وهكذا يؤكد التقليد استمرارية الخلق». كان حداثيو القرن العشرين يتأملون تأملًا واعيًا علاقة وتناقض أعمالهم مع أعمال الماضي التي ينافسونها؛ فأعمالهم متأثرة بالتاريخ، وتمارس تأثيرها من خلال تكرار الأفكار والموضوعات (التي تمنحها العالمية)، ومن خلال تباين متزامن مع الماضي (الذي ينقل في أحيان كثيرة للغاية سخرية نسبية). ومع ذلك، فثمة اختلاف كبير للغاية بين تقليد كورال لباخ في «أوبرا البنسات الثلاثة»، والذي يوحي بانحدار الدين إلى عاطفة رخيصة وغير صادقة، وبين اقتباس كورال باخ «يكفي هذا» من مقطوعة الكانتاتا «الخلود، أنت صوت الرعد»، التي تشكل ذروة رثائية بشكل لا يحتمل لمقطوعة «كونشرتو الكمان» لبيرج. ويمنح كلا المؤلِّفَينِ عمقًا في المعنى لأعمالهما، بتوقع تقبلها والاعتراف بها؛ ومن ثم يمكن لشيء من السياق النصي الأصلي أن يكون بمنزلة أثر عاطفي للعمل الحديث. ومثل هذه التأثيرات تتجاوز مجرد المزج والمحاكاة؛ لأنها ليست مجرد انحرافات أسلوبية، ولكنها تثير شعورًا بالتوافر الخالي من الحنين — بوجه عام — لأعمال من الماضي كمعايير لمشاعرنا في الحاضر.
وقد وضعت هذه التوزيعات جزءًا كبيرًا من الحداثة داخل حركة أوروبية بشكل واعٍ للذات؛ فآمن باوند وإليوت وجويس (أي أمريكيينِ وأيرلندي واحد) ﺑ «عقل أوروبا»؛ الذي رأوا أن أفكار هنريك إبسن، ونيتشه، وبرجسون، وفرويد، وأينشتاين، ومارينيتي وآخرين قد قدَّمت له إسهامات حيوية. وكان جميع الحداثيين الكبار على وعي بالغ بلغات وثقافات أخرى، حتى عندما كانوا أيضًا منشغلين انشغالًا عميقًا باهتمامات قومية (مثل ييتس، الذي كان لديه اهتمام شديد بالثقافات الهندية واليابانية وكذلك الكَلتية)، فكان نطاق قراءات ييتس، ومان، وجيد، وجويس، وسترافينسكي، على سبيل المثال، واسعًا بشكل مذهل. وكانت إشارات بيكاسو المرجعية إلى الرسم، وإشارات شونبرج وبيرج إلى موسيقى الماضي، جامعة بشكل مماثل، وكانت أعمالهم على نفس الدرجة من التعقيد مثل أعمال إليوت وجويس في هذا المقام.
ولكن لا يوجد حداثيون كبار في أوروبا لم تكن أعمالهم مستوحاة — بشكل كبير — من الثقافات القومية غير الأوروبية، متضمنة جوانب من الثقافات غير الغربية في كثير من الحالات، كما في سيمفونية مالر «أنشودة الأرض»، ومسرحيات ييتس المحاكية لمسرح النو وأشعاره الأخيرة، وديوان «كاثاي» لباوند»، ومسرحيتي «المرأة الطيبة من سيتشوان» و«دائرة الطباشير القوقازية»، ورواية «سيدهارتا» لهيسه. وكان الرسامون التعبيريون الألمان، وبيكاسو في المرحلة الأولى من حياته، وداريوس ميلهود، وسترافينسكي، ودي إتش لورانس من بين الحداثيين العديدين المهتمين بما كانوا يعتقدونه ثقافات «بدائية»، وأغلبها من الثقافات الأفريقية، وتكييفها داخل الفن الأوروبي.
اعتمد تطور الفن التجريبي أو المتقدم في أمريكا بشكل كبير أيضًا (في المرحلة الأولى) على امتصاص للثقافة الأوروبية، وكان ذلك واضحًا للغاية في حالات والاس ستيفينز، وإي إي كامينجز، والأعمال الأولى لويليام كارولز ويليامز، الذين كانوا جميعًا من الفرانكوفيل.
