البائع المتجول
كان الرجل ذو الغليون يقف على بُعد بِضع خطوات منها. وهي عائدة عبر البوابة، حين تذكَّرت آراء العمَّة ألما عن الحراسة.
فسألته: «هل ستنتظر هنا طوال اليوم؟»
«حتى المساء، يا آنسة. سيحلُّ محلَّنا بعضُ الرجال من جلوستر … جئنا من المدينة، وسنعود مع الممرضة، إذا أمكنكِ الاستغناء عنها؟»
سألته: «مَن الذي كلَّفك بحراسة المكان؟»
«السيد جونزاليس. ظن أنه من الحكمة أن يكون هناك شخصٌ ما بالجوار.»
«ولكن ما السبب؟»
ابتسم الرجل الضخم ابتسامةً عريضة.
وردَّ قائلًا: «أعرف السيد جونزاليس منذ عدة سنوات». وتابع: «أنا شرطيٌّ متقاعد، وأستطيع أن أتذكَّر المرات التي أُعطيتُ فيها مبالغَ كبيرة لكي أمسك به، ولكني لم أسأله عن السبب قط، يا آنسة. بوجهٍ عام، هناك سببٌ وجيه لكل شيء يفعله.»
عادت ميرابيل إلى منزل المزرعة، منشغلةً بالتفكير. ولحسن الحظ، أن ألما لم تكن فضولية؛ تركتْها بمفردها في غرفة الاستقبال تستجمع ذكرياتها عن الأمس المثير للقلق.
كان لدى ميرابيل عددٌ قليل جدًّا من الذكريات المشوَّشة. لقد قرأت كثيرًا، وخمَّنت كثيرًا، وفي مرحلة طفولتها كان لديها عادةُ الربط بين السبب والنتيجة. لقد كان الإعلان مصمَّمًا خِصِّيصى من أجلها؛ كان هذا هو أولَ استنتاجاتها. كان مصمَّمًا ليأتيَ بها تحت سيطرة أوبيرزون. إذ إنها أدركت الآن هذه الحقيقة المهمة؛ منذ أن دخلت مكتب شركة أوبيرزون آند سميتس، لم يكن لها حريةُ التحرك كما تشاء، ولو مرة واحدة. لقد أخذها لتناول الغداء، وعاد بها؛ كانت جوان نيوتن تُرافقها في رحلة العودة إلى المنزل، ومن المنزل إلى القاعة؛ ومنذ ذلك الحينِ لا تشكُّ أن مراقبة أوبيرزون لها استمرت، حتى …
تذكَّرت على نحوٍ غامضٍ الرجلَ الذي كان يرتدي العباءةَ، الواقفَ على مدخل الباب المتأرجح. أكان هذا جونزاليس؟ ظنَّت بطريقةٍ ما أنه لا بد أن يكون هو. جونزاليس، اليقظ، المنتبه … ولكن لماذا؟ لأنها كانت — ولا تزال — في خطر. ولكن اللغز الأكبر هو سببُ اختيار شخصية عديمة الأهمية مثلها.
وبطريقةٍ لا يمكن تفسيرها، كانت وفاة باربرتون مرتبطةً بالإعلان وبالاهتمام الذي حَظِيَت به من جانب الدكتور أوبيرزون وعصابته. مَن هو اللورد إيفينجتون؟ تذكَّرَت لهجته الألمانية وكلمته الشهيرة «السيدة الكريمة»، والطقطقة الغريبة لنعلَيه وانحناءته الرسمية المتيبِّسة. هذه هي الحيلة الخرقاء التي كان يجب عليها أن تُلاحظها من الوهلة الأولى. كان هذا الرجل أحدَ مُراقبيها. وكانت مهمَّته تقديمَ عصيرِ برتقالٍ مذاب فيه مخدِّر. حين أدركَت ذلك ارتجفت. لنفترضْ أن ليون جونزاليس، أو أيًّا مَن يكون، لم يتدخل بفضل العناية الإلهية، فماذا كان من الممكن أن يحدث لها؟
سارت إلى النافذة، وتطلَّعتْ خارجها، وشعرت بالارتياح والهدوء الشديدين حين رأت الرجلَين داخل البوابة، وفرحَت لمعرفة أنها، لسببٍ ما، تحت رعاية وحماية هذه المنظمة الغريبة التي لطالما قرأتْ عنها.
