المبحث الأول: اليونانيون
لفتت ظاهرة البرودة انتباه العلماء اليونانيين، وشعروا
بضرورة دراستها كما شعروا ببرودتها. وقد بحث في مفهوم البرودة
كلٌّ من أرسطو وأبولونيوس البرجاوي وجالينوس وبرقليس ومفيدروس. وقد
كانت لهم آراء متباينة في تحديد مفهوم البرودة. كما عرف كلٌّ
من اليونانيين والرومان القدماء أن الماء المغلي مسبقًا
سيَبرد بسرعةٍ أكبر من الماء المعتاد غير المغلي، لكن لم
يعرفوا لماذا.
٤
(١) أرسطو (القرن ٤ق.م.)
حاول أرسطو أيضًا أن يفسر سبب حدوث التجمد في المادة
اعتمادًا على نظريته في العناصر الأربعة؛ فالحرارة والبرودة
عنصران فاعلان في المادة، والعنصران الآخران اليبوسة
والرطوبة منفعلان، لكنه يشير إلى أن زيادة أو نقصان
العنصرين الأخيرين تتحكم في مدى تأثير العنصرين
الأولين، ويضرب لذلك مثالًا هو: عندما نريد شواء مادة
ما فإن نسبة الرطوبة فيها تعيق من تأثير الحرارة أو
البرودة عليها.
قال: «إن علة انفعال الهيولى هي اثنتان؛ الفاعل
المحرك، والفاعل الحاصل عنه في المنفعل الذي هو صورة
المنفعل نفسها. ولما كان ها هنا إنما هو الحر أو
البرد، وذلك أن البرد يعرض للهيولى إذا فقدت الحر،
وكان ظاهرًا من أمر هذا الفعل الذي هو الجمود أنه يبس
ما، فقد يجب أن نبتدئ بذكر اليبس؛ أعني كيف يكون عن
هاتين القوتين الفاعلتين؛ أعني الحرارة والبرودة وما
الأشياء التي تلقى هذا العرض منها، فأقول: إن كل
جسد منفعل فإنه لا يخلو من غلبة اليابس عليه أو
الرطب اللذَين هما الأرض والماء. ولما كان هذان
الأسطقسان باردين، وجب أن يكون كل كون فيه من القوى
الفاعلة القوة الباردة، والباردة تفعل في المكونات، إما
بالذات ففسادًا، وإما بالعرَض فقد تعيَّن على الكون، مثل منعه
من الاشتواء وتجميده الجسد الرطب بعد انقضاء الطبخ.
والفساد يفعله في المكونات بجهتين أيضًا؛ إما بالعرَض،
وذلك بأن يجمع الحرارة في عمق الشيء حتى يحرقه ويشتِّت
أجزاءه؛ وإما بالذات، وذلك بأن يفسد الحرارة الغريزية
التي في الشيء فيعرض من ذلك انتقاص اتصال أجزاء
المكون بخروج الرطوبة الطبيعية عن الشيء لمكان زوال
الحرارة الطبيعية.»
٥
وقد حاول أرسطو أن يفسر أيضًا عملية التجفيف التي تحدث
بسبب البرودة، كما هو حدوثها عند الحرارة، فالبرودة تحيط
بالجسم فتحبس الحرارة الداخلية فيه وتجعله يتخلص من
رطوبته، وهو ما يلاحظ في حالة جفاف الثوب في الأيام
الباردة: «والأشياء الرطبة تجف إما من البرد
وإما من الحر. أما جفوفها من البرد فمن أجل أن البرد
يحصر الحرارة في باطن الشيء فيعمل في الرطوبة التي فيه
فيجف ذلك الشيء، كما يعرض للثوب الذي يجف من البرد؛
وذلك أن الشيء ذا الرطوبة اليسيرة إذا صعدت البرودة فيه
إلى الحرارة الموجودة قويت فجفَّفته. وأيضًا فإنه
يعرض للحرارة عندما تضاده البرودة فتتحلل من الشيء
وتطلب المكان الخاص بها، وعند تحللها من ذلك الشيء
تتحلل الرطوبة الموجودة فيه؛ فأما الجفوف الذي يكون
من قِبل الحر فبالذات، وذلك كالأشياء التي تجف من حرارة
النار المحيطة بها.»
٦
كتب أرسطو عن أثر
مبيمبا
Mpemba’s Effect (أي تجمد الماء الحار أسرع من
الماء البارد) قبل أن يصفها كلٌّ من جيوفاني مارلياني
G. Marliani
(توفي ١٤٨٣م) وفرنسيس
بيكون
F. Bacon (توفي ١٦٢٦م) ورينيه ديكارت
R. Descartes
(توفي ١٦٥٠م)، ولم تكن مطروحةً في المجتمع العلمي
الحديث في القرن العشرين إلى أن جاء تلميذ تانزاني من
المدرسة الثانوية في عام ١٩٦٩م يُدعى مبيمبا وأعاد طرحها من
جديد على الباحثين.
٧
طبعًا الظاهرة كانت معروفة، ويستخدمها المصريون القدماء
والهنود وغيرهم من الشعوب من أجل الحصول على ماء بارد أو
الجليد في أثناء الصيف.
قال أرسطو لدى محاولة تفسيره لسبب تشكل البرَد
«وأما السبب الثاني عنده فهو أن الهواء الذي تتكون
منه الأمطار في أوقات البرد هو هواء أحر من الذي
تتكون منه في زمان الشتاء، فيكون الماء الذي يتولد عنه
ساخنًا، والماء الساخن أسرع للجمود وقبول البرد من
الماء البارد. ويستشهد على ذلك أنه متى سخَّن أحدٌ الماء
ثم وضعه في موضع بارد كان قَبوله للبرد أسرع.
والسبب في ذلك عنده أن الضد يقوى فِعله عند حضور
ضده، فإذا سُخِّن الماء وأُدنيَ من الجسم البارد
قويَ فِعل الجسم البارد فيه لمضادة الحرارة له.»
٨
وقد عزا أرسطو السبب في تجمد الماء بأشكاله كافةً
إلى برودة المكان الذي يقع فيه، وإلى الوقت البارد؛ حيث إن
الثلج والجليد يتشكلان شتاءً وليلًا من ناحية الوقت،
وسببُ تشكلِ كلٍّ منهما هو قرب الشمس وبعدها عن
الأرض. ويرى أرسطو أن الثلج يختلف عن الجليد بسبب اختلاف
حالة المادة الأولية لكلٍّ منهما؛ فالأول ينتج عن الماء
المتجمد والثاني عن البخار المتجمد.
قال أرسطو: «والماء لا يجمد إلا في الموضع الذي فيه
يتكون السحاب، وهذا الموضع يهبط منه ثلاثة أجسام
تكوينُها وقوامها بالبرد: الماء والثلج والبرَد.
والموضع الذي دونه يهبط منه جسمان أيضًا، كما قلنا، وهما
الجليد والندى، وعلتهما وعلة الثلاثة التي
تهبط من المكان الذي فوق هذا علة واحدة وهي البرد،
وإنما يختلفان في ذلك بالأقل والأكثر في العلة
والمعلول؛ وذلك أن على كليهما الزمان البارد والمكان
البارد، وأما المطر والثلج فزمان الشتاء، وأما الندى
والجليد فزمان الليل، وعلة كليهما قرب الشمس وبعدها.
وأما اختلافها في المعلول، أما مخالفة المطر للندى
فبالكثرة والقلة، وأما مخالفة الثلج للجليد فمن قِبل
الهيولى؛ وذلك أن الثلج هو ماء جامد، وأما الجليد فهو بخار
جامد. والدليل على هذا سخافة هذا وكثافة ذلك، وأن
السخافة إنما تكون مخالطة الحرارة أجزاء البخار الذي كان
من شأنه أن يتكاثف حتى يصير ماءً، فتمنعه تلك الأجزاء
الحارَّة الهوائية التي فيه من أن يصلب كما يصلب الثلج.»
٩
ويستنتج أرسطو من ذلك مدى تأثير الحرارة والبرودة على
حالات الأجسام؛ فمن آثار البرودة الأخرى مساهمتها في تشكل
المواد الأخرى مثل المعادن، كما أنها تساعد في عملية هضم
الطعام في فصل الشتاء بشكل أفضل من فصل الصيف.
«وقد يدل أيضًا دلالةً عظيمة على أن الحرارة والبرودة
فاعلتان؛ فكل واحدة منهما توجد سببًا لكون الأجسام وفسادها
… وأما البرودة فتتولد عنها المعادن، ويفسد بها
النبات إذا عرض له الذبول، والحيوان إذا شاخ …
والبرودة تسخن بالعرَض؛ ولذلك نجد الاستمراء
والانهضام في الشتاء أجود وأقوى.»
١٠
(٢) أبولونيوس التياني (القرن ١م)
بحث بليناس أو أبولونيوس
التياني
Apollonius of
Tyana (توفي ١٠٠م) في سبب حدوث الاعتدال
في حرارة الجسم عندما يختلط الحار مع البارد، حيث يأخذ
كل واحد منهما من الآخر ويؤثر كلٌّ منهما في الآخر
حتى يصلا إلى حالة التوازن في الحرارة. «وأقول أيضًا إن الحر
إذا أصاب البرد أسخنه، فسخَّن البرد وبرَّد
الحر فبرد؛ فإذا برد الحر وسخن البرد
اعتدلا، فامتزجا وضعفا جميعًا وانقلب كلٌّ واحد منهما عن كِيانه.»
١١
كما بحث أبولونيوس في أسباب تشكل الثلج والجليد
بطريقة تختلف عن طريقة أرسطو، حيث إن بخار الهواء يرتفع
من باطن الأرض نحو الأعلى بسبب وجود الحرارة بداخله، لكنه
ما إن يصل فإنه يخسر تلك الحرارة؛ عندها يتكاثف ويمكن أن
يعود بهيئة مطر، لكن إذا ازدادت درجة البرودة تجمَّد
ذلك الماء وأصبح ثلجًا.
الأمر نفسه ينطبق على الجليد؛ حيث تصل البرودة إلى عمق
الماء فتُحيله إلى الجليد، حيث قال: «إذا صعد البخار من
أسفل الأرض فصار إلى العلو عرض له البرد في الهواء،
فانسل الحر منه وهو الذي طيَّره إلى العلو، ولم
يعرض له الرياح فتعصره فيرجع ماءً، لكنه ثقل
لخروج الحر منه فرجع بخارًا مجتمعًا قد لصق بعضه ببعض
فأفرط عليه البرد من الهواء، فجمده فانحدر سائلًا،
وسمي ذلك الجامد ثلجًا. وكذلك أقول على الجليد؛ إذا أفرط
البرد في الهواء اتصل بالماء لأنه من شكله؛ فإذا وصل البرد
إلى عمق الماء بطنت الحرارة المستجنَّة في الماء،
وكانت هي التي تُذيبه وتمنعه من أن يجمد فيصير حجرًا، فإذا
وصل إليه البرد العارض من الهواء بطنت الحرارة فيه
واشتدَّت برودته، فجمد الماء وسُمي ذلك الجامد جليدًا.»
١٢
(٣) جالينوس (القرن ٢م)
ميَّز كلاوديوس
جالينوس
K. Galen (توفي ٢٠٠م) بين الجسمين
الحار والبارد حسب غلبة الكيفية التي بداخله؛ فإذا
كانت كيفية البرودة هي الغالبة نقول عندها إن الجسم
بارد والعكس صحيح. هذه الفكرة تستند في أساسها على نظرية
أرسطو في العناصر الأربعة ولم تخرج عنها بجديد؛ فقد جاء في
كتاب «جوامع الإسكندرانيين لكتاب جالينوس في العناصر» أن
جالينوس قال: «اسم الحار واسم البارد يجريان على معنيَين؛
أحدهما كيفية الحرارة والبرودة بمنزلة ما يقول إن هذا
الجسم حاله حال حارَّة أو حال باردة، والآخر الجسم
الذي فيه تلك الكيفية؛ إلا أن هذا الجسم إما أن يكون فيه
تلك الكيفية التي يوصف بها وحده، وإما أن يكون
يُخالطها فيه ضدها، وإما وحدها؛ فبمنزلة الحرارة في النار
التي ليس معها برودة، وبمنزلة البرودة في الماء التي ليس
معها حرارة، وما كان من الأجسام على هذا فيقال إنه في غاية
الحرارة أو البرودة؛ وذاك أن كل شيء خالص محض لا
يخالطه ضده فهو الغاية، وأما الكيفية التي يخالطها
ضدها فبمنزلة ما في جميع الأقسام المركبة، وكل
واحد من هذه يوصف بالحرارة والبرودة على أحد وجهين؛ إما
بالأغلب، وإما بالمقايسة بينه وبين آخر من جهة الأغلب. وإذا
كانت الحرارة فيه أكثر من البرودة فيقال من هذا الوجه
حار، وإذا كانت البرودة عليه أغلب فيقال من هذا الوجه إنه
بارد. أما من جهة المقايسة فإذا قيس بجسم آخر فوجد
أشد حرارةً منه فقيل من هذا الوجه إنه حار، أو وجد أنه
أشد حرارةً من هذا الوجه إنه حار، أو وجد أنه أشد
برودةً منه فقيل إنه بارد.»