في باريس، كان الرسامون بدءًا من سيزان حتى بيكاسو يرسمون لوحاتهم القماشية الثورية على مدى خمسين عامًا أو أكثر، ولكن عندما وقعت عيناي على لوحة مارسيل دوشامب «عارية تهبط السلم» انفجرت ضاحكًا من الارتياح الذي جلبته لي! لقد شعرت كما لو أن عبئًا هائلًا قد رُفع عن روحي، وهو ما شعرت نحوه بالامتنان على نحو جامح.
إن تخليه عن التسلسل السردي، على سبيل المثال في مجموعته الشعرية «إلى من يريده»، يجعل قصائده أشبه كثيرًا بلوحات فنية؛ فقد أراد إحداث تأثير مثل تأثير الرسم الحديث، كما في الصورة البصرية في قصيدة مثل «الشكل المنظوم». وقد قاده هذا إلى اهتمام بالشيء أو الجسم (كما في أعمال سيزان والتكعيبيين)؛ ومن ثم بتطوير الحياة الجامدة الديناميكية في الشعر؛ فالقصيدة، من وجهة نظره، مثل أعمال الفن المرئي، جسم حرٌّ مستقل بذاته له شكله الخاص.
ويقول في مقدمة كتابه المنتمي للسريالية الأولية «كورا في الجحيم»: إن «القيمة الحقيقية تكمن في تلك الميزة الخاصة التي تمنح شيئًا ما شخصية خاصة به، والقيمة الترابطية أو العاطفية زائفة.» وتعد قصيدته «آلام الربيع» (ضمن المجموعة الشعرية «إلى من يريده» التي قد ترجع إلى أواخر عام ١٩١٦) محاولة لتجربة الرسم التكعيبي في الكلمات. ويتضح تفتيته للعبارات والصور الذهنية في «الشخصية العظيمة». وهي قصيدة ترجمت إلى رسم على يد تشارلز ديموث، في لوحته «رأيت الرقم ٥ بالذهب» [١٩٢٨]، والتي رسمها بالاشتراك مع ويليامز. في هذه الفترة، كان يبحث عن الموضوع «الأمريكي» المميز (إلى جانب ستيجليتز وديموث وهارتلي). وفكرته عن الجديد راسخة بقوة في التقنيات والأساليب الحداثية، ولكنها كانت بحاجة إلى موضوع أمريكي جديد بالقدر نفسه لكي تصبح مستقلة، في الشعر، عن التقليد ذي الطابع الأوروبي، المتبع من قِبل باوند وإليوت؛ ففي الأجزاء النثرية من «الربيع وغيره»، يقوم بتوليف قيم التجريد مع رغبته في اكتشاف الشيء الأمريكي (مثل المصورين والرسامين في جماعة ستيجليتز) في «الواقع المرئي للمشهد الأمريكي». ويشير دجيسكترا إلى سلسلة «صباح يناير» المؤلفة من خمس عشرة قصيدة في ديوان «إلى من يريده»، التي يحوي كلٌّ منها شيئًا أو اثنين يلاحظان عن كثب؛ «من أجل تشكيل «مجموعة» صور فوتوغرافية في الأساس»، وتعد قصيدة عربة اليد الشهيرة نموذجًا لها.
كان والاس ستيفينز يتسم دائمًا بطابع «أمريكي» من خلال عمله في إطار نوع من التقليد الإيمرسوني الرفيع، ولكنه أيضًا، شأنه شأن ويليامز، كان شريكًا لرعاة الفن والتر أرسينبرج وكارل فان فيشتن؛ ومن ثم كان على وعي جيد بالواقع الطليعي في الرسم، بما في ذلك لوحة دوشامب الشهيرة «عارية تهبط السلم»، التي شاهدها في شقة أرسينبرج. ويتجلى تأثر لوحاته الأولى تأثرًا واضحًا بالنسبيات المماثلة في التجربة المرئية، واشتهر كثيرًا في زمانه حين أظهر هذا في قصيدته «ثلاث عشرة طريقة للنظر إلى الشحرور» (١٩١٧). آنذاك كان النظم الحر لستيفينز المصُوغ ببراعة وإبداع دليلًا كافيًا جدًّا على طليعيته. وتعد قصيدته «الرجل ذو الجيتار الأزرق»، المنشورة عام ١٩٣٧، بمنزلة تلخيص رائع لرؤيته للفن الحداثي، وفلسفة تعاطينا مع العالم. إنها تأمل ممتد للتشكيل الفني الحداثي للواقع من جديد، في الشعر والرسم.
