منزل أوبيرزون
في مثلث، يُمثل ضلعان منه جسورَ السكك الحديدية المتقاربة، وتُمثِّل قاعدته المياهَ الداكنة الراكدة لقناة جراند سوري، وقفت الأطلال الموحشة لمخزنٍ كان يومًا يحوي بضائعَ شركة أوبيرزون آند سميتس. فقد أسقط منطادُ زبلين أثناء مروره قنبلةً حارقة بشكل عشوائي، أحدثت فجوةً هائلة وقبيحة في سقف المخزن. وأحدثَت النيرانُ التي تلَت الانفجار ضررًا بالأطر الحديدية للنوافذ لتتركها ملتويةً ومتشققة؛ وبمعجزةٍ ما ظل السقف كما هو باستثناء الحواف المسودَّة للفجوة التي اخترقها اللهبُ ليصل ارتفاعُه مائة قدم.
كان المخزن محاذيًا لمجرى القناة؛ حيث كانت قوارب نقل البضائع ترسو هنا، وتُفرِّغ حمولتها من بالاتِ المطَّاط، وجوزِ النخيل، وحتى النترات، ثم يُعاد تحميلها بأقمشةِ مانشستر القطنية المضلَّعة، وحقائب متراصَّة بعضها فوق بعض من حُليِّ برمينجهام الرخيصةِ الثمن المصنوعة من النُّحاس والمطليَّةِ بالورنيش.
كان السيد أوبيرزون دومًا يشحن بضائعَه الكحوليةَ من هامبورج؛ إذ إن ألمانيا هي بلد الصناعات. وفي وسط هذا المثلث كانت هناك فيلا من الطوب الأحمر، تبدو أكثرَ بشاعةً من مبنى المصنع؛ إذ تفتقر إلى تلك الفخامةِ الفائقةِ الوصف، وتُحيط بها مشاعر الأسى والشفقة، التي يُثيرها منظر المبنى المحترق، رغم أنها ربما كانت قبيحةً بحد ذاتها.
كانت هذه الفيلا من تصميم السيد أوبيرزون؛ إذ كانت نسخةً مُقلَّدة بالضبط من المنزل الذي وُلِد فيه في السويد. وكان بها جملونات مرتفعة في أماكنَ غريبة وغير متوقَّعة. وسقفها مغطًّى بالبلاط الرمادي؛ كما كان مثبتًا في بابها المثير للفضول ألواحٌ من الزجاج، وثمة زخارفُ حديدية لطيور الكركي والكلاب كانت تحيط بالممر الضيق عبر صف من نباتات القُرَّاص والحُمَّاض المزروعة في حديقته.
هنا كان يسكن، في عزلة، لكنها ليست عزلةً تامة، حيث إن هناك رجلَين آخرَين يعيشان في المنزل، وطاهيةً سويدية بدينة، وخادمةً دنماركية بسيطة جدًّا؛ فتاة ذات وجه مجرَّد من التعبيرات، تعمل منذ طلوع الشمس حتى منتصف الليل دون شكوى، نادرًا ما تتكلم، ولا تبتسمُ أبدًا. كان الرجلان في الثلاثينيات من العمر. يَشغلان غرف البرج الصغير الموجودة على طرفَي المبنى، وكانت اهتماماتهما محدودة. فأحيانًا ما كانا يلعبان معًا بورق اللعب المتَّسخ بالشحم، لكن لم يكن أيٌّ منهما يتكلم أكثرَ من اللازم. وكانا رشيقَين، ذوَي وجهَين خاليَين من المشاعر، وملامح متشابهة تمامًا. لكلٍّ منهما شفتان نحيفتان، مستقيمتان؛ وعينان مستديرتان، محدقتان، داكنتان يملؤهما الفضول البرَّاق والمخيف في آنٍ واحد.
قال ليون جونزاليس، بينما كان يتفحَّص المكان: «يبدوان وكأنهما يُشاهدان الخنازير تُقتَل ويستمتعان بكل دقيقة من ذلك. أحدهما إيوان فايفر، والآخر سفين جيرتر. كلاهما فرَّ هاربًا من حبل المشنقة أو نَصْل المقصلة في ألمانيا؛ إذ إن هناك أحكامًا قضائية بالإدانة ضد كلٍّ منهما. فهما يُمثلان النموذج التقليدي للمجرم الألماني المتدرِّب، عديما الرحمةِ كالذئاب. ومجردان من الإنسانية.»