دخلَت إلى المطبخ المقبَّب، لتجد طاولة المطبخ مغطَّاةً بمجلَّدات ضخمة، والعمة ألما تشرح للممرضة المهتمة نظامَها لحفظ الملفات. كان اهتمامُ تلك السيدة صاحبةِ الملامح الجامدة منصبًّا على موضوعَين؛ ألا وهما: الجريمة، وسجلَّات العائلة. كان لديها دفتران ممتلئان بقصاصات الصحف المحلية بخصوص أسرة أحدِ أبناء العمومة البعيدين الذي تربَّى ليكونَ من طبقة النبلاء أثناء الحرب. كان لديها دفترٌ آخرُ مخصَّص للانتصارات الاجتماعية لإحدى القريبات البعيدات، جودارد، التي ظهرت أخيرًا بمظهرٍ مثير للاهتمام كمدَّعية في دعوى الطلاق الأكثر شهرةً في هذا العصر. ولكن، كانت الجريمة، بوجهٍ عام، الشغلَ الشاغلَ للعمة ألما. ومن منطلق هذه القصاصات الضخمة اكتسبَت ميرابيل معرفتها الكاملة برجال العدالة الأربعة وعملياتهم. كان ثَمة كتب تزخر بقصة مقتل ريمون، رتَّبت باهتمام وعناية ترتيبًا زمنيًّا، نظرًا إلى أن التسلسل الزمني يكاد يكون عيبَ ألما جودارد الخطيرَ. ولكن ثَمة موضوع رأي عام ينقص مجموعتها، وكانت تشرح السبب للمُمرضة حين دخلت ميرابيل المطبخ.
كانت تقول: «كلا، يا عزيزتي، لا يوجد شيءٌ عن الأفعى. لا أريد أيَّ شيء ذي صلة بها؛ إنها تُثير أعصابي. في الواقع، لم أقرأ أيَّ شيء به أدنى إشارة إليها.»
قالت الممرضة بحماس: «أنا أحتفظ بكلِّ سطر كُتب عنها». ثم أضافت: «أخي مُراسل صحفي في مجلة ميجافون، ويقول إنها أفضل قصة إخبارية لديهم منذ سنوات …»
قاطعت ميرابيل هذا الحوارَ البشع نوعًا ما لتطرحَ بعض الاستفسارات عن وجبة الغداء. فقد استعادت اتِّزانها الآن وصار لديها شهيةٌ للطعام.
كان الباب الأمامي مفتوحًا، وبينما هي في طريقها إلى غُرفة الطعام لإحضار المواد الكتابية الخاصة بها، سمعت مشاحنةً عند البوابة. ظهر رجلٌ ثالث؛ بائع متجول ذو مظهرٍ رثٍّ يحمل أمامه صينيةً، تزخر بجميع أنواع الأزرار والأشرطة الرخيصة. كان رجلًا في منتصف العمر ذا لحيةٍ شَعْثاء، ورغم أنه كان يومًا دافئًا، فهو يرتدي معطفًا طويلًا يكاد يصل إلى كعبَيه.
كان صاحب الغليون يقول: «ربما تكون أو لا تكون، ولكن لن تدخل.»
صاح البائعُ المتجول قائلًا: «لقد خدمت في هذا المنزل سنواتٍ، ماذا تقصد بمنعي؟ أنت لست رجلَ شرطة.»
قال الحارس المتحلي بالصبر: «سواءٌ أكنتُ رجل شرطة أم عاملَ نظافة أم ساعيَ بريد، لن تمر عبر هذه البوابة، هل تفهم ذلك؟»
في تلك اللحظة، لمح البائعُ المتجول الفتاةَ عند الباب ورفع قبَّعته المهترئة بابتسامةٍ واسعة. لم تكن الفتاة تعرفه؛ لم تتذكَّر أنها رأتْه في المنزل من قبل. ولم ترَه ألما كذلك، التي خرجَت في تلك اللحظة.
