على متن قطار البريد المسائي
رغم كونه رجلًا روتينيًّا، فوَّت السيد أوبيرزون رحلته اليومية إلى سيتي رود. ففي الظروف العادية، كان من الممكن أن تُصبح تلك الخَسارة فادحة، لكنه في الآونة الأخيرة أصبح متشبثًا أكثرَ فأكثر بكرسيه الوثير ذي الذراعين ومجلداته الثقيلة؛ وعلى الرغم من أن مبنى سيتي رود كان منشأةً ناجحة للغاية من نواحٍ كثيرة، وقد أسيء استبداله بالمبنى المؤقَّت الذي أمَّنه مديره، فقد شعر أنه يستطيع الاستغناء عن هذا الفرع من شركته تمامًا.
كانت شركة أوبيرزون آند سميتس مؤسسةً نشأت من لا شيء. إن مجهود الشركاء، وخاصة المعرفة بالظروف التِّجارية الأفريقية التي كان يمتلكها سميتس الراحل، قد أنتج عملًا تِجاريًّا مزدهرًا كان من الممكن طرحُه في البورصة قبل عشر سنوات مقابل نصف مليون جنيه إسترليني.
لا يزال هناك طلبياتٌ واردة. ومتاجر محلية يجب إعادة تعبئتها؛ وعقود جديدة، حتى إذا كانت غيرَ مهمة، يجب تلبيتها؛ حتى إنه كان هناك عرضٌ مبدئي قيد الدراسة من إحدى دول أمريكا الجنوبية لتسليح فصيلٍ سياسي. لكن السيد أوبيرزون كان راضيًا بتمضية الوقت في الانتظار، إيمانًا منه بأن الأسبوع المقبل سيشهد تجاوزَه لهذه الاعتبارات الطفيفة وسيسمح له، إذا رغب في ذلك، بتصفية شركته وبيع متاجره وتجارته. كان هناك مشترون جاهزون، لكن نصف المليون جنيه قد تضاءل إلى عُشرِ هذا المبلغ، وهو ما لم يكن كافيًا لسداد الفواتير المستحَقة. وكما قال مانفريد، كانت نفقات تشغيله هائلةً. كان لديه عملاءُ في كل مكتب حكومي مركزي في أوروبا، وعلى الرغم من أنهم لم يستحقُّوا أجورهم، إلا أنهم بالتأكيد قد حصلوا على الكثير من الأموال في مقابل خدماتهم.
كان قد أمضى صباحًا حافلًا في مختبره الصغير، واستقر على كرسيِّه، عندما جاء ساعي البرقيات وهو يقود دراجته عبر الأرض الوعرة، وتوقَّف لحظةً للإعجاب بالكلاب الحديدية المنتشرة على قطعة أرض عُشبية غير منظَّمة، وأيقظ أصداءَ هذا المنزل الموحش بقَرْعِه المدوِّي على الباب. سارع السيد أوبيرزون إلى الباب. يجب أن تكون البرقية المرسَلة إلى هذا العنوان مهمةً للغاية. فأخذ البرقية، وأغلق الباب في وجه الساعي وهُرِع عائدًا إلى غرفته، مزَّق المظروف وهو في طريقه للغرفة.
كانت هناك ثلاثُ ورقات مليئة بالأخطاء الإملائية؛ لأن البرقية كانت باللغة البرتغالية وموظَّفو مكتب البرقيات لا يُجيدون التخمين. قرأها بعنايةٍ فائقة، وشفتاه تتحركان في صمتٍ، حتى وصل إلى النهاية، ثم بدأ في القراءة من جديد، ولِفَهمٍ أفضلَ لمضمونها، أخذَ قلمًا وورقةً وترجم الرسالة إلى السويدية. وضع البرقية ووجَّهها لأسفل على المنضدة وحمل كتابه، لكنه لم يكن يقرأ. فانسحب عقله المشغول من لشبونة إلى لندن، من كورزون ستريت إلى المصنع، وفي النهاية أغلق كتابه بضجةٍ عنيفة، ونهض، وفتح الباب، ونادى اسم جيرتر بصوت مزعج. نزل ذلك الرجل الغريب إلى الطابق السفليِّ مرتديًا جورَبين في قدميه، وشعره يتدلى فوق عينَيه، كان مشهدًا مزعجًا. فأشار الدكتور أوبيرزون إلى الغرفة ودخل الرجل.
