مهمة جيرتر
كان جيرتر يغطُّ في نومه حين استُدعي للمهمة، إلا أنه وقفَ أمام قائده في حالةٍ من الإشراق والنشاط كما لو أنه لم يقضِ ليلةً مؤرِّقة، ولم يتحمَّل إجهاد القفز من القطار في منتصف الليل.
قال دكتور أوبيرزون وقد تهلَّلَت أساريره بعضَ الشيء: «سأرسلك، يا عزيزي جيرتر، مرةً أخرى في مهمة. ولكن هذه المرة لتُنقذنا جميعًا من خيانة يهوذا الذي كنَّا نظنُّه صديقًا لنا. الليلة يجب أن تلدغَ الأفعى، وأن تلدغَ بقوة، يا جيرتر. هناك في الظلام، سيرحل المؤتمن المزعوم! وبعد ذلك، يا فتاي الشجاع، لن يُصبح هناك ما نخشاه.»
توقَّف برهةً انتظارًا للتصديق على كلامه بالموافقة، وحصل على موافقةٍ سريعة.
وأردف أوبيرزون قائلًا: «الليلةَ نتمنى أن تُقدِّم تحفة فنية، الاستغلال الأمثل لموهبتك العظيمة، يا جيرتر؛ أسمى وسائلِ التعبير عن العبقرية! لن يفيَ أسلوبُ رجل نوادي النبلاء بالغرض. فلعلهم يبحثون عنك ويعثرون عليك. من الأفضل، هذه المرةَ، أن …»
قاطعه جيرتر بحماسٍ قائلًا: «سيدي الدكتور، هل تتكرَّم وتسمح لي أن أقدِّم اقتراحًا متواضعًا؟»
أومأ الدكتور برأسه بتأنٍّ.
ثم قال: «تحدَّث، يا جيرتر. أنت رجل فطِن؛ ولا ينبغي لي أن أُملِيَ تعليماتي على فنانٍ مثلك.»
«دعني أغِبْ لمدة ساعة، أو ربما ساعتين، وسأعود لك بأسلوب استثنائي. هل تتكرَّم وتسمح لي بذلك، سيدي الدكتور؟»
«تقدَّم!» قالها الدكتور في لطف، وهو يُشير بيده إلى الباب.
مرَّت ساعة ونصف تقريبًا قبل أن يُفتح الباب من جديد ويدخل منه رجلٌ نبيل ظن الدكتور لدقيقة أنه شخصٌ غريب. كان وجهه شاحبًا على نحوٍ غير طبيعي؛ والحاجبان أسودَين، والهالات الشاحبة تحت عينيه توحي الإصابة مؤخرًا بمرضٍ ما، واللحية سوداءَ قصيرةً مشذبة يتخللها الشَّيب — ربما لم يخدعه كلُّ هذا. ولكن من الواضح أن الرجل كان ضحيةً لحادث مروِّع وقع في الماضي. إذ إن إحدى كتفيه محدبة، واليد التي تُمسك بالعصا مشوَّهة، أما وطأة قدمه المعوجَّة فكانت تشي بعرَجِه.
استهل الدكتور الحديث قائلًا: «سيدي، هل تودُّ مقابلتي …؟» ثم حدَّق وقد فغَر فاه. وهو يقول: «أنت لست …!»
ابتسم جيرتر.
«سيدي الدكتور، هل تتنازل وترضى بهذا؟»
تمتم أوبيرزون، وهو يُحدق في ذهول قائلًا: «هائل! مِن بين كل الإنجازات هذا هو الأبرز! يا جيرتر، أنت فنان. يومًا ما سنشتري لك مسرحًا في منطقة أونتر دِن لِندن، وستُبهج قاعدة كبيرةً من الجماهير.»
«سيدي الدكتور، هذه فكرتي الخاصة؛ هذا ما خطَّطت له على مدار عدة أشهر. لقد صنعتُ الحذاء بنفسي؛ وحتى المعطف عدَّلته» ثم ربَّت على كتفه المشوَّهة بفخر.
«هل ينقصك ارتداء نظارة؟»
قال جيرتر على الفور: «لديَّ واحدة.»
«ربطة العنق — أليست مفرطة في الرسمية؟»
تحسَّس جيرتر بأصابعه ربطة عنقه.
