هجمات الأفعى
نجح المطعم الرائع، بأجوائه التي تعكس الفخامة والثراء، في التخفيف قليلًا من قلق ميرابيل. فالطاولات المزدحمة، والإضاءات الخافتة، ومهارة نادلي المطعم ورِباطة جأشهم كانت مثيرةً للإعجاب. فعندما أخبرها صاحب العمل الجديد بأنه من عادته اصطحابُ سكرتيرة المختبر عند تناول الغداء، متعللًا بقوله: «إنني لا أجد وقتًا آخرَ للحديث عن شئون العمل» وافقت على دعوته على مضض. إنها لا تعرف الكثير عن روتين العمل بالمكتب، لكنها شعرت بأنه ليس مألوفًا أن يُقلَّ رؤساء العمل موظَّفيهم ممن يعملون بوظيفة السكرتارية، من سيتي رود وصولًا إلى فندق ريتز-كارلتون لتناول وجبة غداء باهظة الثمن في منتجعٍ فاخر خاص بالطبقة الراقية وذَوي الذَّوق المرهف. وزاد من توترها أن رفيقها كان محطَّ أنظارِ كلِّ من يراه. فالمجتمعون على مأدبة الغداء المبهرة نسُوا أطباقهم والتفُّوا ليُحدقوا في الرجل ذي المظهر الاستثنائي بجبهته البارزة.
لمحت ميرابيل رجلًا ذا وجهٍ مألوف بشدة جالسًا بمفرده على طاولة صغيرة. كان له وجه نحيل متوهج، وعينان تشعان بالحماس والبهجة. تساءلت أين رأته من قبل؟ ثم تذكَّرت أنَّ ملامحه تُشبه ملامح السائق، الشخص الذي تتبَّعها إلى مكتب أوبيرزون عندما وصلت ذلك الصباح. كان ذلك منافيًا للعقل بالطبع؛ لأن هذا الرجل ينتمي للطبقة المترفة، التي تعتاد تناول الغداء في فندق ريتز-كارلتون. ولكن الشبه بينهما كان استثنائيًّا.
سعدت بانتهاء وجبة الغداء. لم يتحدَّث الدكتور أوبيرزون عن «شئون العمل». بل إنه لم يتحدث مطلقًا، واكتفى بقضاء الوقت في التهام كميات هائلة من الطعام ودسِّها في فمه الواسع. كان يأكل بنهم، وصخب، وابتهجت ميرابيل لأن الفرقة كانت تعزف الموسيقى، وشعرت بالخجل لهذه الفكرة الغريبة التي راودتها وكتمتْ ضحكتها؛ لكن شعورها بالإحراج زال قليلًا.
لم يتبادلا أيَّ كلمة وهما داخل السيارة الكبيرة التي انطلقت بهما نحو المدينة. كان الدكتور منشغلًا بأفكاره وتجاهل وجودها. ولم يذكر إلا إشارةً وحيدة تخص الغداء بينما يُغادران الفندق، وذلك عندما تنازل وتحدَّث معها مُعبرًا عن سخطه الشديد بسبب سوء جودة القهوة الإنجليزية التي يُقدمونها. وسمح لها بالعودة إلى أعمال الوزن والقياس التي تؤديها دون إبداء أدنى اهتمام بسير عملها.
وفي وقتِ ما بعد الظهيرة حان موعد المفاجأة المذهلة — التي تلَتْ وصول برقية محيِّرة من عمَّتها. كانت تزن كمية مسحوق كريه الرائحة عندما فُتح الباب، ودخلت الغرفةَ فتاةٌ نحيلة ترتدي ثيابًا أنيقة. ألقت عليها التحية وابتسمت لها بوجهها الصغير المحاط بكتلة كثيفة من خُصَل الشعر المموج ذي اللون البني المائل للذهبي. وحادثتها قائلة: «أنت ميرابيل ليستر، أليس كذلك؟ أنا جوان نيوتن — أرسلت لي عمَّتك برقيةً وطلبت مني زيارتك.»
سألتها ميرابيل في دهشة: «هل تعرفين عمتي؟» فهي لم تسمع ألما من قبلُ تتحدث عن أحدٍ باسم نيوتن، وفكَّرت بعدها في أن العمة ألما شخصٌ شديد التحفُّظ. وتوقَّعت ميرابيل أن تجد شخصًا عتيق الطراز في منتصف العمر، أدهشها أن تكون قريبتها، التي لا تحظى بقَبول اجتماعي، على صلة بإحدى فراشات المجتمع كهذه الفتاة.
أجابتها الزائرة: «أجل بالطبع، إننا نعرف ألما جيدًا». وتابعت: «صحيح أنني لم أرَها منذ صغري، ولكنها شخص عزيز.»
تفحَّصت المختبر بفضول.