قالت: «هو شخصٌ غريب هنا، ولكننا نستقبل دومًا أشخاصًا جددًا من جلوستر». وتابعت: «ما الذي يبيعه؟»
خرجَت إلى الحديقة، وبمجرد رؤيتها اختفَت الابتسامة العريضة من على وجه البائع المتجول.
قال: «لديَّ بعض الأشياء أودُّ بيعها للآنسة الصغيرة، يا سيدتي.»
ردَّت ألما بحدةٍ قائلة: «لست كبيرةً في السن لهذه الدرجة، أنا آنسة». وتابعت: «منذ متى وأنت تختار وتنتقي زبائنك؟»
تذمَّر الرجل وقال شيئًا بصوتٍ غير مسموع، وقبل حتى أن يعرض بضاعته، جرَّ قدمَيه على طول الطريق الترابي، وراقَبوه حتى اختفى عن الأنظار.
كانت مزرعة هيفيتري اسمًا فخمًا للغاية على مكانٍ صغير جدًّا. حيث تتبع المزرعة الصغيرة الطريق المؤدي إلى هيفيتري لان، الذي يشكِّل الحدود الجنوبية للمزرعة. والطريق نفسُه يسير بزاويةٍ ليصل إلى خلف المنزل، ويُشكِّل سورٌ شجري الحدَّ الثالثَ الذي يفصل المزرعة عن بيتٍ ريفي ذي مظهر متفاخر تابع لشخصية محلية غنية. وفي هذا الطريق، اختفى البائع المتجول.
قال رفيق الحارس المدخن للغليون: «معذرة، يا سيدتي.»
فتح البوابة، ودخل، وأجرى جولةً تفقُّدية حول المنزل، ووصل إلى البستان الموجود في الخلفية. كان هناك بضعة مبانٍ متفرقة، وباجتيازها وصل إلى المروج، حيث تجلس بقرة ميرابيل الوحيدة في كسلٍ مثل بناتِ جِنسها. انتظر الحارس، وهو يختبئ جزئيًّا خلف جِذعٍ سميك لشجرة تفاح، وفي الحال، كما توقَّع، رأى رأسًا يظهر من بين السِّياج الحدودية. وفي ظل المراقبة، قفز البائعُ المتجول إلى المروج ثم وقف، متفقدًا الأرض. كان قد ترك صينيته وحقيبته، وركَض بسرعةٍ مذهلة لرجلٍ في مثلِ سنِّه، ووصل إلى حظيرة خشبية صغيرة، وفتح الباب واختفى داخلها. في هذا الوقت، انضمَّ إلى الحارسِ رفيقُه وتشاورا معًا، فعاد صاحب الغليون إلى موقعِه أمام المنزل، في حين سار الآخرُ بتمهُّل عبر المروج حتى وصل إلى باب الحظيرة المغلق.
وبحكمةِ مَن هم في موضعه، أجرى جولةً تفقُّدية حول المبنى أولًا، واكتشف أنه لا توجد مخارجُ عبر البوابات المسودة. ثم فتح الباب على مِصراعَيه:
وقال: «اخرج، يا فتى!»
كانت الحظيرة فارغةً، باستثناء كومةٍ من القش الموجودة في إحدى الزوايا وبعض عربات المزرعة القديمة بلا عجلٍ مثبَّتة على ثلاث دعامات في انتظار عناية صانع العجلات.
كان هناك سُلَّم يُؤدي إلى مخزن التبن، تسلَّقه الحارس بتمهُّل. كان رأسه عند مستوى الفتحة المظلمة، حين سمع صوتًا يقول: «ارفع يديكَ!»
كان ينظر إلى فوهة المسدس الأتوماتيكي الموجهة إليه.
«انزل، يا فتى!»
همس الصوت في الظلام قائلًا: «ارفع يديكَ وإلا ستكون في عِداد الموتى!»
