جوان سجينة
سيطر الحزنُ على جوان، فأصبحَت لا تعي، ولا ترى، ولا تهتم، ولا تجرؤ على التفكير في أي شيء، حيث سرعان ما وجدَت نفسها تُقاد في الظلام إلى شارعٍ جانبي، حتى إنها لم تُلاحظ وقوفَ سيارة أوبيرزون الليموزين إلى جانب الرصيف.
أمرَتها المرأة بقسوة: «اركبي.»
دُفِعت جوان عبر الباب، ووجَّهها شخصٌ موجود مسبقًا بالسيارة إلى مقعدها.
وعندما أُغلق الباب وبدأت السيارة في التحرك، انهارت في زاوية وهي تئنُّ.
«إلى أين نحن ذاهبون؟ دعني أعُدْ إليه!»
أتاها صوتٌ بغيض قائلًا: «هلا تتفضل السيدة الكريمة بكبح حزنها»، فاستدارت باتجاه مصدر الصوت، وحدَّقت دون أن تُبصر شيئًا.
حيث أسدلَت ستائر السيارة؛ وساد الظلام الحالكُ بداخلها.
شهقت قائلة: «إنه أنت! أيها المتوحش!» وتابعت: «إنه أنت، أليس كذلك؟ جيرتر! أيها المتوحش القاتل!»
وجَّهَت له ضربةً ضعيفة، ولكنه أمسك بمعصمها.
وقال بلطف: «فلْتتمالَكِ السيدة الكريمة مشاعرَ حزنها». وأضاف: «فالسيد نيوتن لم يَمُت. وإنما كانت مجرد حيلة لإرباك بعض الدخلاء.»
صرخَت وهي تُحاول الإفلاتَ من قبضته الفولاذية، وصاحت قائلة: «أنت تكذب، أنت تكذب!» وتابعت: «لقد مات! أنت تعلم أنه مات، وأنت الذي قتلتَه! أيها الرجل الأفعى!»
أجابها جيرتر بلهجةٍ جادة: «سيدتي الكريمة، لا بد أن تُصدِّقيني.» كانوا يمرون بإحدى المناطق العامة في المدينة، ومن الممكن أن يسمع أيُّ شرطي صراخها في أي لحظة. «لو لم يتظاهر السيد نيوتن بأنه مصاب لُألقِيَ القبض عليه، سيتْبعُنا في السيارة التالية.»
قالت: «إنك تُحاول تهدئتي، ولكنني لن أهدأ.»
وعندئذٍ وُضعت يدٌ فوق فمها، ودفعت رأسها للخلف باتجاه المساند. فقاومَت بشدة، ولكنْ أطبقَ إصبعان على وجهها وضغطا على أنفها. كانت تختنق. وجاهدَت لتحرير نفسها من قبضته القوية، ثم فقدت وعيها.
شعر جيرتر بارتخاء جسدها المنفعِل فأبعد يدَيه. لم تشعر بوخز الإبرة التي اخترقَت معصمها، على الرغم من أنه خدَّرها بشكلٍ طائش، فقد فعل ذلك في الظلام، داخل سيارةٍ تتأرجح من جهة لأخرى. تحسَّسَ نبضها، وضغط بأصابعه الطويلة على عنقها وشعر بخفقان الشريان السُّباتي؛ وساندها حتى لا تسقط، ثم استرخى السيد جيرتر متلذذًا، في زاوية السيارة الليموزين وأشعل سيجارًا.
انقضَت الرحلة سريعًا. فبعد قليل كانوا يسلكون طريقَ هانجمان، وانعطفوا فجأةً إلى أرض المصنع مما تسبَّب في التواء أحد رفارف السيارة إثر الاصطدام بأحد قوائم البوابة.