«من واقع العادة النبيلة، أزعمُ بكل احترام أن ربطة العنق الرسمية مستحسَنة، إذا تكرمت وسمحت بذلك.»
أومأ الدكتور برأسه.
ثم قال بورَع، وهو يُخرج علبة سجائر ذهبية من جيبه ويُعطيها للرجل: «فليرعَكَ الله، يا جيرتر». وتابع: «اجلس، يا صديقي العزيز.»
وقف وأشار إلى الكرسي الذي أخلاه.
«على الكرسيِّ الخاص بي، يا جيرتر. لا يوجد شيءٌ يُعَد أفضلَ من أن تحصل عليه. الآن، إليك الترتيبات …»
كشف له عن الجدول الزمني خطوةً بخطوة، حيث إن التسلسلَ الزمنيَّ كان يُمثِّل شغفًا عظيمًا لهذا الرجل الغريب والخبيث كما كان بالنسبة إلى العمة ألما تمامًا.
ونظرًا إلى أن جيرتر كان واثقًا جدًّا من قدراته على التنكُّر لدرجةِ أنه ذهب مباشرةً وتحدَّث إلى سائق أوبيرزون، وبطرف عينه رأى مانفريد وجونزاليس يقتربان. كان هذا هو الاختبارَ الأهمَّ وقد اجتازه والفضل يرجع إليه.
لم يتناول جيرتر العشاءَ في مطعم ميرو؛ إذ إنه لا يأكل أو يشرب حين يكون متنكرًا، وهذا من واقعِ معرفته بمدى حساسية تلك المهمة. وبدلًا من ذلك، طلب سيارةَ أجرة، وأمضى الوقت في التجوُّل بالسيارة حول السور الخارجي لحديقة ريجنت بارك.
استغرق جيرتر في التفكير طوالَ هذه الأيام، وقيَّد أنشطته المؤذية على حساب بذل جهدٍ جسدي شاقٍّ، بحيث يُصبح ذهنه صافيًا طوال الوقت. لأنه لو أراد أن يظلَّ على قيد الحياة، فمن الضروري أن يُبقيَ ذهنه صافيًا.
شغَل فكرَه أمرُ السجينة المحبوسة في القبو. كانت تُمثل أهميةً لسببَين: فهي صديقة الرجل الذي يكرهه بكل برودٍ وعداوة شديدة تفوق الوصف؛ كما تُمثل الثراء المستتر، لدرجةِ أن الدكتور ذهب إلى حد التخطيط للزواج منها. وليس من المقرَّر أن تُقتَل، أو تؤذَى؛ فهي تُمثل أهميةً كبيرة لدرجةِ أن العجوز من شأنه أن يتحمل المخاطر المحفوفة بفكرة الزواج منها. لا بد أن هناك سببًا وجيهًا لذلك؛ لأن دكتور أوبيرزون لم يكن ذا حسٍّ مرهَف للغاية.
بدا أنه يتذكَّر أن الزوجة لا يمكن أن تشهدَ ضد زوجها، وَفقًا للقانون الإنجليزي. لم يكن متأكدًا من ذلك، ولكن كانت لديه فكرةٌ مبهَمة أخبره بها فايفر؛ كان فايفر رجلًا متعلمًا ونال أرفع الأوسمة في الألعاب الرياضية.
لم يكن جيرتر يُجيد القراءة بكفاءة. ومستوى تعليمه متواضع، ولقد رُفض ذاتَ مرة لأداء دورٍ تمثيلي رئيسي بسبب لهجته المحلية. تلك الغلطةُ التي صحَّحها في السجن، على يدِ أستاذٍ يقضي عقوبة السجن مدى الحياة بسبب قتل امرأتَين؛ ولكن بحلول الوقت الذي أُفرج فيه عن جيرتر، صار مسجَّلًا خَطِرًا، وضاعت عليه فرصةُ العمل على خشبة المسرح إلى الأبد.
كان أوبيرزون يمتلك المميزات التي يفتقر هو إليها. وهو السيد؛ بينما جيرتر هو الخادم. لذا بإمكان أوبيرزون تحديدُ خط سَير الأحداث من منطلق سُلطته المطلقة، والخيوط التي يتحكَّم فيها في مختلِف أنحاء العالم. ولقد قبِل جيرتر بهذه الوظيفة لخادمٍ مطيع طاعةً عمياء، ولكن الآن وجهة نظره تغيرَت، وحتى بعد أن تغيَّرت وجهةُ نظر أوبيرزون بخصوص مونتيجو نيوتن. وربما لهذا السبب. كان الدكتور يسحب الثقة من أحدهما، ويُعطيها للآخر، وفي خِضمِّ هذا تأثَّرت هيبته.