كانت الحداثة الأوروبية بالنسبة لكاتب أحدث نوعًا ما، مثل ويليام فوكنر، تمثل جزءًا كبيرًا مما كان يعرفه؛ فقد كان يقرأ لجويس وآخرين؛ ومن ثم قام بتطبيق أساليب تيار الوعي الخاصة بهم بقوة؛ فشخصية كونتن كومبسون في روايته «الصوت والغضب» (١٩٢٩) شخصية واسعة التفكير والثقافة، وتلميحية، وذات ميول شعرية مثل بروفروك وستيفن ديدالوس. وينظر إليه في السياق الجدلي لعائلة كومبسون، وتأثيرات تاريخ ما بعد الحرب الأهلية في الجنوب، الواقعة عليهم جميعًا. وكل هذا يتم إدراكه بتفاصيل دقيقة كأي شيء في دبلن، كما تناولها جويس. يسير مع هذا جنبًا إلى جنب ترتيب خرافي ورمزي في شدة التعقيد؛ فحلقات رواية «الصوت والغضب»، على سبيل المثال، توازي الأيام الثلاثة لعيد الفصح المسيحي، وينشئ فوكنر هنا، وأيضًا في رواية «أبشالوم، أبشالوم»، علاقة تبادلية وثيقة وبارعة بين حبكة الرواية والتجلي التراجيدي للماضي التاريخي المنبثقة منه. إن النظرية المعرفية للرواية الفوكنرية — أي علاقتها بالمدركات والعلاقات المشوهة، وبتقليد تاريخي شفهي — هي واحدة من أعقد النظريات في التقليد الحداثي، وهي تتجاوز أي شيء في أعمال جيمس وبروست. وفي هذا السياق، صار فوكنر، شأنه شأن وولف، واحدًا من أكثر الروائيين التجريبيين انفتاحًا في القرن العشرين؛ نظرًا لأن كل كتاب من كتبه (حتى ثلاثية «سنوبس» التي يغلب عليها الواقعية)، كما هو الحال مع وولف، يكتب بأسلوب النثر الشعري، ويتخذ ترتيبًا شكليًّا معبرًا وفرديًّا بشكل كلي؛ على سبيل المثال، في التفتيت النفسي المتسم بالتعارض والعرضية لتيارات الوعي العديدة المتفاعلة في رواية «بينما أحتضر».
كان الوقت متأخرًا للغاية حين رفض ويليامز، على سبيل المثال، هذه الهيمنة الأوروبية المُطالبة بتطبيق الأساليب الحداثية على موضوع أمريكي متميز. ولكن كان على الحركات الفنية «الأمريكية الخالصة» ذات الأثر العالمي، التي شقَّت طريقها بعيدًا عن الاهتمامات الحداثية الأوروبية، الانتظار حتى الحرب العالمية الثانية؛ فقط عندما نشأت التعبيرية التجريدية في الرسم، المنبثقة من رحم السريالية وبدايات أخرى غيرها، حققت حركة فنية أمريكية قومية ومستقلة أصالة تجريبية، ومجدًا قوميًّا — بشكل واضح — وذا أهمية عالمية. ومن الواضح بالقدر نفسه أنه في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، أظهر الأدب التجريبي الأمريكي، على يد والتر أبيش، وجون بارث، ودونالد بارثيلمي، وروبرت كوفر، ودون دي ليلو، وويليام جاس وآخرين، أصالة وحيوية واهتمامًا أكبر من أي تقليد سردي تجريبي معاصر (وفي ذلك تيار «الرواية الجديدة» الفرنسي المرتبط بالنظرية).