وضعَ «الثلاثة»، كما كان معتادًا، آليةَ القانون موضعَ التنفيذ، ووجدوا أيدي الشرطة مكبَّلة. وأدركوا أنه فقط عن طريق التحايل على القانون يمكن نفي الرجال، إلا أن التحايل على القانون أمرٌ صعب. لم يثبت عليهم أنهم قد انتهكوا القانون بأي حال من الأحوال. فقد تقدَّمَت سيدة، لم تكن الأفضل من بين جميع المواطنين، بشكوى ضدَّ واحد منهم. وأُجري تحقيق — لكن لم يكن هناك دليل؛ إذ كانت الشكوى نفسها تحول دون الإدانة، ومن ثَم أُسقِطَت القضية … من قِبَل الشرطة.
تحرَّك شخصٌ آخر بسرعة.
ذات صباح، قبل بزوغ الفجر، كان هناك شرطيُّ دورية في ممر السحب المجاور للقناة؛ حيث سمع زمجرةً متوحشة، فنظر حوله بحثًا عن كلب. لكنه بدلًا من الكلب، وجد في أحد تلك المداخل الضيقة المؤدية إلى ضفة القناة، رجلًا. كان مقيدًا إلى السياج الخشبي الكبير، وقد اعتلَت ظهرَه علاماتُ الجَلْد بالسوط. شخصٌ ما قد أمسك به ليلًا بينما كان يجوب أنحاء الضفة بحثًا عن شيءٍ يُسلِّيه، فقيَّده وجَلَده. خمسٌ وعشرون جَلدَة: اعتقد أحد الخبراء أن السوط المُستخدَم هو السوط ذو التسعة سيور الذي تستخدمه السلطات.
انتاب الفضولُ والشك سكوتلاند يارد، فاستدعَوا رجال العدالة الثلاثة. لكن كانت حجج غيابهم قويةً ولا تدَعُ مجالًا للشك. فلم يؤخذ ثأر سفين جيرتر — لكنه بعد ذلك ابتعد عن ممر السحب.
في هذا المنزل الذي يمتلكه الدكتور أوبيرزون كانت هناك غرفٌ لا يدخلها سِواه. وقد شَكَت الخادمة الدنماركية للطاهية أنها أثناء مرورها بإحدى هذه الغرف بالتزامن مع خروجه منها، هبَّت من الداخل دَفعةٌ من الهواء الدافئ الملوَّث جعلتْها تسعل لمدة ساعة. وهناك غرفةٌ أخرى كان الدكتور يُشَغِّل فيها من حينٍ إلى آخر مجموعةً مختلفة من الأجهزة. أجهزة فلكنة، وأجهزة كهربائية (أكبر وأكثر استخدامًا مما قد رأت ميرابيل خلال مدةِ إقامتها الوجيزة في سيتي رود)، وجهاز هواء سائل، ليس على أحدث طراز، لكنه يؤدي الغرض.
لم يكن الدكتور أوبيرزون دكتورًا في الطب، وهذا ما يُثير الفضول بالقدْر الكافي. ولا حتى في الكيمياء. بل كان دكتورًا في الأدب والقانون. وكانت هذه التجارب التي يجريها هوايته — وهي هواية كان يسعى وراء إشباعها منذ طفولته.
في تلك الليلة، كان الدكتور أوبيرزون يجلس في غرفة استقباله المتكدسة يقرأ مجلدًا عن الفلسفة الألمانية من تلك المجلدات ذات السطور المتقاربة، ويُفكِّر في شيء آخر. ورغم أن الشمس كانت قد غربت لتوها، كان الشيش والستائر مغلقَين؛ والخشب يحترق مطقطقًا في المدفأة، وكان الضوء الساطع للمبات النصف وات الثلاث يصنع وهجًا في الغرفة.
قاطعته مكالمةٌ هاتفية. فأجابها، وهو يستمع ويردُّ بصوتٍ عميق.
وفي نهاية المكالمة، قال الدكتور أوبيرزون: «إذن!» متبوعةً ببضع كلمات منطوقةٍ بإنجليزيته الغريبة.
وضع كتابه جانبًا، وسار بصعوبة في خُفِّه المخملي عبر الغرفة وضغط ضغطتَين على زر الجرس الموضوع إلى جانب المدفأة. فحضر جيرتر في صمتٍ ووقف منتظرًا.
كان جيرتر قذرَ المظهر، غيرَ حليق. وكانت ذقنه المدببة وشفته العُلوية الصغيرة زرقاوَين. وكانت فتحة قميصه الظاهرة من الصديري متسخةً بحوافَّ تكاد تكون سوداء. وقد وقف يقظًا، مبتسمًا ابتسامةً بلهاء، مثبتًا عينَيه على نقطةٍ فوق رأس الدكتور.
