مقدمة
يُعَد وجود الحرارة أو التخلص منها أمرًا ضروريًّا لكل
الكائنات الحية بشكل عام، وللإنسان بشكل خاص، فالحرارة تؤثر على
الدورة الدموية بتمديدها لجدران الأوعية الشعرية والشرايين، فيَسري
فيها الدم سريانًا تامًّا، ويصل لأقصى جهة من جهات الجسم.
١ وعندما يريد الجسم أن يتخلص من الحرارة الزائدة تنفتح
المسام الجلدية بسبب الحرارة فيخرج العرق طارحًا معه الفضلات
الضارَّة من الجسم، ويبدأ بالتبرد وتخفيض درجة حرارة
الجسم.
وقد يخطر ببال أحدنا أن يتساءل: أيهما يؤثر أكثر على صحة
الإنسان؛ ارتفاع درجة الحرارة أم انخفاضها؟ الواقع أن ارتفاع
درجة الحرارة يؤثر أكثر من انخفاضها، وهو ما نلاحظه من قدرة
البشر على استيطان الأماكن الباردة في شمال وجنوب الكرة الأرضية
الباردة أكثر من المناطق الحارَّة على خط الاستواء.
٢
إن ما يتحكم في استجابتنا لدرجات الحرارة والبرودة هو النواة
الخارجية للمهاد؛
٣ وهو منطقة صغيرة جدًّا من المخ وقريبة من مقدمة الرأس؛
حيث إنه حساس جدًّا لمستويات الغلوكوز، لدرجة أنه إذا أُتلف تمامًا
فإن المريض يعاني في تلك الحالة انخفاض حرارة الجسم.
٤
تتغير درجة حرارة الجسم بشكل محدد فتكون في قمتها قبل منتصف
الليل بقليل، ثم تنزل خلال الليل إلى حدها الأدنى في الصباح
الباكر حوالَي الخامسة تقريبًا، ثم ترتفع ارتفاعًا ملحوظًا بين
الساعتين ٨–١٠ صباحًا، ويزداد ارتفاعها تدريجيًّا خلال اليوم حتى
تصل إلى أقصاها قُبيل منتصف الليل.
٥
وتؤثر الرطوبة في الصيف على الإنسان، فعندما ترتفع درجة الحرارة
والرطوبة النسبية، يشعر الناس بعدم الارتياح للجو المحيط بهم،
إضافةً للإحساس باللزوجة؛ وذلك بسبب عدم تبخر العرق الذي يُفرزه
الجلد؛ لذلك يتم اللجوء للمكيفات وأجهزة تقليل الرطوبة صيفًا
للتخلص من بخار الماء الموجود في الهواء. وفي الشتاء يكون الهواء
الدافئ داخل المبنى جافًّا، وتنخفض الرطوبة النسبية بشكل كبير؛
ولذلك تُستخدم أجهزة الترطيب لنشر بخار الماء في الهواء.
٦
ثَمة مصطلحات محددة تربط بين الحرارة وجسم الإنسان؛ ففي
مجال العمارة البيئية يُستخدم مصطلح الراحة الحرارية
ليشير إلى الحالة التي يشعر فيها الإنسان بارتياح ورضًا فيما
يتعلق بالبيئة الحرارية الموجود فيها؛ وبذلك يحدث انزعاج لدى
الإنسان عندما ترتفع أو تنخفض درجات الحرارة عن حدود معينة.
٧
وفي مجال الأحياء يُستخدم المصطلحان «حار الدم
Blood Warm» و«بارد الدم
Cold Blood»، لكنهما مُضلِّلان
بعض الشيء؛ فهما لا يصلحان بوصفهما قاعدةً تطبق على كل
الكائنات الحية؛ فسمك الشبوط البطريخي الصحراوي «بارد
الدم» مثل بقية الأسماك، لكنه يعيش في الينابيع الحارَّة، ودمه
حارٌّ في الواقع، بينما الخفاش المسبت
٨ شتاءً فهو «حار الدم» لكن درجة حرارة جسمه أبرد بكثير.
٩
يُقصد ﺑ «بارد الدم» أن حرارة جسم الكائن الحي قابلة
للتغير حتى تقارب حرارة الوسط المحيط بها. وهذا يعني وقوع
هذه الحيوانات تحت رحمة بيئتها؛ فإذا تجاوزت الحرارة الخارجية
حدودًا معينة فقد يهلك الحيوان أو أن يستسلم ولا يحرك
ساكنًا؛ وهذا ما يدفع ببعض الحيوانات للمرور بحالة سبات عندما
يشتد انخفاض أو ارتفاع درجة الحرارة في الوسط الخارجي.
١٠
ويصنف البشر — أحيائيًّا — بأنهم من ذوي الدم الحار؛ حيث إن
حرارة أجسامنا تبقى ثابتةً طوال اليوم والسنة، ولا تتأثر بحرارة
الوسط الخارجي، وقد نقول إننا نشعر بالبرد شتاءً
١١ وبالحر صيفًا، ولكن في الحقيقة تكاد تكون درجة
الحرارة نفسها دائمًا، ما دمنا بصحة جيدة.
١٢
عندما يكون الطقس حارًّا جدًّا، تحدث أشياء كثيرة مختلفة:
١٣
- (١)
تبدأ الغُدد العرقية بالإفراز؛ حيث إن الغدد
العرقية تعمل على ترشيح الماء من الأوعية الدموية
المحيطة بها، وعندما يتبخر العرق تنخفض حرارة
الجسم.
- (٢)
يزداد معدل التنفس، حيث تزداد كمية الهواء الداخلة
إلى الرئتين والخارجة منها، وهو ما يؤدي إلى خفض حرارة
الدم المنتشر في مساحة داخلية كبيرة من الجسم.