لربما مضَت ساعتان على رحيل رفيقتها، حينما استيقظت ميرابيل، المستلقيةُ فوق فِراشها، شبهَ نائمة، بعدما انزلق كتابها على الأرض، فنهضت معتدلةً في جِلستها لتجد مَن يُحدق بها، وكان هذا الرجل أكثرَ مَن تَمقتُه في العالم كلِّه، من كل قلبها. حيث دخل الدكتور أوبيرزون إلى الحجرة في صمتٍ وتحت ذراعه كومة من الكتب.
وقال، بصوته المدوِّي: «لقد أحضرتُ لكِ هذه الكتب»، ورصَّها فوق الطاولة بعناية.
فلم تردَّ.
فاستطرد: «إنها روايات عديمة النفع، من النوع الذي قد تستمتعين به»، غير مدرك للإهانة التي يوجهها إليها بكلماته. وتابع: «لقد طلبتُ من بائع الكتب أن يختارها لي. إنها قصص مغامرات خيالية، وقصص عن الحب. ستَشغَلُك هذه الكتب، رغم أنني أراها محضَ هُراء وتفاهات.»
وقفت صامتة تتطلع إليه، ويداها متشابكتان خلفها. كان أكثرَ أناقةً من المعتاد، وارتدى، مرةً أخرى، المعطفَ المشقوقَ الذيلِ الذي كان يرتديه يوم قابلته أول مرة — بدا لها أن ذلك مضى منذ زمن بعيد! — كانت ياقته ناصعةَ البياض، ورابطة عنقه أجملَ من الرابطة التي اعتاد هذا الرجلُ المنمَّق ارتداءها، وبدَت أنها جديدة.
كان يحمل في يديه باقةَ زهور صغيرة في حُزمة محكمة، وسيقانها مزيَّنة بورق فِضي اللون، وأضفى عليها ورقٌ مزركشٌ أبيضُ اللون جمالًا إضافيًّا.
قال وهو يمدُّ يده نحوها: «هذه لكِ.»
نظرت ميرابيل إلى الزهور ولكنها لم تأخذها. ولم يبدُ مرتبكًا أبدًا، لا بسبب صمتها، ولا للموقف العدائي الذي أظهرتْه تجاهه، لكنه اكتفى بوضع الزهور فوق الكتب، ووضع يدَيه المتشابكتين أمامه وتحدَّث إليها. بدا أن هناك ما يُقلقه، لسببٍ ما؛ لأنه كان يُقطِّب جبينه حينًا ثم يلين من جديد بسرعةٍ مثيرة للعجب. تابعت تلك التقلُّبات، بذهول.
ثم بدأ بالحديث قائلًا: «كل رجل تأتيه لحظةُ افتتان بتكوين أسرة. حتى صاحب العقلية العِلمية، المنغمس في معضِلاتٍ عِلمية، يتوق إلى الحياة الأسرية والسكن والراحة وهو ما يُطلق عليه الزواج.»
توقَّف عن الحديث؛ ظنًّا منه أنها ستُعلِّق على هذا الكلام المرسل.
وبما أنها لم تُعقِّب بشيء، تابع حديثه قائلًا: «البشر فقط هم مَن يزعمون ويتبعون عُرفًا مصطنعًا غير طبيعي يفيد بأنه عند سنٍّ معينة يجب على الرجل أن يتزوج من امرأة في سنٍّ مماثلة. ولكن يُثبت التاريخ أن الزيجات السعيدةَ تكون في أغلب الأحيان بين رجل يراه العالم عجوزًا، وبين سيدة شابة.»
كانت تُحدِّق به في جزع. هل كان يعرض عليها الزواج؟ عجزت عن تصديق هذه الفكرة، وأصابتها بالاشمئزاز. ولعلَّه قرأ على وجهها الأفكارَ التي تدور في ذهنها، والاشمئزاز، والشعور بالنفور الذي تَملَّكها، ولكنه واصلَ حديثه، بلا خجل: «أنا رجلٌ أمتلك ثروةً طائلة. وأنتِ فتاةٌ فقيرة. ولكنني رأيتك ذاتَ يوم في بيتك الفقير، وبدَوت، يا سيدتي الرقيقة، أشبهَ بزهرة الزَّنْبق التي نبتت وسط الحشائش الضارة، فوجدتُ قلبي يميل إليكِ؛ ولهذا جئت بكِ إلى لندن، وأنفقت آلافَ الجنيهات حتى أسعدَ بصحبتك.»
