في مزرعة هيفيتري
لقد اتفقوا على أنه، بعد فشل هجوم العصابة، ونظرًا إلى أنهم قد ركَّزوا جهودهم في الوقت الحالي على راث هول؛ فإنَّ العودة الفورية للحارس القديم إلى مزرعة هيفيتري هي أمرٌ غير مرجَّح. كان هذا هو رأيَ ميدوز، وشاركه ليون وصديقه الرأي ذاتَه. ولم يُعارض هذا المنطقَ سوى بويكارت؛ الخبير الاستراتيجي الذي يعمل بثقةٍ لامتلاكه معرفةً غريبة بسيكولوجية أعدائه، ولكنه لم يُصِرَّ على رأيه؛ لذا تُرك أمر مزرعة هيفيتري وقاطنيها بين أيدي الشرطة المحلية وديجبي المضطرب.
عرَضَت العمة ألما ترْكَ غرفتها للرجل المصاب، لكنه لم يُذعن لذلك، وأخذ غرفة النوم الاحتياطية، فهي تُتيح وضعيةً دفاعية ممتازة؛ لأنها تفصل جَناح ميرابيل عن الغرفة الصغيرة الجميلة التي اتخذتها العمة ألما غرفةَ مكتبٍ ومكانًا للنوم.
يتكون طاقَم العاملين بمزرعة هيفيتري من راعي بقرٍ عجوز، وطاهٍ، وخادمة، وكانت الأخيرةُ قد قدَّمت إخطارًا بالفعل وغادرَت في عصر يوم الهجوم. فقد أخبرتْ ميرابيل، بمنتهى الجِدية، أنها تمتلك قلبًا ضعيفًا.
وقاطعتْها ألما بحدة قائلةً: «وعقلًا ضعيفًا أيضًا!» وأضافت: «لو كنتُ مكانكِ، يا فتاتي، لما قلقتُ على قلبي.»
استاءت الفتاة من الإهانة التي نالت من ذكائها، وردَّت عليها بقولها: «لقد كنتُ الأولى على صفي في المدرسة.»
ردَّت ألما: «لا بد أنه كان صفًّا صغيرًا جدًّا.»
انتهى الأمر بالعثور على خادمةٍ جديدة، وهي فتاة شعرَت بسعادة غامرة حينما علمَت باحتمالية تخلصِها من رَتابة العمل اليومي نتيجةَ أحداث مثيرة خارجةٍ عن المألوف، وقبل حلول المساء استقرت شئون المنزل وعادت إلى طبيعتها. كانت ميرابيل متعبة؛ لذا خلدَت إلى فراشها مبكرًا تلك الليلة، واستيقظت مع أول أشعَّة شمس تسللت عبر نافذتها. استيقظت من النوم، وهي تشعر، كما قالت لنفسها، بأنه يومٌ عادي لا يختلف عن أي يوم من أيام حياتها. سحبت الستائر القطنية المزخرفة بالزهور، ونظرَت إلى الخارج لتُبصر سكون العالم، وهي تشعر بسعادة وراحةٍ لا حدود لهما. لم تلمح أحدًا على مرمى البصر. كانت السحُب تعلو الواديَ، ومن أحد مباني المزرعة البيضاء، بعيدًا على منحدر التل، رأت الدخانَ الأزرق يتصاعد. كان صباحًا لا يُنسى، وللاستمتاع بتلك اللحظات أقصى استمتاع، ارتدَتْ ملابسها على عجَل ونزلت إلى الحديقة. وفي أثناء سَيرها في الطريق سمعت صوت النافذة تنفتح وأطلَّ منها رأس السيد ديجبي المغطى بالضمادات.
قال بارتياح: «أوه، إنها أنت يا آنسة، أليس كذلك؟» وضحكت هي.
وقالت: «لا يوجد شيءٌ أكثر فظاعةً من رؤية عنكبوت كبير»، وأشارت إلى عنكبوتٍ كبير ثابت في مكانه، نسج خيوطَه بين أوراق نبات الخَطْمي الطويلة. ووقعت أولُ نحلة فريسة داخل شِباكه.