- (٣)
انخفاض معدل حركة الجسم؛ حيث إن وضعيات السكون
يُقلل من إنتاج الحرارة في الجسم.
بالمقابل قد لا يستطيع الإنسان أن يعيش طويلًا إذا هبطت درجة
حرارة جسده عن ٣٠٫٤٤ درجة مئوية، أو ارتفعت عن ٣٧٫٧٧ درجة
مئوية، وبطبيعة الحال فإن الجسم الحي مزوَّد بآليات لتزويد
الحرارة بنفسه، وتنتظم حرارته من خلال الأوعية الدموية الجلدية
والغدد العرقية؛ لذلك فإن الإنسان يستطيع تحمُّل التبدلات
القصوى في الحرارة لمُددٍ زمنية محدودة.
١٤
طبعًا تساهم الحركة العضلية في تدفئة الجسم في الطقس البارد،
وبهذه الطريقة توفر العضلات ٩٠٪ من حرارة الجسم. من جهة أخرى، يعمل
التعرق على تبريد الجسم في الطقس الحار. تعمل هاتان
التقنيتان بشكل متوازن للمحافظة على توازن حرارة الجسم، وغنيٌّ
عن القول أن سرعة ودقة أداء هذا النظام لا يمكن مقارنتها
بأنظمة التبريد التي يُطورها الإنسان في كل لحظة.
١٥
سنتابع في هذا الفصل مراحل دراسة الأثر النفسي والصحي
للحرارة والبرودة على الإنسان، وذلك من خلال النصوص التي عثرنا
عليها.
المبحث الأول: الحضارات القديمة
يرى الباحث جون تايلور أن أحد أسباب بقاء الإنسان هو أنه كان
أفضل تجهيزًا من بقية الكائنات الأخرى التي انقرضت؛ وذلك لأنه كان
مزودًا بجهاز داخلي لتنظيم الحرارة يسمح لجهازها العصبي أن
يبقى دافئًا، حتى لو كانت درجة حرارة البيئة الخارجية منخفضةً
كثيرًا. واليوم يدفئ الإنسان نفسه من خلال الارتعاش
ويرطب نفسه بالتعرق؛ وبذلك يمكن لمخه أن يحتفظ
بأفضل درجة حرارة ملائمة. والواقع أن منظم الحرارة هذا موجود
داخل المخ نفسه، وهو ما يجعله شديد الحساسية للتغيرات في حرارته،
وقد أثبت هذا المنظم كفاءته وفعاليته بالحفاظ على حياة الإنسان.
ومن ناحية أخرى فقد أتاح له ذلك أن يتفرغ مخه للتركيز على
المهام الشاقة الأخرى مثل كسب الرزق أو حتى مجرد البقاء.
١٦
لقد حمى الإنسان القديم نفسه من الحر والقر في الجو بابتكاره
الملابس من مختلف أنواع المواد، لكن قبل أن نتحدث عن الملابس
لا بد أن نذكر فضل الإبرة والخيط التي لا نعرف من أول من
صنعها؛ فقد أحدثت هذه الأداة البسيطة والصغيرة ثورةً في قدرة
البشرية على التكيف مع بيئات ذات درجات حرارة منخفضة جدًّا؛
إذ اعتمد البشر لعشرات الآلاف من السنين على العباءات الجلدية
والملابس التي حيكت بطريقة بدائية؛ وذلك حتى يبقوا أحياءً في
فصول شتاء العصر الجليدي. كما تمكن الناس، من خلال الإبرة
أيضًا، من حياكة الملابس ذات الطبقات. وهي ملابس داخلية مكونة من
ثلاث طبقات؛ الأولى مُحكَمة على الجسم، ثم توجد طبقة وُسطى توفر دفئًا
إضافيًّا وبعض الحماية من الرياح، وأخيرًا طبقة خارجية مكونة من
سترة ذات قلنسوة وبنطال واقيَين من الرياح. وقد
استُخدم هذا النوع من اللباس منذ ثلاثين ألف سنة على
الأقل من قِبل المتزحلقين على الجليد والبحَّارة وحاملي
الحقائب الظهرية، والفضل في ذلك كله يعود للإبرة الصغيرة.
١٧ وفي العصر البرونزي كانت الملابس المنسوجة شائعة
الاستعمال بين الناس، ويبدو أن صناعة الملابس (أي الحياكة والنسج)
كانت سابقة في المناطق التي تميل إلى البرودة؛ لكون الناس يحتاجون
فيها لوقاية أنفسهم من البرودة، أما البلاد التي تميل إلى الحر
فكانت الحاجة فيها للملابس أقل، ولعل هذا ما يُفسر بقاء
سكان بعض المناطق الحارَّة، مثل جنوب السودان والحبشة
وإفريقية، عراةً في الغالب.
١٨
وللتخفيف من أثر الحرارة كان يُستعان بتصنيع الملابس من ألياف
نباتية محددة مثل الكتان
Flax والقنب والخيش
Burlap؛ فالثياب المصنوعة من الكتان تخفِّف من أثر
الحرارة صيفًا على الجسم حتى يومنا هذا، وقد كانت تُستعمل منذ عام
١٧٦٠ق.م. في صنع ثياب الملكة «شيبتو» — زوجة «زمري ليم» ملك ماري
وابنة «ياريم ليم» ملك مملكة «يمحاض أو حلب حاليًّا» — وكانت هذه
الملكة ترسل لِبَناتها الست الملابس الكتانية الصيفية
المصبوغة بالأحمر والأصفر والأزرق.
١٩
المبحث الثالث: العلماء العرب والمسلمون
وقى العرب أنفسهم بعدة أشكال من حر الصيف وقر الشتاء، وقد
كانت تشمل هذه الوقاية أرجاء الجسد كافةً من الرأس حتى أخمص
القدمَين.
