مقدمة
عندما نخلص أي جسم من حرارته — بأي طريقة كانت — فإن
ثلاثة آثار تظهر عليه؛ الأول يبدأ الجسم بالتبرد، والثاني يبدأ
بالانكماش لاتخاذ حيز أقل، والثالث هي تحول الجسم من الغاز إلى
السائل أو من السائل إلى الصلب.
١ وهي الحالة التي تذكِّرنا بما قاله أبو العلاء المعري:
٢
لا تُكرموا جسدي إذا ما حل بي
ريب المنون فلا فضيلة للجسد
كالبرد كان على اللوابس نافقًا
حتى إذا فنيت بشاشته كسد
أرواحنا ظلمت فتلك بيوتها
درس خوين من الضغائن والحسد
واروه من قبل الفساد فإنه
جسم إذا فُقدت حرارته فسد
وربما كانت الشقوق الصخرية التي وُجدت في الكهوف والمغارات التي
سكنها الإنسان تشكل الأماكن الأولى التي تمكن من خلالها من حفظ
الثلج فيها؛ فهي بعيدة عن أشعة الشمس، ومعزولة طبيعيًّا بالطبقات
الصخرية الثخينة.
بشكلٍ عام للحفاظ على درجة برودة الثلج المجمد كان يتبع قديمًا
عدة طرائق:
٣
-
الجمع والرص ضمن كهوف صخرية في أثناء
الشتاء.
-
بناء شديد الثخانة من القش والتبن، بحيث توضع
بداخله قطع من الخيش السميك الذي يُدعى «الجنفيص»،
ثم يجمع الثلج ويُكبس بشدة حتى يمتلئ
المستودع، ثم يُغطى بالخيش.
-
صنع صناديق خشبية ووضعه فيها.
-
في البدايات استُخدمت صناديق مصنوعة من معدن
الرصاص، لكن في القرن التاسع عشر وبداية القرن
العشرين للميلاد استُخدم معدن التوتياء.
طبعًا يوجد الآن طرائق أخرى للتخلص من الحرارة من جسم من دون أن
يلامس جسمًا آخر أبرد منه، وهي طريقة التبريد الميكانيكي. ويعمل
التبريد الميكانيكي بتغيير مادة تُسمى المبرد من الحالة
الغازية إلى الحالة السائلة ثم إلى الحالة الغازية مرة أخرى؛ ففي
الثلاجة مثلًا تعصر المضغطة مبردًا غازيًّا إلى حجم صغير، ويقلل
الضغط تبعثر واضطراب المبرد بقدر كبير بحيث يتحول إلى سائل. بعد
ذلك يتمدد المبرد السائل المضغوط عند صمام يؤدي إلى أنابيب موجودة
في الجزء المعزول من الثلاجة. وعندما ينخفض الضغط بسبب التمدد
تنخفض درجة الحرارة كذلك، وبالتالي يمتص المبرد حرارةً من الطعام
الموجود في الثلاجة. وتنخفض درجة حرارة الطعام ما ظلت الحرارة
تنساب خارجةً منه. ويتحول المبرد المسخن بامتصاصه للحرارة إلى غاز؛
ومن ثَم ينساب خلال أنابيب أخرى راجعًا إلى المضغطة، ومن ثم
تبدأ دورة التبريد مرة أخرى. نظريًّا، أبرد درجة حرارة يمكن أن
يصل إليها جسم هي الصفر المطلق، وهو يساوي −٢٧٣٫١٥° مئوية. وتقع
دراسة كيفية الوصول إلى درجات حرارة مقاربة للصفر المطلق ضمن مجال
فيزياء الحرارة المنخفضة.
٤
يبحث علم
التبريد
Refrigeration Science في كيفية تبريد المواد بطرائق
متعددة من خلال أجهزة التبريد.
٥ وقد نشأ في بداية القرن ١٩م علم التبريد الشديد أو علم
التقريس أو التبريد الفائق
Cryogenics، وهو العلم الذي
يدرس درجات الحرارة المنخفضة جدًّا أو توليد درجات الحرارة هذه،
ويستخدم في ذلك غازات مسالة مثل النتروجين السائل أو الهليوم
السائل. ويدرس علم التبريد عملية نقل الحرارة من جسم لتبريده، أو
عملية الحفاظ على شيء عن طريق التبريد، أو تبريد الجسم لأغراض علاجية.