كان أغلب الحداثيين الكبار ينظرون إلى أعمالهم في أغلب الأحيان باعتبارها نابعة من التقاليد الأولى للفن، ردًّا عليها وإشارة إليها؛ تلك التقاليد التي كانوا على وعي شديد بها. فقد كان لدى ماتيس وبيكاسو، على سبيل المثال، مقدرة بالغة على الرسم بالأساليب الأولى؛ ومن ثم حققا عالمية اتخذت طابع الكلاسيكية الجديدة إلى حدٍّ كبير من حيث الإلهام. وحتى ظهور الحركات الدادائية والسريالية، بتركيزها الشديد ذي الطابع الرومانسي المجدد على الخيال والإبداع الفردي، لم يكن الهدف بالنسبة لمعظمهم يقتصر فقط على «التجديد»، أو «الأصالة»، أو «التجريبية»، أو «الثورية»، وكأن لم يكن للمرء أسلاف سبقوه؛ فقد كان الحداثيون الأوائل ينظرون إلى التقليد، أولًا وقبل كل شيء، باعتباره مجموعة محددة تاريخيًّا من القواعد والمبادئ يستطيعون «العمل» في نطاقها، أو يتجاوزونها؛ مثلما تجاوز ديبوسي فاجنر، ومثلما يرى شونبرج أن أعماله تبني على أعمال برامز، وبالتبعية أيضًا التحولات اللامقامية لحركة المارش الماهلرية في «المقطوعات الست للأوركسترا» (١٩٠٩-١٩١٠) لفيبرن، و«ثلاث مقطوعات للأوركسترا» (١٩١٤-١٩١٥) لبيرج.
بالطبع كان بعض الحداثيين يؤيدون الرفض الكامل للماضي قدر الإمكان، وأدى هذا إلى مزاعم قوية بالأصالة، التي كانت آنذاك، مثلما يحدث الآن، غالبًا ما يتم تناقلها وتوارثها على حساب الغموض وعدم الوضوح عن طريق معايير الماضي، أو عن طريق الرفض الساذج لها. وكانت اعتراضات مارسيل دوشامب، النابعة من الأهداف التحررية للحركة الدادائية الأصلية، مؤثرة بشكل خاص في هذا المقام. وتعد لوحته «النافورة» (١٩١٧) عملًا رمزيًّا من هذا النوع الطليعي؛ فعن طريق شراء مبولة وقلبها رأسًا على عقب، والتوقيع عليها باسم «آر موت»، اختبر دوشامب مفهوم المشاهد لمقومات العمل النحتي أو «العمل الفني»، وربما ما كان أكثر أهمية بالنسبة للتطورات اللاحقة ما فعله من اختبار المؤسسات الفنية بسؤالهم عما هم، في الواقع، على استعداد لعرضه، في المستقبل (إن كانوا سيفعلون) كأعمال فنية. وقد فتح ذلك البابَ لعدد من الأفكار والموضوعات التي تعد محورية لفن ما بعد الحداثة.
التشخيص الثقافي
بالنظر إلى هذه المجموعة من الافتراضات، اعتبر الفنانون الحداثيون أنفسهم نقادًا ثقافيين عظامًا. ويتضح هذا في إنجلترا من الأعمال النثرية لباوند، وإليوت، وويندهام لويس، ودي إتش لورانس، وألدوس هكسلي (ومان وجيد وكثيرين آخرين في بقاع أخرى) بكل تأكيد. فقد كانوا يميلون للانفصال عن المجتمع الذي يعيشون فيه والحياة على هامشه، متبعين في ذلك تقليد القرن التاسع عشر الانفصالي المناهض للبرجوازية الذي اتَّبعه فلوبيرت، وإبسن، ووايلد، وفرويد، وإليوت، على سبيل المثال، الذي يتسم نثره بالمحافظة إلى حدٍّ كبير؛ إذ يبدأ بتقليد قصائد جول لافورج المُوبِّخة للذات بسخفٍ وحمق، والذي كان قد عرَّفه الطريق من خلال إماطة اللثام عن خداعات الذات البرجوازية السائدة في ذلك الزمن، في الشعر الذي اتسم بطابع ساخر وكوميدي. وبالتبعية أيضًا، انفصل تأييد جويس لاتِّباع أخلاقيات مخالفة، من خلال ستيفن ديدالوس، عن القيود السياسية والدينية المتعارف عليها، وذلك في رواية «لوحة الفنان»، التي تعد المثال الكلاسيكي للمعارض الفردي، الذي يجد مهنة في الفن، لا سيما في لغته، وليس في المتطلبات الاجتماعية للدين أو السياسة، فهذا هو ستيفن الطالب الذي يقال له إن مقاله عن «الفن والحياة»، المكرس لإبسن «يمثل مجمل الارتباك الحديث والفكر الحر الحديث». ومن هنا أيضًا نبع تطور وعي بروست في «البحث عن الزمن المفقود»، من قبول ساذج للافتراضات الطبقية إلى نقد ذاتي منفصل لها. والعديد من أعمال تلك الحقبة بنيت على اهتمام بالتناقض بين ثقافة الماضي الرفيعة وانحدار الظروف الاجتماعية الحالية.