اعترف لها قائلًا: «لو أتى أحدُهم البارحة لما سمعته». وأضاف: «لقد استغرقت في النوم كالأموات». وتحسَّس رأسه بحذرٍ شديد. ثم تابع، دون أن يتردد في الإفصاح عن ضعفه: «أشعر بوخز، ولكن زال الألم. أخبرني الطبيب أنني نجوتُ بمعجزة؛ وظن أنني أعاني كسرًا. هل ترغبين مني أن أُعِدَّ لك الشاي، يا سيدتي، أم أستدعي الخادمة؟»
هزَّت رأسها نافيةً، ولكنه اختفى بالفعل، وأتى باحثًا عنها في الحديقة بعد عشرِ دقائق، وفي يدَيه كوبٌ من الشاي. وأخبرها للمرة الثانية أنه شرطيٌّ متقاعد، ويعمل لدى جونزاليس منذ ثلاث سنوات. إن الرجال الثلاثة يدفعون أتعابًا جيدة، وتفاجأت، حينما علمتْ بامتلاكهم موارد خاصة هائلة.
«هل هو مُجزٍ ماديًّا — أقصد عملهم في التحريات الخاصة؟»
سخِر من الفكرة قائلًا: «بوركتِ يا آنسة، كلا، بالطبع! إنهم رجالٌ في غاية الثراء. كنت أظن أن الجميع يعلم ذلك. يُقال إن ثروة السيد جونزاليس تُقدَّر بالمليون، حتى قبل الحرب.»
كان هذا خبرًا مذهلًا.
سألته: «ولكن لِمَ يفعلون هذا؟» ترددَت وتابعَت: «أقصد هذا النوعَ من العمل؟»
أجاب الرجل باقتضاب: «إنها هواية، يا سيدتي. فالبعض يَهْوى المشاركة بأحصنة السباق، والبعض الآخر يمتلك اليخوت، أما هؤلاء السادة فيجدون متعةً كبيرة في عملهم.» وأضاف: «ويدفعون أجورًا جيدة.»
إن الرجال الذين يعملون بانتظامٍ لدى رجال العدالة الثلاثة لا يتلقَّون أجرًا جيدًا فحسب، بل يتلقَّون أيضًا مكافأة، في كثير من الأحيان، لا يمكن وصفُها إلا بالهائلة. ذات مرة، بعد أن اعتقلوا وأطاحوا بعصابة إسبانية من لصوص البنوك، وزَّعوا ألف جنيه إسترليني على كلِّ مَن شارك في تلك المهمة. وألمح دون تصريح إلى أن هذه الأموالَ شكلَت جزءًا من الأموال المنهوبة التي استردَّها الثلاثة، وبدا أنه يظن أنه لا بأس في توزيع هذه المكاسب غير المشروعة.
وقال متفلسفًا: «وعلى أي حال، يا آنستي، بعد استعادتك أموالًا مماثلة، يصبح من المستحيل إعادتها لمن سُلبت منهم. فقد استمرَّ دييجو هذا بالسطو على البنوك سنوات، والبنوك ليست كالأفراد — إنها لا تشعر بخَسارة المال.»
قالت ميرابيل، وهي تركز في قطف الورود: «إنها وجهة نظر غير أخلاقية إطلاقًا.»
وافقها ديجبي الذي بدا أنه واحدٌ ممن تلقَّوا المكافأة، وتبنَّى وجهة نظر راضية ومتسامحة، فقال: «ربما، يا سيدتي». وتابع: «ولكن ألف جنيه تعني الكثير من المال.»
مرَّ اليوم بسلام. وعلمت بحريق مبنى أوبيرزون من الصحف المسائية المبكرة القادمة من جلوستر، ونظرَت إلى هذه الكارثة بصفتها مجردَ حادث ولم تربطها بأي شيء. لم تشعر بأسفٍ تجاه الحادث. التهمت النيران مبنًى عتيقًا متهالكًا. ودمَّرت بالصدفة لوحةً أصلية يعتبرها الدكتور أوبيرزون أثمنَ من أي لوحةٍ رسمها ليوناردو أو تخيَّلها رافائيل، لكنها لم تكن على علم بذلك.