١٣
(٤) برقليس (القرن ٥م)
في المسائل الطبيعية التي ناقشها برقليس
Proclus (توفي ٤٨٥م) طُرح تساؤل عن
الدليل على أن الحرارة والبرودة قوتان فاعلتان، والرطوبة
واليبوسة مفعولان بهما، فأجاب بمثال تطبيقي: «إنا إذا
وضعنا أيديَنا على جسمٍ حارٍّ يؤلمنا حرُّه، وكذلك إذا وضعنا
أيديَنا على جسم بارد آذانا برده. وأما الجسم المفرط
اليبس إذا وضعنا أيديَنا عليه لم يؤلمنا، وذلك كحجر إذا
وضعنا أيديَنا عليه لم يؤلمنا يبسه كما يؤلمنا حرارة
النار وبرودة الثلج. وكذلك الشيء الندي الرطب إذا
نحن وضعنا أيديَنا عليه لم يؤثر فينا كأثر الحر والبرد؛ فإن
قال قائل: ما بال العفص قد يخشن اليد ويقبضها؟
فنقول: إنه إنما يفعل ذلك فينا ويقوى لمكان البرد، ولولا ذلك
لم يظهر منه هذا الفعل.»
١٤
ثم ناقش في مسألةٍ أخرى حالةَ التنافر والتضاد التي نجدها بين
الحرارة والبرودة، وهي الحالة التي لا تظهر بين الرطوبة
واليبوسة، ويعود السبب في ذلك حسب رأيه إلى قوة وجود الحرارة
والبرودة في النار والماء، في حين لم تكن الرطوبة واليبوسة
بهذه القوة؛ لذلك لم تكن حالة التنافر بين الأخيرتين
مماثلةً لحالة الحرارة والبرودة. ويحدث أن يتنافر الهواء
والأرض إذا وُجدت قوة تدعم أحدهما وتُقويه على
الآخر.
قال: «ما بال الماء والنار إذا هما تلاقيا تنافرا وتضادَّا،
والهواء والأرض قد يماس أحدهما صاحبه ولا يتنافران بينهما ولا
يتضادان إذ هما متضادان؛ وذلك أن الهواء حارٌّ رطب والأرض باردة
يابسة؟ فنقول: إن النار إذا لاقت الماء أو ماسَّته نافرته
منافرةً شديدة، ولا يخلو إما أن يقهرها وإما أن تقهره. وأما
الهواء والأرض وإن اختلفا وتضادَّا فإنهما لا يتنافران؛ لأن
الحرارة التي في النار قوة فاعلة، والبرد في الماء قوة
فاعلة أيضًا، واليبس في النار قوة مفعولة، والرطوبة في
الماء قوة مفعولة أيضًا؛ فإذا تلاقى الماء والنار نافرت
النار الماء لقوة الحرارة الفاعلة فيهما، ولأن القوتين
الفاعلتين — أعني الحرارة والبرودة — أقوى في النار والماء من
القوة بين المنفعلتين — أعني الرطوبة واليبس اللتين في
النار والماء — لذلك كانت منافرتهما ومضادتهما شديدتين،
ولأن القوتين المفعولتين في الهواء والأرض أكثر من
القوتين الفاعلتين، أعني الحر والبرد، لذلك لم تكن منافرتهما
كمنافرة النار والماء اللذين فيهما القوتان الفاعلتان أغلب.
ونقول أيضًا إن الهواء والأرض قد يتضادان في مكان ما؛ لما
فيهما من القوتين الفاعلتين؛ أعني الحر والبرد، ولكن لأن
هاتين القوتين اللتين في الهواء ليستا بكثيرتين؛ لذلك لم تظهر
منافرتهما كمنافرة النار والماء. وقد يتنافر الهواء والأرض،
والأرض والهواء، إذا حرَّكهما محرك من خارج فأضاف قوة فِعله إلى
فعلهما، فإذا أضيفت قوة الفاعل الذي في الهواء والأرض تنازعا
وتضادَّا؛ وذلك لأن الهواء إذا دفعه دافع سُمع له صوت أزال
الحجر، وكذلك الحجر إذا وقع في الهواء أثَّر في الهواء فعلًا
قويًّا وهرب كل واحد منهما من صاحبه.»
١٥
(٥) المفيدروس (القرن ٥م)
كرَّر المفيدروس
الألديري
Olympiodorus the Elder (كان حيًّا في القرن ٥م) مقولةَ من
سبقه لدى المقارنة بين الحرارة والبرودة فقال: «الحرارة
والبرودة من الكيفيات الأُوَل فاعلةً قويةً، والرطوبة واليبوسة
ضعيفةً منفعلةً، بمنزلة المادة لتلك. وعلى هذا المثال توجد إذا
قرنت اثنين مع اثنين، وواحدة مع واحدة؛ فالحرارة من الكيفيتين
الفاعلتين أكثر فعلًا، والبرودة أقل. ومن الكيفيتين المنفعلتين
فاليبوسة أكثر انفعالًا وأشبه بالمادة، والرطوبة أقل.»
١٦
لكن لدى المقارنة بين الحرارة والبرودة من ناحية القوة
والشدة فإن الحرارة أقوى؛ لأنها تستطيع أن تجمع أجزاء المادة
المتجانسة كالذهب الخالص، أو تفرِّق أجزاء المادة
المختلفة مثل مزيج الذهب والفضة، بينما البرودة يمكنها أن
تجمع بين المواد سواء كانت متجانسة الأجزاء أو غير
متجانسة.
قال في ذلك: «إن الحرارة أقوى من البرودة، إن الحرارة يمكن
فيها أن تصل وتفرق. وأما الاتصال فالأشياء المتساوية في
النوع بمنزلة الذهب مفردًا على حدته والفضة على
حدتها. وأما التفرقة ففي الأشياء المختلفة في النوع؛
وذلك أن الذهب الذي خالطته الفضة إذا خلص بهرَ وصار
إبريزًا واعتزلت الفضة في ناحية. وأما البرودة فيمكن فيها أن
تصل بين المتساوية في النوع والمختلفة، ويدل على ذلك أن
الضفادع تجمد مع الماء في كون الجليد، وأما أن تفرق فليس
يمكن فيها.»
١٧ و«للحرارة والبرودة أيضًا أن كل واحدة منهما
تُقبَل وتُحيَّل، وتُجفَّف وتُرطَّب، وتُصلَب وتُليَّن.»
١٨
واتفق مع من سبقه على أن قدرة الحرارة والبرودة
وفاعليتهما لها تأثيرها على كل ما هو موجود في الحياة، «إن
الحرارة والبرودة فاعلتان؛ لأن كل واحدة منهما توجد
سببًا لكون الأجسام وفسادها؛ ذلك لأن الحرارة يتولد عنها
الحيوان ويغتذي، والأجسام التي فيها تهيُّؤ للاحتراق تحترق.
وأما البرودة فتتولد عنها المعادن، ويفسد بها النبات إذا
عرض له الذبول، والحيوان إذا شاخ. والحرارة أيضًا
تبرد بالعرَض؛ ولهذا نجد الاستمراء والنضج في الصيف
أقل. والبرودة تُسخن بالعرَض؛ ولذلك نجد الاستمراء
والانهضام في الشتاء أجود وأقوى.»
١٩
وكان المقصود بمصطلح النهوءة عند المفيدروس الأثر الذي
تُحدِثه البرودة: «أما النضج ففعل الحرارة، وأما
النهوءة ففعل البرودة. وكل واحد من هذين يكون
على جهات شتى؛ إما لحفظ الشيء القابل له مع نوعه، وإما
لعدم نوعه.»
٢٠ و«النهوءة إنما تكون مع استحالة نوع الشيء
القابل لها، كالذي يعرض في الأشياء التي تُحمَّص، وإما
مع حفظ نوعه، وذلك يكون إما للأجسام النامية، كالذي يوجد في
ثمار الأشجار التي لا تنضج، وإما للأجسام غير النامية. وهذا
الصنف أيضًا إما أن يكون للنهوءة، وحدوثه متى غلبت
الحرارة على المادة؛ وإما متى عدم الشيء، وحدوثه يكون إذا لم
تقهر الحرارة المادة.»
٢١
وقد تناوَل المفيدروس حالة الجمود أو التجمد الذي
يَعرِض لحالة المادة، فيكون إما بسبب تحوُّل المادة
الرطبة إلى جليد أو بسبب تأثير كيفية الرطوبة التي توجد في
المواد. وقد يكون هذا التجمد ناجمًا عن اختلاف نِسب
الكيفيات الأخرى في المواد، كأن تزداد نسبة الحرارة مع
اليبوسة أو تزداد نسبة البرودة لوحدها أو اليبوسة
لوحدها.
قال المفيدروس: «أما أسباب الجمود التي من جهة المادة
فاثنان؛ وذلك أن الجمود يظهر بعرَض؛ إما للأشياء الرطبة
بمنزلة الماء إذا صار جليدًا، وإما بمنزلة الأشياء التي فيها
رطوبة بمنزلة المعدنيات. وأما الأسباب فثلاثة؛ أحدها
الحرارة مع اليبوسة، والثاني البرودة وحدها مفردة،
والثالث اليبوسة وحدها مفردة.»
٢٢
ثم يشرحه من خلال مثال الفخَّار: «إن جمود الفخَّار في
ابتداء الأمر بالبرودة ثم يجمد بآخره بالحرارة؛ ولهذه العلة لا
يتحلل؛ وذلك لسببين؛ أحدهما أن جموده منه لما كان من
كيفيتين متضادتين قويتين لا يمكن فيه أن ينحلَّ ولا
واحدة منهما … والسبب الثاني أن جمود الفخَّار ليس عن
البرودة والحرارة معًا فقط، لكن بسبب تبخُّر الرطوبة
وانفشاشها عنه أيضًا؛ ولهذه العلة نجد المنافذ التي تنجذب فيها
هذه الرطوبة لطافًا رقاقًا لا يمكن أن ينفذ فيها لغِلظه؛ ولذلك
لا ينحلُّ به الفخَّار.»
٢٣
المبحث الثاني: العلماء العرب
والمسلمون
حفل المعجم العربي بمختلف أنواع الألفاظ التي تصف البرد والبرودة
التي تعرَّض لها العربي في مختلف البيئات التي عاشها؛ فقد جاء في
أول معجم عربي (كتاب العين) للفراهيدي (توفي ١٧٠ﻫ/٧٨٦م): «برَدَ
يَبرُد برودةً، وبرَدتُ الخبز بالماء: صبَبتُه عليه
فبلَلتُه، واسم ذلك الخبز المبلول البريد والمبرود،
تطعمه النساء للسمنة، وتقول: اسقني شربةً أبرِّد
بها كبدي. وبرَد القُر وأبردوا: صاروا في وقت القُر آخر
النهار. وبرَّدت الماء تبريدًا. وبرَد عليه حق كذا وكذا
درهمًا؛ أي لزمه ذلك. والبَرود: كُحل تُبرَّد به العين
من الحر.»
٢٤
وعند أبي هلال العسكري (توفي ٣٩٥ﻫ/١٠٠٥م): «البرد والقر
سواء. والقر البارد. والسَّبرة شدة البرد. غداةٌ سبرة:
شديدة البرد. وفي الحديث: إسباغ الوضوء في السبرات.
وشيبان وملحان شهرا قماح، وهما اللذان يقال لهما كانون
وكانون. وسُمِّيا بذلك لبياض فيهما من الصقيع. وسُمِّيا شهرا
قماح لأن الإبل إذا وضعت رءوسها فيهما للشرب آذاها
برد الماء فقمحت؛ أي رفعت رءوسها. ومنه قوله تعالى:
فَهُمْ مُقْمَحُونَ.»
٢٥
وقد فصَّل لنا الثعالبي (توفي ٤٢٩ﻫ/١٠٣٨م) في كتابه «فقه
اللغة وسر العربية» مختلف الحالات التي تتعلق بمفهوم البرودة فقال:
-
«القفقفة لمن يجد البرد الشديد.»
٢٦
-
«فإذا انحدر من بلاد البرد إلى بلاد الحر قيل: قطع
قطوعًا وقطاعًا، ويقال: كان ذلك عند قطاع الطير.»
٢٧
-
و«في تفصيل الرياح: فإذا كانت باردةً فهي
الحرجف والصرصر والعرية، فإذا كان مع
بردها ندًى فهي البليل، فإذا كانت حارَّة فهي الحرور
والسموم، فإذا كانت حارَّة وأتت من قِبل اليمن
فهي الهيف، فإذا كانت باردةً شديدةً تخرق الثوب
فهي الخريق، فإذا ضعفت وجرت فُويق الأرض فهي
المسفسفة، فإذا لم تلقح شجرًا ولم تحمل مطرًا
فهي العقيم، وقد نطق بها القرآن.»
٢٨
-
و«في تفصيل كمية المياه وكيفيتها عن الأئمة إذا كان
الماء باردًا منتنًا، فهو غساق بتشديد السين
وتخفيفها، وقد نطق به القرآن؛ فإذا كان حارًّا فهو
سخن، فإذا كان شديد الحرارة فهو حميم، فإذا كان
مسخنًا فهو موغر، فإذا كان بين الحار
والبارد فهو فاتر، فإذا كان باردًا فهو قار، ثم
خصر ثم شنان.»
٢٩
-
أخيرًا يقال من باب الاستعارة «دبت عقارب البرد»؛
٣٠ ولذلك يقال في العامة العربية «لسعه
البرد» وكأن البرد عقرب يلسع، أو «كسر سم الماء»
وكأن الماء الشديد البرودة مسموم، وينكسر سمه
بإضافة ماء دافئ له.
أما في تكملة المعاجم العربية لدوزي: «برَد: أصابه البرد، هبطت
حرارته (بوشر)، وصار باردًا (بوشر). وتبرَّد (بوشر) وبرد
(مجازًا): خدر (بوشر). وبردت همته: فترت وخمدت وقل عزمه (بوشر).
وبرد عليه الضرب: هدأ عليه ألم الضرب (ألف ليلة ٢: ٢٢٦).
بَرُد على: تكلم بما لا طائل تحته (فوك).
برَّد (بالتضعيف) همته: أخمدها وفتَّرها، وفلَّ من عزمه أيضًا
(بوشر). وبرَّد الخلق: هدَّأهم وأزال غضبهم (بوشر). وتبرد
(الكالا)، ومطر البرد، نزل البرد (بوشر)، وتكلم بما لا طائل
تحته (فوك). وبرَّد الملك: ثبَّته، وبرد عنه: أهمله (محيط
المحيط).