يُقتاد بأسلوب كوميدي ومرعب عبر التناقض الروحاني للتوجهات الإنسانية والرومانسية، والتقدم ورد الفعل، والصحة والمرض، ولكن ذلك من أجل منفعتها الجوهرية؛ بهدف التعرُّف عليها أكثر وليس بهدف تدبر قرار. إن الأمر برمته له روح هزلية عدمية.
إذن هو لا يشبه ستيفن ديدالوس في شيء مطلقًا، ولكن إقامته في مصحة علاجية (هي جامعته) تورِّطه في جدال ممتد بين سيتمبريني (الذي استند إلى الإنسانية والليبرالية التقدمية لإميل زولا ومن جاءوا بعده، ومن بينهم شقيقُ مان؛ الروائي هنريك)، والرجعية الماكرة لليو نابهتا (وهو شخصية «ضد المنطق»، ويهودي، يسوعي، نخبوي، شيوعي، تشكَّلت شخصيته على نموذج جورج لوكاس). وقُرب نهاية الرواية، نسمع من بيبركورن (الذي يمثل المبدأ الديونيسي النيتشوي، وصُمِّمت شخصيته على نموذج جيرهارت هوبتمان). ومن خلال هؤلاء، يمر كاستورب، الأحمق نوعًا ما، بمنظور فلسفي تلو الآخر للحياة، بمعنى «الإنسانية، ثم الروحانية، ثم التحليل النفسي، والشيوعية البدائية الممتزجة بقدر من الهرطقة العرفانية»؛ ففي مناقشته على الجبل، يفترض به أن يسمو فوق الظروف الاجتماعية على الأرض، وأن يحقق نوعًا من الانفصال التأملي، ولكن كما سنرى لاحقًا، كان حل أزمة كاستورب من نوع مختلف غير استطرادي نوعًا ما.
على مدار القصة، يتعين على كاستورب والقارئ خوض صراع مع تلك الأفكار المجردة المغلفة بقناع مادي، والتي يراها كثيرون جزءًا من الثقافة الألمانية؛ ومن ثم فإن التناقضات الفلسفية والثقافية التي يرغب مان في إبرازها تفتقد أي تمثيل مادي حقيقي. ويعالج إي إم فورستر مثل هذه التناقضات من خلال وعي مماثل بالعلاقات بين الواقعية والرمزية والخرافة الدينية، بشكل أكثر تحديدًا بكثير، وذلك في الأجزاء الثلاثة المتناقضة لأكثر كتبه شعرية وحداثة «ممر إلى الهند»، الصادر عام ١٩٢٥، وفيه تدخل الرؤى الإمبريالية الإنجليزية للعالم ورؤى المسلمين والهندوس في حالة من التناقض والصراع الدرامي.
إن «الثقافة الرفيعة» لمثل هؤلاء الكُتاب من شأنها حفظ أفكار مهمة ثقافيًّا في قوالب تجعل فهمها سهلًا على شتى المستويات، وأيضًا تقدم القضايا التي تؤرق الثقافة في قالب إشكالي وقابل للنقاش. وهذا تحديدًا ما يمكن أن نقوله عن أعمال مثل: «الأرض الخراب»، «البرج»، «يوليسيس»، «ميدان ألكسندر في برلين»، «ممر إلى الهند»، «البحث عن الزمن المفقود»، «ألحان جوني»، «الجبل السحري»، «الخطباء»، «بين قوسين»، «بين الفصول»، «رجل بلا صفات»، «دكتور فاوستس»، و«دائرة الطباشير القوقازية». بهذا القدر، ترتبط الحداثة ارتباطًا وثيقًا بصراعات التقليد التراجيدي، ولكنْ حريٌّ بنا أن نشير إلى أن الأعمال المشار إليها للتوِّ تتسم جميعها تقريبًا بطابع ساخر وكوميدي، وبمخاطبته الضمنية للاستجابة الإنسانية العادية، يُبعد اللاهوتي المتغطرس، بوجه عام، فيما تصبح مزاعم الفلسفة (ولكن ليس الأخلاق) نسبية بشكل محكم ودقيق.