وقبل وقت العشاء مباشرة، وقع أول حادث غريب في ذلك اليوم. كانت ميرابيل تقف بجانب بوابة الحديقة تتأمَّل أضواء السماء وقتَ الغروب، التي تكسوها السحب الحمراء والرمادية الضاربة إلى الزُّرقة. وقد بدأ الرذاذ في التساقط منذرًا بليلةٍ ممطرة. لكن استبَقتْها روعة تلك الألوان الفخمة. وأدركت في هذه العتمة قدوم رجلٍ باتجاه المنزل من جهة جلوستر. كان يسير في منتصف الطريق بخطًى وئيدة، وكأنه معجبٌ بالمنظر، هو الآخر، ويرى أنه لا داعي للعجلة. كانت يداه وراء ظهره، وقبَّعته الصوف مُزاحة خلف رأسه. كان رجلًا بدينًا قصيرَ القامة، ذا وجه مألوف بشكل غريب. أدار عينيه المتجهمتَين باتجاهها، ونظرت مرةً أخرى إلى ملامحه الحادة، وإلى شاربه الأسود الدقيق الذي يخطُّه الشَّيبُ تحت أنفه المعقوف، كانت واثقةً أنها رأته من قبل. ربما التقَتْه في الشارع ذات مرة، ودون وعي منها اختزنَت صورته في ذاكرتها.
أبطأ خطوتَه، وتوقَّف، عندما اقترب منها.
وسألها بصوتٍ عميقٍ متناغم: «هل هذا طريقُ هيفيتري لان؟»
أجابته بابتسامة: «لا، ستجد الطريق عند أول فتحة في السياج». وتابعت: «أخشى أنه لا يمكنك وصفه تمامًا بالطريق؛ فهو عادةً ما يكون موحلًا بارتفاع الكاحل.»
نظر خلفها متطلعًا إلى المنزل؛ وتجوَّلت عيناه بين النوافذ، ووقع نظره على نَبْتة الياسمين البريِّ المتسلقة، ثم نظر إليها من جديد.
وقال: «لا أعلم مقاطعة جلوسترشاير جيدًا. منزلك جميل جدًّا.»
أجابته في دهشة: «أجل!»
«وكذلك الحديقة.» ثم قال بعفوية: «هل تزرعون البصل؟»
حدَّقَت فيه وضحكَت.
«أعتقد أننا نزرعه، لستُ متأكدة. فعمتي هي التي تعتني بحديقة خَضراوات المطبخ.»
طافت عيناه الحزينتان على المنزل مرةً أخرى.
قال: «إنه مكان جميل جدًّا»، ورفع قبَّعته تحيةً لها، ومضى في طريقه.
كان ديجبي بالخارج، فقد ذهب في نزهة خاطفة، وكانت تنظر إلى الطريق لتُتابع الغريب، حينما رأت الحارسَ يظهر عند منعطف الطريق، ورأته يتوقَّف ويتحدث إلى الغريب. بدا واضحًا أن كلًّا منهما على معرفةٍ بالآخر؛ لأنهما تَصافحا عند لقائهما، وبعد قليلٍ أشار ديجبي إلى الطريق حيثما تقف، ورأت الرجلَ وهو يُصدر إيماءةً برأسه. وبعد انصراف الغريب عن الأنظار بقليل. تساءلت الفتاة مَن يكون هذا الرجل؟ هل كان حارسًا إضافيًّا عيَّنه الرجال الثلاثة لحمايتها؟ وعندما أتى ديجبي إليها سألته. فأجابها قائلًا: «ألا تعلمين مَن هذا السيد، يا سيدتي؟ إنه السيد بويكارت.»
ردَّدتْ مبتهجة: «بويكارت؟» ثم أضافت: «يا إلهي! ليتني كنتُ أعرف!»