وقالت باستياء: «يا له من مكانٍ كريه الرائحة!» ثم أضافت: «وما رأيك في السيد العجوز أوبيرزون؟»
اندهشت ميرابيل لهذه المصادفة، وسألتها: «هل تعرفينه؟»
فأجابتها: «أخي يعرفه؛ فأنا وأخي، نعيش معًا، وهو يعرف الجميع. لا بد للرجل الاجتماعي أن يفعل ذلك، أليس كذلك، يا عزيزتي؟»
انزعجَت ميرابيل قليلًا لسماعها مصطلح «رجل اجتماعي»؛ كما أن عبارة «عزيزتي» لم تكن معبِّرةً عن الحال. كل هذه التناقضات دفعَتها لإمعان النظر في زائرتها. كانت جوان نيوتن ترتدي ثيابًا أنيقة ولكن ليست متناسقة تمامًا. كان هناك شيءٌ مريبٌ — ولو كانت ميرابيل على درايةٍ أكبرَ بأمور الحياة، لأدركت أن الفتاة تأنَّقت بارتداء هذه الثياب لتلعب دور سيدة راقية بناءً على طلب أحد الأشخاص الذين لا يعلمون الكثيرَ عن أمور الأناقة التي يتطلبها الدور. لم تكن تعلم شيئًا عن الكابتن نيوتن آنذاك، وإلا لكانت خمَّنَت أنه الشخص الذي تولَّى اختيار هذا الزي.
«سأُعيدك إلى تشيستر سكوير بعد أن يسمح لك السيد أوبيرزون بالانصراف — يا له من اسم مضحك! أليس كذلك؟ لقد أصرَّ مونتي على قدومي بالسيارة الرولز. مونتي هو أخي؛ إنه كلاسيكي جدًّا.»
تساءلت ميرابيل عما إذا كان قولها هذا يُشير إلى حب الشعراء اليونانيِّين أم أنه عشق لموسيقى الأوبرا القليلة التناغم. ولكن جوان (كان اسمها الحقيقي) لم تقصد إلا أنه يمتلك ذوقًا راقيًا، فكانت تلك إحدى عباراتها المفضلة؛ أما عبارتها الأخرى فهي «كئيب».
بعد مضيِّ نصف ساعة، ضغط السائق الفضولي دواسة الوقود وانطلق بسيارته متتبعًا السيارة الرولز، متسائلًا عن القاسم المشترك بين ميرابيل ليستر وجوان أليس ميرفي، التي أحضرت العديد من الشباب الأثرياء إلى الطاولة الخضراء الخاصة بلعب الورق الموجودة في غرفة المعيشة الجميلة الخاصة بكابتن نيوتن، حيث تعلو الرهانات ويلعب كابتن نيوتن مع حظه الهائل الذي كان في صالحه.
قال جونزاليس برضًا: «إليك ما توصَّلت إليه. لقد أنجزت عملًا جيدًا اليوم. حيث عاد أوبيرزون إلى جُحره من جديد ليُخطط لثورات جديدة — أما الآنسة ميرابيل ليستر فهي موجودة في ٣٠٧، تشيستر سكوير. المهم الآن، أن نعرف ماذا سنفعل حتى ننقذَ حياة السيد سام باربرتون الثمينة؟»
بدا مانفريد قلقًا. وقال: «لا أُحبِّذ فكرة أن تقضيَ الفتاة ليلتها في منزل نيوتن.»
أجابه بويكارت بأسلوبه الفظ، متسائلًا: «ولمَ سمحت لها بالبقاء هناك؟»
أومأ ليون برأسه موافقًا: «بالضبط!»
تطلَّع جورج مانفريد إلى ساعته.
وقال: «من الواضح أن علينا رؤيةَ صديقنا باربرتون أولًا، فإن استطعنا إقناعه بالسهر برفقتنا، فسيمكننا تولِّي أمر البقية …»
رنَّ الهاتف محدِثًا صخبًا، وأمسك ليون جونزاليس بسماعة الهاتف.
«جلوستر؟ أجل.» غطَّى سماعة الهاتف بيده. وتحدَّث إلى رفيقيه قائلًا: «لقد طلبت من الآنسة ألما جودارد مهاتفتي — حيث عثرت على عُنوانها هذا الصباح: مزرعة هيفيتري، داينهام، قرب جلوستر — أجل، أجل، السيد جونسون هو المتحدث. أريد أن أطلب منك إبلاغ رسالة للآنسة ليستر، أوه، ليست موجودةً بالمنزل؟» أنصتَ ليون باهتمام، وبعد دقائقَ قليلةٍ قال: «شكرًا جزيلًا لكِ. هل تُقيم في ساحة داوتي كورت؟ أرسلت لكِ برقية … كلا، ليس بالأمر المهم. أنا … إر … أستاذ العلوم الذي كان يدرِّس لها قديمًا، ورأيت إعلانًا تقولين إنها رأته، أليس كذلك؟»
أغلق سماعة الهاتف.
وقال: «ليس لدينا ما نفعله». وتابع: «أرسلت الفتاة برقية تقول فيها إنها سعيدة بوظيفتها. لن تأتي العمة حتى تستقرَّ أمور الفتاة، وميرابيل ستبيت في داوتي كورت.»