تحدَّثا لمدة ساعة خلف أبواب مغلقة، ثم خرج جيرتر، وهو لا يزال مستعرضًا أسنانَه بابتسامةٍ مصطنَعة، وصعد السُّلم درجتَين في كل خطوة. وسمعت الخادمةُ الدنماركية المتوسطة الذكاء، وهي تمر أمام باب غرفة الدكتور، صوتَه الأجشَّ وهو يتحدث في الهاتف، ولكنه كان يتحدث بلغةٍ مختلفة اختلافًا طفيفًا عن لغتها، برغم أنها كانت قريبةً إلى لغتها إلى حدٍّ ما، فلم تستطِع فهم التعليمات والنصائح والأوامر والاقتراحات التي أطلقها في عدة اتجاهات مختلفة، على الرغم من أنها سَمِعته بوضوح.
بعد ذلك، عاد الدكتور أوبيرزون إلى كتابه وتناول مشروبًا منعشًا لمنتصف النهار، وتناول غداءه من كوبٍ صغير بجانبه يحتوي على بِضع أوقيات من السائل الأحمر الداكن. كان يُتابع فلاسفته الذين قرأ عنهم جيدًا بنصف تركيز؛ أما النصف الآخر فكان يعمل بسرعةٍ محمومة، للتخمين والاستنتاج، ولإحباط وخداع العقول التي كانت تعمل ضدَّه. أخذ يلعب لعبة الشِّطرنج الذهني، طوال الوقت بحثًا عن حركة «كش ملك»، وعندما اكتشف أخيرًا حركةً مناسبة، ألقى كتابه وخرج إلى حديقته، يتجول ذَهابًا وإيابًا داخل إطار السياج السلكي، ويتوقف بين الحين والآخر لاختيار زهرة من بين الحشائش، أو التوقف مؤقتًا لفحص حفرة مليئة بمياه المطر كما لو كانت جِرمًا سماويًّا في منظر طبيعي مهيب.
لقد أحبَّ هذا المنزل القبيح، وعرف كلَّ حجَر فيه، مثل أي سيدٍ إقطاعي يعرف القلعة التي بناها، والبرج، والسقف المسطح ذا المتراس العالي، الذي كان يؤدي إلى إطلالة على ضفة القناة من جانب واحد وأسوار السكك الحديدية على اليسار واليمين. كانت لأسوار السكك الحديدية قيمة بالنسبة إليه. حُظِر معظمها، بعد أن تحوَّلت إلى مرائبَ وأكواخٍ مغلقة، ولا يمكن المرور إلا من خلال عدد قليلٍ منها فقط. أسفل واحد منها، يسير الممرُّ الموحل — لماذا أُطلق عليه «ممر الجلاد» لا أحد يعرف؛ ويؤدي ممرٌّ آخرُ إلى بعض المخصصات على حافة ممتلكاته؛ وممر ثالث يمكن من خلاله أيضًا رؤيةُ ضوء النهار، لكنه لم يمتدَّ إلى أي طريق على الإطلاق.
مرَّ قطار سريعٌ محدثًا ضجةً ومخلفًا سحابةً من البخار، ونظر أوبيرزون إلى الجسر في اهتمام عطوف. ثم قام بجولته التفقُّدية اليومية. وعند عودته إلى المنزل، صعد السلَّم إلى الطابق الثالث، وفتح بابًا صغيرًا كشف عن مجموعةٍ إضافية من الدرجات، وخرج إلى السطح. في كل ركن كان هناك سقيفةٌ سوداء مربَّعة، تصل إلى ارتفاع صدر الرجل تقريبًا. كانت الأبواب مقفلة بإحكام، وبالقرب من كلٍّ منها صندوقٌ أسودُ ضخم، ومقاوم للعوامل الجوية. كانت هناك أشياءُ أخرى هنا؛ مقابس حائط كبيرة وغير متقنة على مسافات منتظمة. عند رؤيتها، قد يُعتقد أن السيد أوبيرزون قد فكَّر في مجيء ليلة، وسط نشوةٍ من الإنجاز، يُنير خلالها هذا المبنى القبيح. لكن حتى الآن لم تَحِنْ تلك الليلة، وفي الحقيقة كان الضوء الوحيد القابل للاستخدام هو الضوءَ الذي أُزيل في الوقتِ الحاليِّ في أكبر الأسقف الأربعة.