قال الحارس: «لقد اندهشتُ لرؤيته. الحقيقة أنه أكثرُ مَن التقيتُه من بين الرجال الثلاثة. فهو عادةً ما يظل في كورزون ستريت، حتى حينما يكون الآخران في مكانٍ آخر.»
لم يكن لدى ديجبي ما يقوله عن بويكارت باستثناء أنه كان رجلًا شديدَ الهدوء، وليس له دورٌ فعَّال في العمليات التي يقوم بها رجال العدالة الثلاثة.
سألته الفتاة متأملة: «أتساءل لِمَ أراد أن يعرف إن كنا نزرعُ البصل؟ بدا ذلك محيرًا بشدة.»
ليس أمرًا شديدَ الغموض بالنسبة إلى ليون.
خلد جميعُ مَن بالمنزل إلى النوم بعد العاشرة بقليل، وذهبتْ ألما لتتفحَّص المصارع والأقفال الجديدة التي أتمُّوا تركيبها هذا الصباح على كل باب يسمح بالدخول إلى المنزل.
كانت ميرابيل متعبةً دون سبب واضح، واستسلمَت للنوم بمجردِ أن لامس رأسُها الوسادة.
سمعت في أحلامها المطرَ يتساقط على نافذتها، وظلَّت مستلقيةً طويلًا وهي تُحاول استعادة نشاطها لتنهض وتُغلق النافذة الوحيدة المفتوحة؛ لأن الستائر كانت تتطاير. ثم سمعت صوتَ دقٍّ أعلى على اللوح الزجاجيِّ المغلَق، وارتطم شيءٌ بأرضية غرفتها مُحدِثًا صوتًا عاليًا. فاعتدلَت وجلست. لا يمكن أن يكون ذلك صوتَ المطر المنهمر، على الرغم من أن صوت الرعد كان قريبًا.
نهضت من فراشها، وأحكمت رِداء النوم حول جسدها، وذهبت إلى النافذة، وتمالكَت نفسها حتى تكبحَ صرختها. فقد رأت شخصًا يقف في الممر بالأسفل … امرأة! فمالت خارج النافذة.
وسألت: «مَن هناك؟»
«أنا … أنا … جوان!» بدا من صوت الفتاة أنها تنتحب. ورغم هذه العتَمة، استطاعت ميرابيل ملاحظةَ أن الفتاة مبتلَّة تمامًا. «لا تُوقظي أحدًا. تعالَي … أريد محادثتك.»
سألتها ميرابيل بصوت خفيض: «ما الخطْب؟»
«كل شيء … كل شيء.»
كانت على وشْك أن تُصاب بنوبةٍ هيستيرية. أشعلت ميرابيل شمعةً وتركت الغرفة، وهبطت السلَّم بهدوء حتى لا تُزعج ألما. وضعت الشمعة على الطاولة، ورفعت المزلاج وفتحَت قُفل الباب، وبمجرد أن فتحَته، تسلل رجلٌ عبر الباب نصف المفتوح، وأطبق بيدَيه على فمها حين أوشكت على الصراخ.
تبِعه رجلٌ آخر، ورفع الفتاةَ التي تُقاوم، وحملها إلى غرفة الجلوس. وأخرج أحدُ الرجلين قنينةً معدنية صغيرة من جيبه، متصلةً بأنبوبة مطَّاطية تنتهي بقناعٍ أحمرَ كبير. رفع آسِرُها يدَيه عنها لحين تثبيت القناع على وجهها. وفتح صنبورًا صغيرًا. شعرت ميرابيل بهواء ينفث في وجهها، له طعمٌ حلو غريب، وبعدها بدأت دقَّات قلبها تتسارع بشدة. وظنت أنها تحتضر، وأخذت تتلوَّى في يأسٍ لتحرير نفسها.