أطاع الحارسُ الأوامر، وهو يلعن غباءه لأنه أتى بمفرده.
«الآن، اصعد.»
وبقدرٍ من الصعوبة، صعد الحارس بنفسه إلى مستوى الأرضية.
قال البائع المتجول: «سِرْ في هذا الاتجاه، أسرِع.» وأضاف: «أبقِ يدَيك مرفوعتَين لأعلى.»
شعر بملمس الفولاذ البارد على معصمه، وسمع صوت تكة.
«الآن، اليد الأخرى.»
وبمجرد أن كبَّله، بدأ البائع المتجول تفتيشَه سريعًا.
قال هازئًا وهو يسحب مسدسًا من الجيب الخلفي للحارس: «تحمل مسدسًا، أليس كذلك؟» وتابع: «الآن، اجلس.»
وفي بضع ثوانٍ، كان الحارس المرتبك مقيَّدًا ومكمَّمًا. نظر البائع المتجول، بعد أن زحف إلى مدخل مخزن التبن، عبر شقٍّ بين ألواح الخشب. كان يُراقب السورَ الشجريَّ الذي تسلَّقه، لا المنزل. ظهر رجلان آخَران هناك، وشعر بالارتياح. نزل إلى الحظيرة، وسحب السلَّم ليسقط على الأرض، قبل أن يخرج من الحظيرة ويُعطي إشارة.
عاد الحارس الثاني بطريق مختصر إلى الجزء الأمامي من المنزل، ومرَّ عبر الحديقة ومنها إلى باب المطبخ. وقف ليُغلق المزلاج، رأته الفتاة، وهي تدخل المطبخ.
سألته في انزعاج: «هل هناك مشكلة؟»
قال وهو ينظر عبر نوافذ المطبخ المؤمنة بقضبان حديدية: «لا أعلم، يا آنسة». وتابع: «زميلي رأى ذلك البائع يدخل الحظيرة.»
تبعتْه إلى الباب الأمامي. استدار ليذهب ولكنه غيَّر رأيه وعاد، ورأته وهو يضع يدَه في جيبه الخلفي، وذُهلَت حين رأته يُخرِج مسدسًا ذا ماسورة طويلة طراز براونينج.
«هل يمكنكِ استخدام المسدس، يا آنسة؟»
أومأت برأسها، وقد منعتْها المفاجأة من الكلام، ورأته وهو يُزيح السترة ويسحب قفل الأمان.
«أريد أن أكون على الجانب الآمن، وستزيد سعادتي لو تسلَّحتِ.»
كان هناك مسدسٌ مُعلَّق على الحائط فأنزله.
سألها: «هل لديك أيُّ طلقات لهذا المسدس؟»
فتحت دُرج الخِزانة الموجودة في الرَّدهة وأخرجت كرتونة من الورق المقوَّى.
علَّق قائلًا: «قد تكون مفيدة.»
«ولكن بالتأكيد، يا سيد …»
قدَّم اسمه قائلًا: «ديجبي.»
«بالتأكيد أنت تُبالغ، أليس كذلك؟ لا أعني أنك تفعل ذلك بنيَّة إخافتي، ولكن ليس هناك أي خطر يُحدق بنا؟»
«لا أعرف. ينتابني شعورٌ غريب … ينتابني طوال الصباح. كم يبعد أقربُ منزل من هنا؟»
ردَّت قائلة: «أقل من نصف ميل.»
«هل لديك هاتف؟»
أومأت برأسها.
أضاف بنبرةٍ متوترة قائلًا: «ربما أكون خائفًا. سأخرج إلى الطريق وأُلقي نظرة. أتمنى أن يعود زميلي.»
