محتويات الصندوق
سمع الهدير الخافت للمحركات، ونظر عبر نافذة الرَّدهة، فرأى الأضواءَ الخافتة للسيارة تقتربُ من المنزل، فأطفأ أنوار الرَّدهة. وانتظر في الظلام، حتى فُتح باب السيارة الليموزين، وهبط منها جيرتر. وقال: «أبلغ سيادتكم بإنجاز المهمة، يا سيدي الدكتور.»
أومأ أوبيرزون برأسه.
«وامرأة نيوتن … أين هي؟»
«إنها داخل السيارة. هل تودُّ مني إحضارها؟ لقد كانت مصدرًا للإزعاج الشديد، يا سيدي الدكتور، واضطُررت إلى حَقنها بالمخدِّر.»
هتف مُحدِّثًا السائقَ: «فلتدخلها … أنت!» وتابع: «ساعِد صديقنا.»
تعاون الاثنان في رفع الفتاة الفاقدة للوعي، ولكنهما لم يحملاها لأبعدَ من السلَّم. وعندئذٍ قرَّر أوبيرزون أنها لا بد أن تعود إلى محبسها. في البداية انصرفَ السائق؛ ووضعت السيارة داخل مَرْأبٍ في نيو كروس (وهو أحد المستودَعات الثلاثة التي يمتلكها أوبيرزون في لندن)، وهو أيضًا المكان الذي يعيش به الرجل. وبعد أن غادر السائق، حمَلا جوان معًا إلى المصنع، وسلكا طريقًا ملتويًا، بدا لجيرتر غيرَ مبرَّر. فإن كان ضروريًّا، فليكن على الأقل ملائمًا؛ لأن الطريق الأقربَ إلى المصنع يمر عبر الحفرة التي أُنهك الدكتور في حفرها.
لم تكن لتُخطئ وصول أوبيرزون هذه المرة. حيث أُزيحت السحَّارة محدِثةً صوتًا عاليًا، وسمعت ميرابيل، بدقات قلب متسارعة، وقْع أقدام تهبط السلَّم الحجَري. كان هناك رجلان يمشيان بتثاقل. وعرَفَت بطريقةٍ ما قبل أن ترى حملهما، أنها كانت جوان. كانت ترتدي ثيابَ سهرة، ووجهُها شديد الشحوب وعيناها مغمَضتان؛ ظنت الفتاة أنها ميتة عندما رأتهما يضَعانها على الفراش.
قال أوبيرزون: «لقد أعطيتَها جرعةً مفرطة من المخدِّر، يا جيرتر»
أهذا جيرتر؟ لم تتمكَّن من التعرف عليه. كان من المستحيل أن تُصدق أن هذا هو الشابُّ الأنيق ذاته الذي رقص معها في الحفل التنكري الراقص.
قال جيرتر مخاطبًا الدكتور: «اضطُرِرت للتخمين في الظلام، يا سيدي الدكتور.»
كانا يتحدثان بالألمانية، بينما معرفة ميرابيل بهذه اللغة محدودةٌ جدًّا. رأت جيرتر يُخرج علبة صغيرة مسطَّحة من جيبه، وأخرج بعدها قنِّينة صغيرة، ورجَّ بيده كبسولة بُنية صغيرة. ثم أذابها في أنبوب صغير، وأخرج الماء المستخدَم، أيضًا من العلبة. ملأ حقنة رفيعة حتى نصفها، ووخز بها ذراعَ جوان. سادت لحظةُ صمت، ثم قال جيرتر: «ستستيقظ سريعًا، بعد إذن سيادتكم، يا سيدي الدكتور.»
لم تكن ميرابيل تنظر نحوه، لكنها علمت أن عينيه المتَّقدتَين مثبَّتتان عليها، وأنه ينظر إليها، طوال الوقت باستثناء اللحظة التي أجرى فيها هذا الأمر؛ وعرَفَت الآن أن هذا الرجل هو مَن عليها أن تخشاه. شعرت وكأن يدًا باردة تعتصر قلبها.
قاطع أوبيرزون هذا التحديق. عندما علا صوتُه الحاد. قائلًا: «سيَفي هذا بالغرض، يا جيرتر». وتابع: «لا داعي لانتظارك.»
أطاعه جيرتر وغادر الغرفة، وتبِعه الدكتور. وقبل حتى أن تُغلق السحارة، كانت ميرابيل بجانب الفتاة، ومعها وعاءٌ من الماء ومِنشفةٌ مبلَّلة. وفي اللحظة التي لامس فيها الماءُ وجهها، أفاقت جوان ونظرت إلى السقف المحدب، ثم تدحرجَت فوق الفراش ووقعت على ركبتيها، ثم كافحت لتقف على قدَميها، وترنَّحت وكادت تسقط، لولا أن سندتها ميرابيل.
