الثأر
ربما يبدو الشخصُ الذي زار مكتب الدكتور أوبيرزون هذا الصباح دون سابق إنذار وكأنه خارجٌ للتو من إحدى صفحات كتالوج أزياء الرجال. فمظهره كان عصريًّا، على نحوٍ مُبالغ فيه، بالنسبة إلى الأشخاص العاديين. فقفازاه ذوا اللون الليموني، وحذاؤه اللامع، وقبَّعته الحريرية الأنيقة، وطرَف منديله الذي يظهر بانضباطٍ شديد، كلُّها أشياء كانت كفيلةً بلفتِ الأنظار إليه حتى لو كان موجودًا وسط حلبة اسكوت لسباق الخيول في يوم السباق على الكأس. كان وسيمًا، هادئًا، وإن كان وجهه ممتلئًا قليلًا، وله شاربٌ أسمر صغير مائلٌ للصفرة، ويلبس نظارة أحادية العدسة. إن غير المعجبين بالكابتن مونتي نيوتن — وهم كُثُر — يقولون عنه إنه يطمح إلى الوصول إلى صورة البواب من وجهة نظر الخادمات. إلا أنهم لم يُصرِّحوا بذلك علانيةً؛ لأنه كان أهلًا للاسترضاء لا الإساءة. فقد كان ثريًّا، ويمتلك منزلًا في الريف، وقصرًا في تشيستر سكوير، ومجموعة متنوعة من السيارات. كان عضوًا في العديد من الأندية المتميزة، ولم تتردَّد أيٌّ من لجان تلك الأندية في التعلل بمرحلة الحرب حتى يُناقشوه في أمرِ انتخابه لرئاسة النادي. لا أحد يعلم مصدر ثروته، فإن كان وريثًا، فمن هو المورِّوث؟! وكان يحرص على إقامة حفلات فخمة، ويجيد لعب الورق، فهو يتمتَّع بحظ هائل، لا سيما إن كان هو مَن يُدير اللعبة ويتولى دور توزيع الورق والأموال، عقب إحدى حفلات العشاء الرائعة التي يُقيمها في قصره في تشيستر سكوير.
«صباح الخير، يا أوبيرزون! كيف حال سميتس؟» كانت تلك دعابته المفضلة؛ لأنه لا وجود لسميتس، ولم يكن له وجودٌ في الشركة منذ عام ١٨٩٦.
نظر الدكتور إلى أعلى، بعد أن كان محدقًا في البرقية التي يكتبها.
«حصلت على المركز الجيد. لا يمكنني العودة على نحوٍ متعجِّل الليلة. أنا نائمةٌ في شقتنا الجميلة في داوتي كورت. لا تأتي حتى أرسل في طلبك. الآنسة ميرابيل ليستر.»
نظر الكابتن نيوتن إلى باب المختبر متسائلًا: «إنها هنا، أليس كذلك؟ أنت بالطبع لن تُرسل هذه البرقية، صحيح؟ «الآنسة ميرابيل ليستر!» «العودة على نحو متعجل!» سيجعلها ذلك تكشف الخدعة في لحظة. مَن هي ألما جودارد؟»
أجابه أوبيرزون قائلًا: «إنها العمة. لم أكن أنوي إرسالها حتى تراها أنت. إنجليزيتي فصيحة بشكل مُبالغ فيه.»
«حصلت على الوظيفة. يا لسعادتي! عزيزتي لا تُكلِّفي نفسك عناء المجيء، حتى تستقرَّ أموري هنا. سأبيت في الشقة كالمعتاد. سأصبح منشغلة جدًّا ولن أستطيع مراسلتك. احتفظي برسائلي. ميرابيل.»
طالع الكابتن نيوتن ما كتبه بنظرةٍ توحي برضاه التام عنه، قائلًا: «هذا لا يبدو مصطنَعًا. أرسلها.»
ونهض ومدَّد ساقَيه أمام المدفأة.
وقال: «لعل الجزء الأصعب من المهمة هو إقناع السيدة بالمجيء إلى تشيستر سكوير.»
بدأ أوبيرزون الحديث قائلًا: «بيتي الصغير …»
ضحك نيوتن ضحكة مدوِّية، وردَّ عليه قائلًا: «سيخيفها حتى الموت. ذلك الجحر! كلا، إما تشيستر سكوير وإما لا شيء. سأطلب من جوان أو إحدى الفتيات الأخريات، الذَّهابَ إلى هناك بعد ظهر اليوم لمرافقتها. متى ستصل السفينة بنجيلا؟»
«ستصل بعد ظهر اليوم؛ لقد حجز الشخص باللاسلكي غرفةً بفندق بيتورث.»
«نورفولك ستريت … حسنًا! دَع أحد رجالك يستقبِلْه ويُراقبه. ليزا؟ سيكون ذلك أفضلَ بكثير. سيتوق هذا الحثالة إلى الحديث مع امرأة. لا أظنه رأى امرأةً بيضاء منذ سنوات. يجب عليك فصلُ فيلا — هذا الوحش الفظ! لا شك أن الرجل يأخذ حِذْره الآن.»
