عودة جيرتر
كان القطار يسير بسرعة ثلاثين ميلًا في الساعة حين قفز جيرتر على سلسلةٍ من التلال الرملية إلى جانب السكة الحديدية، وفي الثانية التالية، كان يتدحرج إلى الأمام على وجهه. ولحسن حظِّه أن الوشاح، رغم تمزقه، حافظ على عينَيه. وقف على قدميه مترنحًا، ونظر مِن حوله. لا بد أن بوابات المزلقان في مكانٍ ما هنا، كان ينوي القفز من القطار عند هذه النقطة، حيث إن أوبيرزون قد رتَّب الأمر على هذا النحو. رأى عاملُ إشارة، كان جالسًا عند نقطة عالية فوق السكة الحديدية، هيئته واستوقفه.
قال جيرتر: «لقد ضللتُ طريقي». وتابع: «أين المزلقان؟»
«على بُعد مائة ياردة. ابتعِد عن هذه القضبان — قطار إيستبورن السريع قادمٌ خلفك.»
لو أن جيرتر سار على نهجه الخاص، لتوقفَ وقتًا كافيًا من أجل إزالة قضبان السكة الحديدية ومشاهدة بضع مئاتٍ من الأشخاص المكروهين يُلقَون في التهلكة من أجل المتعة الخالصة. ولكنه خمَّن أن السيارة تنتظره؛ ولذا سار على جانب الطريق عبر البوابات الآمنة ومنها إلى طريقٍ مكتظٍّ بالسكان إلى حدٍّ ما. كان هناك أشخاص يُديرون رءوسهم وينظرون في ذهولٍ إلى المرأة الموحِلة المتَّشحة بالسواد، ولكنه كان قد اجتاز الشعور بالقلق حيال مظهره.
رأى السيارة ذاتَ الضوء الأخضر الصغير الذي يستخدمه أوبيرزون دومًا لتمييز سياراته عن باقي السيارات الأخرى، وقفز إلى السيارة الأجرة (إن جاز التعبير)، وجلس ليستعيدَ أنفاسه. كان يعرف أن السائق أحدُ الرجال الثلاثة الذين عيَّنهم أوبيرزون، وأحدهم قد التقى به السيد واشنطن في صباح ذلك اليوم.
كانت رحلةُ العودة إلى البلدة طويلةً، رغم أن السيارة كانت الأسرعَ بين معظم السيارات، بالنسبة إلى كونها سيارةً عامة. رحَّب جيرتر بالرحلة. لقد فشل مرةً أخرى، واستنتج أن فشله الأخير هذا هو الأخطرُ على الإطلاق. ولم تُساوره مسألةُ استياء أوبيرزون. لقد تجاوز تلك النقطةَ حين كان يهتمُّ كثيرًا لاستياء الرجل السويدي. ولكن لعل تداعيات هذا الموقف هي الأشدُّ خطورةً من أي موقف آخر. كان يعلم جيدًا التعليماتِ التي تلقَّاها فايفر في ليلة الهجوم على راث هول — بيد أن جيرتر كان أسرع، وأفعاه لدغَت أولًا. لم تُراود الدكتور أوبيرزون أيُّ أوهام بخصوص ما حدث، وحتى إن كان قد امتنع بلباقةٍ عن الإشارة إلى الأمر، فإن لديه أغراضًا وأسبابًا لذلك. وأحدها هي تلك الرحلة المسائية مع إيليا واشنطن.
لم تكن هناك أيُّ مبررات؛ وهو ليس لديه ما يُقدِّمه من مبررات. تحسَّست يدُه أسفلَ الثوب السكينَ الطويل المثبَت إلى جانبه، طمأنَه كثيرًا ملامسةُ المقبض البالي. ففي الوقت الحاضر، هو في مأمن؛ وإلى أن يعثروا على رجلٍ آخر يحلُّ محلَّ فايفر كان أوبيرزون يعمل بمفرده، ولا يُطيق الاستغناء عن خدماتِ آخرِ قتَلتِه.