بارد له: أساء استقباله وقابله بفتور، وكلح في وجهه
(بوشر).
أبرد: برد (فوك). ابرد إلى فلان، به: أرسله إليه بالبريد.
ففي مملوك (٢: ٣٧): أبرد إلى ابن هشام بالكتاب، وأبرد إلى فلان
شيئًا: أثقل عليه وكلَّفه ما لا طاقة له به، ففي ابن عباد (٢: ١٦٠،
وانظر ٣: ٢٢٠): أبرد إلى ما ناء أي أثقلني بما ينوء بحمله الإنسان،
وفرض عليَّ من المال ما أدى بي إلى الخراب. وأبرد: قال شيئًا باردًا
(المقري ١: ٦٠٩ مع تعليق فليشر على المقري ص٢٠٤).
تبرَّد: ذكرها فوك بمعنى صار باردًا.
وتبرَّد عليه: قال شيئًا باردًا (فوك). تبارد: تكلف البرودة، وفعل
وقال سخفًا. وتبارد على فلان: قال له كلاما تافهًا أو باردًا وعبث
به باللغو من الكلام. وتبارد على الناس: تناولهم بالسخرية والعبث
(بوشر).
انبرد: سُحل بالمِبرد (فوك).
استبرد: طلب البرد (تاريخ البربر ١: ١٥٣). واستبرد فلانًا:
استحمقه ووجده باردًا (معجم الإسبانية ٦٦).»
٣١
كم الألفاظ والعبارات العربية الواصفة للبرودة ومختلف
حالاتها لا تُقارَن بنظيرتها في الحرارة؛ فالعربي الأصيل
الذي أنجب لغته عاش في حر بيئته أكثر مما عاش في بردها؛ لذلك
جاءت أوصافه للحر أكثر مما كانت للبرد.
على العموم سنجد للعلماء آراءً تختلف عن اللغويين في ظاهرة
البرودة؛ فقد حاولوا تفسيرها ومعرفة الأسباب الناجمة عنها. ويرى
الباحث زكي نجيب محمود أن العلم القديم كله — سواء عند اليونانيين
أم في العصور الوسطى عند العرب — كان علمًا كيفيًّا؛ أي على خلاف
العلم الحديث الذي يزيد اهتمامه بالجانب الكمي؛ فقد كانت
البرودة حقيقةً مستقلة عن الحرارة؛ وذلك لأنهما مختلفتان في
الكيف، أما في العلم المعاصر فتُعتبر البرودة درجةً من درجات
الحرارة، ولا اختلاف بين الطرفين إلا من الناحية الكمية.
٣٢
(١) جابر بن حيان (القرن ٣ﻫ/٩م)
عرَّف جابر بن حيان (توفي ١٩٩ﻫ/٨١٥م) الحرارة
بأنها غليان المادة وانتشارها في كل الجهات، كأنها انتقال
من المركز إلى المحيط، أما البرودة فهي بحسب جابر: «حركة
الهيولى من محيطها إلى مركزها.»
٣٣
وهكذا تتعاكس حركة المادة المبرَّدة بعكس حركة
المادة المسخَّنة، ولو كان في مصطلحات جابر «الدرجة» لذكر
لنا بأن البرودة هي درجة من درجات الحرارة التي تختلف بكم
الوحدة لا أكثر، لكنه أراد أن يبيِّن الفارق بين الحرارة
والبرودة من ناحية الحركة؛ فالحركة من المحيط إلى المركز في
المادة تعني الانكماش والتقلص، في حين أن الحركة من المركز
إلى المحيط وفي كل الجهات تفيد معنى التمدد.
ثم يحاول جابر أن يعمِّم بطريقةٍ استقرائية فيعرِّفنا
بعلم
البرودة
Cold science بأنه: «العلم بجوهرها وأثرها وما
تأثَّرت به على التفصيل، وبأثرها على الجملة.»
٣٤
ولعل هذا أول وأقدم تعريف موثق لعلم البرودة يحدِّد
من خلاله جابر ما يقوم عليه؛ فهو يتطلب:
من ناحيةٍ أخرى يمثِّل وضع هذا التعريف أُولى خطوات
الخروج على الفكر الأرسطي؛ إذ نجد جابر لا يُقحم أيَّ
دور لنظرية العناصر أو الكيفيات الأربع في تأسيس علم
البرودة، وإنما أراده علمًا قائمًا بشكل خاص على السببية
والأثر والنتيجة.
(٢) إبراهيم النظَّام (القرن ٣ﻫ/٩م)
طبَّق إبراهيم بن سيَّار النظَّام (توفي ٢٣١ﻫ/٨٤٥م)
نظريته في الطفرة (أي حركة القفز مع الارتفاع وتجاوز المراحل
بين بداية الحركة ونهايتها) على عدد من الظواهر الطبيعية
ليُثبِت صحتها وعمومية أثرها. ومن الظواهر التي طبَّقها
عليها البرودة؛ فإذا أخذنا شيئًا باردًا وقمنا بإتلافه لدرجة
أننا لم نعد نشعر ببرودته التي كان عليها سابقًا، عندها نفترض
أن هذه البرودة قد اتحدَّت بوساطة الطفرة مع البرودة الموجودة في
الأرض. ولكن باعتبار البرودة عرَضًا من الأعراض الذي يمكن أن
يزول بطبيعة الحال، فلا يمكن أن يزول بالطفرة على أنه شيء
متحرك. وقد رد النظَّام على ذلك بأنه لا يعرف إلا عرَضًا
واحدًا هو الحركة، بينما كافة المظاهر الأخرى في الشيء فهي
أجسام؛ أي لونه ورائحته وسخونته وبرودته وخفته
وثقله ولينه أو خشونته، وكذلك أبعاده الثلاثة؛ فهي كلها
أجسام؛ وعلى ذلك فإن مفهوم السخونة ليس شيئًا يمكن إبداله
بضده؛ أي البرودة؛ فجميع الصفات إنما هي أخلاط جسمية
في جوهر واحد لا يمكن إبدالها بغيرها، وإنما هي قائمة
بكاملها في الوقت نفسه. وقد يبدو لنا ظاهريًّا وجود أشياء
ساخنة فقط أو باردة فقط، إلا أن هذه الظاهرة يمكن
تفسيرها بأن الصفات المضادَّة إنما هي مستترة أو كامنة في
هذا الجوهر؛ وعلى هذا فإن صفة «البرودة» موجودة في العنصر
على أنها جسم، ولكنها تداخلت مع بقية الأخلاط وتمازجت
معها لدرجة لم نشعر بها بحواسنا.
٣٥
(٣) الكِندي (القرن ٣ﻫ/٩م)
يعرِّف الكندي (توفي٢٥٦ﻫ/٨٧٣م) البرودة بأنها
«هي علة جمع الأشياء من جواهر مختلفة، وتفريق الأشياء
التي من جوهر واحد.»
٣٦ وهو كما نلاحظ تعريف معدل من تعريف المفيدروس
الذي سبق ووضع عليه مثال الذهب والفضة.
(٤) الفارابي (القرن ٤ﻫ/١٠م)
يعرِّف أبو نصر الفارابي (توفي٣٣٩ﻫ/٩٥٠م) الجسم
البارد أنه: «ما يركب إليه جسم بارد ويخلطه به، أو أن
يبرده الهواء أو الثلج.»
٣٧ وهذا يعني أن البرودة صفةٌ مكتسَبة للجسم وليست
متأصلةً فيه كما يقول النظام، لكنه لا يشرح مفهوم
البرودة بحد ذاته؛ ثم يؤكد على فكرة البرودة المكتسبة من
خلال مصطلح «التعديل»؛ فهو: «كسر حرارة الحار بأن يبرد
قليلًا ويخالط حرارته برودة، فتحصل من ذلك حرارة بمقدارٍ
ما من كيفيته، ومن شدته وضعفه.»
٣٨
(٥) ابن بشرون (القرن ٤ﻫ/١٠م)
حاول أبو بكر بن بشرون (كان حيًّا عام ٣٩٠ﻫ/١٠٠٠م) أن يشرح
طبيعة العلاقة القائمة بين الحركة والحرارة والبرودة، طبعًا
بالاعتماد على النظرية الأرسطية، ليستنتج أن السبب الرئيس
لتولد الحرارة هو الحركة، وهذا يعني أن البرودة تعني
بشكلها الظاهري عدم الحركة.
فقال: «واعلم أن البارد من الطبائع هو ييبس الأشياء
ويعقد رطوبتها، والحار منها يظهر رطوبتها
ويعقد يبسها، وإنما أفردت الحر والبرد لأنهما
فاعلان، والرطوبة واليبس مُنفعلان، وعلى انفعال كل
واحد منهما لصاحبه تحدث الأجسام وتتكون، وإن كان الحر
أكثر فعلًا في ذلك من البرد؛ لأن البرد ليس له نقل الأشياء
ولا تحريكها، والحر هو علة الحركة. ومتى ضعفت علة
الكون، وهو الحرارة، لم يتم منها شيء أبدًا، كما أنه إذا
أفرطت الحرارة على شيء ولم يكن ثَم برد أحرقته وأهلكته.»
٣٩
(٦) إخوان الصفا (القرن ٤ﻫ/١٠م)
حاول إخوان الصفا تقديم رؤية جديدة بعيدة عن نظرية أرسطو
في العناصر؛ حيث إن وجود الحرارة في بعض الأجسام ناجم عن
تحرك أجزاء مادتها، كما أن سبب البرودة هو سكون تلك
الأجزاء المادية. وهو تفسير معقول ومقبول منطقيًا لكونه
يستند إلى النظرية الذرية التي كان يعارضها أرسطو. يقول إخوان
الصفا: «وأما الحرارة في بعض الأجسام، فهي من أجل غليان أجزاء
الهيولى وفورانها بالحركة الخفيفة، وأما البرودة في بعضها
فهي من أجل سكون تلك الأجزاء، أو جمود ذلك الغليان.»
٤٠
من ناحية أخرى يتقارب فهم وتفسير إخوان الصفا من فهم جابر
لظاهرة البرودة، لكنهم لا يضعون جهة تأثير البرودة على الجسم
كما وضعها جابر بأنها من المحيط إلى المركز.
(٧) ابن سينا (القرن ٥ﻫ/١١م)
يعرِّف ابن سينا (توفي ٤٢٧ﻫ/١٠٣٧م) البرودة —
وفق المفهوم الأرسطي — بأنها: «كيفية فعلية تفعل جمعًا
بين المتجانسات وغير المتجانسات لحصرها الأجسام بتكثيفها
وعقدها اللذين من باب الكيف.»
٤١ ثم يعيد ابن سينا قول أرسطو في البرودة وتأثيرها
على الأجسام؛ فالبرودة كيفية فعلية تؤثر في جميع الأجسام
المتجانسة وغير المتجانسة، حيث تقوم بتكثيفها وعقدها إلى بعضها بعضًا.
٤٢
قال ابن سينا: «الكيفيات الملموسة الأولى هي هذه الأربعة؛
اثنتان منها فاعلتان، وهما الحرارة والبرودة، ولكونهما
فاعلتين ما تحدَّان بالفعل بأن يقال إن الحرارة هي التي تفرِّق
بين المختلفات وتجمع بين المتشاكلات، كما تفعله النار؛
والبرودة هي التي تجمع بين المتشاكلات وغير المتشاكلات كما
يفعل الماء. واثنتان منفعلتان، وهما الرطوبة واليبوسة،
ولكونهما منفعلتين ما تحدان بالانفعال فقط.»
٤٣
ويشير من ناحية أخرى إلى أن ظاهرتَي الحرارة والبرودة
تُلازمان ظاهرتَي الخفة والثقل؛ فالجسم الذي يسخَّن يكتسب
الحرارة ويصبح أخف، وبالعكس فإن الجسم إذا تبرَّد يصبح
أثقل؛ إذَن «الحرارة والبرودة لازمتان مُنعكستان على الخفة
والثقل؛ فالمادة إذا أمعن فيها التسخين خفَّت، فإذا
خفَّت سخنت؛ فلا خفيف إلا وهو حار، ويعرض لها إذا بردت
بشدة أن تثقل، وإذا ثقلت بشدة أن تبرد؛ فلا ثقيل إلا وهو
بارد، فيكون الحر والبرد منعكسَين على الثقل والخفة، كالإشفاف
وغير ذلك مما يوجد في الثقيل والخفيف.»
٤٤
ويرى ابن سينا أن الجسم نفسه قد يكون باردًا أو ساخنًا
ذاتيًّا، فيبرد أو يسخن نفسه وما يحيط به؛ «الجسم
الذي له طبيعة مبردة أو مسخنة، فإنه يُبرد
ذاته أو يُسخنها بطبيعته، ويُبرد أيضًا ما يجاوره
ويتصل به أو يسخنه.»
٤٥
وفي المقابل لا يمكن أن يكون الجسم نفسه حارًّا وباردًا في
الوقت نفسه؛ لأن «الحرارة والبرودة ليستا من الكيفيات التي
بها يستعد الجوهر لانفعالٍ ما … وذلك لأن الحر ليس
استعداده للبرد لأنه حار، كيف والبرد يبطل الحر؟
وما دام هو حارًّا فيمتنع أن يصير باردًا؛ فالحر يمنع وجود
البرد، لا أن يعد له المادة، بل المادة مستعدة
بنفسها لقبول البرد المعدوم فيها، لكنه يتفق أن يقارن تلك
الحالة وجود الحر الذي يضاد البرد ويمانعه ويستحيل
وجوده معه.»