قالت بهدوء: «لا أظن أنَّ هناك داعيًا لخوضك في هذا الحديث أكثرَ من ذلك، يا دكتور أوبيرزون، إن كنت تعرض عليَّ الزواج منك، كما أظن.»
أومأ برأسه مؤكدًا.
وقال: «تلك هي نيتي الشريفة.»
أجابته قائلة: «لن أتزوَّجك أبدًا مهما كانت الظروف». وتابعت: «حتى إذا التقيتُك في أسعد المناسبات. أما بالحديث عن سنِّك» كادت أن تُضيف «وهيئتِك»، ولكن منعَتها فِطرتُها الطيبة عن هذا الاندفاع القاسي، رغم أن هذا الكلام لم يكن ليُسبِّب له أي ألم على الإطلاق؛ «فهذا لا علاقة له بقراري على الإطلاق. فأنا لا أحبُّك، ولم أحبَّك قطُّ، يا سيد أوبيرزون.»
صحَّح لها قائلًا: «دكتور»، ولولا محنتها المؤسفة لكانت ضحكت على إصراره على ذكر هذا اللقب الشرفي.
وأردف يقول: «أيتها الآنسة، أنا لا أستطيع إبهارك مثلما كان يفعل أخي الشهيد الحبيب، الذي كان يُجيد التعامل مع النساء بأسلوب جميل.»
اندهشَت لسماعها أنه كان لديه أخٌ؛ فهي لم تكن تعلم على الإطلاق، ولكنها شعرت ببعض الراحة لمعرفةِ أنه مات.
«سقط شهيدًا، على أيدي قتَلةٍ أشرارٍ محتالين، قُتل وهو بكامل عافيته بمسدس القاتل». ارتجف صوتُه وتهدَّج. وقال: «سأثأر يومًا ما لحياة هذا الشهيد.»
لم يكن الفضول فقط هو ما دفعَها لسؤاله عن قاتله.
«ليون جونزاليس.» وبدأ يختار كلماتٍ قاسيةً وكأنَّ شفتَيه تحولت إلى مِبرَد: «قُتل … اغتِيل! وحتى صورته الجميلة دُمِّرت في هذا الحريق المروِّع. فقط لو أنه أنقذ هذه الصورةَ لرقَّ قلبي تجاهه.» راجَع نفسه، وأدرك أنه ابتعد عن غرضه الأساسي من الزيارة. «فكِّري في الأمر أيتها الآنسة. ولتقرَئي الكتب الرومانسية والغرامية، لعلَّ بعدها يروق لك مشهد وجودك في زورق تحت ضوء القمر عبر جداول البندقية، والقمر فوق رأسك وسائق الزورق يُغني لك.»
كان رأسه يتمايل في وجد.
قالت: «لا يوجد كتاب بوُسعه تغييرُ رأيي يا دكتور». وتابعت: «لا أفهم لماذا تعرض عليَّ هذا العرض الغريب، ولكنني أفضِّل الموت على الزواج منك.»
للحظةٍ امتلأت نفسها رعبًا من نظراته القاسية.
«هنالك ما هو أسوأ من الموت، فالموت ليس إلا نومًا؛ هنالك أمورٌ أسوأ بكثير أيتها الآنسة. غدًا سآتي إليكِ، وسنذهب إلى البلدة، وهناك ستقولين «نعم» أو «لا» وَفقًا لرغبتي. فلديَّ الكثير من … ماذا يسمونها؟ … وثائق الزواج، فأنا أذكى بكثيرٍ من أن أبقى دون بدائل.»