سار بخطًى وئيدة في ممر الحديقة ووقف دقيقةً مائلًا فوق البوابة. وبينما هو كذلك، سمع أزيزًا وصوتًا محشرجًا لسيارةٍ قديمة، ورأى شاحنة خاصة بأحد التجار تلتف عند منعطف طريق هيفيتري لان. تباطأت سرعتها مع اقترابها من المنزل، وتوقَّفت تمامًا أمام البوابة. بوابلٍ من اللعنات، نزل السائق ورفع غطاء السيارة الصفيح البالي، وتحسَّس أسفل المقعد ليُخرِج مِفتاحًا طويلًا للمسامير. ثم، بسرعة خاطفة، استدار نصف استدارة وهجم على رأس ديجبي. سمعت الفتاةُ صوت الارتطام البغيض، ورأت الحارس يسقط في وهنٍ على الطريق، وفي ثانية، أغلقت الباب بقوة وسحبت مزلاج المنزل.
كانت تتصرف بهدوء؛ لم ترتجفْ يدُها وهي تسحب المسدس من على طاولة الرَّدهة.
ونادت: «ألما!» فنزلت ألما تركض على السُّلم.
هتفت قائلة: «ماذا بحق السماء …؟» ثم قطعت جملتها حين رأت المسدس في يد ميرابيل.
قالت الفتاة بسرعة: «إنهم يُهاجمون المنزل». وتابعت: «لا أعرف مَن «هم»، ولكنهم طرَحوا أحد الرجال الذين يحرسوننا أرضًا. خُذي المسدس، يا ألما.»
لوت ألما وجهها، ربما تعبيرًا عن الخوف أو الغضب أو كِلَيهما. فيما بعد، علمَت ميرابيل أن الشعور السائد كان شعورَها بالرضا أن تجد نفسها في أجواء شبيهة بالحرب.
ركضت الفتاةُ إلى غرفة الاستقبال، وفتحت النافذةَ التي تُطل على الشارع. كانت البوابة مفتوحةً وحمَل رجلان، من الواضح أنهما مختبئان داخل الشاحنة، الرجل الذي فقَد وعيه، ورأتهما، بهدوءٍ عجزت أن تفهَمه في قرارةِ نفسِها، يطرحانه بالداخل ويُثبتان الباب الخلفي للشاحنة. أحصتهم أربعةَ رجال، بمن فيهم السائق الذي عاد إلى مقعده. أشار أحد الوافدين، من الواضح أنه قائدهم، إلى الشارع الذي يؤدِّي إلى الطريق، وخمَّنَت أنه يُعطيهم الاتجاهات بخصوص المكان الذي ينبغي أن تنتظر فيه السيارة، التي بدأت تتراجعُ على الفور تقريبًا وبسلاسةٍ مذهلة، متذكرةً المظهر الرثَّ الذي بدَت عليه قبل بضع دقائق.
عاد الرجل الذي كان يُعطي الأوامر سريعًا إلى الممر المؤدي إلى الباب.
«توقف!»
نظر حوله منتفضًا نحو فوهة مسدسٍ طراز براونينج مصوَّبة تجاهه، كان من شأن المفاجأة التي بدَت عليه، أن تكون مضحكة، في أي ظرف آخر غير هذا.
قال: «لا بأس، يا آنسة …»
قالت في برود: «اخرج من تلك البوابة.»
«أريد مقابلتك … لأمرٍ غاية في الأهمية.»
بانج!
أطلقت ميرابيل رصاصة، استهدفت فوق رأسه مباشرة، نحو شجرة الحور العتيقة. انحنى الرجل وركض. وما أن ابتعدَ عن البوابة حتى سقط على السياج، حيث وقف رجاله، وسمعَت صوت همهمةِ أصواتهم بوضوح؛ إذ كانت الأجواء هادئةً، وبدا صوتُ محرك الشاحنة على مقربة. وفي التو، رأت رأسًا يختلسُ النظر عبر السياج.
سألها القائدُ بصوتٍ عالٍ: «هل يمكنني التحدثُ معك لمدة خمس دقائق؟»
كان رجلًا ضخم الجثَّة، أسمرَ البشرة، لصقت على وجهه ضمادة طبية، ولاحظت دون وعيٍ منها أنه يلبس حَلقًا ذهبيًّا.