•••
قال مونتي نيوتن وهو يرفع جَفنَها للحظة: «إنها بخير. أحضِر بطانية.» والتفتَ بعنفٍ إلى الفتاة التي تنتحب خلفه. وقال بوحشية: «فلتخرسي! هل تريدين إيقاظ البيت بأكمله؟»
كانت جوان البائسةُ تنتحب في هدوء، والدموع تنهمر على وجهها، ويداها تتشابكان وتستقرَّان فوق رأسها الذي تتصارع الأفكار بداخله.
وقالت باكية: «لقد أخبرتَني أنك لن تؤذيَها!»
أشار إلى الباب، وهمس قائلًا: «اخرُجي». وانصرفت بخنوع.
التفَّت بطانية ثقيلة حول الفتاة الفاقدة الوعي، وتعاونَ الرجلان في رفعها، وخرجا في المطر، حيث تنتظرهم الشاحنة القديمة، وسَحَباها فوق أرضية العربة المغطَّاة بالقش. وفي غضون ثانية تحركت العربة، وانطلقت مُسرعة.
بحلول هذا الوقت بدأ تأثير الغاز يتلاشى واستردَّت ميرابيل وعيها. مدَّت يدَها ولامست رُكبةَ امرأة. فقالت: «مَن أنتِ؟ ألما؟»
جاءها صوتٌ بائس قائلًا: «لا، أنا جوان.»
«جوان؟ أوه، أجل، بالطبع … لماذا فعلتِ ذلك؟ يا للخبث!»
زمجرَ مونتي قائلًا: «فلتَصمُتي!» وتابع: «وانتظري لحين الوصول إلى … حيث أنتِ ذاهبة، وبعدها فلْتسألي عن «الأسباب» و«العلل»».
كانت ميرابيل مرتبكةً وتشعر بغثيانٍ شديد، وزادت حالتها سوءًا خلال الساعة التالية، للحد الذي صرَف عنها قلقها. كان رأسها يدور ويدور، وآلمَها بشدة، وكانت الشاحنة تهتزُّ، فحال ذلك دون تحسُّن حالتها.
كان مونتي، الجالسُ مستندًا بظهره إلى جانب الشاحنة، يُدخِّن. ويتلفَّظ بالسباب بين الحين والآخر، حين تُطيح به بعض الهزَّات العنيفة جدًّا إلى الأمام. ومرُّوا عبر مركز العاصفة؛ فكان وميضُ البرق شبهَ مستمرٍّ وصوت الرعد يكاد يُصِم الآذان. وانهمرَ المطر فوق غطاء الشاحنة محدثًا صوتًا يُشبه دقَّات الطبول.
غطَّت ميرابيل في سُبات عميق، واستيقظت وهي تشعر بتحسُّن. كان الجوُّ لا يزال معتمًا، وليس باستطاعتها معرفةُ الطريق الذي يسلكونه، فقط عندما اتخذ السائقُ منعطفًا خاطئًا عبر بلدة ريفية، وبمساعدة ضوء البرق، تأكدت من أنها لمحت مِضمارَ سباق، وبعدها بقليل لمحت كلمة «نيوبري». فأدركَت أنهم متجهون إلى لندن.
في هذا الوقت من الصباح كانت حركة المرور قليلةً أو معدومة، وعندما انعطَفوا إلى طريق جريت ويست رود الجديد مرَّت بهم سيارةٌ كبيرة تنطلق بسرعة سبعين ميلًا في الساعة، واستيقظت الفتاةُ على صوت هَدير محركها. أصبح الآن بإمكانها الشعورُ بعجلات الشاحنة وهي تنزلق فوق قُضبان الترام. زادت الأضواء أكثر. ورأت نافذة متجر مضاءة بأنوار كثيرة، من الواضح أن الحارس الليلي نسي إطفاءَ الأضواء في الوقت المحدد.