الآن، صار جيرتر المؤتمن، وبالتالي النِّد، ومن المنطقي، يمكن دومًا أن يُصبح الندُّ هو الرئيس. لطالما راودَته أحلامٌ بحياةٍ رغدة، وبإشباع إحساسه بالترَف دون التفكير الواعي بأن هناك في مكانٍ ما عند المنعطف رجلًا ينتظره ليُربِّت على كتفه ويقبضَ عليها؛ إنه يتخيَّل قصرًا أبيضَ اللون وسط أرض مغطَّاة بالزهور، وحمامات سباحة زرقاء، وفتَيات مطيعات يُنادينه بالسيد. بدأ جيرتر يرى الضوء.
وإلى أن اتخذ مقعده في المسرح، لم يكن قد لمح الرجلَ والمرأة الجالسَين في شُرفة المسرح الأخيرة.
كانت جوان سعيدة — أسعد مما كانت تُسعفها ذاكرتها بتذكُّر لحظةٍ كهذه. ربما كان هذا ردَّ فعلٍ على حبسها التطوُّعي. بالتأكيد كانت موافقةُ مونتي المترددةُ على تغيير الخطط هو ما تَسبَّب في سعادتها الغامرة. لقد تخلى مونتي عن فكرة زواج المصلحة؛ وبمجرد أن اقتنعَ بذلك، تَبدد آخر عائقٍ في طريق الاستمتاع. فليأخذ أوبيرزون الفتاة، إذا رغبها؛ وليأخذ معها، أيضًا، المسئولية الثقيلة المترتِّبة على ذلك. وسيحصل مونتي نيوتن على كلِّ ما رغبه دون خوض المخاطرة. وما إن توصَّلَ إلى هذا القرار، حتى طلب زجاجةً أخرى من الشمبانيا ليُبرم الصفقة، وغادرا ناديَ ميرو كحبيبَين سعيدين أكثر مما كانا عليه قبل دخولهما.
وقال لها بينما كانا يستقلَّان السيارة في طريقهما إلى المسرح: «بمجرد أن نَجنيَ هذه الأموال، سنُغادر إنجلترا». وتابع: «ما رأيك أن نُمضي فصل الشتاء في بوينس آيرس، أيتها الفتاة العزيزة؟»
لم تكن تعلم أين تقع بوينس آيرس بالضبط، ولكنها عبَّرت عن فرحتها بالاقتراح، وأطال مونتي الحديثَ عن مباهج قضاء الصيف في أمريكا الجنوبية، ومواطن جَمال بوينس آيرس، ووسائل التسلية والترفيه فيها.
وعقَّب قائلًا: «لا أظن أنه سيكون هناك أيُّ ضربة قادمة، ولكن ستُصبح خُطةً لا بأس بها إذا أخذنا جولةً حول العالم، وسنعود بعد نحو ثمانيةَ عشر شهرًا كي نستقرَّ في لندن. حينئذٍ سيُصبح ماضيَّ المحمومُ طيَّ النسيان — يا إلهي، ولعلني أترشح للبرلمان.»
همسَت جوان، قائلةً: «كم هذا رائع!» ثم أردفَت قائلة: «ما قصة هذه المسرحية، يا مونتي؟»
«إنها مثيرةٌ بعضَ الشيء، وهي المسرحية المناسبة تمامًا لك — قصة بوليسية سيقشعرُّ لها بدنك.»
كان لديها هوسٌ صِبياني بجرائم القتل وغيرها من الجرائم، جلسَت في الشُّرفة يغمرها شعورٌ لطيف بالترقُّب، وشاهدت تطورات الفصل الأول.
كان المشهد يدور في أحد النوادي، مكان متواضع حيث يلتقي فيه أكثرُ الأشخاص المنبوذين في المجتمع، تشربت كلَّ كلمة؛ لأنها كانت خبيرةً بالحياة، وقد رأتْ تلك النوعية من النساء مثل تلك التي ترتدي الثيابَ الغالية وتتبخترُ على خشبة المسرح بينما صاحبُ النادي يُحادثها بأُلفة. كانت خبيرةً بذلك المحقِّق ذي النظرات الثابتة حين ظهر على نحوٍ محرج. كانت السيدة في نفس موضعها. كانت تعرف الشخص الهائم شاحبَ الوجه الذي يقترب خِلسة من الباب؛ ذئب بشري فرَّ هاربًا عند رؤية رجل الشرطة.