فقد كانوا يرتدون على رءوسهم العمامات التي تعرف ﺑ «تيجان العرب»
٢٢ التي لبسها السادة والزعماء في الجاهلية والإسلام،
وكانت العمامة تُعرَف باسم آخر هو العصابة. ويذكر ابن قتيبة
فوائد العمامة بقوله: «قيل لأعرابي إنك تُكثر لبس العمامة، فقال:
إن شيئًا فيه السمع والبصر لجدير أن يوقى من الحر والقر.»
وقال أبو الأسود الدؤلي عن العمامة: «جُنة في الحرب،
ومكنة من الحر، ومِدفأة من القر، ووقار في الندى،
وواقية من الأحداث، وزيادة في القامة، وهي بعدُ عادة من عادات العرب.»
٢٣ كما أن العرب في البادية كانوا يتلثَّمون بالعمامة
لوقاية أنفسهم من وهج الشمس وريح السموم والغبار، وشدة البرد
في الشتاء، أما سكان المدن فلم يكونوا يلجئون لذلك نظرًا لبيئتهم المختلفة.
٢٤
ومما كان يلبسه العرب للوقاية من حر الشمس والمطر «البُرنس»،
وهو قلنسوة واسعة يُغطى بها العمامة، وكانت تُسمى أيضًا
«الصوامع» كما في شعر بشر بن أبي خازم:
تمشَّى بها الثيران تردي كأنها
دهاقينُ أنباط عليها الصوامعُ
٢٥
أما الرداء، وهو المِلحفة والوشاح، فقد كان يُستخدم كمِظلة من وهج
الشمس، كما يقول عبيد بن الأبرص:
وفتيانِ صِدق قد ثنيتُ عليهمُ
ردائي وفي شمس النهار دحوضُ
٢٦
في الواقع يتأثر الإنسان، وغيره من الكائنات الحية، بنوعين من الحرارة:
بخصوص الحرارة الداخلية، يبدو أن العرب كانوا مُتأثرين بنظرية
جالينوس حول هذه الحرارة، ولم يبحثوا في كيفية تشكلها على أنها
نتيجة للاتحاد بين الهواء أو أحد عناصر الهواء (الأكسجين) والطعام
المهضوم.
بشكل عام ميَّز الأطباء العرب بين عدة أنواع من الحرارة التي تظهر
في جسم الإنسان:
- (١)
حرارة طبيعية: يقول ابن رشد في تعريفها: «إن
الحرارة الطبيعية فِعلها في الأشياء المنفعلة التي
شأنها أن تصير إلى التمام هذا الطبخ أولًا ثم النضج
ثم الهضم؛ وذلك أنه ظاهرٌ أن الهضم هو التمام الكائن
لفعل الحرارة الغريزية في الهيولى الملائمة، وهذا
التمام هو الصورة والطبيعة، وهذا كله ظاهر بالتصفح
والاستقراء في الأشياء الطبيعية والصناعية.»
٢٧
- (٢)
حرارة عرَضية: يقول ابن رشد في تعريفها: «أما
الحرارة العرضية فكالعفونة وكالحرارة التي
تعرض لبعض الأشياء من خارج حتى تصير سخنةً
بالفعل، وعلى هذا الوجه أيضًا توجد البرودة العرضية.»
٢٨
- (٣)
الحرارة الغريزية: يقول هبة الله بن ملكا البغدادي
فيها: «وهذه الحرارة توجد في بدن الحيوان عن نفسه
وصرته التي بها، هو حيوان في روحه وبوساطة الروح
في أعضائه؛ فمحلها الأول من بدن الحيوان الروح،
والثاني الأعضاء التي تخللها الروح؛ فهي في الأعضاء من
الروح، وفي الروح من النفس، وبها تتصرف القوى النفسانية
في المواد البدنية والأغذية الواردة إليها فتطبخها
وتحيلها وتمزجها وتشبهها وتعقدها وتعيدها خلفًا عما
يتحلل من الأعضاء وزيادةً للنمو.»
٢٩
- (٤)
الحمى: تُعرَّف الحمى حديثًا بأنها «ارتفاع
في درجة الحرارة المركزية، بحيث تتجاوز ٣٧٫٥° صباحًا
و٣٧٫٨° مساءً، وذلك عند شخص في وضعية الراحة منذ ربع
ساعة على الأقل، وصائم منذ ساعتين على الأقل.»
٣٠
طبعًا لم يكن لدى القدماء معايير يمكنهم من خلالها تحديد
قيم لحرارة الحمى، لكنهم بذلوا جهدهم بتقديم كل ما أمكنهم من
معلومات تتعلق بها؛ فهم يعتبرونها تبدأ من القلب وتنتشر إلى أنحاء
الجسم كافةً؛ فقد قال حنين بن إسحاق في تعريفها: «الحمى
حرارة خارجة عن المجرى الطبيعي تنبعث من القلب وتجري في العروق
الضوارب إلى سائر أعضاء البدن؛ تضر بأفعالها.»
٣١
وقال ابن سينا: «الحمى غريبة، تشتعل في القلب وتنبت بتوسط الروح
والدم في الشرايين والعروق في جميع البدن، فتشتعل فيه اشتعالًا لا
يضر بالأفعال الطبيعية، لا كحرارة الغضب والتعب.»
٣٢
وقد أحصينا خمسةً وستين نوعًا من أنواع الحمى التي درسها
الأطباء العرب الكبار،
٣٣ نذكر منها: حمى استحصاف البدن، والحمى البلغمية،
والحمى الدائمة، وحمى الدق، والحمى الدموية، وحمى الربع،
وحمى الروح، والحمى الزمهريرية، وحمى السهر، وحمى شطر الغب،
وحمى الشمس، والحمى الصفراء، وحمى العرض، وحمى العفونة، وحمى
الغب، وحمى غشيية خلطية، وحمى غشيية دقيقة رقيقة، والحمى
الغدية وحمى محرقة، وحمى مطبقة، وحمى مواظبة، وحمى نائبة،
وحمى وبائية، وحمى الورم، وحمى اليوم.