كانت الأعمال المقبولة بالنسبة لمثل هؤلاء الحداثيين هي نقاط مرجعيتهم للحظات مهمة وجدلية في الأساس في تاريخ ماضي الإنسانية، كان بعضها خطيرًا ومحوريًّا، مثل استخدام إليوت لتشوسر وفاجنر وبوذا، وأسطورة النبات في «الأرض الخراب»، والآخر أكثر هامشية، كما في الأجزاء الأول من قصيدة «الأناشيد» لباوند، بتعديلها المتجاور لأسلوب شعر براونينج النظيري، والاعتماد على رؤية فينلوزا عن الصينيين، واستخدام نظريات دوجلاس الاقتصادية، والقراءة الشديدة التفرد والتميُّز لعصر النهضة والتاريخ الاقتصادي، التي أثبتت جميعًا أنها أكثر ثانوية لاهتمامات القرن العشرين منها لاهتمامات إليوت.
إن مثل هذه الأفكار تحررية بطبيعتها، حين تؤخذ معًا؛ ما يوفر وسيلة يمكننا من خلالها التوافق مع تعددية الرؤى للعالم واستيعابها، وتناقض القيم داخل الحضارة الغربية، وأيضًا فهم كيفية نشأة العصر الحديث. والأهم من كل ذلك أنها تجنبت هوس اليقين والانتقائية لتلك الأيديولوجيات التي عارضت الفن الحداثي في ثلاثينيات القرن العشرين وما بعدها.
فكرة الخرافة
ربما يمكننا رؤية كل هذا بشكل أفضل نوعًا ما في إطار مثال أشمل وأوسع نطاقًا.
كان الاتهام السيكولوجي للحياة المعاصرة في «الأرض الخراب» يحظى بتقدير سهل من جانب المعلقين الأوائل؛ فقد اعتبر آي إيه ريتشاردز القصيدة تعبيرًا عن «الحالة الذهنية لجيل في فترة ما بعد الحرب»؛ وهي تدور حول «الجنس باعتباره مشكلة جيلنا مثلما كان الدين مشكلة الجيل السابق». ورأى سي داي لويس أن القصيدة: «تعطي انطباعًا حقيقيًّا صادقًا عن عقلية المثقفين خلال فترة الانحدار النفسي الذي حدث عقب الحرب مباشرة.»
ولكن القضايا الأكبر داخل القصيدة، لا سيما قضايا الدين، لم تكن رؤيتها سهلة للغاية؛ لأنها هنا، كما في «يوليسيس» تُرى في إطار الخرافة، التي كان العديد من الحداثيين (لا سيما هؤلاء ذوي العقليات التحليلية النفسية) يرونها تعبيرًا، ليس فقط عن الخيالات «البدائية» للبشر المعاصرين، ولكن أيضًا عن الطبيعة الطفولية لبدايات النوع. ومن خلال ذلك، نشأت الفكرة المزعجة التي مفادها أن الخرافة القديمة قد تقف سرًّا وراء التجربة الحديثة، لا سيما حين تكون جنسية أو تراجعية. هذا هو ما يعول عليه إليوت في «الأرض الخراب»، بعد إعجابه بجويس لقيامه بالشيء نفسه في «يوليسيس». فقد كان إليوت في الواقع يعتبر «الأسلوب الخرافي» الذي وجده فيها مشابهًا لاكتشافات أينشتاين؛ نظرًا لتأثيره المحتمل على الكتابة الإبداعية. ويرجع هذا إلى أن «علم النفس (كما هو عليه، وسواء أكان رد فعلنا تجاهه هزليًّا أم جادًّا)، وعلم الأجناس البشرية، وكتاب «الغصن الذهبي» قد التقوا لجعل ما كان مستحيلًا حتى قبل بضع سنوات ممكنًا». (كان مستحيلًا واضحًا حتى بالنسبة إلى ييتس، الذي لم ينل حظه المستحق من الثناء عن طريق مدحه كمجرد «مصمم» للأسلوب لا أكثر). كان الأسلوب الخرافي «خطوة نحو جعل العالم الحديث ممكنًا للفن» (وهنا يكمن المكسب المعرفي المعلن). وبغض النظر عن الإشارة الضمنية من (أ) إلى (ب)، يمكن أن يكون هناك أيضًا تجاور دقيق، على سبيل المثال، في قصيدة «الأرض الخراب» حين كان العاشقان على نهر التيمز في الحاضر — الفتاة في القارب الصغير، التي غُرر بها بالقرب من ريتشموند — يبدوان أكثر خسة من العاشقينِ — الملكة إليزابيث وليستر — اللذينِ يلهوانِ على نهر التيمز في قارب ملكي من الماضي، أم تراهما ليسا كذلك؟