شاهدها الثلاثة الجالسون في الصف الأمامي من المسرح — كيف استطاع ليون جونزاليس الحصولَ على تذاكر هذه المقاعد هو أحد الألغاز الصغيرة لهذا اليوم — وشعر أحدهم على الأقل بانقباض قلبه.
أطلق مونتي العِنان لتصرفاته اللطيفة. لقد تناول ما يكفي من النبيذ ليرى العالم برؤية وردية، وحتى إنه قد أبدى اهتمامًا نوعًا ما بالمسرحية، رغم أن متعته الأساسية تمثلَت في شعور الفتاة بالبهجة. طلب لها حلوى مثلَّجة بعد فترة الاستراحة الأولى.
علَّق قائلًا: «لقد صرتِ من جمهور المسرح، يا صغيرتي». وتابع: «لا بد أن أصطحِبَكِ إلى عروضٍ أخرى. لم يكن لديَّ أدنى فكرة بأنكِ تُحبين هذا النوع من المسرحيات.»
أخذَت نفَسًا عميقًا وابتسمت له.
قالت: «أنا أحب أيَّ شيء حين أكون معكَ.» وتشابكَت أيديهما على نحوٍ طائش، حتى انطفأت أضواءُ صالة المسرح ورُفع الستار عن مشهدٍ في مكتب أحد المحامين.
كان صاحب المكتب محاميًا ينتمي لعالَم الإجرام؛ رجلًا على وشك أن يُشطَب اسمه من نقابة المحامين. وقد خان عميلًا يتعامل معه، ودخل الرجل السجنَ لقضاء مدةٍ طويلة، ولكنه فرَّ هاربًا. وجاءت الأخبار بأنه ترك أستراليا وعاد إلى لندن، وهو يتحيَّن الفرصة لتدمير الرجل الذي تسبَّبَت خيانته في القبض عليه.
وقد مسَّت هذه الأحداثُ وتَرًا لديها. حتى مونتي وجد نفسه يميل إلى الأمام، وكأنه يتطلَّع إلى ألاعيبه المألوفة تُعرَض أمامه على خشبة المسرح.
قال أثناء وقتِ الاستراحة الثاني: «لا بأس بالمسرحية مطلقًا، باستثناء …» تردَّد للحظةً قبل أن يُردِف قائلًا: «أليس هذا قريبًا جدًّا من الحقيقة؟ على كل حال، المرء لا يذهب إلى المسرح ليرى …»
توقَّف عن الحديث، وقد أدرك أن الظروف والمواقف المألوفة بالنسبة إليه كانت جديدةً تمامًا بالنسبة إلى جمهورٍ عصري يعرف لأول مرة أن «عسَّاس» يعني المخبر السرِّي؛ بينما يُشار إلى مرشِد الشرطة بكلمة «العين».
أُضيئت الأنوار، ونظر حوله عبر الصالة، وفجأةً انتفض وأمسك بذراعها.
قال وهو يُشيح بنظره: «لا تنظري الآن، ثم ألقي نظرةً على الصف الأمامي. ألا ترَين شخصًا تعرفينه؟»
نظرت على الفور.
وقالت: «أجل، هذا هو الرجل الذي تكرهه كثيرًا، أليس اسمُه … جونزاليس؟»
قال مونتي: «إنهم جميعًا هنا — ثلاثتهم». وتابع: «إني أتساءل …» أربكَتْه الفكرة، فأضاف: «أتساءلُ إن كانوا يبحثون عنك؟»
«عني. ليس لديهم شيءٌ ضدي، يا مونتي.»
التزم الصمت.
«يُسعدني أنكِ لن تعودي إلى ذلك المكان الليلة. إنهم سيتتبَّعونك بالتأكيد … بالتأكيد!»