٦
صناعة التبريد لم تنقرض بعدُ بسبب انتشار الثلاجات المنزلية، بل
لا يزال هناك عدد من الشركات التي تعمل على إنتاج الثلج حتى الآن،
ولعل أكبر شركة مستمرة في إنتاج ألواح الجليد حتى الآن هي شركة
Ice Co الموجودة في مدينة
يوركشاير البريطانية نحو ٥٠٠ طن من الثلج يوميًّا؛ إذ تُعتبر
أكبر الشركات إنتاجًا للجليد في أوروبا في هذا المجال، كما أن
بريطانيا تُعَد أكبر دولة مصدِّرة للثلج في أوروبا
بمبيعاتها إلى عشر دول، من بينها فرنسا والسويد والدنمارك وهونغ
كونغ. وتقول شركة
ice co إن عددًا
صغيرًا من السكان يشترون الثلج المصنع، ولكن في السنوات
الخمس الماضية تضاعفت المبيعات بشكل كبير. واعتبارًا من عام ٢٠١٤
بدأ إنتاج مكعبات الثلج الصغيرة التي تذوب بشكل أبطأ من ذوبان
الثلج الطبيعي بخمسة أضعاف، إلى جانب ألواح الثلج الكبيرة. للثلج
عدة فوائد طبية، مثل علاج حب الشباب وهياج البشرة
واحمرارها، وعلاج انتفاخ العينين، وتصغير حجم المسامات وإغلاقها.
٧
سنتناول في هذا الفصل مراحل تطور صناعة التبريد منذ أقدم العصور
وحتى القرن العشرين، محاولًا توضيح معظم الطرائق التي كانت
متبَعة.
المبحث الأول: الحضارات القديمة
لاحظ المزارعون القدماء أن الماء عندما يتجمد يطرح كميةً من
الحرارة تكفي لحفظ الفواكه والخضار من الضرر طوال فترة الشتاء؛
ولذلك كانوا يضعون قدورًا كبيرة فيها مياه في مخازن الفواكه
والخضار. ولما كانت درجة تجمد الفواكه والخضار أقل من درجة
تجمد الماء، فإن الحرارة المنبعثة من تجمد الماء كانت
كافية لحفظ الفاكهة والخضار من التجمد والفساد.
٨
ثَمة طريقة أخرى يبدو أنها كانت تُستخدم في العراق لحفظ التفاح
طريًّا لوقت الشتاء. تقوم هذه الطريقة على اختيار التفاح الصلب، ثم
يمسح ويجفف جيدًا، ثم يرتب ويصف في برميل، ثم توضع
نخالة خشبية بين الصفوف بحيث لا يتلامس التفاح مع بعضه بعضًا،
ثم يتم إحكام البرميل وحفظه في مكان بارد.
٩
كذلك كانت السلال والأسفاط التي تصنع من نبات البردي
والسمار
Sammar تحافظ على
الفواكه الموضوعة فيها فتقيها الفساد، وتساعد على دخول الهواء
فيما بين الحبات.
١٠
ومنذ أن عرف الإنسان الفخار بدأ يصنع منه أواني عديدة، ومنها
الأوعية التي يخزن فيها الماء؛ حيث إنه وجدها تقوم بتبريد
الماء من خلال تبخير جزء منه.
١١
(١) العموريون والآشوريون
كان العموريون والآشوريون أول من استعمل غرف الخشب
المرصوص، أو ما يُسمى ببيوت الثلج، ليحفظ فيها الجليد
والثلج في الشتاء، ثم لينقل ويباع في الصيف بحيث يتم
تناوله مع مختلف أنواع المشروبات. وقد بقيت هذه الطريقة
شائعةً حتى ظهرت أكياس الخيش فصارت الثلوج تنقل داخلها
إلى الأماكن القريبة؛ ففي مملكتَي ماري
١٢ وكارانا (تقع في جبل سنجار غربيَّ الموصل) عام
١٧٥٠ق.م. وفي كل الحضارات التي نشأت على ضفاف الخابور الذي
يرفد نهر الفرات، كان الثلج المجمد معروفًا. وقد
دلنا على ذلك المكتشفات الأثرية في حضارة مدينة «ترقا»
لبيت الثلج الذي تبين أن حاكم «ترقا» قد أرسل إلى ملك
«ماري» زمري-ليم
Zimri-Lim
(القرن ١٧ق.م.) ليرسل إليه: «رجال يشرفون على تسلم وتجميع
وترتيب الثلج في ترقا.» وتشير الرُّقم الفخارية أن حفظ الثلج
لم يكن معروفًا صيفًا قبل أيام ملك ماري زمري ليم. كما كتب
الملك «أبلا هندا» ملك كركميش (مدينة جرابلس اليوم شمال سوريا)
إلى «ياشيم-حدو» بعد خلو كرسي الملك الآشوري: «الآن … يوجد
لدينا ثلج في زيرانوم بكثرة.» وكتب الملك «شمشي-حدد» إلى
ابنه: «أما في تجميع الثلج، فهل من الجيد تحميل الحمالين الثلج
من بعد ٢٠–٣٠ مسافة؟» وقال: «اطلب من خدمك جمع الثلج
واجعلهم ينقونه من أغصان الشجر والوسخ.»