قال مانفريد: «وفي مكان رائع جدًّا أيضًا». ثم أضاف: «بعدما رأينا السيد باربرتون فلن أُفاجأ إن لم تَبِت هناك في نهاية المطاف.»
يُعَد فندق بيتورث في نورفولك ستريت نُزلًا سَكنيًّا هادئًا، وهو المفضَّل لدى الزائرين الوافدين من جميع أنحاء العالم، لا سيما من جنوب أفريقيا. ظن موظف الاستقبال بالفندق أن السيد باربرتون كان بالخارج؛ أما الحمَّال فكان واثقًا أنه بالخارج.
قال كاتمُ أسرار العديد من الزوار: «لقد ذهب إلى الجسر، قال إنه يودُّ رؤية النهر قبل حلول الظلام.»
استقلَّ مانفريد السيارة إلى جانب ليون؛ فبويكارت كان لا يخرج إلا نادرًا، ولكنه جلس في المنزل محاولًا جمْع قِطع الأحجية بحثًا عن حلٍّ للغز النشاط الذي أربك كورزون ستريت. كان أمهرَ المحللين الاستراتيجيين؛ حتى إن سكوتلاند يارد أوكلت إليه التحقيق في بعض القضايا.
«إلى الجسر؟» قالها مانفريد وهو يتطلع إلى السماء الزرقاء الوردية. فقد غابت الشمس، ولكن لا يزال ضوء النهار موجودًا. «كنت لأقلق لو كانت أكثر ظلمة … توقف، ها هو ذا الطبيب إلفير.»
مرَّ بهم جرَّاحُ الشرطة الضئيلُ البِنية، ولوَّح لهم بابتهاج ثم استدار عائدًا.
كان يميل لأن يُصبح دراميًّا فقال: «حسنًا، يا أبناء القانون، أيُّ مهمة انتقام مروعةٍ تقصدونها؟»
أجابه مانفريد، وهو يصافحه قائلًا: «نبحث عن رجلٍ يُدعى باربرتون لندعوَه إلى العشاء.»
«يبدو أمرًا بسيطًا؛ هل له أيُّ سمات خاصة قد تروق لي؟»
أجابه ليون على الفور قائلًا: «أجل، أقدام محترقة». وتابع: «إن كنتَ ترغب في معرفة كيف تستخلص إدارة المخابرات الساحلية المعلوماتِ من الضحايا الممتنعين عن الحديث، فلتأتِ معنا.»
تردَّد إلفير. كان رجلًا أكسبته شمسُ الهند الحارة سُمرة، وأصبح ذابلًا كالتفاحة الصفراء الجافة، وليس لديه أيُّ اهتمام في الدنيا بخلاف عمله.
قال وهو يدخل السيارة: «سأذهب معكم». وتابع: «وإن خذلَكم باربرتون، رجلكم المنشود، فيمكنكم استضافتي بدلًا منه. أودُّ سماع حديثكم. فالمرء لا يعلم الكثير عن العقل الإجرامي! والحياة أصبحت مملةً منذ توقَّفت لدغات الأفعى!»
انطلقت السيارة نحو جسر بلاكفرايارس، وأبقى مانفريد عينيه على الرصيف. لم يكن هناك أثرٌ لباربرتون، وأشار إلى ليون لينعطف عائدًا. وهكذا أصبحت السيارة تسير بجوار رصيف الجسر في الشارع العريض. لقد مروا أسفل جسر واترلو وكانوا بالقرب من مسلة كليوباترا، عندما لمح جونزاليس الرجلَ الذي يبحثون عنه.
كان متكئًا على السور، وقد وضع مرفقَيه على واجهة السور ورأسه غاطس للأمام وكأنه يتأمَّل اندفاع المد بالأسفل. توقفَت السيارة بالقرب من شرطي كان يُراقب هذا المتسكعَ بعناية. تعرَّف الشرطي على جراح الشرطة وألقى عليه التحية.
وقال: «لا أفهم هذا الشخص يا سيدي». وتابع: «إنه يقف في مكانه هذا منذ عشر دقائق. أنا أراقبه؛ لأني ظننته يفكِّر في الانتحار!»
اقترب مانفريد من الرجل، وأصابته صدمة، عندما رأى وجهه، فجأةً. كان وجهه متيبسًا — وكانت عيناه مفتوحتين على أقصى اتساعٍ لهما، وبشَرته تحوَّلت إلى لونٍ أحمرَ نُحاسي.
صاح مانفريد: «إلفير! ليون!»
عندما قفز ليون من السيارة، سقط الرجل أرضًا بمجرد أن لمس مانفريد كتفه. وفي لحظة كان الطبيب جاثيًا على ركبتيه بجوار الجثة الهامدة.
قال باقتضاب: «إنه ميت»، وبعدها صاح قائلًا: «يا إلهي!»
وأشار إلى عنقه، حيث تظهر بقعة حمراء.
سأله مانفريد بهدوء: «ما هذا؟»
قال الطبيب: «إنها الأفعى!»