رفع الدكتور أوبيرزون عينَيه من كتابه.
وقال: «أريدك الليلةَ أن تبدوَ في مظهر رجل محترم من مرتادي نوادي النبلاء.» وقد تحدَّث بلغة سكان شمال ألمانيا الصعبة التي تعلَّمها هذا السويديُّ بسرعة.
فقال جيرتر بالألمانية: «أجل، سيدي الدكتور!»
وغادر الرجل الغرفةَ على الفور.
كان الدكتور أوبيرزون يكره الألمانَ لسببٍ ما. ولهذا السبب، كرههم جيرتر وفايفر، والأخير بولنديُّ الجنسية وروسيُّ المولد. إلا أن جيرتر كان يكرههم لأنهم اقتحَموا السجن الصغير في بلدة ألتشتات لقتلِه بعد أن اكتشفت الكلابُ جثةَ السيدة سيدليتز. وكان سيموت آنذاك لولا رجالُ الشرطة الذين استشعَروا ثورةً شيوعية، ففرَّقوا الحشْد وأرسلوا جيرتر تحت الحراسة عبر الطريق إلى أقربِ مدينةٍ كبيرة. ولم يُرَ رجلا الشرطة اللذان رافقاه مرةً أخرى. بعدها بعامين عاود جيرتر الظهورَ في إنجلترا بشكل غامض، حاملًا جوازَ سفرٍ سليمًا. حتى إنه لم يكن هناك دليلٌ على كونه جيرتر — لكن عرَفه كلٌّ من ليون، ومانفريد، وبويكارت.
كان هناك بديلٌ للجَلد.
قال ليون: «من الممكن ببساطة أن نُمسك برأسه تحت الماء حتى يغرق.»
ناقَشوا الأمر، واتخذوا قرارًا ضده دون أي سببٍ عاطفي أو أخلاقي — لا شيء سوى الملاءمة. وتعرَّض جيرتر للجَلد، ولم يعرف أبدًا كم كان قريبًا من الإغراق في مياه القناة السوداء الملوثة بالشحم.
تابع الدكتور أوبيرزون قراءة كتابه — كان كتابًا مذهلًا يتناول الروحَ البشرية والخلود والزمن. وكان قد وصل إلى تحليل الخلود، ذلك عندما أتاه جيرتر مرة أخرى مرتديًا زيًّا يليق ﺑ «رجل محترم من مُرتادي نوادي النبلاء». حيث كانت سترة البدلة تُلائمه بدرجة مثالية؛ وكان القميص والصديري من مقاس مناسب تمامًا. وكانت مكوَّنةً من قميص ناصع البياض، وسروال مزيَّن بشريطة، وربطة عنق على شكل فراشة، وياقة مجنَّحة …
فقال الدكتور أوبيرزون وهو يُعاين هيئته بتمعُّن: «هذا جيد». وتابع: «لكن يجب أن تكون الأزرارُ على شكل حباتِ لؤلؤ، لا هذه الأزرار المطلية بالمينا. وسلسلة الساعة أصبحَت غيرَ مواكبة للعصر، لم يَعُد يضعُها أحد. فهيئة الرجل المحترم الذي يرتاد نوادي النبلاء لا تسمح بارتداء الحُليِّ الظاهر. كما أعتقد أن وجود شارب …؟»
فقال جيرتر بالألمانية: «أجل، سيدي الدكتور!»
مرةً أخرى اختفى جيرتر الذي كان مُمثِّلًا في يوم من الأيام. وعند رجوعه كانت الأزرار المطلية بالمينا قد اختفت، وحلَّت محلَّها أزرارٌ صغيرة من اللؤلؤ، ولم يَعُد الصديري الأبيض يحمل سلسلةَ ساعة. كما ظهر شاربٌ بنيٌّ صغير فوق شفته العليا، بشكل طبيعي جدًّا حتى إن أوبيرزون الذي وقف يتفحَّصه عن كثب، لم يُلاحظ أيَّ شيء يدلُّ على كونه شاربًا مستعارًا. ثم أخرج الدكتور علبةً من جيبه، وأعطاه ثلاث عملات ورقية جديدة. قائلًا:
«يداك، من فضلك؟»
فاقترب جيرتر ثلاثَ خطوات من الرجل العجوز، وتوقَّف، ونقر بكعبَي حذائه في تحيةٍ منه للدكتور، ثم مد يدَيه لمعاينتهما.