«لقد نالوا منه! نالوا من فتايَ … قتَلوه مثل الكلب!»
شهقت ميرابيل، مذعورة: «ماذا … السيد … السيد نيوتن؟»
«قتلوه … مونتي! … مونتي!»
ثم بدأت تصرخ وتجري في أرجاء الغرفة كالمجنونة. شعرت ميرابيل بألمٍ نفسي وجسدي؛ لرؤية جوان على هذا الحال، وأمسكتها وحاولَت تهدئتها، ولكنها كانت ثائرةً، وتكاد تفقد عقلها. بدا أن المخدِّر والتِّرياق المضادَّ قد ذهبا بما تبقى لديها من قدرةٍ على ضبط النفس. لم تتمكَّن ميرابيل من سحبها لترقد في الفراش مرة أخرى، إلا بعد أن سقطَت من الإجهاد.
مات مونتيجو نيوتن! مَن قتلَه؟ مَن هم «هؤلاء؟» ثم فكَّرت في جيرتر وفي ثيابه الغريبة؛ تجعدَت ملابسه البيضاء، حتى لحيته أصبحت شعثاء بعد الصراع الذي خاضه مع المرأة المنفعلة.
صعدت السُّلم في يأسٍ شديد وحاولت فتح السحَّارة، لكنها كانت مثبَّتةً بإحكام. لا بد أن تهرب من هنا … لا بد أن تهرب في الحال. كان أنينُ جوان مثيرًا للشفقة، وجلسَت الفتاة بجانبها، تُحاول جاهدةً تهدئتها. بدَت أنها شبهُ فاقدة للوعي؛ فلم تُصدر أيَّ صوت ولم تنطق بأي كلمة مفهومة، باستثناء شهقاتها. مضت نصفُ ساعة، كانت الأطولَ والأكثر ترويعًا في حياة ميرابيل ليستر. ثم سمعت صوتًا. حتى إنه اخترق أذنَي تلك الفتاة التي كادت تجن؛ لأنها فتحت عينَيها على اتساعهما، وأمسكَت بميرابيل، ونهضت.
وقالت، وشفتاها شاحبتان: «إنه آتٍ، آتٍ … القاتل آتٍ!»
قالت ميرابيل، وقد ملأها الخوفُ هي الأخرى: «بالله عليكِ لا تقولي هذا الكلام!»
سمعت، في الغرفة الخارجية، أصواتَ أقدام تتسلَّل. حدَّقَت في الباب المغلق، وكاد يُغشى عليها من شدة القلق. ثم رأت الباب الحديديَّ يتحرك ببطء، وظهرَت اليد أولًا، ثم طرَف الوجه — حيث وقف جيرتر يُحدق فيها. اختفت لحيته، وشعره المستعار؛ وكان من دون ياقة، حيث يرتدي سُترة متَّسخة فوق قميصه الأبيض الذي كان يرتديه يوميًّا.
تحدَّث إلى ميرابيل قائلًا: «أريدُك.» التصق لسانها بسقف حلقها ولكنها لم تقُل شيئًا.
بدأ بالحديث قائلًا: «سيدتي الشابة الجميلة …» ثم انقضَّت عليه جوان، وهي تصرخ.
وكانت تبكي، وتلطمه بعنفٍ وتقول: «أيها القاتل، القاتل …! المتوحش!» حاول التخلصَ منها بعناء، لكنها تشبَّثَت به؛ كانت أشبهَ بوحشٍ هائج، لم تكن بشرًا.
نجح أخيرًا في إزاحتها بعيدًا، ثم رفع يدَيه لحماية وجهه عندما هجمَت عليه مرةً أخرى. ولكنها هذه المرة انسلَّت أسفل ذراعه واندفعت نحو الباب كالبرق. سمع خطواتها على السلَّم، واستدار ليُطاردها. كانت السحارة مفتوحة. ارتبك وتعثَّر في الظلام وهو يعبر أرضية المصنع القاحل. وبمجرد وصولها إلى العراء، أمسك بها ولكنها أفلتَت. وفرَّت كالغزالة، ولكنه أسرع بالركض خلفها؛ وفجأةً أطبقت يدُه على عنقها.
قال، وهو يُشدد قبضته: «كان من الأفضل أن تخرجي، يا صديقتي.»