نشير أخيرًا إلى أنه ثَمة اعتقاد عام بين بعض المؤرخين بأن
العرب المسلمين خسروا معركة بواتييه
Poitiers (والتي تُعرف أيضًا باسم بلاط الشهداء)
في جبال البيرينيه عام ٧٣٢م يعود لكونهم «صحراويين» معتادين على
الحرارة، فلم يحتملوا البرد ولا الطبيعة الجبلية الوعرة بما فيها
من غابات ووديان، لكن الباحث محمد السماك يرى أن هذا غير صحيح
بدليل وجود الكثير من أسماء المدن والآثار والعادات والتقاليد التي
انتشرت هناك وكشفت عنها البعثات الأثرية،
٣٤ والتي تدل على توطن المسلمين هناك منذ زمن بعيد
وتأقلمهم مع البيئة التي انتقلوا إليها من الأندلس، والأخيرة ليست
صحراوية وإنما تعجُّ بالمساحات الخضراء الشاسعة.
(١) أبو بكر الرازي (القرن ٤ﻫ/١٠م)
يذكر أبو بكر الرازي (توفي ٣٢٠ﻫ/٩٢٤م) حالة الألم واللذة
التي تعتري الشخص عندما ينتقل من حجرة باردة إلى أخرى حارَّة أو
العكس، ولن يعود لحالته الطبيعية إلا بدخول لفحة هواء معتدلة
وبشكل تدريجي. وهذ يعني ضرورة الانتقال التدريجي من المنطقة
الحارَّة إلى الباردة، وإلا فقد يتأذى الإنسان من الانتقال
المفاجئ.
قال أبو بكر: «إن رجلًا يكون في دار ليست باردة إلى حد أن
يرتعد من البرد ولا حارَّة إلى حد أن يسيل عرقه، وقد ألِف جسده
تلك الدار فلم يحس فيها حرًّا ولا بردًا، ثم تعرَّضت الدار فجأةً
لحرارة بحيث إن الرجل يحس فيها ألمًا شديدًا غير محتمل من أثر
الحر، ثم يبدأ نسيم معتدل يدخل شيئًا فشيئًا في تلك الدار،
فيجد الرجل الذي تألَّم من الحر بسبب خروجه عن الطبيعة التي
كان فيها لذةً من ذلك الاعتدال بسبب رجوعه إلى الطبيعة، وذلك
إلى أن يعيده ذلك الاعتدال إلى حالته الأولى التي لا برد فيها
ولا حر؛ فإن استمر الاعتدال حينئذٍ فإنه يبدأ يتألم من ذلك
البرد الذي وجد فيه لذةً؛ لأنه يخرج عن الطبيعة من الجانب
الآخر. وإذا أخذت الدار تسخن بعد ذلك البرد فإن الرجل يبدأ
يجد ثانيةً لذةً من ذلك الحر؛ لأنه يردُّه إلى الطبيعة،
فإلى أن يعود إلى حالته الطبيعية يجد لذةً.»
٣٥
(٢) ابن الفقيه (القرن ٤ﻫ/١٠م)
يذكر ابن الفقيه أحمد بن محمد الهمذاني (توفي نحو ٣٤٠ﻫ/نحو٩٥١م)
في كتابه «مختصر كتاب البلدان» أثر حرارة الشمس على
الصحة العامة في المدن، وضرورة توجهها نحو المشرق حتى تدخلها
أشعة الشمس. وهذا وعيٌ بيئي وصحي وعمراني مُبكر في
تخطيط المدن العربية.
قال ابن الفقيه: «فكل مدينة موضوعة في جهة المشرق فهي أشد
اعتدالًا وأقل أسقامًا؛ لأن الشمس تُصفي تلك المياه التي
تجري فيها:
-
والمدن الموضوعة بإزاء المغرب يكثر أمراض أهلها؛
لأن مياههم كدرة مُتغيرة، وهواءهم غليظ؛
لأنه يُبقي تلك الرطوبات فيغلظ مياههم.
-
والمدن الموضوعة على جهة الجنوب يكون مياهها
حارَّة كدرةً متغيرة مالحة؛ فمن ذلك تسخن في الصيف
وتبرد في الشتاء، وأبدان أهلها تكون رطبةً
ليِّنة لما يتحلب إلى البدن من الرطوبات من
رءوسهم، وتُكثر نساؤهم الإسقاط بسبب الرطوبات، ولا
يقدرون أن يُكثروا الطعام والشراب لضعف رءوسهم؛
لأن كثرة ذلك تغمُّ دماغهم وتغيره، وقليلًا ما
يعرض لهم الحميات الحارَّة.
-
والمدن الموضوعة في جهة الشمال وعلى إزائه
مياهُها يابسةٌ رطبة ثقيلة النضج، وأهلها
أقوياء أشدَّاء عِراض الصدور دِقاق السوق،
رءوسهم صحيحةٌ يابسة، وأعمارهم طويلة لصحة
أبدانهم وكثرة فضول الرءوس.»