كانت الساعة قد تجاوزت الحاديةَ عشرة حين نزَل من السيارة الأجرة في نهاية الشارع الطويل، وباتباع الطريق الوحيد الآمن، وصل إلى الباب غير المدهون الذي يُفضي إلى مبنى أوبيرزون. والكلمات الأولى التي نطَقها سيدُه أخبرته بأنه لا داعي للتفسير.
«إذن، لم تنَلْ منه، أليس كذلك يا جيرتر؟»
«لا، يا سيدي الدكتور.»
كان صوت أوبيرزون رقيقًا للغاية في ظلِّ جميع الظروف: «ما كان ينبغي لي أن أُرسلك». وتابع: «كان ذلك هو الرجلَ الذي لم تستطِع قتْله — بالأفعى. لقد علمت منذ ذَهابك أنه لُدغ في منزل الرجل الضرير، ورغم ذلك عاش! هذا أمرٌ استثنائي. سأُخصِّص مبلغًا كبيرًا من المال لفحص دمائه. هل جرَّبتَ السكين؟»
«أجل، يا سيدي الدكتور.» ثم رفع وشاحه، وخلع القبعة والشعر المستعار في حركةٍ واحدة. كان الوجه المخضَّب والمجمَّل بالمساحيق مصابًا بالكدمات؛ وتحت الشعر المستعار البُنِّي كانت هناك بقعةٌ من الدم الجاف.
«جيد! لقد فعلت كلَّ ما بوُسعك. اذهب إلى غرفتك يا جيرتر — تحرك!»
صعد جيرتر إلى الطابق العلوي، وأخذ يُحدق لمدة ربع ساعة في وجهه المبتسم المنعكس على الزجاج، بينما يُزيل مساحيقَ التجميل مستخدمًا كريمًا وفوطة متَّسخة.
كانت رِقةُ أوبيرزون البالغة تهديدًا في حدِّ ذاتها. ما الذي كانت تُنذر به هذه الرقة؟ وحتى تلك الليلة لم يكن جيرتر ولا رفيقه الراحل يحْظَيان بثقة الرجلَين اللذين يُوجِّهان أنشطتهما. كان يعلم أن ثمَّة أوراقًا معيَّنة يجب استعادتها، وثَمة رجال يجب قتلهم، ولكنه لم يكن يعرف قيمةَ الأوراق، أو لماذا يصبح الموت من نصيب هذا التعيس أو ذاك؛ لم يكن يعرف ولم يهتمَّ. كان واجبه هو إطاعةَ الأوامر، لقد أحسن خدمةَ سيدِه السخيِّ بإخلاص. وماذا عن تلك الفتاة المحبوسة في الغرفة السفلية؟ كان لدى جيرتر تفسيراتٌ محتملة بخصوص حبسها. ورغم ذلك لم تكن أيٌّ من هذه التفسيرات تتناسبُ مع الظروف. كانت تأمُّلاته مَضيعةً للوقت. في تلك الليلة، وثق به الدكتور، لأول مرة.
كان قد انتهى من تغيير ملابسه، ويتَّجه إلى مطبخه حين وقف الدكتور عند مدخل الباب ونادى عليه ليدخل.
قال بلطفٍ: «اجلس، يا جيرتر». وتابع: «هل ترغب في تدخين سيجار؟ هذه نوعية ممتازة.»
مدَّ له سيجارًا طويلًا، ورفيعًا، أسودَ اللون، وضعه جيرتر بين أسنانه وبدا مسرورًا على نحوٍ مضحك بخدعته.
قال الدكتور: «لقد حان الوقت لكي تعرف شيئًا حتمًا، يا جيرتر.» ثم أخذ سيجارًا آخرَ من النوع نفسه الذي كان يُدخِّنه الرجل، ونفث سُحبًا ضخمةً من الدخان في وسط الغرفة. ثم تابع يقول: «لديَّ صديق … مَن؟ السيد نيوتن؟» وهزَّ كتفيه. قائلًا: «إنه رجل جذاب للغاية، ولكنه عديم الذكاء. إنه، يا جيرتر، مِن نوعية الرجال الذين من شأنهم أن يعيشوا في راحة، يأخذ كلَّ ما نُقدِّمه إليه ببراعتنا ومجهودنا، ولا يشكر أحدًا أبدًا! وعندما تواجهنا المشكلات، ما الذي سيفعله، يا جيرتر؟ سيذهب إلى الشرطة … أجل، يا صديقي العزيز، سيذهب إلى الشرطة!»