من هذا الموضع يمكنه أن ينظر إلى أسفل على المياه التي تمر عبر أرض المصنع؛ وبدا الهيكل الأسود للصندل، الذي يملأ عرض الرصيف بالكامل، قريبًا جدًّا لدرجةِ أنه كان بإمكانه إلقاءُ حجر عليه. كان اهتمامه ينصبُّ على المياه السوداء البطيئة التي تتسرَّب عبر البوابات. ساد ضباب خفيف على القناة؛ بينما يمر صندل نحو ديتفورد، وأخذ يتأمل الحصان المجهد الذي يسحب حبل الصندل ويُفكِّر في حلول الوقت الذي يمكنه فيه، هو أيضًا، أن يستعمل قاربًا أسرع للمرور خلال الممر المائي.
كانت لندن ممتدةً حوله، وأبراجها ومداخنها تلوح في الأفق عبر غلالة رقيقة من الدخان. وبعيدًا، انعكست أشعة الشمس على الكرة الذهبية لكاتدرائية سانت بول وأضافت نَجمًا جديدًا إلى السماء. كره السيد أوبيرزون لندن — فقط هذه البقعة الصغيرة التي يملكها هي ما تحمل جمالًا في عينَيه. لا الحدائق الخضراء الشاسعة ولا شجيرات الورد المزهرة؛ لا الأروقة الملَكية الممتعة التي يسلكها المتنزِّه الغنيُّ أو يسير عليها، ولا شوارع المتاجر ذات الواجهات الحجرية، ولا الخضرة المبهجة لطرق الضواحي — لقد أحب فقط هذه الأفدنة النائية، لهذه البرِّية الموحلة التي بُني فيها مسكنه.
نزل إلى الطابق السفلي، وأغلق باب السطح من خلفه، ومرَّ عبر غرفة جيرتر، فطرق الباب وسُمِح له بالدخول. جلس الرجل مرتديًا قميصَه الداخلي؛ كان قد حلق مرةً واحدة، لكن الشفرة الحادة كانت تمر على بشَرته للمرة الثانية. أدار وجهه الذي يُغطيه بالكريم، وابتسم ابتسامةً عريضة إلى الزائر، ثم مع صوت نخرةٍ أغلق الدكتور الباب ونزل إلى الطابَق السفلي، وهو يعلم أن الرجل كان سعيدًا في الوقت الحاليِّ؛ فلا شيء يُسعد جيرتر أبدًا مثل «التأنق».
وقف الدكتور عند مدخل غرفته، مترددًا بين الكتب والمختبَر، ثم قرَّر اختيار الأخير، وانشغل على مدار الساعتين التاليتَين. وقد غادره مرةً واحدة فقط، كان ذلك ليُحضر من الغرفة الدافئة صندوق اللباد الأخضر الذي يحتوي على «أقوى المواد الكيميائية، ذات القوة الهائلة».
يحظى طريق نيوهافن-ديبي بشعبيةٍ على أوقات متقطِّعة. هناك ليالٍ تزدحم فيها القطارات المتجِهة إلى باريس، وليالٍ أخرى يمكن فيها الحصولُ على عربةٍ تُقلُّك بمفردك؛ وتصادف أنه في هذا المساء، عندما حجز إيليا واشنطن مقعده، كان من الممكن أن يجلس في مقصورةٍ ويضعَ قدمَيه على مقعدٍ في مقصورة أخرى، لو كان ذلك ممكنًا جسديًّا.
هناك فرقٌ واحد ملحوظ بين الفرعَين الكبيرين للعِرق الأنجلو ساكسوني. فالرجل الإنجليزي يُفضِّل السفر في عُزلة وصمت. رحلته المثالية هي رحلةٌ من لندن إلى القسطنطينية في مقصورة لا يطَؤها إلا محصِّل التذاكر؛ وإذا كان من الممكن إنسانيًّا أن يصل إلى وجهته دون أن يتفوَّه بأي شيءٍ أكثرَ من مجرد موافقة على تعليق راكب آخر على حالة الطقس، فهو بالفعل رجل محظوظ. أما الرجل الأمريكي فيحب الرفقة؛ ورث الرغبة في الاستحواذ من الجانب اللاتيني، بالإضافة إلى السمات البلاغية للشعب التوتوني. تجعله العزلة تعيسًا؛ ويزعجه الصمت. يحب التحدث عن أشياءَ كبيرة ومهمة، مثل مستقبل البلد، وآفاق الزراعة وتقلبات التجارة، التي لا يعرف عنها الرجل الإنجليزي العادي أيَّ شيء، ولا يهتمُّ بها كثيرًا. يتمتَّع الأمريكي بكبرياء المدينة، ويُمكنه التحدث بشكلٍ عاطفي تقريبًا عن شبكة صرفٍ جديدة وأن يُصبح بليغًا عندما يتحدث عن الميزانية العمومية للبلدية. أما الرجل الإنجليزي فلا ينمو بداخله كبرياءُ بلدته حتى يبلغ منتصف العمر، وهو يشعر به بالقدْر الكافي للشعور بالإحباط من مكان ولادته بعد أن يُجدد معرفته به.