ظن فيما بعدُ أنه ربما من قبيل المصادفة أن يكونوا هناك. بدا أنهم لا يُظهرون أيَّ اهتمام بالشُّرفة، ولكنهم يتسامرون ويتحدثون ويتبادَلون الضحكات. لم تلتفت أعينُهم إليه بالأعلى ولو مرةً واحدة، استعاد ثقتَه بنفسه بعد مدة قصيرة، ولكنه شعر بالقدْر الكافي من السعادة حين استُؤنِفَت المسرحية.
احتوى هذا الفصل على مشهدين؛ المشهد الأول من داخل قسم الشرطة، والمشهد الثاني من داخل غرفة المحامي. حيث يظهر الرجلُ في حالة سُكْر، وجاء المخبر السرِّي ليُحذره من أن الهارب يُلاحقه. وفجأةً انطفأت أنوارُ خشبة المسرح، وعمَّ الظلام في القاعة كلِّها. كان هذا جزءًا من حبكة المسرحية. وفي هذا الظلام، وفي وجود الشرطة، قُتل الرجل المهدد. وقد أصغَوا السمع في هذا الصمت المطبِق، ومدَّت الفتاة رأسها إلى الأمام محاوِلةً اختراق الظلام؛ لتستمع إلى سُطور الحوار المحتدم الآتية من خشبة المسرح وسط الظلام. كان هناك شخصٌ في الغرفة — سيدة، ولقد عثَروا عليها. ثم أفلتَت من قبضة المحقِّق على خشبة المسرح واختفَت، وعندما عادت الأنوار كانت قد ذهبَت.
همسَت قائلة: «ماذا حدث، يا مونتي؟»
لكنه لم يردَّ.
«هل تظن …؟»
التفتَت إليه. كان رأسه مائلًا على القماش المخمليِّ المبطَّن لحافة الشرفة. بينما امتُقع وجهه الذي التفتَ نحوها؛ وقد أغمض عينَيه، وكشفت أسنانه عن تكشيرةٍ بشعة.
فصرخت.
«مونتي! مونتي!»
وهزَّت جسدَه. لكن مرةً أخرى دوَّت صرختها عبر القاعة. في البداية، ظن الجمهور أنها امرأة دخلت في نوبةٍ هيسترية من هول المشهد المعروض على خشبة المسرح، ثم نهض شخصٌ أو اثنان من مقعدَيهما في الصفوف الأمامية ونظرا إلى أعلى.
«مونتي! تحدث إليَّ! لقد مات، لقد مات!»
شغرت ثلاثة مقاعد في الصف الأمامي. حالت صرخاتُ الفتاة الهيسترية دون استمرار المشهد، وأُسدِل الستار سريعًا.
ساد الانفعال قاعةَ المسرح. والتفتَت جميع الوجوه إلى الشُّرفة حيث جثَت على ركبتَيها بجوار المتوفِّي، تحتضنه بين ذراعَيها، بينما اللوعة في صوتها مثيرة للأعصاب.
فُتح باب الشرفة، واندفع مانفريد إلى الداخل. ثم ألقى نظرةً واحدة على مونتي نيوتن، ولم يكن بحاجةٍ إلى تَكْرارها.
قال باقتضاب: «أخرِجوا الفتاة.»
حاول ليون أن يسحبَها إلى خارج الشُّرفة، ولكنها كانت في حالة غضبٍ عارمة.
«لقد فعلتموها، لقد فعلتموها! دعني أذهب إليه!»
رفعَها ليون لتقفَ على قدَمَيها، وحملها إلى خارج الشرفة، وهي تُخربش وجهه بعنف.
هُرِع مدير المسرح عبر الرواق، أرسله ليون بإيماءةٍ من رأسه. ثم جاءت سيدة ترتدي فستانَ سهرة من مكانٍ ما.
وقالت: «هل يُمكنني أخذها؟» وانهارت الفتاة المنهَكة بين ذراعيها.
عاد جونزاليس على الفور إلى الشرفة. كان الرجل مستلقيًا على الأرضية، وخاطب مديرُ المسرح الذي وقف عند حافَة الشُّرفة، الجمهورَ.
«لقد فقد الرجلُ وعيه، وأخشى أن صديقته صارت في حالةٍ هيسترية قليلًا. يجب أن أعتذر لكم، سيداتي سادتي، على هذا التوقُّف. اسمحوا لنا ببضع دقائق لنُخْلِيَ الشرفة، وسنستكمل عرض المسرحية. إذا كان هناك طبيبٌ في قاعة المسرح، فسأصبح سعيدًا بصعوده إلينا.»