أومأ برأسه. لقد سمع جيرتر القصةَ نفسَها في تلك الليلة التي سار فيها على أطراف أصابعه إلى الباب، وسمِع الدكتور يُناقش أمورًا محدَّدة مع السيد فايفر الراحل.
«إنه لن يتَوانى عن قتلنا، دون أن ترجف له عين، أو تهتزَّ له يدٌ، ولعله يقرأ خبر إعدامنا، بابتسامة، ثم يذهب ويأكل حلوى البرقوق واللحمَ المشوي! هذا هو صديقنا السيد نيوتن! هذا ما رأيتَه بعينَيك، أليس كذلك؟»
هتف جيرتر المطيع قائلًا: «أجل، يا سيدي الدكتور!»
تابع أوبيرزون حديثه بتروٍّ: «إنه يُمثل خطرًا لعدة أسباب». وأضاف: «بسبب هؤلاء الرجال الثلاثة الذين كرَّسوا أنفسهم على نحوٍ فاضح جدًّا لتدميري، والذين أحرَقوا شركتي، والذين جلَدوك، يا جيرتر — لقد أوثَقوك في عمودٍ وجلدوك باستخدام سوطٍ ذي تسعة سيور. أنت لم تنسَ تلك الفعلة، أليس كذلك يا جيرتر؟»
«كلا، يا سيدي الدكتور!» بالفعل، لم ينسَ جيرتر، رغم أن الابتسامة المتكلَّفة البَلْهاء على وجهه قد تُوحي بأن الحادث ترك لديه ذِكرى لطيفة.
واصل الدكتور بنبرةٍ تكهُّنية: «إنَّ وجود شخصٍ غبي داخلَ مؤسسة، أشبهُ بوجود لوح خشب تالف بالسفينة، أو حلقة ضعيفة في سلسلة. دَعْها تنكسر، فماذا سيحدث؟ سنموت أنا وأنت، يا جيرتر العزيز. سنقف أمام رجل غبي يلبس شعرًا مستعارًا أبيضَ اللون وعباءةً حمراء، ليُسلِّمنا إلى رجل آخر يضع حبلًا حول رقبتَينا، ويدفعنا إلى حفرة في الأرض — كل هذا لأننا نتعامل مع رجلٍ غبي مثل السيد مونتيجو نيوتن.»
قال جيرتر حين توقَّف سيدُه عن الحديث: «أجل، يا سيدي الدكتور.» شعر أن هذا التعليق من جانبه ضروري.
«الآن، سأخبرك بالحقيقة الكاملة.» نفض الدكتور بحرصٍ رمادَ سيجاره في صحن فنجانه. وتابع قائلًا: «هناك ثروة تنتظرنا أنا وأنت، وهذه الفتاة التي نحتجزها في المكان الهادئ يُمكنها أن تمنحَنا إياها. يمكنني أن أتزوَّجها، أو يُمكنني أن أقضيَ عليها إذن! إذا تزوجتها فسيصبح هذا أفضل، على ما أظن، وهذا ما رتَّبته.»
ثم، أخبره بطريقته الخاصة بقصة تلِّ الذهب، لم يُخفِ شيئًا، ولم يحتفظ بشيء — قال كلَّ ما عرَفه، وكل ما أخبره به فيلا.
«يجب أن تبقى هنا مدةَ ثلاثة أو أربعة أيام. وفي نهاية هذه المدة، لا يُهم أي شيء آخر. الرسالة المرسلة إلى لشبونة — ما قيمتها؟ كنت أحمقَ عندما حاولتُ إيقافها. هي لم تُعين مرشحًا، وليس لها وريث، ولا تعرف شيئًا عن ثروتها، ومن ثَم ليس بوُسعها أن تُطالب بتجديد عقد منح الامتياز.»
«سيدي الدكتور، هل تتكرَّم وتسمح لي أن أتحدث؟» أومأ الدكتور برأسه. فسأله جيرتر: «هل المدعوُّ نيوتن يعلم ذلك؟»
ردَّ الدكتور قائلًا: «المدعو نيوتن يعرف كل هذا.»