صاح أوبيرزون بشراسة: «فيلا هو أفضل رجالي في الساحل الأفريقي.» إذ لا يوجد شيء يثير غروره المدهش مثل التشكيك في قدراته التنظيمية.
أخرج كابتن نيوتن مبسمَ سيجارة طويلًا من الأبنوس من جيب معطفه، وأخرج علبة رفيعة من البلاتين وأشعل سيجارةً بحركة واحدة خاطفة، وقال: «كيف أحوال التجارة؟»
أجابه بقوله: «سيئة!» ولكن أخطأ الدكتور أوبيرزون في نطقها، فهو يصعب عليه نطقُ الكلمات بطريقة صحيحة عندما يكون منزعجًا. وتابع قائلًا: «لا يوجد شيء سوى النفقات!»
ذات مرة حققت شركة أوبيرزون آند سميتس عائدًا هائلًا من بيع الكحول الاصطناعي. وكانوا يعملون، من بين أنشطة أخرى، بالتجارة في الساحل الأفريقي. ويشترون المطاط والعاج، ويُسدِّدون بالأقمشة والخمور. ويبيعون الأسلحة سرًّا، ويُخطِّطون لحروب قبَلية؛ طمعًا في تحقيق أرباح أكبر، وكانوا الممولين لثورتين على الأقل داخل البرتغال. وتوسَّعت أعمال الشركة، مع ازدياد حجم ثروتها. وأنتجت الورش البلجيكية والفرنسية المزيد والمزيد من البنادق. وكانوا يُخطِّطون إلى نقل قناعاتهم إلى مجالاتٍ أكثرَ نشاطًا، بدءًا من المتمردين الأكراد، والجنرالات الصينيين الطموحين، ووصولًا إلى رجال السياسة في أمريكا الجنوبية. فلا توجد دولة في العالم لا تضم عميلًا لأوبيرزون آند سميتس، وتكلفة العملاء قد تُصبح باهظة. أما الآن فالعالم ينعم بالسلام ولكنه سلامٌ يبعث على القلق. فقد أخفق اندلاع ثورة في فنزويلا إخفاقًا ذريعًا، ولم تتلقَّ أوبيرزون آند سميتس أموالًا مقابل شحنتين من الأسلحة الفتاكة التي طلبها أحد الجنرالات؛ إذ إنه بعد يومين من تفريغ الأسلحة، أخذه جنود الحكومة التي كان يتمرد ضدها ووضعوه أمام جدار طيني، وأمطروه بوابل من الرصاص حتى الموت. «لكن هذا لا يهم.» استبعد أوبيرزون ظروف التجارة السيئة من عوامل الحياة المعتبرة. وتابع: «ستنجح هذه المهمة، وسأصبح حرًّا لجيدًا أعاقب …»
صحَّح له الشخصُ المحبُّ لتصحيح لغته، وهو يُمرِّر إصبعه فوق شاربه قائلًا: «لتُعاقب جيدًا». وأضاف: «قُلها هكذا، يا إيريك، هذا سخيف. هل تفكِّر في مانفريد وجونزاليس وبويكارت؟ دعهم وشأنهم. لا أهمية لهم!»
زمجر الدكتور، وتبدلت ملامحُه معلنةً عن غضبه، وقال: «لا أهمية لهم!» وتابع: «أتطلب مني أن أدعَهم وشأنهم؟ بأي حق؟ بحق أخي الشهيد القديس، في جنات الخلد!»
ثم دار، وأمسك بشُرَّابة الخيوط الحريرية المتدلية فوق المدفأة، وسحب صورة، لا خريطة. كانت مرسومة من صورةٍ رسمها فنانٌ متخصص في رسم اللافتات الصارخة التي تعلَّق أمام الأكشاك في جميع المعارض الريفية. في هذا الوضع شكَّلت الصورة الزيتية غيرُ المتقنة تناقضًا صارخًا؛ إلا أن الدكتور أوبيرزون كان يرى أن جمالها يفوق جمال روائع متحف برادو. كانت صورة بالحجم الطبيعي لرجلٍ يرتدي معطفًا طويلًا. يستند إلى قاعدة تمثال في وضعٍ جسماني يظنه المصورون المبتذلون قمةً في الجمال. بدت ملامحُ وجهه الضخم، التي حرَص الفنان على جعلها تبدو مثالية، وحشية وغبية. وكانت شفتاه القرمزيتان متباعدتَين قليلًا بابتسامة متكلَّفة. ويحمل في إحدى يديه لِفافةً من الورق، وفي اليد الأخرى قبعة ديربي مستديرة، كانت خارج إطار اللوحة إلى حدٍّ كبير.
صاح دكتور أوبيرزون بصوت مختنق قائلًا: «أخي!» وتابع: «قُتل أدولف … القديس! على يد المدعوِّين برجال العدالة الثلاثة … أخي!»