٣٦
وقد كشفت دراسةٌ نرويجية حديثة نُشرت عام ٢٠١٥م أن دورة
نشاط الشمس تؤثر على مدى طول عمر المولود الجديد وتؤثر في
خصوبة المرأة. وأوضح العلماء من جامعة التكنولوجيا في النرويج،
حسب موقع «روسيا اليوم» أن ارتفاع النشاط الشمسي في لحظة
الولادة يخفض فرصة الوصول إلى مرحلة البلوغ. وتوصَّل العلماء إلى
هذا الاستنتاج بعد دراستهم للمعطيات الإحصائية لأعمار آلاف
الأشخاص الذين عاشوا في القرون السابع عشر والثامن عشر
والتاسع عشر. واستند العلماء في استنتاجهم من دراستهم
للمعطيات الإحصائية خلال الفترة ١٦٧٦–١٨٧٨م التي حصلوا عليها
من أرشيف الكنائس، وشملت ٨٦٠٠ مواطن نرويجي من مختلف الأعمار
والجنس والحالة الاجتماعية والاقتصادية. وبعد مقارنتهم لهذه
المعطيات بالمعلومات المسجَّلة عن النشاط الشمسي، توصَّلوا إلى
علاقة ثابتة تفيد بأن الذين وُلدوا في لحظة ارتفاع النشاط
الشمسي عاشوا ٥٫٢ سنوات أقل من الآخرين. وتوصَّلت الدراسة إلى أن
التعرض لأشعة الشمس لفترة طويلة قد يسبب انحطاط حمض الفوليك
(فيتامين ب) الذي يُسبب نقصه الإصابة بأمراض مختلفة
والوفاة المبكرة.
٣٧
استند ابن الفقيه في أفكاره السابقة على ما طرح اليونانيون؛
فقد سبق وتكلَّم أبقراط وقسطوس (أو فسطوس) حول اتجاه البناء
وأثره الصحي على ساكنيه.
قال ابن الفقيه: «قال أبقراط في كتاب «الأهوية والمياه
والبلدان»: ما كان من الأمصار مقابل شرق الشمس فرياحه سليمة
وماؤه عذب؛ فإن هذه المدينة قليلًا ما يضرُّها تغيير الهواء. وكان
يقول إن المياه التي تنبع من مواضع مشرقة ومن تلاع وروابٍ
أفضل المياه وأصحها، وهي عذبة، وبُلدانها أصح البلاد، ولا
تحتاج إلى كثرة مزج الشراب، ولا سيما الشرقي والصيفي؛
لأنها تكون برَّاقةً طيبة الريح اضطرارًا. وقال فسطوس في
كتاب «الفلاحة»: أصلَحُ مواضع البنيان أن يكون على تل أو كبس
وثيق ليكون مُطلًّا، وأحق ما جُعلت إليه الأبواب والأفنية
والكوى مشرقًا واستقبال الصبا؛ فإن في ذلك صلاح الأبدان
لسرعة ضلوع الشمس وضوئها عليهم، وأن توسع البيوت
ويرفع سمكها، وتكون أبوابها إلى المشرق؛ لأن ريح
الجنوب أشد حرًّا وأثقل وأسقم.»
٣٨
(٣) إخوان الصفا (القرن ٤ﻫ/١٠م)
أشار إخوان الصفا إلى تأثُّر الناس بطبيعة المنطقة التي
يسكنونها أو ينشئون فيها. ولا يشمل التأثير الحالة النفسية، بل
يتعداها إلى طريقة التفكير وطبيعة العمل واللغة
والعادات.
قال إخوان الصفا: «إن أهوية البلاد والبقاع تختلف بحسب اختلاف
تصاريف الرياح الأربع ونكباواتها،
٣٩ وبحسب مطالع البروج عليها، ومطارح شعاعات الكواكب
عليها من آفاقها، وهذه كلها تؤدي إلى اختلاف أمزجة الأخلاط،
واختلاف أمزجة الأخلاط يؤدي إلى اختلاف أخلاق أهلها وطباعهم
وألوانهم ولغتهم وعاداتهم وآرائهم ومذاهبهم وأعمالهم وصنائعهم
وتدابيرهم وسياساتهم، لا يشبه بعضها بعضًا، بل تنفرد كل أمة
منها بأشياء من هذه التي تقدم ذكرها لا يشاركها فيها غيرها.
مثال ذلك أن الذين يولدون في البلاد الحارَّة ويتربَّون هناك،
وينشئون على ذلك الهواء، فإن الغالب على باطن أمزجة أبدانهم
البرودة، وهكذا أيضًا الذين يولدون في البلدان الباردة
ويتربَّون هناك، وينشئون على ذلك الهواء، يكون الغالب على باطن
أمزجة أبدانهم الحرارة؛ لأن الحرارة والبرودة هما ضدان لا
يجتمعان في حال واحدة في موضع واحد، ولكن إذا ظهر
أحدهما استبطن الآخر واستجن، ليكونا موجودين في دائم
الأوقات؛ إذ كانت المكونات لا وجود لها ولا قوام إلا بهما.»
٤٠
وقد تنبَّه إخوان الصفا إلى موضوع تغيُّر المزاج لدى الانتقال من
الحرارة الشديدة إلى البرودة الشديدة فقالوا: «وكذلك إذا دخل
الإنسان الحمام وهو مقرور، وجد البيت الأول حارًّا، وإذا
خرج من البيت الحار وجده باردًا؛ لأن المزاج قد تغير.»
٤١ وتفسير ذلك أن «القوة الذائقة والقوة
الشامة والقوة اللامسة لا تقوى على إدراك محسوساتها إلا
المتوسطات منها، وذلك أن الحر المفرِط والبرد المفرِط
يُفسدان المزاج ويُخرجانه عن الاعتدال.»
٤٢
(٤) ابن سينا (القرن ٥ﻫ/١١م)
بيَّن ابن سينا (توفي ٤٢٧ﻫ/١٠٣٧م) عشر قواعد لأشكال
تكييف الهواء التي يجب أن يتم مراعاتها لضمان صحة جيدة،
فالهواء الساكن له مضاره؛ لذلك يجب تغييره بشكل
دائم.
