داخل مسرح براتر
اقترح مانفريد تناول عشاءٍ مبكِّر في مطعم لاسكي، حيث يُقدِّم الحساء المتناسب مع ذَوقه الذي يصعب إرضاؤه. كان ليون الذي تناول الكثيرَ من الكعك مع الشاي — إذ إن نقطة ضعفه هي تلك الموادُّ الغذائية صعبة الهضم — على استعداد للاستغناء عن وجبة العشاء، أما بويكارت فكانت له آراءٌ أخرى، نظرًا إلى كونه صاحبَ عادات ثابتة. تناولوا العشاء في مطعم لاسكي، وطلب ليون بصلًا مشويًّا، وأسهب في الحديث عن العامَين الضائعَين من حياة بويكارت، مستعينًا بصورٍ غنية وكلمات بلاغية جميلة تليق بموضوعٍ أفضل من ذلك.
نظر مانفريد إلى ساعته.
وسأل: «أين يتناولان العشاء؟»
قال ليون: «لم أعرف بعدُ». وتابع: «سيصلُ صديقنا في غضون بضع دقائق؛ عندما نخرج، سيُخبرنا. أنت لا تريد مقابلتها، أليس كذلك؟»
هز مانفريد رأسه نافيًا.
وقال: «بلى.»
قال بويكارت متذمرًا: «سأشعر بالملل.»
قال ليون على الفور: «إذن، كان يجب أن تسمح لي بإحضار ألما.»
أومأ ريموند برأسه الرصين. قائلًا: «بالضبط». وأضاف: «ينتابُني شعورٌ بأنني أنقذ تلك السيدةَ من أمسية كئيبة تفوق الوصف.»
كان هناك رجلٌ ينتظرهم حين خرجوا من المطعم — رجل لا يبدو مثيرًا للاهتمام على الإطلاق، لديه ثلاث عبارات ليُبلغهم بها بصوتٍ خفيض بينما هم واقفون بجواره، ولكن بشكل واضح دون أن يُظهروا انتباهًا لحضوره.
قال مانفريد: «لم أرغب في الذَّهاب إلى نادي ميرو، ولكن نظرًا إلى أن لدينا متسَعًا من الوقت، أظن أنه من المستحسَن التمشيةُ في هذا الاتجاه. لديَّ فضول لاكتشافِ ما إذا كانت هذه مفاجأةً صغيرة من جانب أوبيرزون، أم أن الفكرة تفتَّق عنها ذهنُ السيد نيوتن الذي لا يستحقُّ التقدير أو الإعجاب.»
تساءل جونزاليس: «كيف ستعرف، يا جورج؟»
«من خلال السيارة. إذا كان أوبيرزون هو سيدَ مراسم الاحتفالات، فسنجد سيارته متوقفةً في مكانٍ ما في الحي. وإذا كانت الفكرة فكرةَ نيوتن، فسنجد أن سيارة أوبيرزون الليموزين التي أتت بهم من جنوب لندن قد عادت، وستحلُّ سيارة نيوتن مكانها.»
كان نادي ميرو واحدًا من أكثرِ أندية الطعام الأنيقة، التي لا يتردَّد عليها نُخبة المجتمع وحَسْب؛ وإنما يوجد على قوائم حجزِها أيضًا صفوةُ عالم المسرح. كان يقع في أحد الميادين الهادئة العتيقة الموجودة في قلب لندن، محصَّنًا ضد أيدي المضاربين من مُلَّاك العقارات؛ وهذا لأسبابٍ غامضة. احتفظ الميدان بالمظهر الذي كان عليه أيامَ العصر الجورجي؛ وعلى الرغم من أن بعض القصور الفخمة قد تحولَت إلى مقارَّ للتجارة والنقابات المهنية، وقد شغل المحامون ووكلاءُ المصنعين غرفَ الاستقبال وغرف النوم التي كانت مقتصرةً على استعراض مظاهر البذخ والجمال الخاصة بأيام الزمن الماضي، فإنَّ عددًا كبيرًا جدًّا من البيوت ما زال يخضع للملكية الخاصة.
لم يكن هناك شيءٌ في واجهة نادي ميرو يُعلن عن طبيعته. إذ يتكوَّن مقرُّ النادي من ثلاثة مبانٍ أنيقة وعتيقة. ولعل الشخصَ غيرَ المعتادِ ارتيادَ المكان لن يشكَّ مطلقًا بأن ثمة صلةً تربط بين المباني الثلاثة؛ نظرًا إلى أن الأبوابَ والأعتاب العتيقة ظلَّت على حالها؛ وواحدةً فقط منها تُستخدَم.