١٣
كما صنعت في حضارات بلاد الرافدين كئوس رخامية لتقديم
المشروبات، فهو يساعد على الاحتفاظ بالبرودة القصوى للمشروبات.
١٤
بناءً على ذلك يرجِّح بعض المؤرخين أنه ربما يعود أصل
استهلاك المشروبات المبردة والمثلجة في أي وقت من
أوقات السنة وفي أي منطقة كانت إلى بلاد ما بين النهرين؛
فقد حظيت هذه المشروبات باهتمام الأطباء نظرًا لخصائصها
العلاجية لبعض الأمراض؛ الأمر الذي دفع السلطات لتوفيرها على
مدار العام. وتعود أولى الروايات عن هذه المشروبات إلى العام
١٧٠٠ق.م. حيث كانت تُبنى في مملكة ماري أقبية لتخزين
«الشوريبو»؛ أي الجليد أو الثلج المجلوب من مناطق تبعد
حوالَي مائتَي كم عنها. هذه الأقبية تعتمد على مبدأ أن
التغيرات في درجة حرارة سطح الأرض تصل إلى عمق معين،
ولكنها تأخذ بعدئذٍ بالتناقص، وتتقلص وتيرة تأثُّر درجة
الحرارة في العمل عن تلك السطحية مع نزولنا للأسفل، وفي
المناطق المعتدلة، حيث يصل تأثير التغيير إلى عمق متر. أما
التغيرات الأكثر بطئًا، والناجمة عن تعاقب الأيام الحارَّة
والباردة، فهي سريعة الزوال. وينخفض التغير السنوي
(شتاءً/صيفًا) إلى حد الخمس، ويتأخر ثلاثة أشهُر على عمق
خمسة أمتار. ويستمر في الانخفاض بمعدل ٤٪، ويتأخر مدة
ستة أشهُر على عمق حوالَي عشرة أمتار. ويفقد أهميته على عمق
حوالَي عشرين مترًا. بعدئذٍ تبدأ درجة الحرارة، التي أصبحت
ثابتةً تقريبًا، في الارتفاع مع ازدياد العمق.
١٥
ستعود هذه الطريقة وتظهر في الغرب عن طريق الأندلس، وهو ما
تشير إليه كلمة سوربيتيه
Sorbete التي يشار بها إلى المشروبات
المثلجة والعذبة، والتي تنحدر من كلمة «شراب» العربية، ذات
الصلة بالكلمة البابلية «شوريبو». ونجد مشتقاتها في لغاتٍ
أخرى مثل
Sherbet الإنجليزية،
و
Sorbet الألمانية،
و
Sorbet الفرنسية.
١٦
وكانت سيقان نبات القنب المجوفة تُستعمل بمثابة قشة
(مصاصة) تُشرب بها الجعة المرطبة المصنوعة من
الشعير في بلاد ما بين النهرين.
١٧
(٢) المصريون القدماء
تمكن المصريون القدماء، منذ حوالَي ٢٥٠٠ سنة قبل الميلاد، من
الحصول على الأثر التبريدي بدرجات متفاوتة أفضت في بعض
الأحيان إلى الحصول على الثلج، حيث كانوا يقومون بعملية تبخير
وتبادل حراري بالإشعاع بين سطح الماء وبعض الأطعمة والسماء
خلال الليل.
١٨
يرى المؤرخ توم شاختمان في كتابه «الصفر المطلق والبرودة
المطبقة» أن المصريين القدماء وعدة ثقافات شعبية أخرى
قديمة عرفوا التبريد الليلي بالتبخير الذي يتم عن طريق تبخر
الماء وحرارة الأشعة، وهي تدل على قدرة الأملاح على تخفيض
درجة تجميد المياه.
١٩
كما كان المصريون يحفظون عصير الفواكه باردًا بتعبئته في
وعاء يوضع الثلج حوله معروفًا، إلا أنه ليس سوى مياه مثلجة
لكن ليس كالمثلجات التي نعرفها نحن اليوم.