غمغم كابتن نيوتن، دون أن يتكلَّف عناء النظر لأعلى، قائلًا: «هذا مثيرٌ للغاية.» ونفض رماد سيجارته داخل المدفأة ولم يتفوَّه بالمزيد. لا شك أن أدولف أوبيرزون لقي حتفه على يد ليون جونزاليس؛ فهذه حقيقة لا خلاف عليها. كان أدولف، لحظةَ وفاته، يُحاول جني الأرباح الوافرة التي يحصل عليها أولئك الذين ينخرطون في أعمال التجارة الشائنة بين أوروبا ودول أمريكا الجنوبية، التي كانت أقلَّ عرضةً للتساؤل عن مصدرها. ثمة فتاة متورطة في الأمر، وتبع ليون ذلك الرجلَ إلى بورتو ريكو، والتقيا في مقهى الفضائل السبع. كان أدولف قاتلًا محترفًا وسحب مسدسه أولًا — ومات أولًا. تلك هي قصة أدولف أوبيرزون، إنها قصة فتاة أعادها ليون جونزاليس إلى أوروبا رغم انتمائها لمكانٍ آخر. ووقعت في حب منقِذها وأخافته حتى الموت.
ترك الدكتور أوبيرزون اللوحة تُطوى لأعلى سريعًا، وأطلق تنهيدةً طويلة، وانهمرت الدموع من عينيه الشاحبتين.
قال الكابتن بابتهاج: «أجل، هذا محزن، محزن جدًّا». ثم أضاف: «والآن، ماذا عن هذه الفتاة؟ لا أرغب في أي قسوة أو عنف، هل تفهم، يا إيريك؟ أريد أن تسير الأمور بسلاسة. حاوِل انتزاع رجال العدالة من تفكيرك؛ لأنهم توقَّفوا عن العمل. عندما يتنازل المرء ويكتفي بإدارة وكالة تحقيقات خاصة فإنه يتمسَّك بأساليبَ قديمة. فإذا بادروا بفعل أيِّ شيء فسنتعامل معهم عِلميًّا، أليس كذلك؟ علميًّا!»
ابتسم لهذه المزحة الجيدة. من الواضح أن الكابتن نيوتن لم يكن معتمدًا على شركة أوبيرزون آند سميتس. فإن لم يكن هو الشريكَ المسيطر، فإنه المسيطر بالفعل على الفرع الذي عمل فيه ذات يوم في منصبٍ صغير. إنه مَدين بالكثير لوفاة أدولف — لم يأسف أبدًا على وفاة ذلك الرجل البغيض.
«سأطلب من إحدى الفتيات أن تزورها وتتفقدها بعد ظهر اليوم، أين مفكرة هاتفك — تلك التي تُدوِّن بها الرسائل التي تصِلُك؟»
«إلى ميرابيل ليستر، عناية أوبيرزون (هاتف) لندن. آسفة لم أستطِع المجيء الليلة. لا تبيتي في الشقة بمفردك. لقد أرسلت برقية إلى جوان نيوتن لتُرافقك الليلة. ستتصل بكِ — ألما.»
«تفضَّل»، قالها الكابتن الأنيق وهو يُسلِّم الآخر دفتر المذكرات. وتابع قائلًا: «هذه الرسالة وصلت بعد ظهر اليوم. جميع البرقيات الواردة إلى أوبيرزون تصل عبر الهاتف — لا تنسَ ذلك أبدًا!»
أشاد الدكتور أوبيرزون بصنيعه وقال بلهجةٍ تُظهر التبجيل والإعجاب: «يا لذكائك!»
«اصحبها لتناول الغداء … بعد الغداء أعطِها الرسالة. وعند الساعة الرابعة عصرًا، ستُرافقها جوان أو إحدى الفتيات الأخريات. ثم عشاء فخم. وغدًا ستكون في المكتب — هكذا بلطف، وسلاسة. إذا تعجَّلت في تنفيذ هذه المخططات فستبوء خُططك بفشل ذريع.»
نظر إلى الباب مرةً أخرى.
وأشار قائلًا: «لا أعتقد أنها ستخرج، أليس كذلك؟»
«سيصبح الأمر محرجًا إن خرجَت ورأت شقيق الآنسة نيوتن!»
أجابه الدكتور أوبيرزون بفخر: «لقد أوصدت الباب.»
تبدَّل حال الكابتن نيوتن، وامتقعَ وجهه وبدَت عليه ملامح الغضب المفاجئ.
وخاطبه قائلًا: «يا لك من … يا لحماقتك! لا تُوصِد الباب عندما أنصرف، واحرص على ألَّا توصده! هل تريد إخافتها؟»
برَّر السويدي فعلتَه قائلًا: «رأيت ألا أُخاطر.»
«نفِّذ ما أقوله لك.»
نفض الكابتن نيوتن معطفَه النظيف بأطراف أصابعه. وأخرج قفازَيه، وضبط قبعته باستخدام مرآة صغيرة أخرجها من الجيب الداخلي لمعطفه، وأخذ عصاه الداكنة وغادر الغرفة.
غمغم الدكتور أوبيرزون مرةً أخرى قائلًا: «يا له من شخص ذكي!» وذهب إلى ميرابيل المتفاجئة ليدعوَها لتناول الغداء.