تجوَّلوا على طول جانبَي الميدان، وفي وسط كتيبة السيارات التي تقف متراصَّةً بعضها بجوار بعض، وهم يُولُّون ظهروهم إلى درابزين الحدائق المركزية، رأَوا سيارة أوبيرزون. جلس السائقُ عاقدًا ذراعَيه على عجَلة القيادة، منهمِكًا في حديثٍ جادٍّ مع رجل شاحبِ الوجه، ذي لحية خفيفة ومنمَّقة ويرتدي ملابسَ سهرة كاملة أنيقة. ومن الواضح أنه كان معوقًا؛ إذ لديه إحدى الكتفَين أعلى من الأخرى؛ وعندما يتحرَّك، كان يسير على نحوٍ مؤلم بمساعدة عصًا.
رأى مانفريد السائقَ وهو يشير إلى صفِّ السيارات، وسار الرجل الأعرج في الاتجاه الذي أشار إليه السائقُ ثم توقَّف وتحدَّث إلى شخصٍ آخر يرتدي زيَّ الخدم. وحين اقتربوا منه، رأَوا أن فردةً واحدة من حذائه لها نعلٌ سميكة، وهذا فسَّر سببَ عرَجِه.
قال مانفريد الذي وقف يُدقِّق النظرَ في لوحة الأرقام: «لقد فقدَ الرجل سيارتَه.»
كانت سرقةُ السيارات حدثًا متكررًا بصفة يومية. وكان لدى ليون ما يقوله بخصوص تَبِعات ذلك الفرع من الجريمة. إذ إنه يمتلك معرفةً موسوعية بخصوص الأشكال الحاليَّة للاعتداءات، وببضع عبارات مختصرة أشار إلى نطاقِ هذه السرقات.
«تُشحَن خمسون سيارةً أسبوعيًّا إلى الهند والمستعمَرات البريطانية، بعد أن تُمحى أرقامُها وتُستبدل بها أرقامٌ أخرى. وفي بعض الحالات يقود «المهربون» — هكذا يُسمُّون السارقين — السياراتِ مباشرةً إلى داخل حاويات الشحن المجهزةِ لتتناسبَ مع شكل كل سيارة، وتُثبَّت أطراف الأغطية، وتنتظر الشحن على أرصفة الموانئ قبل أن يتأكَّد أصحابها من فقدانها. وتقريبًا عدد السيارات المسروقة في الهند وجنوب أفريقيا وأستراليا يُساوي عدد السيارات الأصلية!»
ساروا ببطءٍ أمام البوابات المزخرفة لنادي ميرو، ولمحوا، عبر النوافذ المغطاة بالستائر، على ضوء مصابيح الموائد الخافتة، سيداتٍ ذواتِ أذرع مكشوفة ورجالًا ذَوي قمصان بيضاء، وسمعوا صوتًا خافتًا لآلات أوركسترا تعزف موسيقى الفالس المميزة لفيينا.
قال جونزاليس: «أود أن ألتقيَ بفتاتِنا جين». وتابع: «لم تأتِ إليكَ مطلقًا، أليس كذلك؟»
ردَّ مانفريد: «لقد جاءتني، ولكني لم أقابلها». وأضاف: «في اللحظة التي تُغادر فيها المسرح، يجب ألا تُترك وحدها.»
أومأ ليون برأسه.
وقال: «لقد أجريت ذلك الترتيب بالفعل». وتابع: «إن ديجبي …»
قاطعه مانفريد قائلًا: «سيتولَّى ديجبي مهمته في منتصف الليل». وأضاف: «لقد عاين بنفسه محلَّ إقامة أوبيرزون ليدرُسَ موقع الأرض، ويعتقد أنه من المستحسن أن يدرس تضاريسَ الأرض في ضوء النهار، ووافقته الرأي. ولعله يوقِعُ نفسه في ورطةٍ محرجة إذا ما شرَع في استكشاف ضفَّة القناة في ساعات الظلام. فعادةً ما يتكاثف الضباب على صفحة المياه، صيفًا أو شتاءً.»
وصلوا إلى مسرح براتر في وقتٍ مبكرٍ للغاية حيث ما زالت الطوابير الواقفة عند باب القاعة الرئيسية تنتظر في الخارج، واقترح ليون عليهم أن يتجوَّلوا حول هذا المسرحِ الترفيهيِّ المتنقل. كان موقعُه في طريق شافتسبري ويَشغل مكانًا معزولًا. كان على جانبي المبنى شارعان ضيِّقان، بينما يُشكِّل الجزء الخلفيُّ الجانب الثالث من ميدان صغير، أحدُ أضلاعه مبنى مجلس المحافظة، يَشغله الحِرفيُّون بالأساس. ويمتد من الميدان ممرٌّ يؤدي إلى كرانبورن ستريت؛ بينما هناك، بالإضافة إلى الحارة المؤدية إلى الجزء الخلفي من المسرح، شارعٌ مُوازٍ لطريق شافتسبري يمتدُّ من طريق تشيرينج كروس وحتى ريبيرت ستريت.