اتجه إليوت والعديد من معاصريه إلى ثقافة الأفكار بحثًا عن مفهوم للخرافة التي تتسم في جوهرها بالإشكالية والجدلية، كما يمكننا أن نرى إذا ألقينا نظرة على تباين الآراء المدلى بها في العديد من مصادره؛ فالاستخدام الحداثي للخرافة في العمل الإبداعي عبارة عن توليفة من محاورات متضاربة متعددة، جميعها لها علاقاتها المثيرة بالثقافة التي يعمل الفنان في إطارها. بالنسبة إلى إليوت وحده، كنَّا سنضطر للنظر إلى مجموعة كبيرة من المصادر الممكنة، كتلك المذكورة في «المعلومات الوهمية» الواردة بالملاحظات الخاصة بقصيدة «الأرض الخراب». وبمجرد أن نعكف على بحث كهذا، كما فعل كثيرون وكثيرون على أمل العثور على خرافة نموذجية لتوحيد القصيدة، سوف نجد أنه يتعين علينا أيضًا الدخول في سجال مع أفكار إليوت عن علاقة الخرافة بالبدائية والدين، وقراءاته لفريزر (لا سيما عن «الرب المحتضر» في المجلد رقم ٤ من «الغصن الذهبي»)، ولجيسي إل ويستون (لحدٍّ معين)، وجان هاريسون وغيرهم من علماء الأنثروبولوجيا بكامبريدج، ومفاهيمه عن الطقوس فيما يتعلق بالخرافة، ومعرفته العامة بالأنثروبولوجيا التي استقاها من مناهجه الجامعية، وما إلى ذلك.
فور تحديد مثل هذه المواد، نحتاج بعد ذلك لتقييم «وزنها الثقافي» المتباين مع دخولها وخروجها من القصيدة. قد تكون مثل هذه المحاورات جزءًا من محادثة أو عبارة في كتاب (مثل تعريف ستيفن ديدالوس للتاريخ بأنه «كابوس أحاول الاستيقاظ منه»، والذي يكمن بالتأكيد وراء قصيدة «جرونشن»)، أو جاءت من الأطروحات والقصائد والأعمال الأنثروبولوجية والفلسفية والسيكولوجية العميقة المشار إليها أعلاه.
كل هذه المصادر المحتملة لفكرة إليوت العامة عن الخرافة تجعلنا على وعي بالقضايا أو الأزمات التي تؤرق الثقافة. ومن بين هذه الأزمات القضية الجدلية التي تدور حول ما إذا كان ممكنًا أن تدعم الخرافة الدين أو تحل محله. وقد ساعدت هذه الأزمات على ضمان المكانة المعتمدة كنسيًّا للعمل وأهميته المتواصلة في التأويل (وهو ما يعد واضحًا بشكل مماثل لأعمال مثل «يوسف وإخوته» لمان، ولوحة «جورنيكا» لبيكاسو، مثلما سنرى). وينبغي أن تمثل قضية مكانة الخرافة أهمية للمؤمنين الورعين مثلما شكَّلت أهمية بالنسبة إلى إليوت في «الأرض الخراب»، ولأسباب مماثلة. إن الهدف من الأسلوب، في الواقع، هو إجراء تشخيص ثقافي في ضوء التاريخ؛ ولذلك تعد «الأرض الخراب» (و«مسودة ١٦ أنشودة» لباوند) «رؤية للاضمحلال الأوروبي» (كذلك مثل «نساء عاشقات» للورانس، و«الموت في فينيسيا» و«الجبل السحري» لمان، وقصيدة «ألف تسعمائة وتسعة عشر» لييتس، والعديد من النصوص الأخرى في تلك الفترة).