(كان هذا صحيحًا؛ فهو يمتلك أماكنَ إقامة في أربع مقاطعات على الأقل، وقدَّم لكل مقاطعة إشعارًا قانونيًّا بزواجه المزمَع).
«لا غدًا ولا أي يوم سِواه. لا شيء سيقنعني بتغيير رأيي.»
رفع حاجباه حتى كادا يصلان إلى أعلى رأسه.
قال بجدِّية شديدة جعلت الدماءَ تتجمَّد في عروقها: «هكذا إذن!» ورفع إصبعه محذرًا إياها بقوله: «هناك رجالٌ أسوأ من الدكتور، رجالٌ بغيضة، وعقول مقيتة. هل قابلتِ جيرتر؟»
لم تردَّ.
ثم علَّق قائلًا: «أجل، أجل، لقد رقصتِ معه. إنه رجل لطيف مع النساء، أليس كذلك؟ ولكن نفس هذا الشخص المدعو جيرتر … دعيني أخبرك شيئًا.»
جلس عند أحد أركان الطاولة، وبدأ في الكلام حتى سدَّت أذُنَيها بيدَيها، وأخفت وجهها الشاحب عنه.
وعندما أنزلت يديها، قال: «كانوا سيقتلونه جرَّاءَ ذلك، ولكن جيرتر كان شديدَ الذكاء، والفلاحون الألمان المساكين أغبياء للغاية. ستتذكرين ذلك، أليس كذلك؟»
لم ينتظر إجابتها. وبانحناءةٍ رسمية متيبسة غادر الغرفة وصعد السلَّم. وعلَت أصواتُ سقوط السحارة والدحرجة المحتومة للبرميل الخرساني.
كان عليه إنجاز بعض الأعمال، وكان عملًا شاقًّا بالنسبة إلى رجل وجد نفسَه يلهث وهو يصعد السلَّم. وعلى الرغم من وجود أربعةٍ من أفضل رجاله وأكثرهم تهورًا ينتظرونه في الرَّدهة ويشربون من الويسكي الخاص به، ويملَئون الغرفة الصغيرة بدخان السيجار الكريه الرائحة، فإنه فضَّل تأدية هذه المهمة التي بدأها بالفعل بحلول الليل، بنفسه دون مساعدتهم أو عِلمهم.
وعلى حافة الحفرة العميقة الموجودة في أرض مصنعه، حيث نما اللبلابُ وسط العلب الصدئة المهملة وبراميل النفط، توجد بقعة من الأرض يسهل حفرها. عندما بُني المصنع، كانت الحفرة أكبرَ لكن البُناة ملَئوا نصفها بالتربة الخفيفة الناتجة من حفر أساسات المصنع.
أخذ المجرفة، التي تركها في المصنع، وتجنَّب الحفرة التي تُشبه الصحن، ووصل إلى المكان الذي بدأ عنده بالفعل حفر خندقٍ طويل. خلع معطفه الأنيق والصديري، وحلَّ رابطة عنقه وياقته، ووضعها بعناية فوق معطفه المطوي، وواصل عمله، وكان يتوقف بين الحين والآخر ليمسحَ العَرق المتصبِّب من جبينه.
كان مضطرًّا إلى العمل في الظلام، إلا أن ذلك لم يُشكِّل عائقًا؛ حيث بإمكانه رؤية حواف الحفرة. وفي غضون ساعة، صار الجزء العلوي من الخندق في مستوى ذقنه، وانحنى لتنظيف قاع التربة المفكَّكة. وصعد بصعوبةٍ أكبرَ مما كان يتوقَّع، ولم يتمكَّن من الوصول إلى السطح إلا بعد المحاولة الثالثة، وانقطعت أنفاسه وأصبح شديدَ الانفعال.
ارتدى ملابسه من جديد، وأمسك مصباحه الكهربائي ليُعاين الحفرة التي صنعها، وشعر بالرضا عن صنيعه.