«هل تتكرم وتسمح لي أن أتحدث مرةً أخرى، يا سيدي الدكتور؟ ماذا كانت فحوى هذه الرسالة التي تعيَّن عليَّ أخذها، لو لم يُحالفني الحظ السيئ؟»
حدَّق أوبيرزون في السقف.
ثم قال: «لقد فكَّرت في هذا الأمر من جميع الزوايا، وقرَّرت الآتيَ. إنها رسالة كتبها جونزاليس إلى السكرتير أو وزير وزارة المستعمرات، يطلب فيها تأجيل تجديد عقد منح الامتياز. والبرقية التي جاءت من صديقي بوزارة المستعمرات في لشبونة كانت بخصوص هذا الأمر.» ثبت نظارته، وتحسَّس جيب معطفه وأخرج برقية من ثلاث صفحات. وأردف قائلًا: «سأقرؤها لك بلُغتك:
«وصل طلب من ليون جونزاليس، يطلب فيه من سيادة الوزير استقبالَ رسالة خاصة جدًّا ستصل خلال يومين. لم تذكر البرقية أيَّ شيء بخصوص محتوى الرسالة، ولكن أعطى الوزيرُ أوامرَ للساعي ليتلقَّى الرسالة. الوزير الحاليُّ ليس من أنصار استمرار عقود الامتياز الممنوحة لإنجلترا أو للإنجليز.»»
طوى الورقة.
واستطرد قائلًا: «وهو ما يعني أنه لن يكون هناك تأجيلٌ، يا عزيزي جيرتر، وستُصبح هذه الثروة الهائلة لنا.»
فكَّر جيرتر في هذه النقطة ونسي لحظةً أن يبتسم، وبدا على حقيقته نتيجةَ ذلك ذئبًا جائعًا، وساخطًا في هيئة بشرية.
«سيدي الدكتور، هل تتكرم وتسمح لي أن أسألك سؤالًا؟»
ردَّ أوبيرزون بسَعة صدر قائلًا: «سَلني.»
«كم تبلغ حصة السيد نيوتن؟ وإذا كنت ستُكرمني وتمنحني جزءًا من مكسبك الذي تستحقُّه عن جدارة، فكم ستبلغ حصتي؟»
أخذ أوبيرزون يُفكر في هذا، وهو ينفث الدخان حتى امتلأت الغرفة بضبابٍ كثيف من الدخان.
وأخيرًا قال: «عشَرة آلاف جنيه إسترليني.»
قال جيرتر برفق: «أيها الدكتور الكريم المثقَّف، هذه نسبة صغيرة جدًّا من الملايين الكثيرة.»
قال الطبيب، وقد بدا على وجهه الانفعال: «سيحصل نيوتن على النصف، إذا بقي على قيد الحياة. وإذا حالفه الحظُّ السيئ، فستُصبح حصته من نصيبك، يا جيرتر، أيها الرجل الشجاع! هكذا وبهذا المبلغ الكبير لن يُصبح المرء صيدًا سهلًا. سيتهافتُ عليه الأغنياء والنبلاء؛ سيمتلك يختَه الخاصَّ ويجوب البحارَ الدافئة إلى الأبد، أليس كذلك؟»
وقف جيرتر ونقر بكعب حذائه.
«هل تريدني مرةً أخرى هذه الليلة؟»
هز العجوز رأسه. قائلًا: «كلا، كلا، يا جيرتر». وتابع: «تذكَّر أنه لا يزال أمامنا غدًا وبعد غد. لننتظرْ ونسمع ما سيقوله صديقُنا. طابت ليلتك، يا جيرتر.»
«طابت ليلتك، يا سيدي الدكتور.»
أخذ الدكتور يُحدق في الباب مدةً طويلة بعد أن خرج الرجلُ ثم أخرج كتابه. كان في منتصف الفصل المعنوَن، باللغة الألمانية: «نشاط العقل الباطن في الفكر الإنسانيِّ وعلاقته بالانفعالات المعقَّدة.» فبالنسبة إلى الدكتور أوبيرزون، كان هذا الفصل أروعَ من أكثر الروايات روعةً وإثارة.