قال ابن سينا: إن «تعديل الهواء يقتضي:
- (١)
تعديله في الحر والبرد.
- (٢)
تعديله في الرطوبة، كما يجب، بنواحي
البحار.
- (٣)
وتعديله في اليبوسة، كما يجب، في البوادي
والقفار والجبال.
- (٤)
وتعديله في الانتقال من حر إلى برد، أو من
برد إلى حر، كتعديله في أوقات الخريف، وفي دخول
الحمامات.
- (٥)
وتعديله من نتن إلى طيب إلى نتن.
- (٦)
وتعديله من شمال إلى جنوب، ومن جنوب إلى
شمال.
- (٧)
وتعديله من مزاج إلى مزاج بلد آخر.
- (٨)
وتعديله من عفونته؛ أعني الوباء؛ فإذا كان
الوباء عفونةً في الهواء فيجب أن يُحترز
عنها عند الاستنشاق.
- (٩)
وتعديله بالاحتقان والحركة؛ إذ الهواء الراكد
يتبعه تغير، إما إلى شبيه بالوباء من عفونة
حارَّة وإن لم يكن وباءً محضًا؛ إذ الوباء لا
يحدث إلا بأسباب أخرى، وإما إلى كيفية باردة
حمائية نزية.
- (١٠)
والهواء الدائم الحركة يتبعه أيضًا أنواع من
الآفات في الأبدان، كما نُحصيه في بابه. وهو لا
يخلو من نقل الأبخرة والأغبرة الردية، من المواضع
البعيدة إلى المساكن النقية.»
٤٣
(٥) طاهر المروزي (القرن ٦ﻫ/١٢م)
ذكر الطبيب شرف الزمان طاهر المروزي (توفي ٥١٨ﻫ/١١٢٤م) في
كتابه «فصول حول الصين والترك والهند منتخَبة من كتاب طبائع
الحيوان» أثر الحرارة على أهل الحبشة من الناحية الجسدية، فقال:
«واستيلاء الحرارة المفرطة على أهويتهم — والحرارة أقوى أسباب
الجذب — فلهذا تجذبهم إلى فوق حتى تطول قاماتهم جدًّا، ولأن
الحرارة تبسط الأشياء وتفتحها فتبسط أرواحهم إلى خارج
فيوجَدون أبدًا فرحين لاعبين ضاحكين.»
٤٤
(٦) ابن تومرت الأندلسي (القرن ٦ﻫ/١٢م)
يرى ابن تومرت الأندلسي (توفي ٥٢٤ﻫ/١١٣٠م) أن الأمزجة تتغير
بحسب الأمكنة والأزمنة: «أما الأمكنة، فالبلاد الباردة كبلاد
الترك والصقالبة جوُّها بارد، فمن أجل ذلك ترى أكثر أهلها
بيضًا حُمْر الوجوه شجعانًا؛ لكمون الحرارة في أجوافهم، حيث
كثرت البرودة على ظواهر أجسامهم. ومثل البلاد الحارَّة كبلاد
الحبشة جوها حار، فمن أجل ذلك أجسامهم سود وشعورهم قططة،
وأكثر أهلها جبان؛ وذلك لكمون البرد في أجوافهم عند قوة
الحرارة على ظهور أجسامهم.»
٤٥
وقد يتأثَّر مزاج الشخص بحسب المهنة التي يعمل بها، «كمن
صَنْعته عند النيران وفي الشموس دائمًا، كالحدَّادين والأعراب
ونحوهم، تلحقهم السخونة في أبدانهم، والكمودة، وسدة البدن
وسخونته. ومثل من صَنْعته لا يبرح من الماء، كالبحَّارين
والقصَّارين ونحوهم، تغلب عليهم رخاوة الأبدان وبرودته.»
٤٦
«وأما الأزمنة، فزمان الربيع حارٌّ رطب، وزمان الصيف حارٌّ يابس،
وزمان الخريف بارد يابس، وزمان الشتاء بارد رطب.»
٤٧
(٧) ابن رشد (القرن ٦ﻫ/١٢م)
اتفق ابن رشد مع أرسطو
٤٨ بتقسيم الحرارة إلى نوعين «طبيعية» و«غريبة»؛ حيث
إن الأولى تفعل فعلها في الأشياء المنفعلة. وقد تبين له — من
الناحية الطبية — أن الكون لا يكون إلا بالاختلاط والمزاج،
والاختلاط والمزاج يكون بالطبخ، والطبخ يكون بالحرارة
الغريزية، وأن حصول الصورة المزاجية في الهيولى هو كمال فعل
الحرارة وهو المسمى هضمًا، وأن هذا لا بد أن يتقدمه النضج،
وهو ما يلاحظ في تكون الحيوان والنبات. أما بالنسبة للحرارة
الغريبة فإنما يظهر أثرها أولًا وتحديدًا بالأشياء التي لها
حرارة غريبة، حيث إنها تطفئ الحرارة الغريزية وتحلل الرطوبات
الحاملة لها فتحترق تلك الأشياء كما يلاحظ في حالة الحميات.
٤٩
يختلف أثر البرودة عن الحرارة، من الناحية الطبية، فهي
التخمة التي تقابل الهضم، وإذا أفرط في استخدامها تسبب ذلك في
الفساد كما في حالة أجسام الأموات والشيوخ. وإذا كان من فعل
البرودة الفساد، فإن هذا فعلها بالذات، ولكنها بالقصد الثاني
تعين الحرارة على الكون، فكل حرارة تناسب جسمًا معينًا بما
يخالطها من البرودة، كما أن البرودة تحفظ حرارة الكون.