كان شديدَ الحساسية تجاه أجواء معينة، ولم يكن بحاجةٍ إلى معرفة أيِّ معلومات تخص التغيير الذي حدث لمرءوسيه. ففي آخرِ اجتماعاتهم كان جيرتر أقلَّ انصياعًا، حتى إنه كان يُدخن في حضوره دون إذن … لعله كان شاردَ الذهن، ولكن هذا لا يُبرر الإساءة التي ارتكبها. وأوشك الدكتور أوبيرزون أن يصفَعه بسبب وقاحته، عندما سمع صوتًا داخليًّا يُحذِّره من فعل ذلك مما جعله يتراجع ويضع يده بجانبه. أم أنها كانت النظرة التي علَتْ وجهَ جيرتر؟ ولم يكن تأديب الرجل بغطرسةٍ على طريقة النبلاء الإقطاعيين القديمة أمرًا ممكنًا. وعلى الرغم من أن الدكتور أوبيرزون كان يُدين كلَّ أفعال الألمان التوتونيِّين، فقد تسلل إلى نفسه خفيةً احترامٌ للطبقة العسكرية لتلك الأمة.
ترك المجرفةَ عالقةً في كومة من التراب المنبوش. لعله يحتاج إليها مرةً أخرى، بعد قليل. إلا إذا أخفق جيرتر في مهمته. وبطريقةٍ ما لم يتوقَّع إخفاقًا هذه المرة. فالسيد مونتي لم يشكَّ فيه بعد، وإلا لاتخذ حذره منه. فقد اتضح ذلك في قَبوله السريع لتذاكر المسرح.
نهض الرجال الأربعة الموجودون في غرفته احترامًا له عند دخوله. كان جوُّ الغرفة معبَّأً بدخان السجائر، وقدَّم له ليو كوتشيني اعتذارًا بالغًا. كانت الشرطة قد أطلقَت سراحه هذا الصباح؛ لأن ميدوز وجد صعوبةً في توجيه تهمةٍ له تُدينه وفي الوقت ذاتِه لا تكشف تحركات الشرطة الكاملة، وخُططها بخصوص قضية اختطاف ميرابيل ليستر. من الواضح أن كوتشيني كان يُوبخ رفاقه الثلاثة، بطريقته الغريبة وبلُغته البذيئة، على جُبنهم؛ لأنه عندما دخل الدكتور شعر بأن الأجواء بينهم متوتِّرة. ولكن تبيَّن لاحقًا أن هذا الشقاق كان مُفتعلًا، ولعله كان استعراضًا تمثيليًّا لأجل مضيفهم.
بدأ كوتشيني بالحديث قائلًا: «كنتُ أخبر هؤلاء الرفاق للتو بأن …»
تذمَّر أحد أصدقائه قائلًا: «فلتخرس يا ليو!» وتابع: «لو لم يهتف هذا الرجل المجنون باسمك، لما عُدنا مرةً أخرى! لقد كان صوته عاليًا لدرجةِ أنه قد يوقظ الموتى. وتنصُّ الأوامر التي تلقَّيناها على التراجع عند ظهور أول نذير بالخطر. أنا مُحق، يا دكتور، أليس كذلك؟»
قال الدكتور بلا مبالاة: «بالتأكيد هذا صحيح». وأضاف: «حذاري أن يقبض عليك — هذا شعار جيد. وقد قُبض على كوتشيني.»
قال كوتشيني، وهو يكَزُّ على أسنانه: «وأدفع عامًا من عمري للقاء هذا المدعوِّ داجو مرةً أخرى.»
كان تناقضه طريفًا؛ فهو أحد أبناء ميلانو، وتلقَّى تعليمه المبكِّر في حي هارتفورد الإيطالي، بولاية كونيتيكت.