الأهم من كل ذلك أن الرؤية الحداثية للخرافة يمكن أن تضع الفنون داخل علاقة جديدة بالتاريخ قد تكون استنزافية؛ إذ يمكن أن ترى (مع نيتشه) كتابة التاريخ نفسه كشكل من صنع الخرافة، وبالعكس، ترى الخرافة باعتبارها الشكل الحتمي للتاريخ الأساسي لأي أمة، كما في شعر ومسرحيات ييتس، على سبيل المثال؛ حيث تتمكن الخرافة الكلتية القديمة بشكل ملائم من تجاوز تاريخ المسيحية في أيرلندا من خلال التقدم عليه زمنيًّا؛ ومن ثم إيجاد «أيرلندا حقيقية» خارج الكنيسة الكاثوليكية، أو يمكن أن تدعم إنكارًا محافظًا للتغيير «التقدمي» خلال تاريخ ما؛ لأنه يعد «حقًّا» مادة (اتباعًا لنيتشه مجددًا) للتكرار الخرافي للمسلمات المتكررة، مثلما يبدو الأمر في «يوليسيس». فالخرافة بمنزلة تحدٍّ أزلي، إن لم يكن رجعيًّا، وربما تشاؤميًّا، للرؤى الماركسية أو أي رؤًى تقدمية أخرى للأساسيات الاقتصادية للتاريخ، وكذا لأي مفهوم، خارج إطار الخيال العلمي، مفاده أن التقدم العلمي والتكنولوجي سوف يُحدث تحولًا جذريًّا لظروف السلوك الإنساني. والواقع أن أي حداثي كان سيقول إن الخيال العلمي والخيال اليوتوبي نفسيهما يميلان لامتلاك جميع السمات البنيوية المتكررة للخرافة القديمة، والتي تتوافر في جميع مراحل التطور العلمي.
لقد انشغلت الغالبية العظمى من الحداثيين الكبار — ييتس وإليوت وأودن وجيد وجويس ومان وسترافينسكي وشونبرج وماتيس وبيكاسو والسرياليين — في مرحلة ما بهذه العلاقة بين الخرافة والثقافة، واستخدموها كمبدأ سردي وبنيوي وتلميحي في أعمالهم.
ربما يكون مستحبًّا أن نقول صراحة إن التعاليم، التي تحتويها تلك الكتب، مهما كانت مشرذمة ومنقوصة، لا تنتمي للديانة الهندوسية، أو الزرادشتية، أو الكلدانية، أو المصرية، ولا للبوذية، أو الإسلام، أو المسيحية بشكل حصري. فالعقيدة السرية هي جوهر كل هذه العقائد. والنماذج الدينية المتنوعة المنبثقة منها تُدمَج الآن مرة أخرى داخل العنصر الأساسي الذي خرج منه كل لغز، وكل عقيدة وتطور وأصبح ذا كيان مادي.
اضطلع الأدب القائم على مثل هذه المقدمات والفرضيات بمسئوليات جديدة، وبحسب تعبير سايمونز عن ذلك في كتابه «الحركة الرمزية»: «في حديثه إلينا … مثلما كان الدين وحده يتحدث إلينا حتى الآن، يصبح الأدب في حد ذاته نوعًا من الدين، بكل ما عليه من واجبات ومسئوليات للطقس المقدس.» وفي ظل التأثير العلماني الطابع للحداثي، قد يبدو تداخل الحداثيين مع الخرافة مدهشًا، إلا أن العديد منهم، وفيهم ذوو الدين والورع (كاندينسكي، موندريان)، وهؤلاء الذين كانوا يعتزمون العودة إلى الدين التقليدي (إليوت، سترافينسكي، أودن، شونبرج)، والمشككون ولكن تحت سيطرة الإغواء (جِيد)، ومؤلفو الأساطير والخرافات غير التقليديين (ييتس، ستيفينز)، وملحدو بلومزبري العلمانيون؛ جميعهم نظروا إلى مزاعم الفن بوصفها مُنافِسةً أو مُكمِّلةً لمزاعم الدين التقليدي بشكل أو بآخر. وراح كثيرون آخرون؛ أمثال: ييتس، وشو، ولورانس، ومان، يبحثون عن بدائل للدين، أو اتِّباع خُطى المفكرين أمثال يونج في رحلة البحث عن معادل فعال نفسيًّا له (هكسلي، ييتس)، أو تكوين مجادلات حجج نفسية داحضة له بوصفه مجرد وهم، بينما لديهم في الوقت ذاته حس قوي بحتميته العصابية، مثلما فعل فرويد. وهذا البحث عن سلطة إلهامية داخل الثقافة الرفيعة وليس داخل المؤسسات والمنشآت الدينية هو إرث أساسي من الحقبة الحداثية.