٥٠
(٨) عبد اللطيف البغدادي (القرن ٧ﻫ/١٣م)
سئل العالم عبد اللطيف البغدادي (توفي ٦٢٨ﻫ/١٢٣١م): «ما بال
الترويح يبرد الهواء مع أن الحركة من شأنها التسخين؟ فأجاب:
«لأن من شأن الجسم الرطب المتخلخل إذا تحرَّك أو سُخِّن قبل
البرد بسرعة، وكذلك الماء المغلي إذا جُعل تلقاء الريح والنسيم
برد سريعًا، والهواء الذي نحن فيه إنما هو بخار رطب، فإذا كان
حارًّا وحُرك بالمراوح قبِل البرود بسرعة؛ ولذلك إذا كان
ريحًا سموميًّا متحركة جدًّا لم يبرد بالترويح، لاشتمال
الحرارة واليبس عليه من سائر جهاته، وصار هذا كهواء الكير
إذا حُرك بالمنافيخ، فإنه يزداد حرارةً والتهابًا؛ ولذلك صار
الترويح الرويد يبرد أكثر من الترويح بقوة وسرعة؛
لأن الحركة من شأنها أن تسخن بالذات، وإن كانت عند
الترويح تبرد بالعرَض، فإذا حُركت المراوح بسرعة
سخن الهواء بقوة الاصطكاك بالذات أكثر مما تبرد، ولأن
الحركة القوية من شأنها أن تسخن وتجفف فيصير الهواء في
حد طبيعة النار، فإذا حُركت المراوح برفق سخن بالحركة
يسيرًا وبرد بالتخلخل بردًا كثيرًا، وإذا أفرطت الحركة في
السرعة أحدثت النار في الأجسام القابلة للاشتعال، كما يوجد
النجار النار بالمثقب، وأهل البادية من الشجر الأخضر، وقد
توجد من قوة النفخ كما يفعل الحدَّادون في الكير.»
٥١
(٩) ابن كمونة (القرن ٧ﻫ/١٣م)
حاول ابن كمونة (توفي ٦٨٣ﻫ/١٢٨٥م) أن يفسر سبب إحساسنا
بالبرودة، وكيف أن حرارة الشمس تؤثر على الهواء الجوي، ولولا
هذا التأثير لأصبحت الأرض كلها باردةً.
قال ابن كمونة: «وإذا أحسسنا في الهواء المجاور لأبداننا
ببرودة، فذلك لأنه ممتزج بأبخرة اختلطت من الماء المجاور له.
ولولا أن الأرض تُحمى بالشمس، ويُحمى بسببها الهواء
المجاور لها، لكان أبرد من هذا، ولكنه يحمي الهواء المجاور
للأرض إلى حدٍّ ما، فتقل البرودة، فيكون ما فوقه أبرد إلى
حدٍّ ما، ثم يترقى إلى ما هو حار ولا كالنار. ويحقق برودة
الأرض أنها إذا لم تتسخن بالرياح الحارَّة، ولا بأشعة الشمس
والكواكب، ولا بغير ذلك، ظهر منها بردٌ محسوس، وكونها أبرد
من الماء، والماء أبرد منها، فمشكوك. ويؤكد كونها أبرد من
الماء، أنها أثقل منه، وليس بقطعي؛ إذ جاز أن يكون لازدياد
ثقلها سببٌ آخر غير شدة البرد. وكون الإحساس ببرودة الماء
أكثر لا يدل على أنه في نفس الأمر كذلك، لجواز كون ذلك
لفرط وصوله إلى المسام، فإن النار أسخن من النحاس
المذاب، مع أن الإحساس بسخونته أشد من الإحساس بسخونة النار.»
٥٢
(١٠) ابن قيم الجوزية (القرن ٨ﻫ/١٤م)
تناول ابن قيم الجوزية محمد بن أبي بكر (توفي ٧٥١ﻫ/١٣٥٠م)
في كتابه «مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة»
الحديث عن التدرج في الانتقال من الفصل البارد إلى الفصل
الحار في أثناء السنة، ولو لم يكن متدرجًا لأضرَّ بالخلائق،
ثم يضرب مثالًا على ذلك أن يخرج رجل من الحمام وجسده ساخن
جدًّا ليدخل مكانًا مفرطًا في البرودة؛ عندها سيتأذى
جسده كثيرًا.
قال ابن قيم: «ثم تأمل هذه الحكمة البالغة في الحر والبرد
وقيام الحيوان والنبات عليهما، وفكر في دخول أحدهما على
الآخر بالتدريج والمهلة حتى يبلغ نهايته، ولو دخل عليه مفاجأةً
لأضرَّ ذلك بالأبدان وأهلكها وبالنبات، كما لو خرج الرجل من
حمام مفرِط الحرارة الى مكان مفرِط في البرودة، ولولا العناية
والحكمة والرحمة والإحسان لما كان ذلك.»