وجد السيد واشنطن نفسَه في مقصورةٍ فارغة، وسار على طول الممر، وهو ينخر بسبب شعوره بعدم الرضا، أخذ يختلس النظر في مقصورةٍ تلو الأخرى على أمَل العثور على مُواطن من بلده في نفس المحنة المؤسفة. ولم يُثمر بحثه عن شيء وعاد إلى العربة التي وُضِعت فيها حقيبته ومعطفه، واستقرَّ على قراءة صحيفةٍ إنجليزية فكاهية وبحَث بلا جدوى عن شيء يمكن لأي رجل ذكي أن يضحك عليه.
كانت أبواب العربة عند طرَفَيها، وكان على معظم الركَّاب المرورُ عبر المدخل المفتوح لمقصورة السيد واشنطن. ومع كل نقرة على الباب كان ينظر لأعلى، على أمَل العثور على صُحبة ملائمة. لكنَّ خيبة الأمل كانت تنتظره، حتى تردَّدت سيدةٌ عند الباب. كانت عربةً مسموحًا فيها بالتدخين، لكن واشنطن الذي تتَّسم شخصيته بالشهامة، كان سيُضحي بكل سرور بسيجاره من أجل سعادة صحبته. خمَّن أنها صغيرة السنِّ وأرملة. كانت ترتدي الأسودَ، وظهر وجهها الجذابُ من خلال وشاح ثقيل يغطيه.
سألت بصوتٍ خفيض يكاد يكون همسًا قائلةً: «هل هذه المقصورة مشغولة؟»
نهض واشنطن، والقبعةُ في يده وقال: «لا، يا سيدتي.»
سألت بصوتٍ رقيق: «هل تمانع جلوسي؟»
قال الأمريكي الشهم: «يا إلهي، تفضلي بالتأكيد! اجلسي، يا سيدتي». وتابع: «هل ترغبين في الجلوس على مقعدٍ في الزاوية بجوار النافذة؟»
هزَّت رأسها، وجلست بالقرب من الباب، وقد أدارت وجهها عنه.
سألها واشنطن بعد مدة: «هل تُمانعين في أن أدخِّن؟»
قالت: «تفضَّل بالتدخين»، ثم أدارت وجهها بعيدًا.
قال السيد واشنطن محدِّثًا نفسه في اشمئزاز: «إنها إنجليزية»، وتقوقعَ على نفسه لمدة ساعة ونصف من الصمت غير المريح.
انطلقت صافرة، وتحرك القطار ببطءٍ من الرصيف، وبدأت رحلة المغامرة لإيليا واشنطن.
كانوا يمرُّون عبر كرويدون عندما نهضت الفتاة وانحنت، وأغلقت الباب الزجاجي الصغير.
قال إيليا معاتبًا: «عليك أن تدَعيني أفعل ذلك»، فتمتمتْ بشيء عن عدم رغبتها في إزعاجه، ثم عاد إلى مقعده.
نظر واحد أو اثنان من الرجال الذين يمرون عبر الرواق نحوها عبر الزجاج، ومن الواضح أن ذلك أزعجها؛ لأنها مدَّت الستارة الزنبركية وسحبَتها لأسفل وأخفَتْها جزئيًّا عن نظراتِ مَن بالخارج، وبعد أن جاء محصِّل التذاكر وثقب تذكرتَيهما، أنزلت الستارة الثانية من الستائر الثلاثة.
سألته: «هل تمانع؟».
قال إيليا، دون أي حماس: «بالتأكيد لا، يا سيدتي». لم تكن لديه رغبةٌ في السفر بمفرده مع سيدة في مقصورة محاطة بالستائر. لقد سمع عن حالات … وكان بطبيعته رجلًا شديد الحذر.
زادت سرعةُ القطار، واستقر الركابُ المتجولون في مقاعدهم. وجرَت عملية التفتيش الثانيةُ على التذاكر بينما كانوا يندفعون عبر ريدهيل، وظن السيد واشنطن بعدم ارتياح أنَّ هناك نظرةً ملحوظة على وجه المفتش وهو ينظر أولًا إلى الستائر المسحوبة، ثم قلَّب نظره من السيدة إليه.