قال، وهو يفتح البوابة أثناء حديثه: «نحن لن نُسبِّب لك أيَّ مشكلة». وتابع: «لم يكن هناك داعٍ لأن تُطلقي النار، بأي حال من الأحوال. لن يؤذيَكِ أحد.»
اقترب مسافةَ ياردة إلى داخل الحديقة أثناء حديثه.
بانج، بانج!
وعلى عجلةٍ من أمرها، أطالت الضغطَ على العَقِب والزِّناد فقط لجزء من الثانية، وانتفضَت حين أدركتْ أن طلقةً أخرى خرجت، واهتزَّت يدُها، وأخفقت الطلقة الثانية في إصابة رأسه بجزءٍ من البوصة. اختفى في لمح البصر، وبعد مرور ثانيةٍ رأت قبعاتهم تتحرَّك بسرعة فوق الصندوق. كانوا يركضون ناحية السيارة المنتظرة.
«ابقي هنا، يا ألما!»
أومأت ألما برأسها في تجهُّم، وركضت الفتاة لتصعد إلى غرفتها بالطابق العلوي. ومن هذا الارتفاع، حَظِيَت برؤيةٍ أفضل. رأتهم يصعدون إلى الشاحنة، وفي الثانية التالية، أُلقي بالجسد المتراخي للحارس على السياج؛ وبعد برهة قصيرة، بدأت الشاحنة تتحرك، وبسرعة تدريجية، اختفت وسطَ سحابةٍ من الغبار على طريق هايكومب رود.
نزلت ميرابيل دَرج السلَّم ركضًا، وفتحت المزلاج وخرجت مسرعة على طول الطريق نحو جثة المحقِّق الهامدة. كان يرقد إلى جانب الخندق، ورأسه عبارة عن كتلةِ دماء، ولاحظت أنه لا يزال يتنفَّس. حاولت أن ترفعه، ولكنها كانت مهمةً بالغة المشقَّة بالنسبة إليها. فعادت ركضًا إلى المنزل. كان الهاتف في الرَّدهة؛ كان الجهاز قديم الطراز ذا ذراع لا بد من إدارتها، ولم تكن قد أدارَتْها مرتين قبل أن تُدرك أن السلك مقطوع.
كانت ألما لا تزال في غرفة الاستقبال، تُمسك المسدس بإحكام، وعلى وجهها نظرةُ إصرارٍ قاسية.
قالت: «يجب أن تُساعديني في إدخال ديجبي إلى المنزل.» «أين هو؟»
أشارت ميرابيل، فعادت السيدتان إلى الرجل، ثم جرَّتاه طوال الطريق إلى الرَّدهة. وبعد أن وضعتاه على الأرضية المرصوفة بالطوب، ذهبت الفتاةُ لتبحث عن قطعة قماش نظيفة. وجدت كلَّ ما تحتاج إليه في المطبخ، حيث تُجفِّف ألما الغسيل الخاص جدًّا. بينما وقفت ألما تُشاهد بثباتٍ ثوبَها يتمزَّق، غسلت الفتاة الجرحَ ووضعت الممرضة المرتعدة (التي اختفت مع أول طلقة) ضمادةً خشنة. كان الجرح بحالة سيئة، ولم يظهر على الرجل أيُّ علامات تدل على استعادة الوعي.
قالت ميرابيل: «يجب أن نُرسل ماري إلى جلوستر طلبًا لعربة إسعاف». وتابعت: «لا يمكننا إرسال الممرضة؛ إنها لا تعرف الطريق.»
قالت ألما بهدوء: «ماري تُعاني حاليًّا نوبةً هيسترية في غرفة حفظ المؤن. سآخذ عربةً بحصان وأذهب بنفسي. ولكن أين الرجل الآخر؟»
هزَّت ميرابيل رأسها.
وقالت: «لا أودُّ أن أفكِّر فيما حدث له». وتابعت: «الآن، يا ألما، أتظنِّين أن بإمكاننا أن نأخذه إلى غرفة المعيشة؟»
تعاونتا معًا على حمْل الجسد الثقيل وترنَّحتا به إلى الغرفة الصغيرة الجميلة، وترَكتاه في النهاية على الأريكة أسفل النافذة.