٥٣
(١١) ابن خلدون (القرن ٩ﻫ/١٥م)
ذكر ابن خلدون (توفي ٨٠٨ﻫ/١٤٠٦م) في المقدمة الرابعة أثر
حرارة الهواء في أخلاق البشر، قال: «قد رأينا من خُلق السودان
على العموم الخفة والطيش وكثرة الطرب، فتجدهم مولعين بالرقص على
كل توقيع، موصوفين بالحمق في كل قُطر، والسبب الصحيح في ذلك أنه
تقرَّر في موضعه من الحكمة أن طبيعة الفرح والسرور هي انتشار
الروح الحيواني وتفشيه، وطبيعة الحزن بالعكس؛ وهو انقباضه
وتكاثفه. وتقرر أن الحرارة مُفشية للهواء والبخار مخلخلة
له زائدة في كميته؛ ولهذا يجد المنتشي من الفرح والسرور ما لا
يعبر عنه، وذلك بما يداخل بخار الروح في القلب من الحرارة
الغريزية التي تبعثها سَورة الخمر في الروح من مزاجه فيتفشى
الروح وتجيء طبيعة الفرح، وكذلك نجد المتنعمين بالحمامات إذا
تنفسَّوا في هوائها واتصلت حرارة الهواء في أرواحهم
فتسخنت لذلك، حدث لهم فرح وربما انبعث الكثير منهم
بالغناء الناشئ عن السرور. ولما كان السودان ساكنين في الإقليم
الحار واستولى الحر على أمزجتهم وفي أصل تكوينهم، كان في
أرواحهم من الحرارة على نسبة أبدانهم وإقليمهم، فتكون أرواحهم
بالقياس إلى أرواح أهل الإقليم الرابع أشد حرًّا فتكون أكثر
تفشيًا فتكون أسرع فرحًا وسرورًا وأكثر انبساطًا، ويجيء الطيش
على أثر هذه، وكذلك يلحق بهم قليلًا أهل البلاد البحرية لما
كان هواؤها متضاعف الحرارة بما ينعكس عليه من أضواء بسيط
البحر وأشعته، كانت حصتهم من توابع الحرارة في الفرح والخفة
موجودةً أكثر من بلاد التلول والجبال الباردة، وقد نجد يسيرًا
من ذلك في أهل البلاد الجزيرية من الإقليم الثالث لتوفُّر
الحرارة فيها وفي هوائها؛ لأنها عريقة في الجنوب عن الأرياف
والتلول، واعتبر ذلك أيضًا بأهل مصر، فإنها مثل عرض البلاد
الجزيرية أو قريب منها، كيف غلب الفرح عليهم والخفة والغفلة
عن العواقب حتى إنهم لا يدَّخرون أقوات سنتهم ولا شهرهم، وعامة
مأكلهم من أسواقهم.»
٥٤
ولما كانت فاس من بلاد المغرب بالعكس منها في التوغل في
التلول الباردة كيف ترى أهلها مطرقين إطراق الحزن، وكيف
أفرطوا في نظر العواقب حتى إن الرجل منهم ليدَّخر قوت سنتين من
حبوب الحنطة ويباكر الأسواق لشراء قوته ليومه مخافة أن
يرزأ شيئًا من مدخره، وتتبع ذلك في الأقاليم والبلدان تجد
في الأخلاق أثرًا من كيفيات الهواء، والله الخلَّاق العليم.»
٥٥
ولدى حديثه عن صناعة الحياكة والخياطة قال: «اعلم أن
المعتدلين من البشر في معنى الإنسانية لا بد لهم من الفكر
في الدفء كالفكر في الكن. ويحصل الدفء باشتمال المنسوج
للوقاية من الحر والبرد. ولا بد لذلك من إلحام الغزل حتى
يصير ثوبًا واحدًا، وهو النسج والحياكة؛ فإن كانوا باديةً
اقتصروا عليه، وإن قالوا إلى الحضارة فصلوا تلك المنسوجة قطعًا
يقدرون منها ثوبًا على البدن بشكله وتعدد أعضائه واختلاف
نواحيها، ثم يلائمون بين تلك القطع بالوصائل حتى تصير ثوبًا
واحدًا على البدن ويلبسونها. والصناعة المحصلة لهذه الملاءمة
هي الخياطة.»
٥٦
(١٢) مؤلف مجهول (القرن ؟)
ذكر مؤلف كتاب «الذخيرة الإسكندرانية» المجهول أن لحرارة
أشعة الشمس تأثيرًا على النبات سواء بالنسبة لوجودها أو
بالنسبة لأنواعها؛ فالأنواع التي تعيش في المناطق الحارَّة لا
تعيش في المناطق الباردة والعكس صحيح.
قال: «وأما تأثير الشمس في النبات وكونها علةً لوجودها
فأمرٌ ظاهر؛ فإن سائر أنواع النبات على الإطلاق مفتقرة في
كمالها إلى الشمس، وأما وجود بعض النبات في بعض البلاد دون بعض
فمن النيرين سببه إنما هو اختلاف البلدان والبقاع في الحر
والبرد الذي سببه الأعظم إسخان الشمس؛ فإن النخل يوجد في
الأراضي الحارَّة ولا ينبت في البلاد الباردة، وكذلك شجر
الأترج والميمونة والموز والبرم وغيرها من الأشجار لا
ينبت في البلاد الباردة، وفي الإقليم الأول ينبت الأفاويه
الهندية لا ينبت في غيره، وفي البلاد الجنوبية التي وراء خط
الاستواء ينبت أشجار وفواكه وأفاويه وحشايش لا يُعرَف شيء
منها في بلاد الشمال، وهذا كله من اختلاف مواقع جريان الشمس
بالطلوع والغروب والارتفاع والانخفاض عند صعودها في الجو
وهبوطها، فإن اختلاف ذلك سبب تنوع اختلافات كثيرة في
الأراضي والبحار والأهوية والمعادن.»
٥٧
وكذلك الحال بالنسبة للحيوان: «وأما الحيوانات فتختلف
أحوالهم باختلاف حرارة البلاد وبردها الذي إنما هو سببه قرب
الشمس وبعدها؛ فإن الفيل والغيلم والقرشان والببر وغزال المسك
والكركدن يوجد بأرض الهند، وليست توجد في الأقاليم التي دونها
في الحرارة سوى غزال المسك؛ فقد يخرج إلى بلاد الترك ويتوالد
بها أيضًا؛ فالفيلة في جنوب إقليم الهند، أعني في بلاد السودان
يكون أعظم جسومًا وأطول أعمارًا؛ فإذا كانت هذه الأفعال
للشمس وآثارها فيحق ما صارت الشمس فاعلًا عظيم القدر قاهر
القوة في العالم كله.»
٥٨