«كان سيعذبني أيضًا، وعزم على وضع أعواد الثقاب المشتعلة بين أصابعي …»
اتهمه أحدُ الثلاثة بعنف قائلًا: «وعندئذٍ اعترفتَ!» وتابع: «وسارعتَ بإفشاء كل شيء عنا!»
صاح الدكتور قائلًا: «كفى!» وأضاف: «هذا لا يَليق! لقد غفرتُ كل شيء. يكفيكم ذلك. لن أسمع كلمة أخرى.»
سأل كوتشيني: «أين جيرتر؟»
«غادر. سيُسافر الليلة إلى أمريكا. لعله سيعود … ولكن مَن يدري؟! لكن هذه هي نيته.»
سأل أحدهم: «أن يتلوَّى كالأفعى أليس كذلك؟» وسرَت بينهم ضحكاتٌ خافتة.
مال كوتشيني إلى الأمام، وسيجاره بين أصابعه، وبدا مفتونًا للغاية، وتساءل قائلًا: «أخبِرني، يا دكتور، كيف تؤدِّي هذه الحيلة؟» وتابع: «أنا لم أرَ أي أفعى في راث هول، ولكنه لُدغ رغم ذلك، تمامًا مثلما تعرَّض هذا الأمريكي للَّدغ — أقصد واشنطن.»
قال الدكتور برضًا: «سيموت.» وتملَّكه شعورٌ شديد بالغيرة حيال فعالية أسلوبه.
«كان على قيد الحياة أمسِ على أي حال. فقد راقبناه حتى المحطة.»
«إذن فإنه لم يُلدغ … لا هذا مستحيل. فبعد لدغة الأفعى …» رفع أوبيرزون كفَّيه وهو يُحدق في السقف بشدة «بعدها لا شيء. لا، لا يا صديقي، إنك مخطئ.»
قال الآخر بإصرار: «أقول لك إنني لستُ مخطئًا». وتابع: «أخبرتك أنني كنتُ موجودًا في الغرفة، وفور أن أدخَلوه إليها، سمعت أحد رجال الشرطة يقول إن وجهه كان مبللًا بالكامل.»
قال أوبيرزون بلهجة كئيبة: «هكذا إذن!» وأضاف: «هذا سيئ جدًّا.»
«ولكن كيف تفعل ذلك، يا دكتور؟ هل هي طلقةٌ أم شيء آخر؟»
أجابه الدكتور قائلًا: «دعنا نتحدَّث عن الثروة والسعادة التي تنتظرنا». وتابع: «فالليلة ليلةٌ سعيدة بالنسبة إليَّ. سأغني لكم أغنية.»
ثم لدهشة الرجال وتعاستهم الشديدة، غنَّى لهم بصوتٍ هزيل ضعيف، قصةَ فلاحٍ شاب فشلت قصة حبه، فألقى بنفسه من أعلى الجرف إلى شلال مائيٍّ هائج. كانت أغنية طويلة، مليئة بالعواطف الجياشة، إلا أنَّ صوته لا يحمل أي سِمات موسيقية. لم تواجه العصابة مهمةً أشقَّ من كِتمانهم للضحك حتى ينتهيَ من الغناء.
قال له كوتشيني متملقًا، بعد أن نجح في إظهار الإعجاب في نبرته: «ما هذا! يا لك من فنان، يا دكتور!»
قال الدكتور بتواضع: «كنتُ مغنيًا رائعًا حين كنت طالبًا.»
وفوق رفِّ المدفأة، توجد ساعة كبيرة عتيقة، ذاتُ واجهةٍ بالية لم يَعُد يظهر منها سوى أرقام قليلة. عادةً ما يكون لدقاتها الصاخبة أثرٌ مهدئ في نفس الدكتور. لكن الغرض الرئيسي منها وقيمتها كانت في مدى دقتها. كان يضبطها يوميًّا عبر رسالةٍ تصله من جرينيتش، ونظرًا إلى أن نجاح أوبيرزون بصفته رجلًا مدبرًا للخطط يعتمد على التوقيت الدقيق، فإن الساعة هي أحد أهم ممتلكاته.