وسرعان ما كانوا يعبرون نهر التايمز. لمحَت الأضواءَ الحمراء والخضراء لقاطرة، ورأت اللونَ الأسود في سلسلة من الزَّوارق البحرية في منتصف النهر. غالَبَها النعاس مرةً أخرى، واستيقظت منتفضة عندما تمايلت العربة وانزلقت فوق سطحٍ شديد الوعورة أكثرَ من أي سطح آخرَ اجتازوه. ففي مرةٍ انزلقت عجلاتها في الحفرة، واندفعت بعنفٍ إلى الجانب. وفي مرة أخرى انزلقَت واصطدمت ببعض الحواجز. أصبح الاصطدامُ أقلَّ حدةً، ثم توقفت العربة، وقفز مونتي للأسفل ونادى عليها بحدَّة.
الآن صار ذهنُها صافيًا، على الرغم من خفقان رأسها. رأت منزلًا غريبَ الشكل، كانت الجملونات والأبراج ضيقةً بشكلٍ غريبٍ لا يُلائم ارتفاعها. بدا أنهم وسط أحد الحقول. ورغم ذلك كانوا في لندن؛ إذ كان بإمكانها رؤيةُ وهج حرائق الأفران، وسماعُ دويِّ صافرات إنذار السفن وهي تشقُّ طريقها عبر النهر.
لم يكن لديها وقتٌ كافٍ لملاحظة الأشياء من حولها؛ لأن مونتي كبَّل ذراعَيها وخاضت في الوحل، وصعدت سُلَّمًا صخريًّا إلى قاعةٍ خافتة الإضاءة. كانت مشوَّشة الذهن وظنَّت أنها رأت جِراءً صغيرة تقف على جانب درجات السلَّم، وطائرًا كبيرًا ذا منقارٍ طويل، لكن ربما ليست إلا أضغاثَ أحلام من تأثير الغاز.
فتح مونتي بابًا ودفع بها أمامه، ووجدَت نفسها تُحدِّق في وجه الدكتور أوبيرزون.
كان يرتدي رداءَ نوم مخمليًّا أسودَ، لعله كان لباسًا ملَكيًّا ذات يوم، ولكنه أصبح الآن ملطَّخًا بالدهون والبقع. وفوق رأسه البيضاوي ارتدى قبعةَ تدخين مطرزةً تعود إلى العصر الفيكتوري. وغطَّت قدَمَيه نعلٌ مخملية دافئة. وضع الكتابَ الذي كان يقرؤه جانبًا، ومسح عدساتِ نظارته بكمِّه المخملي، ثم قال:
«حسنًا إذن!»
وأشار إلى بقايا نيران التدفئة.
وخاطب ميرابيل قائلًا: «اجلسي لتحصُلي على بعض الدفء يا ميرابيل ليستر.» ثم خاطب مونتي قائلًا: «لقد أتيتَ سريعًا يا صديقي.»
أجابه نيوتن متذمرًا: «إن جسمي كلَّه مليء بالكدمات السوداء والزرقاء. لماذا لم يُمكننا الحصول على سيارة؟»
«لأن السيارات كانت مشغولةً كما أخبرتك.»
بادره نيوتن بقوله: «هل …» ولكن العجوز نظر إلى الفتاة نظرةً ذات معنًى، وهي ترتجفُ أمام المدفأة وتُدفئ يدها وهي تفركها.
«سأجيبك، دون أن تسأل، في الوقت المناسب. وهذه اللحظة تحديدًا ليست الأكثرَ ملاءمة. أين امرأتُك؟»
لقد نسي أمر جوان، وخرج ليجدَها واقفةً في الرواق ترتجف.
سأله، ورأسه يُطل من الباب: «هل تريدها؟»
«ستذهب مع هذه الفتاة. اشرح لها الأمر.»
«أين ستضعها؟»
أشار أوبيرزون إلى الأرضية.
«هنا؟ ولكن …»
«لا، لا. يا صديقي، أنت تتسرَّع في تفسير الأمور على غير مُرادي. ستُقيم هذه السيدة المبجَّلة في قصر … لديَّ صديق لن يحتاج إليه بعد الآن.»
ارتجف وجهُه وكاد يبتسمَ. وتحسَّس تحت الطاولة، وأخرج زوجًا من أحذية ولينجتون الطويلة الرقبة، وخلع شِبْشِبَه، ولبس الحذاء وهو يلهثُ ويرتعش.