٤٦
وفي حديثه عن مفهوم «النهوءة» الذي سبق وتحدث عنه المفيدروس
وكيف أن الجسم الرطب يكون مستعدًّا لتتحقق فيه حالة النهوءة
حيث تقف حائلًا أمام تأثير الحرارة، يقول ابن سينا: «فإن تبقى الرطوبة غير مبلوغ بها
الغاية
المقصودة، مع أنها لا تكون قد استحالت إلى كيفية منافية
للغاية المقصودة، مثل أن تبقى الثمرة نيَّة، أو يبقى الغذاء
بحالة لا يستحيل إلى مشاكلة المغتذي، ولا أيضًا يتغير، أو
يبقى الخلط بحاله لا يستحيل إلى موافقة الاندفاع، ولا أيضًا
يفسد فسادًا آخر؛ فإن استحالت الرطوبة هيئةً رديئةً
تُزيل صلوحها للانتفاع بها في الغاية المقصودة، فذلك هو
العفونة. والنهوءة يفعلها بالعرَض مانع فعل الحر، ومانع
فعل الحر هو البرودة.»
٤٧
إذَن «النهوءة مادتها جسم رطب، وفاعلها برد أو عدم
حر، وصورتها بقاء الرطوبة غير مسلوك بها إلى الغاية
الطبيعية؛ فصورتها عدم النضج، وغايتها الغاية العرضية
التي تُسمى الباطل.»
٤٨
كذلك فقد عاد ابن سينا وناقَش حالة الجمود أو التجمد التي
تعرض للمادة التي سبق وأن ناقشها المفيدروس، لكن بشيء من
التفصيل والتوضيح وفق مفاهيم الحركة والسكون والتمدد
والتقلص؛ فإذا كان حجم المادة يعتريه الزيادة في حال
تعرُّضه للحرارة، فإن حجم المادة سيقلُّ لدى التعرض للبرودة،
وما بين التمدد والتقلص تتعرض المادة للتكاثف
والتخلخل.
قال ابن سينا: «قد قيل إن اللهيب والغليان لما كان كل واحد
منهما إفراط حرارة، وكان الجمود إفراط برد، وكان الجمود خاصة
البارد والرطب، فكذلك اللهيب والغليان خاصة الحار اليابس … وذلك
لأن الغليان ليس لإفراط حر، بل إن كان ولا بد فهو حركة تعرض
للرطب عن الحر المفرط؛ ولا اللهيب إفراط الحر، بل إضاءة
تعرض عن إفراط الحر في الدخان؛ فإن سُمي اشتداد الحر لهيبًا
فلا مضايقة فيه. والجمود ليس إفراط برد، بل أثر يعرض من إفراط
البرد لا في كل جسم بل في الرطب. ولا الجمود ضد الغليان؛ لأن
الغليان حركة إلى فوق، وتُضادها الحركة إلى أسفل إذا كانت
تضعه، فأما الجمود فليس هو حركة؛ فلعل الواجب أن يُجعل
الجمود اجتماع المادة إلى حجم صغير مع عصيان على الحاصر
المشكل، والغليان انبساطها إلى حجم كبير مع ترقُّق
وطاعة لحصر المشكل؛ فإن كان كذلك الخلاف بينهما ما بين
التكاثف والتخلخل.»
٤٩
ثم ينتقل بنا ابن سينا في كتابه «الإشارات والتنبيهات» إلى
مرحلة جديدة، وهي تدوين جملة من الملاحظات الرصدية الخاصة
بظاهرتَي الحرارة والبرودة، وسيُساعدنا أحد أتباعه — وهو نصير
الدين الطوسي (توفي ٦٧٢ﻫ/١٢٧٤م) — في شرح وتحديد مقصده
من كل ملاحظة دوَّنها.
(أ) الحالات الحدية للمادة
يضع لنا ابن سينا أربع حالات حدية يمكن أن تبلغها
المادة حسب تعرضها للحرارة والبرودة.
قال ابن سينا إن «الجسم البالغ في الحرارة بطبعه هو
النار، والبالغ في البرودة بطبعه هو الماء، والبالغ في
الميعان هو الهواء، والبالغ في الجمود هو الأرض.»
٥٠
وقد علَّق نصير الدين الطوسي على هذه العبارة بقوله إن
ابن سينا «بدأ بالنار، فنبَّه بقوله «البالغ في الحرارة»
على كون الحرارة كيفيةً تشتد وتضعف، لا صورةً تقوم
بجوهرها الذي لا يختلف. وأشار بقوله «بطبعه» إلى مصدر تلك
الحرارة؛ أعني الصورة النوعية. وأورد القضية في صيغة تدل
على مساواة طرفَيها ليعلم أن هذا القول مميز للنار عما
سواها، ومعرِّف لماهيتها.»
٥١
ويُتابع الطوسي شرحه فيما يتعلق بالبرودة فيقول: «وأما
برودة الماء فقد ذهب قوم كثير — منهم الشيخ أبو البركات
٥٢من المتأخرين — إلى أن الأرض أبرد من الماء
لأنها أكثف، وإن كان الإحساس ببرودة الماء لفرط وصوله
إلى المسام والتصاقه بالأعضاء أشد، كما أن النار
أسخن من النحاس المذاب، مع أن الإحساس به أشد.»
٥٣
(ب) الحالات النسبية
ثم يعقد ابن سينا مقارنات بين حالات المادة؛ فالهواء
مقارنةً بالماء ألطف، ويمكن للماء بلوغ حالة الهواء
إذا تم تبخيره وتغيير حالته.
قال ابن سينا: «والهواء بالقياس إلى الماء حارٌّ لطيف،
يتشبه به الماء إذا سخن ولطف.»
٥٤
وقد علَّق الطوسي أن ابن سينا قال «والهواء بالقياس إلى
الماء حارٌّ»، ولم يقل «إنه حارٌّ مطلقًا»؛ لأنه بالقياس إلى
النار ليس بحار؛ إذ كان البالغ في الحرارة هو النار.
ولم يمكن أن يقول «بالقياس إلى الأرض» لأنه لم يبين
بعدُ كيفيتها الفعلية. واستدل على حرارة الهواء بأن الماء
يتشبه به، إذا سخن ولطف، أن تخلخل. وتشبُّهه به
تبخُّره وتصاعده في حيزه، لا تكوُّنه هواء؛ لأن ذلك لا يكون
تشبهًا. والبخار هو أجزاء صغيرة مائية كثيرة مختلطة
بالهواء. ووجه الاستدلال أن الحرارة تقتضي الخفة
واللطافة، والبرودة تقتضي الثقل والكثافة. وبالتجربة،
فإن ما هو أسخن فهو أخف وألطف، وما هو أبرد فهو أثقل
وأكثف. ولو لم يكن الهواء أسخن من الماء، لم يكن أخف
وألطف منه، لكنه أخف وألطف، فهو أسخن.»
٥٥
كذلك فإن «الأرض إذا خُليت وطباعها، ولم تُسخَّن
بعلة، بردت.»
٥٦
فعلَّق الطوسي: «وهذا الاستدلال على برودة الأرض، وهو
ظاهر. والعلة المسخنة هي أشعة العلويات، ثم
المسخنات السفلية، كالرياح الحارَّة وغيرها.»
٥٧
وقال ابن سينا: «وإذا خمدت النار وفارَقتها
سخونتها، تكون منها أجسام صلبة أرضية يقذفها
السحاب الصاعق.»
٥٨
فعلَّق الطوسي: «يريد إثبات يبوسة النار، واستدل عليها
بالصاعقة؛ فإنها — على ما قال ها هنا — تتولد من أجسام
نارية فارقتها السخونة، وصارت لاستيلاء البرودة على
جوهرها متكاثفة.»
٥٩
(ﺟ) الحالات العكسية
من شأن التغيرات الفيزيائية السير باتجاهَين، فيمكننا
تحويل الماء إلى بخار بتسخينه، ويمكن تحويل البخار إلى
الماء من خلال تكثيفه على سطح بارد، ولا يمكن أن
نفسِّر ظاهرة التكاثف على أنها ارتشاح للماء من داخل
الوعاء إلى خارجه. وقد أدرك ابن سينا طبيعة هذا التغير
عندما كان يتحدث عن الطبيعة المادية المشتركة بين الهواء
(بخار الماء) والماء نفسه، فقال: «قد يبرد الإناء
بالجمد، فيركبه ندًى من الهواء، كلما التقطته مُد
إلى أي حد شئت، ولا يكون ليس إلا في موضع الرشح. ولا
يكون عن الماء الحار، وهو ألطف وأقبل للرشح، فهو إذَن
هواء استحال ماءً.»
٦٠
هنا علَّق الطوسي تعليقًا مطولًا على هذه الإشارة بأن
ابن سينا يشير فيها ضمنًا إلى وجود طبيعة مادية مشتركة بين
بخار الماء والماء، ومثال التكاثف معروف للناس؛ لذلك
أورده ابن سينا ليسهل فهمه. وفي شرح الطوسي لفتةٌ
مهمة، وهي أن تشكُّل طبقة بخار الماء على السطح
البارد يوقف عملية التكاثف حتى يتم إزالتها؛ ومن
ثَم تعود وتتشكل طبقة جديدة من الهواء المحيط. وفي
حال كان الوعاء حارًّا فإن عملية التكاثف تتوقف.
لكن الطوسي أخطأ عندما رفض احتواء الهواء في الصيف
على بخار الماء، فنحن نعلم حاليًّا أن محتوى بخار الماء في
الهواء عندما تكون نسبة الرطوبة ١٠٠٪ تتفاوت من ١٩٠ جزءًا
من المليون في درجة الحرارة (−٤٠° مئوية) إلى ٤٢٠٠٠ جزء
في المليون في درجة الحرارة (٣٠° مئوية).
٦١ وهذا يعني عكس ما قال؛ أي إن هواء الصيف يحوي
على بخار ماء أكثر من هواء بقية الفصول.
قال الطوسي: «يريد إثبات الكون والفساد في العناصر،
والاستدلال به على اشتراكها في الهيولى، فنقول: تغيرات
الأجسام بصورها لا تقع في زمان؛ لأن الصور لا تشتد ولا
تضعف، بل تقع في آن، وتُسمى فسادًا أو كونًا، كما مر …
والشيخ بدأ بالازدواج الذي بين الهواء والماء؛ لأن الكون
والفساد بينهما أظهر من الباقية. وهو يشتمل على نوعين؛
أحدهما تكوُّن الهواء من الماء، والثاني عكسه. وكان
الأول مشهورًا لكثرة المشاهدة؛ فإن انفصال الأبخرة عن
الأجسام الرطبة — عند تأثير الحرارة فيها، وانتقاصها بسبب
ذلك — ظاهر. فإن قيل: البخار يشتمل على أجزاء مائية،
قلنا: نعم، وعلى أجزاء هوائية أيضًا لم تكن فيه؛ لأن
الهواء لا يستقر في الماء، بل حدث وانفصل بالغليان
وغيره. فلشهرة هذا النوع لم يذكره الشيخ.
وأيضًا ثبوت نوع واحد من النوعين المتعاكسين يكفي
في إثبات كون الهيولى مشتركًا، وهو يدل على جواز وجود
النوع الآخر؛ فلذلك اقتصر الشيخ من هذا الازدواج على نوع
واحد، وهو بيان تكون الهواء ماءً، فاستشهد عليه بشيئين:
- أحدهما: الندى الحادث على ظاهر الإناء إذا برد
بالجمد، وأشار إليه بقوله: «قد يبرد
الإناء بالجمد فيركبه ندًى من الهواء.»
وذلك لأن الندى الذي يوجد هناك إما أن
يتكون من الهواء، وهو المطلوب، وإما ألا
يتكون منه، بل إما أن يجتمع من الهواء
الطائف به على ما ذهب إليه منكرو الكون
والفساد بين الهواء والماء، كالشيخ أبي
البركات وغيره، أو يترشح مما في داخله.
والأول باطل؛ لأن الهواء الطائف بالإناء
لا يمكن أن يشتمل على أجزاء كثيرة من
الماء خصوصًا في الصيف؛ فإن الأجزاء
المائية — إن كانت باقية — فقدتنا جدًّا،
لفرط حرارة هوائية، ولا تبقى مجاورة
للإناء. وعلى تقدير بقائها هناك، يلزم
أحد ثلاثة أشياء:
- إما نفاد تلك الأجزاء إذا تواتر
حدوث الندى بعد تنحيته من الإناء مرة
بعد أخرى، فيقع حصوله على الإناء مع كون
الإناء بحاله الأولى.
- وإما تناقصها، فيكون حصوله في كل
مرة أنقصَ مما كان قبلها.
- وإما تراخي أزمنة حصولها، فيكون
بين كل حصولَين زمان أطول مما بين
حصولين قبلهما. وذلك على تقدير أن
تجتمع الأجزاء التي تكون في هواء أبعد
من الإناء إليه، مع أن ذلك بعيد جدًّا؛
لأن تلك الأجزاء الصغيرة — مع جذب حرارة
الهواء إياها — لا تتمكن من خرق حجم
كبير من الهواء.
ولكن الوجود يخالف جميع ذلك؛ لأنا
نرى حدوث الندى مرةً بعد أخرى على وتيرة
واحدة، بشرط أن يُنحى من الإناء ما حدث
عليه، ويكون الإناء على حاله من التبرد.
وأشار الشيخ إلى ذلك بقوله «كلما لقطته،
مُد إلى أي حد شئت».
وقيل على ذلك: إن كانت برودة الإناء
مقتضيةً لفساد الهواء المحيط بالإناء،
فوجب أن يصير كل ذلك الهواء ماءً، ولا
محالة يسيل الماء حينئذٍ، ويتصل به هواء
آخر، ويصير أيضًا ماءً، إلى أن يجري
الماء جريانًا صالحًا. وإذ ليس كذلك،
فعلم أنه حدث من أجزاء مائية قليلة
المدد.