نظر إلى الساعة، وهذا منح كوتشيني عذره.
حيث قال: «سوف نتفق، يا دكتور». وتابع: «أنت لا تريد أيَّ شيء الليلة، أليس كذلك؟ وأنا أريد النَّيل من جونزاليس هذا. هل ستسمح لي بالذَّهاب إن لم يكن هناك ما نفعله؟»
نهض أوبيرزون وغادر الغرفة دون أن يتفوَّه بكلمة؛ لأنه علم أن نهوض كوتشيني لم يكن إشارةً فقط على انتهاء عمل اليوم، وإنما إشارة أيضًا على أن العصابة تريد أجرها.
كان مدير كلِّ مجموعة يحضر إلى السيد أوبيرزون مرةً واحدة في الأسبوع ومعه قائمةٌ بالرواتب، واعتاد الدكتور إحضار صندوق النقود إلى الغرفة وإخراج ما يكفي لسداد مديونيته لمدير المجموعة. كان صندوقًا كبيرًا، وفي يوم القبض، مثلما هو الحال الآن، يمتلئ الصندوق بالأوراق النقدية وسنَدات الخِزانة. وقد أحضره الآن ووضعه على الطاولة، وراجع القسيمة الصغيرة التي قدَّمها له كوتشيني، وأخذ رِزمة من الأوراق النقدية، المثبَّتة بشريط مطاطي، وبلَّل سبَّابته وإبهامه.
قال كوتشيني: «لست بحاجة إلى عدِّها». وتابع: «سنأخذها كلَّها.»
استدار الدكتور ليجد كوتشيني حاملًا مسدسًا في يده بلا مبالاة.
قال كوتشيني بهدوء: «الحقيقة، يا دكتور، أننا رأينا الخطر وشيكًا، وإذا لم نهرب الآن، بينما الهروب مناسبٌ، فلن يبقى لنا مكانٌ آمن فوق هذه الجزيرة الصغيرة، وأظن أننا سنلحق بجيرتر.»
نظر الدكتور إلى المسدس نظرة واحدة، وبعدها استكمل العد، وكأنَّ شيئًا لم يكن.
«عشرون، ثلاثون، أربعون، خمسون …»
قال كوتشيني بحدَّة: «توقَّفْ عن ذلك الآن». وأضاف: «أقول لك لست بحاجة إلى العد.»
«صديقي، أنا أفضِّل معرفةَ مقدار ما أنا بصدد خَسارته. اعذرني على هذا الفضول.»
ورفع يده إلى الحائط حيث الحبلُ المتدلِّي، وجذبه برفقٍ دون أن يرفع ناظرَيه عن الأوراق النقدية.
همس كوتشيني قائلًا: «ماذا تفعل؟ ارفع يدَيك!»
قال أوبيرزون وهو يُلقي برِزمة الأوراق فوق الطاولة: «أطلِق النار، أرجوك». وتابع: «هذا راتبُك.» وأغلَق الصندوق. «الآن يجدر بك الذَّهاب، إن استطعت! هل تسمعها؟» قالها وهو يرفع يدَيه، والتقطَت آذانُ الرجال المضطربين صوتَ حفيفٍ بسيط يأتي من الرِّواق الخارجي، وكأنَّ أحدهم يجرُّ قطعةً من الجلد على الأرضية. قال الدكتور مرةً أخرى، بهدوء عجيب: «هل تسمع؟ يجب أن تُغادر إن استطعت.»
شهق كوتشيني، وقد شحَب لونه، وارتجفَت يدُه التي تحمل المسدَّس، قائلًا: «إنها الأفاعي!»