ومن ثَم تقدَّم طبيبان كانا يحضران العرض، وفي الرِّواق الذي أصبح الآن تحت حراسة حاجب، أُجري فحصٌ سريع. حيث فحصا ثَقب الجرح الموجود في مؤخرة العنق، ثم نظرا أحدهما إلى الآخر.
قال أحدهما: «هذه لدغة الأفعى.»
قال مانفريد: «لا ينبغي أن يعرف الجمهور». وأضاف: «لقد مات، أليس كذلك؟»
أومأ الطبيبُ برأسه.
وبالخارج في الرِّواق كان هناك بابٌ كبير كمخرج للطوارئ، فتحه المدير، وهُرع إلى الشارع، ليجد سيارة أجرة نُقلت فيها جثة مونتي نيوتن.
وأثناء القيام بذلك، عاد بويكارت.
وقال: «غادرت سيارته للتو». وتابع: «لقد رأيتُ لوحة أرقام السيارة وهي تنطلق نحو ليزلي ستريت.»
سأله جونزاليس بسرعة: «منذ متى؟»
«في هذه اللحظة بالضبط.»
عضَّ ليون شفَتَيه وهو منخرطٌ في التفكير.
«أتساءل، لماذا لم ينتظر؟»
عاد من خلال باب الطوارئ الذي أُغلق، ومرَّ عبر الرِّواق نحو المدخل. كانت الشُّرفة في مستوى الصف الأول، وفي نهاية الرواق القصير وجد نفسَه عند الصف تمامًا.
وخطرَت على باله فكرةُ الرجل الأعرج، وتوجَّهت عيناه إلى المقعد الأول في الصف الأمامي، وهو المقعد الأقرب إلى الشرفات. لقد ذهب الرجل.
وعندما توصَّلَ إلى هذا الاكتشاف، خرج جورج من الرواق.
قال ليون: «جيرتر!» وتابع: «يا لغبائي! ولكن كم هو بارع!»
قال مانفريد في دهشة: «جيرتر؟» وأضاف: «هل تقصد الرجلَ ذا القدم العرجاء؟»
أومأ مانفريد برأسه.
قال جونزاليس: «بالتأكيد، لم يكن بمفرده». وتابع: «لا بد أنَّ هناك رجلَين أو ثلاثةً من العصابة هنا، رجال ونساء — يضع أوبيرزون هذه الخطط بحِرص ودقة الجنرالات. أتساءل أين أخذت الإدارة الفتاة؟»
وجد المدير يُناقش الحادثَ المأسويَّ مع رجلَين آخَرين، أحدهما كان ذا صلةٍ واضحة بالإنتاج، فأشار له ليتنحَّى جانبًا.
«السيدة؟ أظن أنها ذهبت إلى المنزل. لقد غادرت المسرح.»
سأله جونزاليس، في حالة ذعر مفاجئ: «أيَّ طريق سلكت؟»
استدعى مدير المسرح مرشد مقاعد المسرح الذي رأى سيدةً في منتصف العمر تخرج من المسرح مع فتاةٍ تبكي، وسلَكَتا الشارع الجانبي الذي يؤدي إلى الميدان الصغير خلف المسرح.
قال مانفريد: «ربما أخذتها إلى منزلها في تشيستر سكوير.» انتقصت نبرةُ صوته من ثقته في هذا الافتراض.
لم يُحضر ليون سيارته، فاستقلُّوا سيارة أجرة إلى تشيسترسكوير. لم يسمع فريد، الخادم، أو يرَ الفتاة، وكاد يفقد وعيَه حين عرَف النهاية المأسَوية لمسيرة سيده المهنية.
قال بنبرةٍ متأوهة: «أوه، يا إلهي!» وتابع: «قد غادر من هنا بعد الظهر هل قلت، إنه قد مات؟»
أومأ جونزاليس برأسه.
تلعثمَ الرجل وهو يقول: «ليست … ليست الأفعى؟»
قال مانفريد بصرامة: «ما الذي تعرفه بخصوص الأفعى؟»
«لا شيء، باستثناء … حسنًا، جعلتْه الأفعى متوترًا، هذا ما أعرفه. قال لي اليوم إنه يأمُل أن يمرَّ عليه هذا الأسبوع دون أن يتعرض للدغة أفعى.»