قالت ميرابيل: «ليرتَحْ هنا حتى نأتي بسيارة الإسعاف»، ثم جاءت ضحكةٌ من ورائها جعلتها تلتفت بشهقة.
كان هذا البائع المتجول، وفي يده المسدس الذي ترَكَته.
أومأ إلى الفتاة قائلًا: «لا أريد سِواكِ. أما السيدتان الأخريان فيُمكنهما الخروج من هنا.» وهزَّ رأسه نحو الرَّدهة. تحت درجات السلَّم كانت هناك خِزانة كبيرة وفتح الباب على نحوٍ ترحيبي. قائلًا: «ادخلا هنا. وإذا أصدرتما أيَّ ضوضاء، ستندمان على ذلك.»
نظرت ألما بلهفةٍ إلى المسدس الذي ترَكَته في الزاوية، ولكن قبل أن تتمكَّن من فعل أي حركة وضع نفسَه بينها وبين السلاح.
قال البائع: «إلى الداخل». ولم تُفاجَأ ميرابيل كثيرًا حين أطاعته العمة ألما بخنوع.
أغلق الباب على السيدتين وثبَّت المزلاج.
«الآن، أيتها الآنسة، ارتدِي قبَّعتَك وتحرَّكي بنشاط!»
تبِعها إلى غرفتها بالطابق العلوي وراقبها وهي تبحثُ عن قبعة وعباءة. كانت تعرف أن هذا التصرف ما هو إلا تضييعُ وقتٍ حتى تتأقلمَ معه. أما هو، من جانبه، فكان فرِحًا جدًّا بنجاحه في المهمة، لدرجةِ أنه تحوَّل إلى شخصٍ ثرثار تقريبًا.
«أظن أنكِ رأيتِ الرجالَ يبتعدون، ولكنكِ نسيتِ أنني كنت في مكانٍ ما بالجوار. هل أنتِ مَن أطلق الرصاص؟»
لم تُجب.
قال: «لا يمكن أن يكون ليو، وإلا كنتِ في عِداد الموتى.» كان يختبر فوهة المسدس. واستطرد قائلًا: «حسنًا، أنتِ مَن أطلقَ الرصاص.» وضحك. ثم قال: «ألستِ أنت الشجاعة! أختاه، يجب أن …»
تجمَّد في مكانه، مُحدِّقًا عبر النافذة. أعجزته الدهشة عن الحركة حين رأى العمةَ ألما برأسها المكشوفِ تركض على طول طريق جلوستر. فالتفتَ إلى الفتاة وهو يصبُّ لعناته.
«كيف خرجت؟ هل يوجد أحدٌ هنا؟ اعترفي الآن.»
قالت ميرابيل في برود: «الخزانة الموجودة أسفل درجات السُّلم تقود إلى قبو النبيذ، وهناك طريقان إلى خارج قبو النبيذ، أظن أن العمة ألما شقَّت طريقها عبر أحدهما.»
اتخذ خطوةً نحوها، وهو يصبُّ لعناته، وأمسكها من ذراعها ودفعها نحو الباب.
«بسرعة!» قالها، وهو يسحبها وينزل السُّلم عبر الرَّدهة، ثم إلى المطبخ.
سحب المزلاج، ولكن قُفل باب المطبخ كان مغلَقًا.
«من هذا الاتجاه.» أقسمَ بدمٍ بارد، بينما ذراعها لا تزال في قبضته القوية، وأسرع عبر الرَّدهة وفتح الباب.
كانت لحظةً مشئومة. حيث وجد رجلًا يسير على مسار المدخل، وعلى وجهه شبه ابتسامة كما لو أنه تذكَّر نكتة. وعندما رآه البائع المتجول ترك ذراعَ الفتاة واتجهت يده بسرعة البرق نحو جيبه.
قال ليون جونزاليس في رفق: «متى ستموت؟» وتابع: «خذ قرارًا، وليكن بسرعة!»
بدا المسدس الذي في يده كأنه يهتزُّ بحماس استعدادًا للقتل.