فقال الدكتور أوبيرزون: «جيد! أتعرف ليون جونزاليس؟ سيكون في الحفل التنكري الراقص. ولن تجده يرتدي حُلَّة تنكرية. إنه الرجل الذي جَلَدك.»
فقال جيرتر دون انفعال: «الرجل الذي جَلَدني.»
ساد الصمت، بينما كان الدكتور أوبيرزون يزمُّ شفتيه.
ثم تابع قائلًا: «كما أنَّه قام بأفعال وَسَمَته بأنه قاتلٌ سيئ السمعة … أعتقد … نعم، أعتقد يا عزيزي جيرتر … أنه ستكون أيضًا هناك فتاة، لكن رجالي سيكونون هناك لتدبُّر هذه المسائل. وسوف يُملي عليك بنتون التعليمات. كلُّ ما عليك هو، تولي أمر جونزاليس.»
فانحنى جيرتر بثباتٍ، وقال:
«لقد كنت أتمنى هذا الأمر»، وانحنى مرةً أخرى وانسحب من الغرفة. بعدها، سمع الدكتور أوبيرزون صوتَ السيارة الصغيرة تنطلق عبر العُشب إلى الطريق. فاستكمل قراءة كتابه؛ إذ كان موضوع الخلود هذا مذهلًا.
كان الحفل التنكريُّ الراقص المُقام في كورِينثيان هول واحدًا من فعاليات الموسم، وقد سعى، بكل حماس، أفرادُ المجتمع الذين لا تربطهم أيُّ صلة بالفنون إلا فنَّ العيش، للحصول على التذاكر التي اقتصر إصدارُها على أعضاء نوادي النبلاء الثلاثة.
عندما دخلت الفتاة إلى القاعة المزدحمة، نظرت حولها في دهشة. فقد تحوَّلت الشرفات، التي حدَّدتها الأنوارُ الخافتة وأخفَتها باقات الورود على نحو جزئي، إلى مقصورات؛ وزُيِّن السقف بالستائر الزرقاء والذهبي؛ وفي أحد طرَفَي القاعة كانت هناك تعريشةٌ حقيقية من الأزهار، حيث تعزف إحدى الفرقتَين وراءها. وكان الحضور يرتدون الأقنعةَ بكل أشكال التخفِّي الممكنة ويتراقصون مع الإيقاع على الأرضية اللامعة. وبالنسبة إلى مَن اعتاد ارتيادَ الحفلات، كان هناك فرقٌ طفيف بين الهنود، والمهرجين، والفرسان الموجودين هنا وبين أولئك الذين شاهدهم مئات المرات في مئات صالات الرقص المختلفة.
وبينما كانت الفتاة تُحدِّق حولها في تعجبٍ واستمتاع، ناسيةً كلَّ مخاوفها، اقترب منهما رجلان خرَجا من أسفل ظل الشُّرفة، أحدهما يرتدي ملابسَ سهرة، والآخر يرتدي ملابس قاطع طريق.
فقالت جوان بحيوية مفاجئة: «ها هما ذانِ شريكانا». ثم أضافت: «ميرابيل، أود أن أعرفكِ على اللورد إيفينجتون.»
داعب الرجلُ الذي يرتدي ملابسَ السهرة شاربَه الصغير، ونقر بكعبَي حذائه وانحنى إلى الأمام انحناءةً رسمية. كان ذا وجهٍ نحيف، وشاحبٍ قليلًا، وغير مبتسم. وقد تفحَّصها بعينَيه المستديرتين الداكنتين للحظة، ثم قال:
«يسرُّني لقاؤكِ، يا آنسة ليستر»، قالها بصوتٍ عالٍ، ونبرة حادة، يشوبها لكْنةٌ أجنبية.
أدهشت طريقتُه الفتاةَ بقدر ما أدهشتها القُبلة الباردة التي طبَعها على يدها، وكأنما قرأ أفكارها، فتبع قُبلتَه بسرعة بقوله:
«عِشت مدةً طويلة بالخارج حتى أصبحَت إنجلترا والطباعُ الإنجليزية غريبةً عليَّ. ألن ترقصي؟ أوَليس من الأفضل أن ترتدي القناع؟ أرجو المعذرة منكِ على ملابسي»، وهز كتفيه متابعًا: «لكن لم تكن هناك ملابسُ تنكرية متاحة.»
وضعت قناعها الأحمر، وفي ثانية أخرى انسابت بين الجمع حتى غابت عن الأنظار.
عندها قالت جوان: «لا أفهم شيئًا أبدًا، يا بنتون.»