جرى استجوابه عن كثب، ورغم أنه من الواضح أنه يعرف شيئًا بخصوص صفقات سيدِه غير القانونية، وأنه متورطٌ في العمل مع أوبيرزون، لم يكن للخادم أيُّ صلة بعصابة الدكتور. كان يحصل على أجرٍ كبيرٍ ونسبةٍ مئوية من أرباح لعبة القمار، وأعترف أن جزءًا من واجباته تتمثَّل في إعداد ورق اللعب ليُمرره لسيده متسترًا تحت غطاء تقديم المشروبات. ولكنه لم يكن يعلم أيَّ شيء أخبثَ من ذلك.
قال ليون معترفًا: «بالتأكيد، إن المرأة، التي جرى دسُّها لتعتنيَ بالفتاة في اللحظة التي تضرب فيها الأفعى، هي شريكة لهم. لقد كنتُ في حالةٍ ذهنية جعلتْني لا أتذكر كيف يبدو شكلها. أنا غبي … أحمقُ تمامًا! أعتقد أنني قد أصبحت عجوزًا. ليس أمامنا سوى شيءٍ واحد لنفعله، ألا وهو أن نعود إلى كورزون ستريت — ربما حدث شيءٌ ما هناك.»
«هل تركت أحدًا في المنزل؟»
أومأ ليون برأسه قائلًا: «أجل، تركت أحد رجالنا، ليردَّ على أي رسائل هاتفية قد تأتينا.»
دفعوا الأجرة للسيارة التي وقفَت أمام المنزل، وهُرِع ليون إلى المرأب ليُخرج السيارة. فتح لهم البابَ الرجلُ الذي أوثقه البائع المتجولُ في مزرعة هيفيتري، وجاءت كلماته الأولى التي نطقها بمثابةِ صدمةٍ لمانفريد: «ديجبي هنا، يا سيدي.»
قال الآخر مندهشًا: «ديجبي؟» وتابع: «ظننتُ أنه كان في مهمة، أليس كذلك؟»
«جاء إلى هنا منذ أن غادرت مباشرة، يا سيدي. لو كنتُ أعلم إلى أين ذهبتَ، لأرسلته إليك.»
خرج ديجبي من غرفة الاستقبال في تلك اللحظة، وهو على استعدادٍ ليعتذر.
«كان يتعيَّن عليَّ مقابلتك، يا سيدي، ويؤسفني أني تركت موقعي.»
قال مانفريد وهو عابس: «ربما لن يفوتَك الكثير». وأضاف: «اصعد معي وأخبرني ما الخطْب.»
كانت قصة ديجبي غريبةً. حيث نزل بعد ظهر ذلك اليوم إلى ضفَّة القناة ليستطلعَ الأرض التي كانت جديدةً بالنسبة إليه.
«وأنا سعيدٌ أنني فعلت ذلك؛ لأن الأسوار غُرس أعلاها زجاج مكسور. خرجتُ إلى طريق أولد كنت وأحضرتُ مجرفة الحدائق، وأزلت الزجاج من المِلاط، بحيث يُمكنني التسلُّق، إذا أردت ذلك. ثم تسلقت البوابة المائية وألقيتُ نظرة على الصندل الخاص به. لم يكن فيه أحد، لكن أعتقد أنهم اكتشَفوا وجودي بعد ذلك. إنه صندل كبير، وبالطبع، كان في حالةٍ مزرية، ولكن مخزنه مليء بالشحنات — هل تعلم ذلك، يا سيدي؟»
«هل تقصد أنَّ ثمة شيئًا في الصندل؟»
أومأ ديجبي برأسه.
«أجل، عليه حَمولة من نوعٍ ما. إن الجزء الخلفي، حيث توجد كابينةُ النوم الخاصةُ بقائد المركب، يمتلئ بالفئران والمياه، ولكن الجزء الأمامي من المركب مانعٌ لتسريب الماء، ومحمَّل بشيء ثقيل أيضًا. ولهذا السبب فإن مقدمة المركب غارسةٌ في الوحل. لقد عملتُ بإدارة شرطة المسطحات المائية في نهر التيمز وأعلم الكثير بخصوص المراكب النهرية.»