وأجيبَ عنه بأن جرم الإناء، لصلابته، لا
يتكيَّف بالكيفيات الغريبة سريعًا، وعند
التكيف تحفظ الكيفية بطيئًا؛ فإذا
ألحَّت عليه القوة المكيفة اشتد
تكيُّفه بها فوق ما يشتد تكيُّف
غيره.
ولذلك ربما توجد الأواني الرصاصية
المشتملة على المائعات الحارَّة أسخن من
تلك المائعات؛ فالإناء المذكور لشدة
تبرُّده يفسد الهواء الطائف به،
والماء، لسرعة تكيُّفه بالكيفيات الغريبة
يحيله الهواء الطائف به ظاهره عن
برودته الشديدة سريعًا، فلا يفسد
الهواء ما دام على سطح الإناء ماء، أما
إذا تنحى عنه، واتصل الهواء بالسطح، عاد
إلى فساده.
- والثاني: ويقال: الندى يترشح مما في داخل الإناء،
وهو أيضًا باطل لوجوه:
- أحدها: أن الندى قد يوجد من غير
أن يكون فيه ماء، بل بسبب وجود الجمد
الذي لم يتحلل بعد.
- والثاني: أن ذلك يقتضي ألا يوجد
الندى إلا في موضع الرشح، لكن ليس الحكم
ألا يوجد إلا في موضع الرشح مطابقًا
للوجود؛ فإنه يوجد فوق ذلك الموضع. وأشار
الشيخ إلى هذا الوجه بقوله «ولا يكون ليس
إلا في موضع الرشح»، فدلَّ على قوله؛ على
أنه لم يمنع وجود الندى عن الرشح، بل منع
اختصاصه بكونه من الرشح فإن هذه الصيغة
تفيد هذه الفائدة.
- والثالث: أن الماء إذا كان
حارًّا، وجب أن يوجد الرشح أيضًا، بل
ينبغي أن يكون الرشح أكثر؛ لأن الحار
ألطف وأقبل للرشح لرقة قوامه، وليس
كذلك. وأشار إلى ذلك أيضًا بقوله «ولا
يكون ذلك من الماء الحار، وهو ألطف
وأقبل للرشح». ولما بطل الوجهان،
صرَّح بالنتيجة وقال: «فهو إذَن هواء
استحال ماءً».»٦٢
(٨) البِيروني (القرن ٥ﻫ/١١م)
أراد أبو الرَّيحان البِيروني (٤٤٠ﻫ/١٠٤٨م) أن يستشفَّ رأي
معاصره الأصغر سنًّا منه، ابن سينا، في مسألتين تتعلقان
بالبرودة، هما تقلص الأجسام لدى تعرُّضها للبرودة وطوفان
الجليد على سطح الماء، ولا يغرق مع أنه أصلب من الماء.
الواقع، لقد أراد البيروني من خلال هاتين المسألتين أن يقيم
الحجة على عدم قدرة النظرية الأرسطية على تفسير الظواهر
الفيزيائية؛ ولذلك فإننا نجد ابن سينا يضيق ذرعًا
بالبيروني، فيطلب من تلميذه أبي عبد الله محمد بن عبد الله
بن أحمد المعصومي (توفي ٤٦٠ﻫ/١٠٦٠م) أن يتابع الرد
على البيروني.
(أ) مسألة البيروني الأولى
قال فيها البيروني متسائلًا: «إذا كانت الأجسام تنبسط
بالحرارة وتنقبض بالبرودة، وكان انصداع القماقم
الصيَّاحة وغيرها لأجل ذلك، فلمَ صارت الآنية تنصدع
وتنكسر إذا جمد ما فيها من الماء إلى آخر الفصل.»
٦٣
فردَّ عليه ابن سينا: «إن من نفس المسألة يمكن أن يخرج
لها جواب؛ فإنه كما أن الجسم لما انبسط عند التسخن
طلب مكانًا أوسع فشقَّ القمقمة، كذلك الجسم إذا انقبض
عند التبرد وأخذ مكانًا صغيرًا كاد أن يقع الخلاء في
الإناء، فشقَّ وانصدع لاستحالة ذلك؛ ولهذا من الطبيعة
وجوهٌ غير هذا، وهي العلة لأكثر ما يقع من هذا، ولكن فيما
ذكرنا كفاية في الجواب.»
٦٤
لكن البيروني اعترض على هذا الجواب وقال: «لو كان
الانصداع في القماقم إلى داخلها لأوشك أن يكون ما ذكرت،
ولكن الأمر على خلافه، فإنها تنصدع إلى خارجها كالذي يُكلَّف
حمل ما لا يُطيق ولا يسع.»
٦٥
هنا طلب ابن سينا من تلميذه المعصومي أن يرد على
البيروني فقال له: «أما اعتراضك على انصداع القمقمة أنه
يجب أن تنصدع إلى داخل إن كان لأجل الخلاء فخطأ؛ وذلك أن
علة الانصداع حاصلة من داخل؛ لأن الماء إذا تماسك
وجمد في القمقمة وكاد يبقى بينه وبين القمقمة مكانٌ خالٍ،
تشوَّق ذلك المكان إلى متمكن لاستحالة كونه خاليًا،
فأوجب ذلك التشوق الطبيعي صدع القمقمة؛ على أنه لا
فرق في الحس بين الصدع الحادث من داخل ومن خارج،
وفي كلا الحالين يكون من خارج أكبر وأفتق؛ لكون
السطح الخارج أعظم من الداخل. وعلى أن البرودة
المفرِطة في الأجرام إذا سرت يبستها وقبضتها،
وأحدثت فيها شقًّا كما يظهر في شدة البرد من الانشقاق
في الأرض في الجمد.»
٦٦
ملخص الحوارية السابقة أن البيروني قال: إذا كانت
الأشياء تتمدد بالحرارة وتتقلص بالبرودة، فلمَ تنصدع
القوارير إذا جمد الماء فيها؟
فأجاب ابن سينا أن التقلص يستدعي إحداث خلاء أو
فراغ ما في الوعاء، ولما كان إحداث الخلاء محالًا فقد
سبَّب ذلك تصدع الإناء وكسره. ونحن نعلم حاليًّا أن
الماء الصافي يبلغ كثافته الدنيا في الدرجة (٤° مئوية)،
فإذا هبطت برودته عن هذه الدرجة ازداد حجمه، وكذلك إذا
سُخِّن وزادت حرارته على (٤° مئوية) تمدَّد؛ لذلك
يعود سبب تصدُّع الإناء إلى ازدياد الحجم بالتجمد. ومن
الطريف اعتراض أبي الريحان على جواب ابن سينا؛ إذ لو كان
السبب في التصدع هو الخوف من ظهور الخلاء للزم أن
يكون الانصداع إلى الداخل، ولكن الأمر على خلافه، وهو
أن الانصداع يقع في الخارج.
إنه عندما تزداد برودة الماء يجمد ويزداد
تمدده، ويبدأ بترتيب بلوراته من جديد من السطح ونحو
العمق؛ نظرًا لقلة كثافة بلورات الجليد. كما أن البلورات
المتجمدة تشغل حيزًا أكبر من الحيز الذي كانت تشغله
من قبل.
٦٧ وهو ما يفسِّر لنا انكسار القنينة عند
تجمُّدها.
(ب) مسألة البيروني الثانية
تساءل البيروني: «لمَ صار الجمد يطفو على الماء وهو
أقرب إلى الأرضية لتراكم البرودة فيه وانحجاره؟»
٦٨ فأجابه ابن سينا: «ذلك لأن الماء عند جموده
تنحصر فيه أجزاء هوائية تمنعه من السروب إلى الأسفل.»
٦٩
أيضًا تدخل المعصومي عندما لم يقتنع البيروني
بالجواب المقتضب لابن سينا فقال: «أما طفو الجمد
على الماء، مع كونه أبرد، فلأجزاء هوائية تخلَّلته.
وربما كان من الجمد ما يرسب، إذا كان مستحصفًا صلبًا
قليل أجزاء الهواء. والدليل على أن في الجمد أجزاءً
هوائيةً أنه يحتمل الرص، وما لم يكن في الجرم منافذ
كثيرة فيها هواء متخلل فلا يمكن أن يرص. وأما قولك
متى يحصل فيه الهواء فإنه يحصل وقت الجمد؛ لأن الهواء
البارد هو الذي يجمده. وأما حديث الحباب فلو نفخ
طافيًا على الماء لم يرسب، وطفا للأجزاء الهوائية فيه؛
فأما إذا لم ينفخ فإنه يكون حكمه حكم الماء
الخارج. وأما قولك كيف يدخل الهواء الآنية المضمومة
الرأس فيجب أن يعلم أن للهواء مسلكًا من ذلك، ثم إن
كان لا يدخله هواءٌ قط لم يجمد ذلك الماء أيضًا. وفي
كتاب «الآثار العلوية»، إذا نظرت فيه شفاء عن هذه الشكوك.
والله أعلم.»
٧٠
وخلاصة الحوار السابق أن البيروني قال: لماذا يطفو
الجليد على الماء مع أنه أجزاء صلبة كأنها
حجر؟
فأجاب ابن سينا أن الماء عندما يتجمد تنحصر فيه أجزاء
هوائية تمنعه من الرسوب إلى أسفل. وهذا السؤال يتعلق بشكل
مباشر بالمسألة السابقة، حيث إن كثافة المادة تنقص
والحجم يزداد، فيطفو الجليد على الماء نظرًا لتأثير
دافعة أرخميدس عليه.
طبعًا جواب ابن سينا لم يكن كافيًا، لكن فيه شيء من
الصحة؛ حيث إن الهواء المنحل في الماء إذا جمد
الماء يعطي فقاعات أو حبابًا هوائيًّا ينحصر فيه. وإذا
سخن الجمد أو نفذ إليه شعاع شمسي سكنته حبات
ماء سائل يقال له باللغة العربية «سيع» تقع في قاعدة
التبلور الصلب؛ فإذا برد الجليد مرةً أخرى انتقل
«السيع» المتولد في الشقوق الدقيقة نحو الجانب
الأقل برودةً على حين بخاره — وقد انعزل في الجليد —
يأخذ شكل نجم ثلجي. وكما نعلم فإن الهواء المنحل في
الماء السائل أغنى بالأكسجين وبالغازات النادرة وبغاز
الفحم من هواء الجو.
٧١
يقول الباحث عبد الكريم اليافي: «إن الماء لا يجمد مع
مادة أخرى كانت ما كانت، ما عدا حمض الفلور والأمونياك،
وعندئذٍ ينشأ ما نستطيع أن ندعوه الجمد المدوف.
ويتجمد الماء الملح ببطء شديد كأن التجمد يتحامى
القطرات الملحة؛ فإذا ذاب وانساع غدا الماء الذائب أو
السيع ماءً عذبًا، وهذه إحدى الطرائق في تحلية الماء
الملح. ونلاحظ هنا استعمال البيروني لفظ الجمد، وهو
لفظ عام يطلق على الماء الجامد؛ ويميز العلم تسعة
أشكال له؛ فمنه الجليد والثلج والبرد والصقيع
والضريب والخشف أو الخشيف وغير ذلك. ويتبع شكل
الجمد مقدار الضغط الواقع عليه أيضًا، وإنما ذكرنا هذه
الألفاظ لبيان سعة اللغة واستطاعتها تلقي المصطلحات
الحديثة التي نترك اختيار مقابلها للباحثين المشتغلين في
هذا المجال.»
٧٢
لقد كانت الحوارية السابقة إحدى أرقى النقاشات العلمية
العربية في مجال الفيزياء؛ فالهدف منها هو الوصول إلى
الحقيقة وليس أي شيء آخر، وهي تذكِّرنا بحوارٍ
جرى بعد ٩٠٠ سنة بين ألبرت أينشتاين
A. Einstein (توفي ١٩٥٧م)
ونيلز بور
N. Bohr
(توفي ١٩٦٢م)، وذلك في النصف الأول من القرن العشرين،
حول مفاهيم النسبية العامة والميكانيك الكمومي.
٧٣
أخيرًا؛ فقد حاول البيروني أن يفسِّر لنا سبب ازدياد
شدة الجو البارد في آخر الفصل فيقول: «ولا يتعجبن
متعجِّب من قوة البرد عند آخره واهتياجه عند انصرافه؛ فإن
ذلك للحر مثله، كما سنذكر، ويوجد أمثاله في
الطبيعيات المعتادة كالسراج؛ فإنه إذا قرب من
الانطفاء العارض له من فناء مادة الدهن توقَّد
واشتد ضوءها دفعات متواليات شبيهة بالاختلاج.»
٧٤
(٩) أبو رشيد النيسابوري (القرن ٥ﻫ/١١م)
أعاد أبو رشيد النيسابوري (توفي نحو ٤٤٠ﻫ/١٠٤٨م)
مناقشة السبب في تصدُّع الوعاء الذي يتجمد فيه الماء،
وقد اعترض وحاول أن يفنِّد قول من يفسِّر سبب تصدُّع الإناء أنه
نتيجة تقلص الماء وحدوث خلاء شديد يؤدي إلى دخول
الهواء من الخارج.
قال النيسابوري: «وثالثها هو أنهم قالوا: قد علمنا أن
الجرة إذا جمد ما فيها فإنها تنكسر، وإنما وجب ذلك لأن
الماء بالجمود يجتمع، فيكاد يخلو الموضع، فتنشق الجرة
ليدخل الهواء إلى ذلك الموضع؛ ولهذا يكون انشقاقها في وقت
جمود الماء.»
٧٥
وقد ذكر النيسابوري أن تفسيرهم غير صحيح؛ لأنهم لم
يأخذوا بعين الاعتبار عوامل أخرى هي وجود مادة أخرى غير
الماء داخل الجرة، مثل السمن، أو اختلاف المادة
المصنوعة منها الجرة؛ فالجرة المصنوعة من النحاس
تختلف عن المصنوعة من الطين.