استدارت لتتفاداه، ولكنه مدَّ قدمه. تصاعد صوتُ طقطقةٍ مزعجة، أطبق شيءٌ على ساقه، مما سبَّب له ألمًا مبرحًا. خفَّف قبضته عن عنقها، ولكنه أمسك ذراعها بقوة. وألقاها باتجاه الحائط بكل ما أُوتي من قوة، فتهاوت على الأرض. ثم انحنى إلى الأسفل، وأبعد الأسنانَ المدبَّبة للفخ الذي خطا فوقه، وحرَّر ساقه. كان ينزف؛ وتمزَّقت ساقُ سرواله إربًا إربًا. توقَّف قليلًا حتى جرَّ الفتاة من أقدامها، وألقى بها فوق كتفه وكأنها جِوال، عاد إلى المصنع، وهبط السلَّم، وألقاها فوق الفراش بعنفٍ مما أدَّى إلى تحطم دِعامة الفراش الزنبركية. كان لهذا تأثيرٌ غريب وقَع في نفس المرأة المذهولة، ولكنه لم يلحظ ذلك؛ لأنه التفتَ إلى ميرابيل.
ولهث قائلًا: «سيدتي الشابة، أنا أريدك!»
كان الدمُ يسيل من ساقه الجريحة، ولكنه لم يَعُد يشعر بالألم بعد الآن؛ لم يشعر بشيء سوى الرغبةِ في إلحاق الأذى بمن طاردَه، لم يرغب إلا في تحقيق أحلامه البغيضة البشعة.
تجمَّدت في مكانها، ولم تقوَ على الحركة. ثم وضع يده أسفلَ ذقنها ورفع وجهها؛ ورأت عيونه اللامعة الجائعة تلتهمُها، ورأت شِفاهه النحيلة تقترب أكثر فأكثر، ولم تستطِع الحركة؛ ولم تعُد تشعر بشيء، لم يَعُد بإمكانها سوى التحديقِ في عينَي هذا الرجل الأفعى، وسيطر عليها رعبُ هذه اللحظة.
ثم هبط عليه غضبٌ شديد. حيث اندفعت أصابعُ صغيرة نحو وجهه، وكاد يُصاب بالعمى. استدار وهو يصرخ بغضب، ولكن جوان ذات الوجه الشاحب، كانت قد طارت نحو المدفأة، وأخذت قضيبًا معدِنيًّا كان يُستخدم في جمع الفحم المشتعل معًا. وضربته به ولكنها أخطأته. أفلتَ منها فصوَّبَت القضيب نحوه، وأخطأته من جديد. اصطدم القضيب المعدني بالصندوق الأخضر الذي كان خلف المدفأة، وعلا صوت تحطُّم الزجاج. لم يلحظ ذلك، كانت الفتاة هي مقصدَه، وأغمضت ميرابيل عينيها ولم تسمع إلا صوت الضربة التي وجَّهها للفتاة.
عندما نظرت مرةً أخرى، كانت جوان مستلقية فوق الفراش وهو يربط إحدى يدَيها بحزامٍ نزعه من خَصره ويُثبته بأحد أعمدة الفراش. ثم رأت ميرابيل مشهدًا أطلق لسانها المنعقد. سمع صراخها وابتسمَ لها ابتسامةً عريضة، ونظر هو الآخر إلى موضع نظرها.
كان هناك شيءٌ يتسلل خارجًا من الصندوق الأخضر المتحطِّم! رأسٌ أسودُ مسحوب أشبه بالمجرفة، بعيون لامعة، جامدة بدَت وكأنها تتأمل المشهد بتحديقٍ خبيث. ثم، رويدًا رويدًا، كان هناك شيءٌ سميكٌ، أشبهُ بحبل مطَّاطي، يتلوَّى ببطء على الأرض، ويلتوي حول نفسِه، ويرفع رأسه المسطحة. «يا إلهي، انظر!»
استدار لينظر ماذا يدور هنالك، وما زالت تلك الابتسامةُ على وجهه، وقال شيئًا بصوتٍ أجشَّ. كانت الأفعى ساكنة، ونظراتها المقيتة موجَّهة نحو الفتاة المذهولة، ثم على الرجل.
كانت دهشة جيرتر مفجعة؛ بدا وكأنه رأى شبحًا من عالَم آخَر. ثم اتجهت يدُه إلى جيبه الخلفي؛ وانبعث وميضٌ وصوتُ انفجارٍ يُصم الآذانَ جعلها كالمصعوقة. سقط المسدس من يده إلى الأرض محدثًا جلَبة، ورأت ذراعه ممدودةً ومتصلبة، ويبرز من طرَف كُم معطفه ذيلٌ أسودُ، يلتفُّ حول معصمه شيئًا فشيئًا. وصلت الأفعى إلى كُم قميصه. وكانت ثيابه الملتفة حول عضده تعلو وتهبط بشكل متقطع.