«أهذا ما جئتَ لتُخبرني به؟»
«لا، يا سيدي، ثَمة شيء أغربُ من ذلك. بعد أن ألقيت نظرة على الصندل وحاولتُ سحب بعض الألواح — الأمر الذي لم أستطِع القيام به — ذهبتُ وألقيت نظرةً على المصنع. ليس من السهل الدخول؛ لأن المدخل مواجهٌ للمنزل، ولكن لكي تدخله عليك أن تأخذ نصف جولة حول المبنى، وهذا يمنحُك قدرًا من التغطية. لم يكن هناك شيء يُمكنني رؤيته في المصنع نفسِه. كان في حالة فوضى عارمة، مليء بقطع الحديد القديمة والصناديق المحترقة. وكنت أتجوَّل في الجزء الخلفي من المبنى»، ثم أردف يقول بانفعال: «حين شممتُ رائحةً غريبة.»
«عطر؟»
«أجل، يا سيدي، كان عطرًا، ولكنه أقوى من العطر — أقرب إلى بَخور. ظننتُ في البداية أنه ربما يكون بالةً قديمة من الأشياء التي جرى التخلص منها، أو ربما كنت أتوهَّم. بدأت أفتِّش أكوام القمامة — ولكن لم ينبعث منها رائحة! ثم عُدت مرةً أخرى إلى المبنى، لكن لم تكن هناك رائحةٌ في هذا الجزء. ثم أصبحت قويةً للغاية حين عُدت إلى الجزء الخلفي من المصنع؛ وعندئذٍ رأيتُ قليلًا من الدخان ينبعث من شفاط تهوية قريب من الأرض. وخطرت على بالي فكرةُ أن المكان يحترق، ولكن حين جثوتُ على ركبتي، وجدت أنها تلك الرائحة.»
قال بويكارت سريعًا: «عيدان بَخور أليس كذلك؟»
قال المخبر السرِّي: «كان الأمر كذلك!» وتابع: «شبيه بالبَخور، ولكن ليس بَخورًا. جثوت على ركبتي وتنصتُّ عبر الشبكة الحديدية لفتحة التهوية، وأقسم أنني سمعت أصواتًا. كانت خافتة جدًّا.»
«أصوات رجال؟»
«بل أصوات نساء.»
«هل أمكنَك رؤية أي شيء؟»
«كلا، يا سيدي، كان شفاط تهوية تصعب الرؤيةُ عبره وعلى الأرجح كان هناك عمود — في الواقع، أنا متأكد من وجوده؛ لأنني دفعتُ حجرًا عبر إحدى الفتحات وسمعتُه يسقط على مسافة لأسفل.»
قال بويكارت: «ربما تكون هناك غرفةٌ تحت الأرض وأحدهم يُشعل بَخورًا لتلطيف الأجواء.»
قال جورج: «أسفل المصنع أليس كذلك؟ لا يوجد شيءٌ كهذا في خرائط المبنى. لقد حصلت عليها من إدارة مساحة الأراضي وتفحَّصتها. رغم أن خرائط المساحة ليست معصومةً من الخطأ. إن رجلًا مثل أوبيرزون لن يتردَّد في خرق شيءٍ غير مهم مثل قانون البناء!»
جاء ليون في تلك اللحظة، وسمع القصة وكان متفقًا تمامًا مع نظرية بويكارت.
قال: «لقد تساءلت عندما تفحَّصنا الخرائط ما إذا كان علينا أن نتقبَّلها باعتبارها دقيقةً تمامًا». وأضاف: «بُني المخزن في أواخر عام ١٩١٤، حين كان المهندسون والبنَّاءون يتصرفون بمطلق الحرية ويضَعون في الاعتبار مقتضيات الحرب.»
واصل ديجبي قصته.
«كنت بصدد العودة إلى الصندل للمرور عبر البوابة المائية، ولكني رأيتُ العجوز ينزل درجات سلَّم المنزل؛ ولذا تسلَّقت الجدار، وسعدتُ جدًّا أنني أزلت ذلك الزجاج المكسور، وإلا ما استطعتُ الفرار.»
أخرج مانفريد ساعتَه من جيبه مقطبًا جبينه. لقد قضَوا ساعة تقريبًا من وقتهم الثَّمين بتحرياتِهم في تشيستر سكوير.
وقال بنبرةٍ متشائمة: «آمُل ألا يكون قد فاتنا الأوان». وتابع: «الآن، ليون …»
ولكن ليون كان قد هبط السلَّم في ثلاث خطوات.