لذلك يمكننا تفسير تصدُّع الإناء — حسب النيسابوري — بسبب
ازدياد ثقل وكثافة الماء بعد تجمده؛ هذا الثقل يجعل
الوعاء يتصدع تحت تأثير قوة ثقله. على سبيل المثال: إذا كان
لدينا قطعة قماش رقيقة ووضعنا عليها شيئًا من الطحين فإنها
لا تتأثر بقوة ثقله، لكننا إذا وضعنا عليها مجموعة من الأحجار
فإنها ستتمزَّق بتأثير ثقل الأحجار.
قال النيسابوري: «وأما ما قالوه من حديث الجرة فباطل؛
لأنه لو كان كذلك لوجب أن يفترق الحال بين أن يجمد الماء في
الجرة وأن يجمد السمن فيها، ولا بين أن تكون الجرة من
طين وأن تكون من شبَّة أو نحاس أو رصاص لأجل ما ذكروه
من العلة.
ثم ما ذكروه من الاجتماع والانقباض لا معنى له، وعلى مذهبهم
العالم ملاء، فكيف يتأتى الاجتماع والانقباض أشد مما
كان إلا أن نزيد بذكر المداخلة؛ فهو أبين فسادًا من
الأول.
ثم إن العلة في انكسار الجرة فلأن الماء يثقل بالجمود؛
لأنه تحصَّل فيه اعتمادات، فيحصل تأثير تلك الاعتمادات على
صفحة الجرة فيُفرقها؛ فكون سبيل ذلك سبيل كر من ثوب
رقيق، فإنه إذا حصل فيه الدقيق لا ينفتق، ولو جعل بدل
الدقيق الأحجار فإنه ينشق لما في الأحجار من الثقل.»
٧٦
ثم يضع النيسابوري فرضًا آخر لتصدع الوعاء، هو حصول
تداخل بين أجزاء الطين وأجزاء الماء، فعندما يحدث تجمُّد
للماء فإنه يتقلص وحالةً من التوتر والتدافع بين هذه
الأجزاء تؤدي في النهاية إلى التصدع.
قال النيسابوري: «ويمكن أن يقال إنه إنما ينشق لأن
الماء يتداخل فيما بين أجزاء الطين فتلتزق أجزاء الماء
بأجزاء الطين، فإذا جمد الماء — وقد تشبَّث بأجزاء الطين — فقد
يحصل هناك انقباض وتشنيج بأن تتدافع بعض الأجزاء إلى
البعض عند الجمود، فيحصل هناك تفريق وانشقاق.»
٧٧
والدليل على صحة فرضيته السابقة ما نراه من تشقق في الطين
عندما يجف في الأراضي الزراعية. «وهذا ظاهر بيِّن في
الطين الرطب إذا جفَّ ويبس، فإنه ينشقُّ لما يحصل هناك من
الانقباض والانزواء. ولأجل أن الماء إذا تداخل بين أجزاء
الطين، وهي تراكيب أجزاء الجرة، فإذا ضرب الهواء عليها
فرَّقها، وهذا ظاهر أيضًا فيما نشاهده من الأجسام مما يحصل
فيها من الانشقاق عند ضرب الهواء البارد عليها، فيجوز أن يكون
كل واحد من هذه الأشياء علة، ويجوز أن تكون العلة واحدةً
منها، ويجوز أن تكون العلة في بعض المواضع كذا وفي بعضها
كذا، والله المستأثر بعلم ذلك.»
٧٨
وقد طُرح سؤالٌ آخر: «قالوا قدِّر عرفنا أن جرة لو كان
فيها ماء ثم جمد الماء كله لكانت الجرة تنكسر وتنشق، وإنما
تنكسر لأجل أن الماء بالجمود تنقبض أجزاؤه؛ فلو لم تنكسر الجرة
لكان هناك خلل لأنه قد لا يحصل عند جمود الماء فيه هواء، غير
أنه لما لم يجز الخلل انكسرت الجرة عند جمود الماء فيه.»
٧٩
فأجابهم النيسابوري مؤكدًا أن السبب الرئيس لتصدع
الوعاء هو ازدياد ثقله بعد تجمُّده وتأثيره في نقطة
محددة منه تكون بداية التصدع، لكن هذا التأثير يتلاشى
عندما يكون الوعاء ثخينًا ومادته صلبة
متماسكة.
«اعلم أن انقباض أجزاء الماء عند الجمود لا يصح على قولهم؛
لأن الماء إذا لم يكن جامدًا لا تتخلل أجزاؤه أماكن
فارغة كما لا تتخلل إذا جمد، فعلى أي وجه يكون
منقبضًا؟ فإن قالوا بأن يصير أقل مما كان فقد أبطلناه
فيما تقدم، ثم يقال لهم ليست العلة في انكسار الجرة ما
ذكرتموه، بل لأجل أن الهواء إذا برد فإنه يكون كثير
الاعتماد لأنه يكون كثير الحركة، ويتبين ذلك من حاله
فيؤثر في ذلك الكسر بما فيه من الاعتماد مع ما يحصل في
الماء من الثقل والاعتماد على موضع منه عند اجتماع أجزائه
بالجمود، فيكون التأثير أكثر من أن تكون أجزاءً منبسطة،
وأن يكون ما فيه من الثقل كالمنقسم على كل الجرة؛ فلذلك
يؤثر في انكسار ذلك الموضع، ولو كان الأمر على ما ذكره لكان
لا فرق بين الحديد والزجاج في الانكسار إذا جمد فيه الماء
كله، ومعلوم أن الآنية إذا كانت شديدة الصلابة وكانت
ثخينةً غليظة فإنها لا تنكسر، وإن جمد الماء فيها فقد
بان أن يكون دلالةً على جواز الخلاء أولى.»
٨٠
(١٠) مؤيد الدين الطغرائي (القرن ٦ﻫ/١٢م)
قد يكون غريبًا أن يأخذ الكيميائي مؤيد الدين الطغرائي
(توفي ٥١٣ﻫ/١١١٩م) بنظرية أرسطو في تعاطيه مع ظاهرتَي
الحرارة والبرودة، مع أنه يعتمد على الأسس العلمية التي وضعها
جابر قبل ذلك بنحو ٣٠٠ سنة.
قال الطغرائي: «وأما البرودة فإنها ضد الحرارة في التعريف
والفعل، فنقول إن البرودة كيفية من شأنها جمع المختلفات وتفريق
المؤتلفات عكس الحرارة كما ذكرنا؛ وذلك أنها إذا سلطت على
المركب من جسمَين أحدهما حارٌّ يابس والآخر حارٌّ رطب؛ فإنها تجمع
بينهما وتخلطهما ببعضهما بعضًا، ولا تزال مع ذلك تفرِّق
الأجزاء المؤتلفة من كلٍّ منهما وتبددها وتنشرها، فما دامت
البرودة مسلطة على مثل ذلك المركب الذي ذكرنا فإنها
تختلط الأضداد التي فيه بعضها ببعض، وتنشر أجزاء كلٍّ منهما
بالتفريق والتبديد بحيث يستحيل قل أحدهما على الآخر ويمنع
جمع أجزاء أحدهما مع بعضها بعضًا؛ مثال أن الجسم الدهن عقب
انحلاله بالحرارة عند التبريد يتحقق فيه اجتماع أجزائه وانضمام
بعضها، بل إن الجسم القابل للتكليس والاحتراق إذا كان ملاصقًا
للجسم البارد الرطب كالماء فإن الحرارة إذا سُلطت عليه لا
تقدر أن تتمكن من فعلها فيه، وإنما ذلك لأن الحرارة تريد أن
تُفكك أجزاءه والبرودة التي مسَّته تزيد فيه جمع أجزائه
وإبقاءه على حالة التركيب؛ وبذلك يتَّضح أن البرودة وفِعلها ضد
فعل الحرارة، والحرارة ضد البرودة في الفعل؛ فإن النار
العنصرية المشاهدة لا تحرق شيئًا إلا بشرط ألا تمسَّه
برودة أصلًا؛ وذلك كله يشد لما ذكرناه.»
٨١
(١١) ابن باجة (القرن ٦ﻫ/١٢م)
ناقَش ابن باجة (توفي ٥٣٣ﻫ/١١٣٨م) التضاد في فعل الجسمَين
الحار والبارد نظريًّا؛ فالجسم الذي نراه حارًّا كان في
سابق عهده باردًا، والمادة التي لديها استعداد لاكتساب
الحرارة يكون لديها أيضًا استعداد لقبول البرودة. ويعزو ابن
باجة السبب في حدوث التضاد بين الحار والبارد إلى
المستقيم؛ فهو عنصر هندسي مُتمم وليس تامًّا مثل
الدائرة.
قال ابن باجة: «فأما الحارُّ وقوة البارد، فإن وجوده حارًّا
هو سبب كونه باردًا بالقوة، ومن أجله كان ذلك لأن نسبة
الحار والبارد إلى المادة نسبة واحدة؛ فمن الجهة التي تقبل
الحار؛ فمن تلك الجهة تقبل البارد بعينها، وهما متغايران.
ولو قبلتهما معًا لما بقي هنالك تغاير أصلًا، وإنما كانا
متغايرين لأن المادة التي لهما تقبل الاستقامة، والمستقيم هو
السبب الأول في التضاد؛ لأن المستقيم هو مُتمم وليس بتام
بذاته؛ فلذلك له وسط وطرفان لأنه متصل، وكل متصل فهو ذو
أجزاء — إلا أن هذا القول يليق بالنظر في سبب وجود الأضداد — وليس للقوة المتحركة التي
هي له معنًى يكون به أكثر أو أقل،
إلا أن تكون في جسم أعظم أو أصغر.»
٨٢
(١٢) ابن ملكا البغدادي (القرن ٦ﻫ/١٢م)
يَقرن هبة الله ابن ملكا البغدادي (توفي ٥٦٠ﻫ/١١٦٥م)
بين مفهومَي الحرارة والبرودة والضوء والظلام، معتبرًا أن
البرودة بمثابة الظلام، مع اختلاف واحد بينهما أن للبرودة
أثرًا فعالًا؛ فالجسم البارد يُبرد ما يجاوره في حين
أن الظلام لا يجعل الأشياء التي يقع عليها ذات لون
أسود.
«إن البرودة ليست من المعاني الوجودية، وإنما هي معنًى
عدمي بالقياس إلى الحرارة كالظلمة للنور. وما قالوا حقًّا؛
لأن الأعدام لا تفعل، فإن الظلمة لا تحيل غيرها إلى
طبعها، والبرودة تفعل؛ فإن البارد يُبرد كما أن الحارَّ يُسخن.»
٨٣
ولتفسير ظاهرة تكاثف الماء التي تحدث حول كأس بارد،
افترض أبو البركات وجود أجزاء لطيفة مائية، وهو ما نُسميه
حاليًّا بخار الماء، وهي التي تكون محيطةً بالإناء البارد
وتتكاثف على سطحه الخارجي؛ فما يحدث هو أن جزيئات بخار
الماء الموجودة في الهواء تكون حارَّة، وعندما تُلامِس السطح
البارد للإناء فإنها تفقد حرارتها وتبرد وتثقل فتنزل
على أطراف الوعاء، ومع تراكم الكثير من الجزيئات التي
تبرَّدت تتشكل قطرات الماء.
الفكرة التي كان ابن ملكا مُحقًّا فيها، بخلاف ابن سينا
والطوسي، هو أن الهواء لا يحوي في معظمه بخار الماء، وإنما
كَمِّيته قليلة، وهي تتغير من فصل لآخر، وما يتكاثف على السطح
البارد هي القريبة منه، التي تنقص من تلك الكمية إذا ما
استمرَّت عملية التكثيف.
رأي ابن ملكا السابق أورده لنا مؤلفٌ مجهول في إحدى
المخطوطات التي عثرنا عليها في معهد المخطوطات في طوكيو: «فإنه
زعم (أي ابن ملكا) أن في الهواء الطائف بالإناء أجزاءً لطيفةً
مائية، لكنها لصغرها وجذب حرارة الهواء إياها لم تتمكن من
خرق الهواء والنزول إلى الإناء، فإذا برد الإناء الذي عليه
زالت السخونة من أجزاء المائية الصغيرة فتكثَّفت وثقلت فنزلت
واجتمعت على الإناء، وهذا أيضًا لأن الهواء الطائف بالإناء لا
يمكن أن يشتمل على أجزاء كثيرة مائية، لا سيما في
الصيف؛ فإن حرارة الهواء تبخرها وتصعدها، وعلى
تقدير بقاء شيء من تلك الأجزاء يلزم أحد أمور ثلاثة؛ إما
نفادها، وإما تناقصها، وإما تراخي أزمنة حدوثها، والكل خلاف
الواقع؛ وذلك لأن تلك الأجزاء إما على قرب من الإناء أو على
بعد منه، فإن كانت على قرب منه فإما أن ينزل الكل دفعةً
فيلزم نفادها في مرة واحدة، أو ينزل شيئًا فشيئًا على التساوي
فيلزم نفادها وانقطاعها إذا تواتر نزولها، ولها بعد التسخين
مرة بعد أخرى مع بقاء الإناء بحالته الأولى، أو على التناقص
فيلزم تناقصها، وإن كانت على بعد منه يلزم تراخي الأزمنة
لبعد المسافة، واعتُرض على ذلك:
-
أولًا لجواز أن يلحق تلك الأجزاء مد، أما
أبخرة الأرض فإنها متجددة دائمًا فيما وراء
الإناء، فلا يلزم شيء من تلك الأمور
الثلاثة.
-
وأما ثانيًا فبأنه يجوز أن يتحرك الأبعد إلى
المكان الأقرب في زمان حركته إلى الإناء مثلًا،
وإذا تحرَّك إلى الإناء ما كان على بعد ربع
ذراع منه تحرَّك الذي على بعد نصف ذراع منه
إلى مكانٍ ما كان على بعد الربع، وهكذا فلا ينفد
ولا ينقص بتراخي أزمنة النزول.