سخِر أوبيرزون قائلًا: «أطلق عليها النار، يا صديقي». وأضاف: «إذا رأيتها، أطلِق عليها النار. ولكنك لن تراها، أيها الشجاع. أين مكانها؟ لن تُبصرها أيُّ عين في أي مكان. لعلها خلف صورة، أو لعلها تنتظر حتى يُفتح الباب، ثم …»
صار حلق كوتشيني جافًّا.
وقال مرتعدًا: «أبعِدها، يا دكتور.»
«ضع مسدسك … على الطاولة.»
كان صوت الحفيف لا يَزال مسموعًا. فتردَّد كوتشيني للحظة، ثم انصاع، وأخذ النقود.
تجمَّع الرجال الثلاثة الآخَرون بجانب المدفأة، وهم يرتعدون خوفًا.
قال كوتشيني: «لا تفتح الباب، يا دكتور»، ولكن أوبيرزون كان قد أمسك بالمقبض وأداره.
سمعوا صوتَ بابٍ آخَر يُفتح، وصوت ضغطةِ زرِّ إضاءة الرواق عند دخوله. ثم عاد.
«إذا ذهبت الآن، فلا أودُّ رؤيتك مرةً أخرى. ألستُ أنا رجلًا عالِمًا بكل الأسرار؟ أنت تعلم ذلك جيدًا!»
نقل كوتشيني نظره بين الدكتور والباب.
وسأله، مضطربًا: «هل تريدنا أن نُغادر؟»
هزَّ أوبيرزون كتفَيه دون اكتراث.
«كما يحلو لكم! كنت أرغب في بقائكم معي الليلة؛ فهناك عملٌ وأموال كثيرة لكم جميعًا.»
تبادل الرجالُ النظرات القلقة.
سأله كوتشيني: «إلى متى تُريدنا أن نبقى؟»
«الليلة فقط، وإن كنت لا ترغب …»
ستحدث الأزمة هذه الليلة. أدرك أوبيرزون ذلك منذ أشرق عليه النهار.
«سنبقى … أين سننام؟»
للإجابة عن هذا السؤال، أشار إليهم أوبيرزون بمغادرة الغرفة، وتبعوه إلى المختبر. وفي الجدار المقابل كان هناك بابٌ حديدي ثقيل يُفضي إلى مخزن خَرساني حيث كان يحتفظ فيه ببقايا بعض المعدَّات، وزيوت وكحول لسياراته، والمحرك الغازي الصغير الذي يُشغِّل مولِّدًا كهربائيًّا صغيرًا في المختبر، ويوفِّر له، إذا لزم الأمر، إنارةَ المصنع بمصدرٍ مستقل بعيدًا عن مصدر التيار الخارجي.
كان هناك ثلاثُ نوافذ طويلة مغلقة بإحكام تقع أسفل السقف مباشرة.
تذمَّر كوتشيني بارتياب: «إنها أشبهُ بالزنزانة في نظري.»
سأله أوبيرزون: «هل توضع أقفال الزنزانة على بابها من الداخل؟» وتابع: «هل سيُعطيك السجانُ مِفتاح زنزانتك كما سأعطيك إياه؟»
أخذ كوتشيني المفتاح.
وقال في غيظ: «حسنًا، توجد أغطية كثيرةٌ هنا، أيها الرفاق، أرى أنك تُريدنا بعيدًا عن أعين الشرطة، أليس كذلك؟»
أجاب الدكتور: «تلك هي نيتي.»
أغلق دكتور أوبيرزون البابَ عليهم، وعاد إلى مكتبه، والسعادةُ ترتسمُ على فمه الواسع. سحب الحبل مرةً أخرى، وأغلق مروحةَ التهوية التي أدارها منذ قليل. حيث اكتشف منذ أيام قليلة أن عمود المروحة علقت به بعض الأوراق الجافَّة، مما جعل فتحتها تُصدر صوتًا مزعجًا للرجل الذي كان مستغرقًا في دراسةٍ متعمِّقة للفلاسفة الأقلِّ شهرة، ورغم ذلك الأكثر ثقافة.