«كل ما يحتاجانه هناك؛ لقد اعتنيت بالأمر بنفسي. هيا تقدَّم!»
وتقدَّمَهم للخروج من الغرفة، ورفع الفتاةَ لتقف على قدمَيها، وتبعهما نيوتن، وكانت جوان الأخيرة. وداخل المصنع، أخرج أوبيرزون كشافًا يدويًّا صغيرًا من جيبه، وأرشدهم عبر الركام حتى وصلوا إلى ذلك الجزء من الأرض حيث السحارة. أزال القُمامة التي تُغطيها بقدمه، وسحب السحارة ونزل إلى الأسفل.
قالت جوان بصوتٍ منفعل: «لا يمكنني النزول إلى هناك، يا مونتي، لا أستطيع!» وتابعت: «ماذا ستفعل بنا؟ يا ويلي! فقط لو كنت أعرف …»
أجابها نيوتن بحدَّة: «لا تكوني حمقاء». وأضاف: «ممَّ تخافين؟ لا يوجد شيءٌ هنا. نريدك أن تعتني بها لمدة يوم أو يومين. فأنتِ لا يُمكنك أن تتركيها تنزل إلى الأسفل بمفردها؛ ستموت رعبًا.»
كانت أسنانها تصطكُّ ببعضها، وتعثرَت جوان وهي تهبط السلَّم خلفه. من المؤكد أن نظرتها الأولى على مسكنها الجديد كانت مطمئِنة. كان هناك فِراشان صغيران جاهزان؛ وقد خضعت الغرفةُ الموجودة تحت الأرض للتنظيف، وفُرِش بِساطٌ جديد فوق الأرضية. علاوةً على ذلك، كانت إضاءة الغرفة جيدة جدًّا، وكان الفرن يُصدر دفئًا مبالَغًا فيه، لكنه كان موضعًا للترحيب؛ فقد انخفضَت درجة الحرارة ٢٠ درجة منذ الظهيرة.
قال أوبيرزون، مشيرًا إلى صندوق جديد تمامًا موضوع بجانب أحد الفِراشين: «يوجد داخل هذا الصندوق ملابسُ متنوعة، وجميعها باهظةُ الثَّمن». وتابع: «وستحصلان على طعام وفير … والخبز والحليب الطازَج يوميًّا. وبحلول المساء عليك وضع الستارة فوق جهاز التهوية.» وعلى الحائط كانت هناك ستارةٌ سوداء صغيرة بمساحة نحو عشر بوصات مربعة.
أخذها مونتي إلى الغرفة المجاورة ودلَّها على مكان الاغتسال. كان هناك حوضُ استحمام، وهو شيء إلزامي بموجِب قانون المصانع الإنجليزية في مخزنٍ بهذا الوصف، فقديمًا كان الرجال يُضطرُّون إلى التعامل مع بعض المنتجات غير الصحية القادمة من الساحل.
«ولكن كيف سنخرج، يا مونتي؟ وأين نُرفِّه عن أنفسنا؟»
قال خافضًا صوته: «ستخرجان مساءَ الغد، سأحرص على ذلك». وتابع: «والآن أنصِتي، يا جوان؛ عليكِ أن تكوني فتاةً عاقلة وتُساعديني. سنَجْني أموالًا طائلةً من هذا الأمر، أكثرَ مما حلمتِ به يومًا. وعندما ينقضي هذا العمل البغيض، سآخذك بعيدًا في رحلة حول العالم.»
إنه هذا الوعد القديم الذي قطَعه من قبل، الوعدُ الذي لطالما حلما بتحقيقه، ولكنه لم يتحقَّق قَطُّ. ولكن هذا الوعد لم يمحُ قلقها تمامًا.
وسألت: «لكن ماذا ستفعل بالفتاة؟»
«لا شيء؛ ستمكث هنا أسبوعًا. وأقسم لكِ لن يَمسَّها أيُّ سوء. وفي نهاية الأسبوع ستكون حرة دون أن تُمس شعرة واحدة من رأسها.»