-
وثالثًا بالنقص بوجهين؛ الأول أنه إن كانت برودة
الإناء مُقتضيةً لانقلاب الهواء المحيط به ماءً
للَزِم أن يصير الهواء المحيط بذلك الماء أيضًا ماءً
بسبب برودة الماء، وكذلك الهواء المحيط بذلك الهواء
إلى أن يجري به جريانًا صالحًا، والمشاهدة تكذبه.
والثاني أنه لو كان برودة الإناء سببًا لانقلاب
الهواء ماءً لوجب أن تركيب الندى في جميع سطح
الإناء بلا فرجة، وإن كان جميعه في غاية البرودة
والهواء أيضًا متصلًا بجميعه فيلزم اتصال القطرات
بعضها ببعض، وليس كذلك، بل الراكب على سطح الإناء
قطرات منفصلة كحبات متفرقة. وأجيب عن الأول بأن
جِرم الإناء لصلابته يغيِّر تكيُّفه بالكيفيات الغريبة،
وعند تكيفه يشتد تكيفه بها ويحفظها بطنًا؛ ولذلك
ربما يوجد الأواني الرصاصية المشتملة على المايعات
الحارة أسخن من تلك المايعات؛ فالإناء المذكور
لشدة تبرده يفسد الهواء المحيط به، والماء
يضعف تبرده وسرعة تكيفه بالكيفية الغريبة
تحيله الهواء المحيط به غير برودته سريعًا فلا
يفسد الهواء ما دام على سطح الإناء ماء. وأما إذا
تأخَّر عنه واتصل الهواء بالسطح عاد إلى فساده. وعن
الثاني بأنه لا يلزم من إحالة جزء من سطح الإناء
الهواء الملاصق به إلى الماء إحالة كل جزء منه ما
يلاصقه لجواز أن يكون للبرد المحيط شرط لا يوجد
في كل جزء منه وإن لم نعلمه.»
٨٤
(١٣) ابن رشد (القرن ٦ﻫ/١٢م)
يعتبر ابن رشد (توفي ٥٩٥ﻫ/١١٩٨م) أن الحرارة والبرودة
ظاهرتان مؤثرتان في وجود الأشياء على ما هي عليه من بنية وشكل.
ويكون تأثير الحرارة في تكوين الأجسام أكبر من تأثير البرودة
التي تأتي في المقام الثاني الذي يقتصر على تعديل نِسب
الحرارة.
قال ابن رشد: «إنه قد تبيَّن هنالك أن الحرارة والبرودة هما
الكيفيتان الفاعلتان في الكون التي تُحرك المكون إلى أن
يكون ذا قوام وشكل وصورة، وأن الحرارة هي التي تفعل ذلك
أولًا وبالذات، والبرودة ثانيًا وعلى القصد الثاني. وإنما كان
ذلك كذلك لأن الحرارة هي التي تفعل في المكون الخلط أولًا،
ثم الطبخ ثم النضج والتمام والقوام والشكل، وذلك بعد أن نفى
الفضلة التي لا تصلح أن تكون جسدًا لذلك المكون عنه. وهي في
هذا المعنى تستعين بالبرودة؛ لأن الحرارة التي تفعل هذا هي
حرارة مقرَّرة معدَّلة، وتعديلها يكون بالبرودة. وأكثر ما
تستعين بالبرودة لإصلاح ما يلحق فعل الحرارة من الرخاوة،
والتليين الذي يلحق عن فعلها في المكون؛ فهي بالبرودة تصلح
لهذا المعنى.»
٨٥
ثم حاول ابن رشد توضيح أن علاقة التضاد التي بين الحرارة
والبرودة ليست مباشرة على مستوى المفاهيم، وإنما على مستوى
الأجسام؛ فالجسم الحارُّ عندما يصرف الحرارة عنه فهو
يحل مكانها البرودة، والعكس صحيح.
«والأضداد لا تقبل بعضها بعضًا، وإنما يقبلها الحامل لها على
جهة التعاقب، مثال ذلك أن الحرارة لا تقبل البرودة، وإنما
يقبل البرودة الجسم الحار بأن تنسلخ عنه الحرارة ويقبل
البرودة، وبالعكس.»
٨٦
أما عن كيفية تسبيب الشمس للحرارة والبرودة في الجو فإن
العملية تتم كما يأتي: عندما تميل أشعة الشمس مبتعدةً نحو
الجنوب فإن حرارتها تنخفض في الشمال؛ الأمر الذي يدفع
بالمواد ذات الطبيعة المائية للتشكل مثل الأمطار،
وعندما تصعد هذه الأشعة من الجنوب فإنها تسخن الشمال،
وهكذا دوالَيك تتكرر الحالة؛ فإذا كان الشمال باردًا كان
الجنوب ساخنًا والعكس صحيح.
قال ابن رشد: «إن الشمس إذا انحدرت إلى الجنوب قل تسخينها
في الشمال، فغلبت طبيعة الأسطقس المائي لغلبة البرودة، فاستحال
الهواء ماءً وكانت الأمطار، وإذا صعدت من الجنوب اشتد
تسخينها في الشمال فتتأيَّد طبيعة النار والهواء، ويكون فعلها
هذا دورًا ويتعادل؛ أعني إذا كان البرد في جهة الشمال
استحرَّت جهة الجنوب وبالعكس؛ أي إذا برد الجنوب استحرَّ
الشمال؛ ولذلك يكون شتاؤنا وصيفنا في جهة الجنوب؛ أعني في
الأقاليم التي بعدها من الشمس من تلك الجهة بعد
أقاليمنا، والصيف بعكس ذلك ها هنا، ويكون عنها في هاتين
الحركتين جنسان من البخار؛ أحدهما دخاني وهو حارٌّ
يابس، والآخر حارٌّ رطب أو باردٌ رطب.»
٨٧
(١٤) فخر الدين الرازي (القرن ٧ﻫ/١٣م)
رد الإمام فخر الدين الرازي (توفي ٦٠٦ﻫ/١٢٠٩م) على ابن
ملكا بجعله البرودة أحد معاني عدم وجود حرارة بالمطلق،
وقد أكَّد على فكرة أن البرودة درجة من درجات الحرارة التي
يمكن الإحساس بها.
قال الإمام: «منهم من جعل البرودة عدم الحرارة. وهو خطأ؛
لأنَّا نُحسُّ من البارد بكيفية مخصوصة، فذلك المحسوس ليس
عدم الحرارة؛ لأن العدم لا يُحَس به، ولا الجسم، وإلا
لكان الإحساس بالجسم حال حرارته إحساسًا بالبرودة.»
٨٨
وقال في موضع آخر: «[من القدماء] من جعل البرودة عدمًا
للحرارة، وهو باطل؛ لأن الجمود والتكثيف والسيلان والترقيق
أفعالٌ ثبوتية متقابلة، ولا يمكن استناد الواحد منها إلى
الجسمية المشتركة، ولا إلى أمر عدمي لامتناع استناد الأثر
الوجودي إلى المؤثر العدمي، فلا بد من كيفيتين
ثبوتيتين لتكونا مصدرين للأفعال المتقابلة، [ولو قيل]
المؤثر في التكثيف هو الجسمية المشتركة بشرط عدم الحرارة [فليس
هذا] بأولى من أن يقال المؤثر في التسييل الجسمية بشرط
عدم البرودة.»
٨٩
وقد علَّق الطوسي على قول الرازي السابق: «أقول في قوله «العدم
لا يحس به» نظر؛ لأن الأمر العدمي إذا كان مُقتضيًا
لأمرٍ غير ملائم، يحس به من جهة مُقتضاه، كتفريق الاتصال،
والجوع، والعطش؛ فإن كانت البرودة عدم الحرارة وكانت الحاسة
محتاجة إلى حرارة تُعدل مزاجها، فعدم تلك الحرارة يقتضي
أمرًا غير ملائم فيها فيُحس به. ولم يقل أحد إن عدم
الحرارة هو الجسم، حتى يكون الإحساس بالجسم إحساسًا بالبرودة،
والحق أن البرودة كيفية ضد الحرارة، فإن مقتضياتها،
كالتكاثف والثقل وأمثالهما، ضد مقتضيات الحرارة، كالتخلخل
والخفة وأمثالهما.»
٩٠
أما عن الفرق بين الجسم الحار ونظيره البارد، فالجسم
الحار هو ما نشعر به من حرارة من النار أو على ما نجده من
خصائص في بعض الأغذية والأدوية.
وتوجد طريقتان للاستدلال من خلالهما على درجات الحرارة
والبرودة؛ إحداهما تجريبية والأخرى قياسية. ويُعتبر
الاستدلال على الحرارة والبرودة باللون أضعف هذه الطرائق؛
إذ يوجد حواس أخرى يمكنها أن تساعدنا مثل الذوق والشم، ويمكن
من خلال ملاحظة تغير حالة الجسم الذي يتعرض للحرارة، حيث
تبدو عليه أمارات التكاثف في حالة البرودة أو التخلخل في
حالة الحرارة.
قال الإمام: إن «[الحار] قد يُقال على ما يحس بحرارته
وسخونته كالنار، وقد يقال على ما لا يكون كذلك، بل يكون ظهور
تلك الكيفية منه موقوفًا على ملاقاته لبدن الحيوان؛ وذلك مثل
الأغذية والأدوية التي يقال لها إنها حارَّة، وكذلك البارد.
[ثم] لمعرفة الحرارة والبرودة علامات على هذا الوجه يجمعها
طريقان؛ [أحدهما] التجربة [والآخر] القياس، وذلك من وجوه؛
[فإنهم] تارةً يستدلون باللون وهو أضعف الطرُق وتارةً بالطعم
وتارة بالرائحة وتارة بسرعة الانفعال وعسره؛ وذلك لأن
المتخلخل أسرع انفعالًا مما يلاقيه من المتكاثف؛ وذلك لضعف
جرمية المتخلخل وقوة جرمية المتكاثف، [وإذا كان كذلك] فالأجسام
إذا تساوت في القوام ثم تفاوتت في قبول الحرارة من فاعل واحد،
فالذي هو أقبل وجب أن يكون في طبيعته أحر؛ لأنه لما كانت
نسبة الفاعل إليها واحدة وقبول الجسم للأثرين واحدًا، فلولا
اختصاص الأشد قبولًا لذلك بما يعاضد الخارجي لم يكن
الأثر الحاصل فيه أقوى من الحاصل في صاحبه، [وأما إذا تفاوتت
المنفعلات] في القوام فالأقوى قوامًا إن انفعل بسرعة دل
على أن فيه ما يقتضي تلك الكيفية، وأما الأضعف فلا يدل بسرعة
انفعاله على شيء لاحتمال أن يكون ذلك لضعف قوامه، [ومما
يستدلون به] حال الاشتعال والجمود وهو أيضًا على ما قلنا فانٍ.»
٩١
(١٥) سيف الدين الآمدي (القرن ٧ﻫ/١٣م)
كرَّر الآمدي التعريف الأرسطي للبرودة دون أن يضيف إليه
أي شيء: «وأما البرودة فما كان من الكيفيات يجمع غير
المتشاكلات ويفرق المتشاكلات.»
٩٢
(١٦) شهاب الدين التيفاشي (القرن ٧ﻫ/١٣م)
ذكر لنا أحمد بن يوسف التيفاشي (توفي ٦٥١ﻫ/١٢٥٣م) في
كتابه «سرور النفس بمدارك الحواس الخمس» كل ما وصل إليه
من آراء وأفكار وأشعار وقصص وظواهر تتعلق بالبرد
والبرودة، لكننا سنتناول ظواهر البرودة التي رصدها بنفسه ثم
نورد ما قيل في ظاهرة البرودة من آراء؛ فعندما أراد أن يصنع
طبخةً مكونة من السبانخ والبيض طلب من خادمه أن يكسر البيض بعد
أن هيَّأ السبانخ في الوعاء، فلم يستطِع الخادم أن يكسر البيض من
شدة تجمده؛ فقد أصبح كتلة من الحجر، وعندما ضرب بالبيضة
الجدار انكسر حرفه ولم تنكسر البيضة، لكنه تمكن بعد ذلك من
تقشيره بالسكين بصعوبة، ثم وضعها في النار ومع ذلك لم تنضج
بسهولة. وعندما حدَّث بعض أهل حران بالقصة قالوا له إنهم
أحيانًا يقدحون بالبيض فيخرج منه شرار.
قال التيفاشي: «أنا أحكي ما شاهدته بنفسي لا ما أرويه عن
غيري، وهي أني لما رحلت إلى الشرق، وعكتُ بحرَّان في زمن
الشتاء، واحتجت إلى عمل مزورة باسفاناخ (سبانخ) وبيض، فطبخ
الاسفاناخ وأخذ الغلام بيضًا ليكسرها ويعملها في المزورة،
فاستعصى كسرها، وأنا أستحثه، فاعتذر بأن البيض لم
يُكسَر، فاستشطت غضبًا، فناولني البيضة وقال: اكسرها أنت.
فضربت بها جانب الصحفة ضربًا خفيفًا، على العادة في كسر
البيض، فلم تنكسر، فتابعت الضرب وقوَّيته فلم تنكسر، فضربت
بها الحائط على أنها تتلف والحائط من طوب كبير له دهر
طويل، فصادفت حرف طوبة، فانكسرت الطوبة والبيضة صحيحة،
فبُهتُّ ونظرت إلى موضع الضربة في البيضة فإذا في القشرة
التي لها شقاق خفي كالشعرة، فأدخلت رأس السكين فيه وقلعت
القشرة فإذا بالبيضة جامدة، فقلت: ألقِها في المزورة. فألقاها
ثم غرف المزورة، وإذا ببياض البيضة قد نضج بعض النضج وهو
جامد، والصفرة جامدة ليِّنة لم تعمل النار فيها شيئًا،
فحدثت بذلك بعض أهل حران، فأخبرني أن البيض عندهم
يقدحون به الزناد في الشتاء، فيظهر منه الشرار كحجر الزناد،
ويجمد عندهم كل مائع، ولا يشربون الماء إلا بعد أن
يسخن. ودخلت آمد في الشتاء فوجدت الثلج يتراكم على الطرق
حتى يسد الشوارع، وهم يمشون على الأسطحة ويعبرون الشوارع
فوق الثلج.»