المسرح في حدِّ ذاته كان واحدًا من أفضل المسارح في لندن، وعلى الرغم من سلسلة الإخفاقات، حالفه الحظُّ من جديد، وجذبت المسرحية البوليسية الجديدة انتباهَ سكان لندن جميعًا.
قال ليون — حين وصلوا إلى الميدان — موضحًا: «هذا هو باب خشبة المسرح، وهذه هي مخارج الطوارئ التي تُستخدَم في نهاية العرض لإخلاء المسرح.» وأشار إلى الطريق الذي جاءوا منه.
سأله بويكارت: «لماذا تُبدي كلَّ هذا الاهتمامِ بالمسرحِ نفسِه؟»
ردَّ جونزاليس بهدوء قائلًا: «لأنني متفقٌ مع جورج. ينبغي أن نعثر على سيارة نيوتن متوقفة عند حديقة فيتزريف — لا سيارة أوبيرزون. والظروف مريبةٌ بعضَ الشيء.»
الآن، فُتحت أبوابُ القاعة الرئيسية والرِّواق؛ وتحركت الطوابيرُ ببطءٍ في اتجاه المداخل؛ ورأَوا المبنى العظيمَ يستوعب بداخله مُحبِّي الدراما؛ قبل أن يعودوا إلى مقدمة المبنى.
بدأت السياراتُ تتوافد، في البداية على أوقات متباعدة، ولكن، مع اقتراب بدء العرض المسرحي، أصبحت تتوافدُ في صفوفٍ متصلة تسبَّبت في الازدحام وجعلَت شرطة المرور تتلفَّظ وتتعامل على نحوٍ قاسٍ أحيانًا. كانت الساعة قد تجاوزت الثامنة والنصف بقليلٍ حين رأى مانفريد سيارة أوبيرزون اللامعة بالقرب من المبنى، وفي الحال توقَّفت عند مدخل المسرح. نزلت جوان أولًا ثم مونتي نيوتن وغابا عن الأنظار.
ظنَّ جونزاليس أنه لم يسبق له رؤيةُ الفتاة بهذا الجمال الصارخ من قبل. كانت تبدو بمظهر وهيئة شابةٍ جميلة، رغم أن الأشخاص الأكثرَ تحفظًا قد يعترضون على زينتها الجريئة، فإن الأشخاص الأكثرَ جُرأةً لن يجدوا غضاضةً في التأثير الممتع الذي تتركه في النفس.
تحدَّث ليون — باللغة الإسبانية — قائلًا: «يا له من أمرٍ مؤسفٍ للغاية، مؤسف لأبعد الحدود! ينتابني نفس الشعور حين أرى قطعةً مثالية من الرخام بين يدَي صانع شواهد القبور ليُشوهها ويصنع منها قبحًا!»
مدَّ مانفريد يده وجذبه بعيدًا عن الأنظار. أقلَّت سيارةُ أجرةٍ الرجلَ الأعرج. ونزل من السيارة بمساعدة مرشد مقاعد المسرح، ودفع الأجرةَ إلى السائق، ثم عرج إلى المدخل. لم يكن الأمر صدفةً استثنائية؛ حيث من الواضح أن الرجل قد أتى من نادي ميرو، ونظرًا إلى أن جميع أهل لندن يسعَون لمشاهدة المسرحية الدرامية، لم يكن من المستغرب أن يَجِدوه هنا. لاحظوا أنه صعد إلى مقاعد الشرفة، وفي وقتٍ لاحق، حين اتخذوا أماكنَهم في مقاعد الصالة، نظر ليون إلى أعلى، ورأى الوجه الشاحب الملتحيَ، ولاحظ أنه يشغل آخر مقعد في الصف الأمامي.
قال بانفعالٍ: «لقد التقيتُ بهذا الرجل في مكانٍ ما». وتابع: «لا شيء يُضايقني أكثر من أن أنسى، ليس الوجهَ، وإنما المكان الذي رأيته فيه!»
لم يكن جيرتر يعلم أنه قد حقَّق أسمى طموحاته؛ إذ إنه مرَّ مرتين أمامهم، وأفلتَ من المراقبة الشديدة لأذكى المحقِّقين في العالم، ولم يتعرف عليه أحد.