وقف منتصبًا، ومكشرًا، وذراعه لا تزال متصلبة، وعيناه تنظران في ذهول على الشيء الملتفِّ حول معصمه. وبعد ذلك أدار يدَه الأخرى ببطء، وقبض على الذيل وجذَبه بقوة إلى الأمام. استدارت الأفعى وهي تُصدِر فحيحًا غاضبًا وحاولت لدغَه مرةً أخرى؛ ولكنه رفع يده وصدم رأسها بالمدفأة. أخذت الأفعى تتلوَّى بعنف وسط الرماد.
همس جيرتر بالألمانية: «يا إلهي!» وارتفعت يدُه الحرة ليتحسَّس ذراعه بحذر. «لقد ماتت، يا سيدتي الكريمة. لعل هنالك أخرى غيرها؟»
سار وهو يترنَّح باتجاه الصندوق الأخضر، ووضع يده دون تردد. كانت هناك أفعى أخرى — أكبر حجمًا، استيقظت من سُباتها غاضبة. فلدغت الرجل مرتين في معصمه، ولكن جيرتر ضحك، ضحكةً مدوية تُعبِّر عن استمتاعٍ خالص. لأنه أدرك أنه رجلٌ ميت بالفعل. وخطر على ذهنه، لحظةَ أتاه الموت، عندما كانت أبوابُ الآخرة توشك أن تستقبله، أنه يجب أن يَلْقى خالقه بهذا العمل الصالح رغم حياته الفاسدة.
فقال، مبتسمًا في وجه الأفعى الشبيه بالمجرفة: «انصرفي، أيتها الصغيرة». وتابع: «لقد نَفِد سُمُّكِ، انتهى!»
داس بكعبه على رأسها الملتوي، وأغمضَت ميرابيل عينَيها وسدَّت أذنيها. وعندما عاودت النظر، كان الرجل يقف عند الباب، يتشبَّث بالعمود وهو ينزلق ولكنه يُجاهد ليبقى منتصبًا. وابتسم لها مرةً أخرى؛ هذا القاتل الذي أنهى للتو آخر عملية قتل.
وقال بصعوبة: «عذرًا، سيدتي الكريمة»، وسقط على ركبتيه، ورأسه مستندٌ إلى الباب، وجسده يتمايل من جانبٍ لآخر، ثم سقط في النهاية.
سمعت صوت أوبيرزون الأجشَّ من الدور العلوي. كان يُنادي جيرتر، ثم أطل من الباب، ممسكًا بمسدس في يده.
قال، وهو ينظر إلى الرجل الذي يحتضر: «هكذا إذن!»
ثم تجهَّم عندما رأى الأفعى. ونقَّل نظره بين ميرابيل والفتاة الملقاةِ فوق الفراش، وذهب ليفحصها، ولكنه لم يُحاول نزع الحزام. كانت ميرابيل هي مَن نزَعتْه؛ وهي أيضًا مَن مسحَت وجهَها المليءَ بالكدمات وأرخت فستانها.
وبينما تفعل ذلك، شعرت بيد فوق كتفها.
قال أوبيرزون: «تعالي.»
«سأبقى هنا برفقة جوان، حتى …»
«تعالي في الحال، وإلا سأُلقي بك لصديقتَيَّ الصغيرتَين.» وأشار إلى الأفعيين الموجودتَين على الأرض واللتين لا تزالان تتحركان من حينٍ لآخر.
كان عليها أن تخطوَ فوق جيرتر، ولكن بدا ذلك أسهلَ من اجتيازها لتلك الحبال الملتوية، السوداء اللامعة؛ كانت يده ممسكةً بيدَيها، وهي تتعثر في أثناء صعودها السُّلم المظلم حتى خرجَت في النهاية إلى هواء الليل، الصَّحْو العليل.
كان يرتدي ثيابًا تصلح للسفر؛ لاحظَت ذلك فور رؤيته. إذ كان يلبس قبعة من القماش الثقيل على رأسه الغريب الشكل، وبدا شكله أقلَّ إثارةً للنفور بعد أن غطَّت القبعة الجزء الأكبر من جبهته. وارتدى معطفًا، على الرغم من أن الليلة كانت دافئة.
كانا يمرَّان بين الجدار والمصنع عندما توقف ووضع يده على فمِها. حيث سمع أصواتًا، كانت أصواتًا خافتةً على الجانب الآخر من الجدار، وبعد برهة سمع أصواتَ كشط شيءٍ ما. ودون أن يُزيح يده عن وجهها، أخذ يجرُّها ويدفعها حتى ابتعدا عن المصنع.