٩٣
ثم يحدِّثنا عن ظاهرة التصاق اليد بالقضيب الحديدي، وهي ظاهرة
نشعر بها أحيانًا عندما نتناول صيفًا مكعبات الجليد الباردة أو
نضع ألسنتنا على سطوح معدنية (حديد، ألمنيوم) باردة جدًا.
طبعًا لم يُقدم لنا التيفاشي سبب الظاهرة، وهو أنه عندما يكون
اللسان أو اليد محاطًا بالرطوبة فإن هذه الرطوبة تتكون من
الماء (في حالة اللسان تزيد نسبته عن ٩٩٫٥٪). وعلى الجانب
الآخر فإن الأجسام المعدنية الباردة خاصةً تُعتبر ناقلًا
ممتازًا للحرارة، وعند التصاق اللسان أو اليد بالمعدن البارد
فإن البرودة تنتقل بسرعة من المعدن إلى اللسان، ومع أن الجسم
يضخ الدم بسرعة للسان لتدفئته، لكن انتقال البرودة من
المعدن تكون أسرع، فيتجمد اللعاب الذي يحيط باللسان مما
يشكِّل رابطًا جليديًّا بين اللسان والجسم المعدني البارد.
طبعًا يمكن فك هذا الارتباط بتدفئة العضو بالنفخ عليه أو
بسكب الماء الدافئ فوقه، وهو ما لم يفعله التيفاشي؛ لذلك بقيت
أجزاء من جلده على القضبان الباردة.
قال التيفاشي: «وسِرت من جزيرة ابن عمر
٩٤ إليها ستة أيام بلياليها لم أشاهد شمسًا من السُّحب
ولا أرضًا ولا جبلًا ولا واديًا ولا شجرةً ولا مدرةً إلا
بالثلج، وكنا نعبر على الأنهار وهي جامدة، ونستقي إذا أردنا
الماء ونطبخه في القدور فنرى أعلاه جامدًا وأسفله الذي يلي
النار ذائبًا؛ وأخبرت أن أقفال الحديد تنضم أرياشها
لشدة البرد حتى تفتح باليد. قال: وأما أنا فوضعت يدي على شباك
حديد في مدرسة فوجدت كلذع النار، فرفعت يدي وقد بقي
شيء من جلدة كفِّي وأناملي على قضبان الحديد.»
٩٥
(١٧) ابن كمونة (القرن ٧ﻫ/١٣م)
يعيد سعيد بن منصور بن كمونة (توفي ٦٨٣ﻫ/١٢٨٤م) ما سبق
أن طرحه ابن سينا والطوسي وابن ملكا، ولم يقدم لنا أي شيء
جديد يتعلق بتعريف البرودة؛ فقد قال: «والبرودة ليست عدم
الحرارة؛ لأنها محسوسة، ولا شيء من العدم كذلك، بل التقابل
بينهما تقابل التضاد، وتأثيرها على خلاف تأثير مقابلها.»
٩٦
(١٨) أيدمر الجلدكي (القرن ٨ﻫ/١٤م)
في البداية نجد أن عز الدين أيدمر الجلدكي (توفي بعد
٧٦٠ﻫ/بعد ١٣٦٠م) يُكرر ما قد طرحه السابقون من أفكار حول مفهوم
البرودة فيقول: «وأما البرودة فليست هي عدم الحرارة؛ لأنها
محسوسة بالذات، ولا شيء من العدم كذلك، بل التقابل بينهما تقابل
التضاد، وعلى حكم الميزان الحق، وتأثيرها على خلاف تأثير مقابلها.»
٩٧ «وأما البرودة فهي أصل في السكون وفي الوجود
الأول قبل خلق المخلوقات، فكان أثرها — بإذن الله تعالى — أثر
موجود بالذات.»
٩٨
لكنه بعد ذلك يثير مسألة مهمة، ألا وهي: أيهما يوجد قبل
الآخر؛ الحرارة أم البرودة؟
فيستعرض آراء من قال إن الحرارة توجد قبل البرودة ومن قال
العكس، لكنه يرجِّح أن البرودة توجد قبل الحرارة لاعتقاده أن
الأصل في وجود الأشياء هو السكون، والسكون يناسبه البرودة أكثر
من الحرارة. ويحتمل أن الحرارة والبرودة توجدان معًا في الوقت
نفسه بقدرة الخالق تبارك وتعالى.
«وقد اختلفت العلماء في تحقيق وجود الفاعلَين اللذين هما
الحرارة والبرودة أيهما سبق وجوده على وجود الآخر؛ فقال بعضهم:
إن الحرارة أولى بالتقدم في الأولية. وقال آخرون: بل البرودة
أولى بالتقدم؛ لأن البرودة لازمة للأولية بالذات فلها الأولية؛
لأن الحرارة عارضة على البرودة بالحركة، ولأن الحركة حادثة على
السكون. قلت: فإن رجعنا إلى أصل الكون وحدوثه فيمكن تقدُّم
الفاعل الكائن من مبدأ الحركة الأولى، وإن رجعنا إلى أصل
السكون فيغلب الظن وجود البرد اللازم له حيث خلا من وجود
الحركة فيكون سابقًا على الفاعل للحرارة، ويمكن أن الله تعالى
أوجدهما دفعة واحدة فقال لهما — تعالى — كونا فكانا، إنما أمره إذا
أراد شيئًا أن يقول له كن فيكون؛ فهما متقابلان متضادَّان
بعظمته وقوته واختياره ومشيئته.»
٩٩
كما أدرك الجلدكي وجود حرارة كامنة في الماء هي التي تُمكنه
من الجريان والبقاء في الحالة السائلة وإلا لتجمد، فقال:
«اعلم أن الماء لا يخلو من الحرارة، ولو تخلَّت الحرارة عنه
لجمد وصار باردًا يابسًا، وإنما الحرارة موجبة للحركة؛ ففي
الماء من الحرارة بقدر ما فيه من الجريان، ولكنه لما كان
معدودًا من البسائط الأربع حُكِم عليه بحكم الأغلب؛ وبهذا
المعنى يتقرر أن البسائط على الحقيقة [هي] الطبائع الأربع.»
١٠٠
(١٩) عضد الدين الإيجي (القرن ٨ﻫ/١٤م)
ينقل الإيجي عن الآخرين قولهم بأن البرودة هي عدم وجود حرارة
في الأجسام التي تقبل الحرارة، لكن البرودة محسوسة فلا يصح أن
نقول عنها إنها عدم، حتى إنها تزيد وتنقص دون المساس ببنية
المادة، والأولى أن نقول إن البرودة مضادة للحرارة.
قال الإيجي: «البرودة قيل عدم الحرارة عما من شأنه أن يكون
حارًّا احترازًا عن الفلك؛ فالتقابل بينهما تقابل العدم
والملَكة، ويُبطله أنها محسوسة، والعدم لا يُحَس. لا يقال
المحسوس ذات الجسم؛ لأن البرد يشتد ويضعف ويعدم وذات الجسم
باقية، بل الحق أنها كيفية مضادة للحرارة الأولى في الحرارة،
كما أن الملموسات سُميت أوائل المحسوسات لما عرفت
كذلك الكيفيات الأربع؛ أعني الحرارة وما يقابلها، والرطوبة
واليبوسة سُميتا أوائل الملموسات لثبوتها للبسائط
العنصرية، وتحصل المركبات منها بتوسط المزاج المتفرع على
هذه الأربع، وإنما لم يذكر في العنوان البرودة، مع كونها
مذكورةً في هذا المقصد، لوقوع الاختلاف في كونها وجودية.»
١٠١
(٢٠) ابن خلدون (القرن ٩ﻫ/١٥م)
عرَّف ابن خلدون (توفي ٨٠٨ﻫ/١٤٠٦م) البرودة على أنها
طبع من الطبائع التي تعمل على تجفيف الأشياء وتجميع ما فيها
من رطوبة، على عكس فعل وتأثير الحرارة.
قال ابن خلدون: «واعلم أن البارد من الطبائع هو يُيبس
الأشياء ويُعقد رطوبتها، والحار منها يُظهر رطوبتها
ويُعقد يبسها، وإنما أفردت الحر والبرد لأنهما
فاعلان، والرطوبة واليبس منفعلان، وعلى انفعال كل
واحد منهما لصاحبه تحدث الأجسام وتتكون، وإن كان الحر
أكثر فعلًا في ذلك من البرد؛ لأن البرد ليس له نقل الأشياء
ولا تحركها والحر هو علة الحركة. ومتى ضعفت علة الكون، وهو
الحرارة، لم يتم منها شيء أبدًا، كما أنه إذا أفرطت
الحرارة على شيء ولم يكن ثَم بردٌ أحرقته وأهلكته؛ فمن أجل
هذه العلة احتيج إلى البارد في هذه الأعمال ليقوى به كل
ضد على ضده ويدفع عنه حر النار.»
١٠٢
(٢١) الأحمد نكري (القرن ١٢ﻫ/١٨م)
قد يكون القاضي عبد النبي بن عبد الرسول الأحمد نكري
(توفي في القرن ١٢ﻫ/١٨م) آخر من ناقش مفهوم البرودة من
العلماء العرب والمسلمين، إلا أننا نجد في كتاباته بعض التكرار
لأقوال السابقين؛ فهو يعرف البرودة بأنها: «كيفية من
شأنها تفريق المتشاكلات وجمع المتخالفات.»
١٠٣
ويعرِّف التكاثف على أنه انخفاض في حجم الجسم المتكاثف دون أن
تنفصل عنه أجزاؤه. ويمكن أن يحدث التكاثف عن اندماج بين أجزاء
المادة بحيث يلفظ ما فيه من شوائب، ويمكن أن يطلق مصطلح
التكاثف على المادة ذات القوام السميك.
قال الأحمد نكري: «ينقص مقدار الجسم من غير أن ينفصل عنه
جزء. وقد يطلق على الاندماج، وهو أن تتقارب الأجزاء بحيث يخرج
ما بينها من الجسم الغريب كالقطن الملفوف بعد نقشه الخارج عنه
الهواء، وقد يطلق على غلظ القوام.»
١٠٤
وقد أثار الأحمد نكري مسألةَ معالجة مفهوم العلم ذهنيًّا،
ويضرب على ذلك مثال الحرارة أو البرودة؛ فما قد نتصوره عن
الأشياء في أذهاننا قد يختلف عن حقيقته؛ فلن يكون لقولنا إن
الجسم بارد إلا إذا قمنا بلمسه وتأكَّدنا أنه بارد بالفعل؛ لذلك
يجب ألا نعول على التصور أو الصورة الذهنية فقط في العلم.
وهذه الفكرة كان يؤخذ بها في أوروبا جديًّا؛ فقد كانت
الدراسات العلمية تسير جنبًا إلى جنب مع الدراسات التجريبية،
وحتى يومنا هذا مهما بلغت النظرية الفيزيائية من القوة
الرياضية فإن لم تؤكدها التجربة فإنها ستبقى مجرد حسابات على
ورق.
قال الأحمد نكري في مدخل العلم: «والوجود العلمي يُسمى وجودًا
ذهنيًّا وظليًّا وغير أصيل، أما تسميته بالوجود الظلي
على المذهب الثاني فظاهر، وأما على المذهب الأول فلأن
مُرادهم أنه وجود كوجود الظل في انتفاء الآثار الخارجية
المختصة بالوجود الخارجي، كما أن الوجود فيما وراء الذهن يُسمى
وجودًا عينيًّا وأصيليًّا وخارجيًّا؛ فإن قيل إن العلم
بالأشياء بأعيانها ممتنع فإنه يستلزم كون الذهن حارًّا باردًا
مستقيمًا معوجًّا عند تصور الحرارة والبرودة والاستقامة
والاعوجاج؛ لأنه إذا تصوَّرت الحرارة تكون الحرارة حاصلةً في
الذهن ولا معنى للحار إلا ما قامت به الحرارة، وقِس عليه
البرودة وغيرها. وهذه الصفات منفية عن الذهن بالضرورة،
وأيضًا فإن حصول حقيقة الجبل والسماء مع عِظمهما في الذهن
مما لا يعقل جعلنا نقول إن الحاصل في الذهن صورة وماهية موجودة
بوجود ظلي لا بهُوية عينية موجودة بوجود أصيل، والحار ما
تقوم به هُوية الحرارة؛ أي ماهيتها الموجودة بوجود عيني لا ما
تقوم به الحرارة الموجودة بوجود ظلي، فلا يلزم اتصاف
الذهن بتلك الصفات المنفية عنه، والممتنع في الذهن حصول هوية
الجبل والسماء وغيرهما من الأشياء؛ فإن ماهياتها موجودة بوجود
خارجي يمتنع أن يحصل في أذهاننا، وأما مفهوماتها الكلية
وماهياتها الموجودة بالموجودات الظلية فلا يمتنع
حصولها في الذهن؛ إذ ليست موصوفةً بصفات تلك الهويات، لكن
تلك الماهيات بحيث لو وُجدت في الخارج متشخصةً بتشخص جبل
الطور وسماء القمر مثلًا لكانت بعينها جبل طور وسماء قمر،
ولا نعني بعلم الأشياء بأعيانها إلا هذا.»
١٠٥