رشَّت السيدة عطرًا من نوعٍ ممتع بشكلٍ غامض. وعبَّأت العربةَ بهذا العطر الرقيق. شمَّه السيد واشنطن وسط رائحة سيجاره. كانت لا تزال تُشيح بوجهها بعيدًا عنه؛ فتساءل عمَّا إذا كانت قد خلَدت إلى النوم، وبعد أن سئم من بحثه عن الفكاهة، وضع الصحيفة جانبًا، وطوى يدَيه وأغلق عينَيه، ووجد نفسه ينجرف بلطفٍ إلى ذلك المزيج من الواقعية واللاواقعية الذي يعتبر بادرةَ الأحلام.
تحرَّكت السيدة؛ حتى أصبحَت نصف مواجهةٍ له. فنظر إليها من زاوية عينَيه نصف المغلقتين. كانت لا تزال ترتدي وِشاحها، وكان قفَّازاها الأبيضان مثبَّتين على ركبتَيها. ثم أغمض عينَيه مرة أخرى، حتى أيقظته حركةٌ أخرى، فقد كانت تتحسَّس حقيبتها.
كان السيد واشنطن متيقظًا الآن — متيقظًا تمامًا كما كان دائمًا طَوال حياته. وعندما مدَّت السيدة يدَيها، كانت قد سحبت كمَّها، فظهر جزءٌ من ذراعها بين القفاز ومعصم بلوزتها، كان هناك شعرٌ على ذراعها!
غيَّر وضعه قليلًا، وشَخَر كأنه نائمٌ، ووضع يدَه في جيبه، وطوال الوقت كانت تلك العيون الباردة تُراقبه عبر الوشاح.
رفعت الجزء السفلي من الوشاح، ووضعت مبسم السجائرِ الأبنوس بين أسنانها وفتَّشت الحقيبة بحثًا عن ثقاب. ثم التفتتْ إليه متوسلةً وكأنها أحسَّت يقظته. عندما نهضت، نهض واشنطن أيضًا، وفجأةً قفز عليها وألقى بظهرها على الباب. ذُهلت السيدة المحجَّبة للحظة، ثم ظهر بريقُ شيء فولاذي.
ظهر سكِّين في يدها من العدم، وقبض واشنطن على رسغها ورفعه ودفع راحة يده تحت ذقنها. وقد تمكَّن من الشعور بالشعر الخشن على الرغم من وجود الوشاح، هو يعرف الآن، إن لم يكن قد عرَف من قبل، أنه يجب عليه التعامل مع رجل. رجل نشط، تضاعفت قوَّته بمعرفة خطرِه. تقدَّم جيرتر إلى الأمام برأسه، لكن واشنطن توقَّع الهجمة، فثنَى ذراعه ولكَمه بالكامل في وجهه وراء الوشاح. أوقفت الضربة الرجل لحظةً فقط، ثم عاد مرةً أخرى، وهذه المرةَ أصاب طرَفُ السكين كتفَ الرجل الأمريكي، ومزَّقت المعطف حتى المرفق. لقد كان إيليا واشنطن بحاجةٍ إلى هذا لحثِّ قوَّته العقلية والبدَنية. وبزئير عالٍ أمسك بحُنجرة من يُهاجمه وألقاه بعنف شديد على الباب المقابل، وارتطمت «الأرملة المتَّشحة بالسواد» بلوح الممرِّ الخارجي. وقبل أن يتمكَّن من الوصول إلى المهاجم، استدار جيرتر وأسرع على طول الممرِّ إلى باب العربة. وفي لحظة واحدة فتحه ونزل على طرَف درجة السُّلم. كان القطار يتباطأ ليتَّجه نحو هورشام جانكشن، وترقبت العينان اليقظتان حتى رأتْ موقعًا جيدًا للقفز، وقفز. كان واشنطن يُحدق في الظلام، ولم يرَ شيئًا، ثم جاء مفتش القطار.
قال بأنفاسٍ متقطعة بعض الشيء: «كان هذا رجلًا متنكرًا في ملابسَ نسائية»، وعادوا لتفتيش المقصورة، لكن السيد جيرتر أخذ الحقيبة وكل شيء معه، والتذكار الوحيد لوجوده كان كعبُ الحذاء الذي نُزع في الشجار.