ظنَّت أنهما عائدان إلى المنزل الذي كان وسط الظلام، لكنه بدلًا من ذلك، قادها إلى الأمام بمُحاذاة الجدار، وعندئذٍ رأت هيكل الصندل.
قال لها: «فلتبقي هنا، دون كلام»، وبدأ يُدير عجلةً صدئة. وبعد صريرٍ وطنين، فتحت بوابات المياه للداخل. ما الذي كان ينوي فعله؟ لم يكن هناك ما يُشير إلى وجود زورق، فقط هذا الصندل المتهالك. كانت ستعرف حالًا.
قال مرةً أخرى: «تعالي.» كانت تقف فوق سطح الصندل، وتتجه نحو مقدمته، الموجهة باتجاه البوابة المفتوحة وخلفها القناة.
سمعته يلهث ويتأوَّه وهو يشد حبلًا وجده، ثم نظرَت إلى الأسفل، ورأت مقدمة الصندل تنفتح، مثلما فُتحت بوَّابتا المياه المنغلقتان. أظهر رشاقة ملحوظة، وهبط إلى الحافة؛ بدا أنه يقف على شيء صُلب؛ لأنه أمرها مرةً أخرى بالانضمام إليه.
قالت وهي تلهث: «لن أذهب»، واستدارت لتهرب، لكنه أمسك ثوبها بيده وسحبها نحوه.
«سأغرقك هنا، يا امرأة»، قالها وهي تعلم أن هذا التهديد له تتمَّة.
كانت ترتجف حتى هبطت فوق شيء ثابت ولكنه ليِّن في الوقت ذاتِه. بينما دفع هو الصندل بكل قوَّته، وزادت مساحةُ الرصيف أسفلَ منها. في البداية المقدمة المستدقَّة، وبعدها نصف السطح المغطَّى لأسرع زورق مزوَّد بمحرِّك يمكن لأموال السيد أوبيرزون شراؤه، أو يمكن لأبرع البُناة تصميمُه. كان الصندل المتهالك عبارةً عن مرفأ للزَّورق، وهذا يعني امتلاكَه وسيلةَ هروب دائمًا. ولهذا السبب عاش في مكانٍ بدا الوصولُ إليه صعبًا.
اختفى الرجال الذين كانوا على ضفَّة القناة. دارت مراوح المحرك ببطء، وأبحر الزورق في المياه المظلمة، وبعد وقتٍ قصير عبر أسفل الجسر الذي كانت تمر فوقه سيارات الشارع، وتوجَّه إلى دتفورد وإلى النهر.
خلع الدكتور أوبيرزون معطفه، ووضعه برفقٍ في مأمن داخلَ الكابينة المفتوحة، ووضعه برفقٍ لأن كل جيب كان محشوًّا بالأموال.
بالنِّسبة إلى ميرابيل ليستر، القابعة في ظلام هذا المكان المسقوف، لم يكن لانقضاء الوقت أيُّ علامة مميزة. مرة سمعت صوتًا يُلقي عليهما التحية بطريقة رسمية من الضفَّة. كان هذا شرطيًّا؛ رأته بعد مرور القارب. كشف مصباحُ الغاز بريقَ الأزرار المعدِني. ولكنه سرعان ما صار بعيدًا عنهما.
كانا على مقربة من دتفورد عندما وصلا إلى حاجز، لم تكن الأموال أو البراعة قادرةً على اجتيازه؛ حيث وقف شخصٌ أشعثُ أشبه بطيور الليل يُحدق بفضولٍ في الزورق. وقال ببساطة: «لا يمكنك العبور من هنا، أيها الزعيم». وتابع: «هذا الجسر لا يفتح إلا عند ارتفاع المد.»
سأله أوبيرزون بلهفة: «ومتى يحينُ هذا المدُّ العالي؟»
أتاه الصوت قائلًا: «عند الساعة السادسة من صباح الغد.»
ظلَّ مشدوهًا بلا حركة مدةً طويلة عند سماعه هذا النبأ، ثم استدار بالزورق وبدأ في الدوران.
قال: «هناك ملجأٌ واحد لنا، يا آنستي». وتابع: «سنراه قريبًا. والآن دعيني أُخبرْكِ شيئًا. أنا أودُّ العيش بشدة. هل تودين أنت أيضًا؟»
لم تردَّ.
قال: «إذا صرختِ، أو أصدرتِ أيَّ صوت، فسوف أقتلك — هذا كل شيء»، وأخبرتها بساطة كلماته، وعدم لجوئه إلى تأكيد جديته الشديدة، بأنه سيحفظ وعده.