نظرت إليه بتمعُّن. وبالنظر إلى مدى معرفتها به، علمَت أنه كان يقول الحقيقة. ورغم ذلك …
هزَّت رأسها، وقالت: «ولكني لا أفهم الأمر»، وللمرة الأولى أظهر مونتي نيوتن صبره معها.
حيث قال: «إن لديها ممتلكاتٍ كبيرةً في أفريقيا، وهو ما سنحصل عليه، إذا سارت الأمور على ما يُرام. الفكرة أنها لا بد أن تُطالب بمِلكيتها هذه في غضون أيام قليلة، وإن لم تفعل فسنحصل نحن على المِلكية.»
زالت ملامحُ القلق عن وجهها.
سألته: «هل هذا كلُّ ما في الأمر؟» كانت تعرفه جيدًا بما يكفي للكشف عن لحظات صِدقه النادرة. وتابعت: «لقد أزاح هذا الكثيرَ من الأفكار التي تدور في ذهني، يا مونتي. بالطبع سأبقى هنا وأعتني بها من أجلك، شعرت بالراحة لمعرفتي عدمَ وقوع أيِّ سوء. ما تلك الأشياء المغطَّاة باللباد الموجودة خلف الفرن، تبدو كأنها صناديق؟»
التفتَ خلفه بسرعة.
وأجابها قائلًا: «كنتُ سأخبركِ عنها، لا تلمَسي أيًّا منها تحت أي ظرف». وأضاف: «إنها تخص الرجلَ العجوز، وهو سريع الغضب بشأن أشياءَ كتلك. اتركيها كما هي. هو فقط مَن يلمسها ولا أحد سواه. هل تفهمين؟»
أومأت برأسها موافِقة، واندهش، عندما طبَعَت قُبلةً على خده بشفتَيها الباردتين.
وقالت بارتجاف: «سأساعدك، يا فتى. لعلَّ هذه الرحلة تُؤتي ثمارها بعد كل هذا العناء، إذا …»
«إذا ماذا؟»
«هؤلاء الرجال — الرجال الذين كنتم تتحدَّثون عنهم — رجال العدالة الأربعة، أليس هذا ما يُطلقونه على أنفسهم؟ إنهم يُخيفونني بشدة، يا مونتي! وهم مَن أخَذوها بعيدًا من قبل، وسيقتلوننا — حتى أوبيرزون يقول ذلك. إنهم يُلاحقونه. هل …» تردَّدَت قبل أن تُكمل حديثها، وقالت: «هل قَتَلَ أحد؟ ذلك الهراء عن الأفعى — لا دخل لك به، أليس كذلك، يا مونتي؟»
بدَت كطفلةٍ لا امرأة بالغة عاقلة، بينما تتشبَّث بذراعه، وعيناها الزرقاوان تتطلعان باستجداءٍ إلى عينيه.
أزاح ذراعها المتشابكة بذراعه، وهو يتحرك إلى حيث كان ينتظره أوبيرزون، وقال وهو لا يزال محتفظًا بصبره: «هُراء! وماذا أعرف أنا عن الأفاعي؟»
كانت الفتاة راقدةً على الفراش، وتدسُّ وجهها بين ذراعَيها، بينما ينظر إليها، بتعبيرٍ غامض.
«حسنًا، إذن هذا كل شيء الليلة. ليلة سعيدة، أيتها السيدتان الكريمتان.»
استدار وعادَ للخلف باتجاه السلَّم، ولوَّح بيدَيه. وتبِعه مونتي. سمعت الفتاة صوتَ غلق السحارة، وصوتَ احتكاك حذاء الرجل العجوز بالأرضية، ثم صوتَ هدير، لم تفهَمْه على الفور. ولاحقًا، وهي تُحاول فتح السحَّارة في رعب، وجدَت أن بِرميلًا ثقيلًا قد وُضع عليها، وأنه لا يمكن فتحها.