كانت جوان قلقةً وخائفة. وقد بدأت تُدرك أن اللعبة التي شاركت فيها مختلفة — حيث كان دورها شريرًا أكثرَ من أي دور آخرَ لعبتْه. فالتسامر مع الشباب الأثرياء على طاولات القمار الخضراء التي يمتلكها الكابتن مونتي نيوتن هو شيء مختلف عما تراه الآن؛ إذ إنها لم ترَ العصابة من قبلُ تعمل ضد امرأة.
تأفَّف قاطع الطريق الذي كان يرتدي ملابسَ مناسبة، قائلًا: «لا أعرف». وتابع: «كان هناك استدعاءٌ طارئ للجميع.» ونظر حوله في قلق خشية أن يسمعه أحد. ثم قال: «كل المسدسات هنا — ديفسون، وكوتشيني، وجيوي ستابس.»
فهمستْ في ذُعر، حتى شحبَت شفتاها وراء أحمرِ شِفاهها: «المسدسات؟ أتقصد أن …؟»
فأجابها في عناد قائلًا: «أُخرِجَت المسدسات: هذا كل ما أعرف». وتابع: «وقد بدَءوا التحركَ قبل مجيئكِ بنصف الساعة.»
صمتت جوان، وراحت ضرباتُ قلبها تتسارع بشدة. إذن، أخبرها مونتي بالحقيقة. أدركت أنه ثمَّة قوةٌ ما وراء أوبيرزون ووراء مونتي نيوتن تتعشَّق بشكل مثالي داخل الآلة، بيد أنها لم ترَ سوى ترس واحد من تروس هذه الآلة. فلقد كانت حفلاتُ القمار هذه التي يُقيمها مونتي مربحةً كفاية، لكن لوقت طويل ظلَّت تُراودها شكوك بشأن كون هذه الحفلات مجرد عملٍ إضافي. وقد أبقت المنظمةُ على جماعات نظامية من الرجال المسلحين الذين عيَّنتهم من كل حَدب وصَوْب. حيث كان مونتي نيوتن يتحدث أحيانًا في اللحظات التي يكون فيها ثملًا عن «الحرس القديم». إلا أن جوان لم تُكبِّد نفسها أبدًا عناءَ معرفة متى وُظِّفوا، وبأي عذر، ولأي غرض. وقد كانوا يأتون إلى إنجلترا ويغادرونها في أفواج. حتى إن مونتي قد أخبرها ذاتَ مرة أن رجال أوبيرزون ذهبوا إلى مدينة سميرنا، وتحدَّث في غموض عن مسابقة خادعة يُجهِّز لها تُجَّار شركة أوبيرزون آند سميتس. بعدها، قرأتْ في الجريدة عن «أحداث شَغْب ذات طابع ديني» نتج عنها تدميرُ مبنًى كبيرٍ لمقرِّ إحدى الشركات حرقًا. ولم يذكر مونتي بعدها أيَّ مسابقات. ثم عاد الحرس القديم إلى إنجلترا فاقدين أحدَ رجالهم الذي تلقَّى رصاصة في بطنه، في سياق «أعمال الشَّغْب ذات الطابَع الديني» هذه. لكنها لم تعرف أبدًا ماذا كانت تلك القناعة التي يؤمن بها لدرجةٍ جعلتْه يحمل السلاح دفاعًا عنها. وقد عرَفَت بوفاته لأن مونتي قد راسلَ أرملته، التي كانت تعيش في حي برونكس.
عرفتْ جوان الكثيرَ عن عمل مونتي، وهذا لسببٍ وجيه. ألا وهو أنها كانت بصحبته معظمَ الوقت؛ وسواءٌ تظاهرت بأنها ابنة أخته أو ابنته، أو أخته، أو شخص مقرَّب منه، كانت بلا شك أقربَ إلى كونها كاتمةَ أسراره.
سألت جوان قائلة: «مَن يكون هذا الرجل ذو الشارب … أهو واحدٌ منهم؟»
فأجابها بنتون قائلًا: «لا، إنه رجل أوبيرزون … بحقِّ السماء لا تُخبري مونتي بأنني أخبرتكِ بهذا كلِّه! لديَّ أوامرُ الليلة بإبلاغهم معلوماتٍ عن الفتاة.»
فشهقَت مرتعبة، وقالت: «ماذا عنها … ماذا سيفعلون معها؟»
فقال بنتون: «هيَّا لنرقص»، ثم قادها، وحملها تقريبًا باتجاه الجمع. وعندما وصلا إلى منتصف باحة الرقص، انطفأَت الأنوار كلها، من دون سابق إنذار.