٢٠
أيضًا كان المصريون يبردون الماء عن طريق وضع الماء
المغلي في الجِرار الفخارية الضحلة ووضعها على أسطح منازلهم
ليلًا. وكان العبيد يعمدون إلى ترطيب الجِرار من الخارج حيث إن
التبخر الناتج يسبب تبريد المياه.
٢١
(٣) الهنود
الطريقة المصرية في التبريد نجدها أيضًا في الهند، حيث يُبرَّد
الماء في الليل عن طريق تبخر الماء والإشعاع الحراري، وقد
كانت تمتلك الأملاح قدرةً على خفض درجة حرارة التجمد في الماء.
٢٢ هذه الطريقة بقيت تُستخدم حتى القرن العشرين في
المقاطعات العليا من الهند، حيث توضع المياه لتجميدها خلال
البرد في الليالي الصاحية من خلال تركها بين عشية وضحاها في
الأوعية التي يسهل اختراقها، أو المبردة في الحاويات الملفوفة
في قطعة قماش مبللة، عندما يتجمد الماء بسبب البرد الناتج عن
تبخره، وفي المرحلة الثانية يتم تبريد الماء بسرعة من خلال
تجفيف المجمع المرطب. وفي البنغال لجأ الناس إلى خطة أكثر
تفصيلًا؛ حيث يتم حفر حفرة بعمق حوالَي ستين سم، وتُملأ
ثلاثة أرباعها بالقش الجاف، ثم يتم وضع فتحة تمكن من
سحب المياه منها.
٢٣
وقد كانت الهند مطلع القرن ١٩م تصدِّر الخيش؛ وهو قماش
مصنوع من ألياف نبات الجوت، ويُسمى بقماش «الهيسيين»، وهو ذو
لون بنِّي خفيف. وقد أصبح الخيش يُستعمل فيما بعد في صناعة
أكياس حفظ ألواح الجليد المصنَّع، ولا يمكن أن تصنع منه
ملابس بسبب خشونة ملمسه.
٢٤
(٤) الصينيون القدماء
في القرن السابع قبل الميلاد كان الصينيون يستخدمون الجليد
للحفاظ على الخضراوات والفواكه. وخلال حكم سلالة تانغ في الصين
(٦١٨–٩٠٧م) تشير الوثائق إلى ممارسة استخدام الثلج الذي كان
رائجًا منذ عهد أسرة تشو الشرقية (٧٧٠–٢٥٦ق.م.) من قِبل
أربعة وتسعين عاملًا يعملون من أجل «خدمة الجليد» لتجميد
كل شيء من النبيذ إلى الجثث.
٢٥ وقد قام الصينيون القدماء بجمع الجليد وتخزينه
بعناية في غرف تحت الأرض لتبريد المشروبات وللمساعدة في الحفاظ
على المواد الغذائية.
٢٦
(٥) الفُرس
لقد عرَف الناس الذين كانوا يعيشون في المناطق الفارسية التي
يهطل فيها الثلج بشكل موسمي — مثل شمال إيران — كيف يخزنون هذا
الثلج في الكهوف لفترة طويلة، واستخدموه لحفظ الأطعمة المختلفة.
٢٧ وقد اشتهرت شمال فارس بجودة فواكهها، وبشكل خاص
مرو التي كانت تنتج أجود أنواع البطيخ الأحمر. وقد كان
يُقدَّد ويُحمل إلى العراق، كما كان يُحمل هذا النوع
من البطيخ إلى الخليفة المأمون ثم الواثق بالله، ضمن قوالب من
الرصاص الممتلئة بالثلج.
٢٨
عُرِف عن الفرس أيضًا تطويرهم لطريقة التبريد بالتبخير
باستخدام قباب الياخجال
Yakhchāl (الكلمة تعني حفرة الجليد) منذ
القرن الرابع قبل الميلاد، حيث تُصنع حفرة توضع فوقها
قبة مصنوعة من مواد عازلة للحرارة يُصنع فيها
الجليد وتُستخدم لتخزين الأطعمة والجليد نفسه.
٢٩
المبحث الثالث: الرومانيون
كان الرومان يضعون كميات كبيرةً من الثلج في حُفر للتخزين
يُغطونها بمواد عازلة. كان الرومان يصنعون سراديب عميقة بثلج
ينقلونه من جبال الألب، ويجعلون فيها الأطعمة التي يريدون ادِّخارها للصيف.
٣٢ لم يكن الثلج يُستخدم عند الرومان لحفظ الأغذية فقط،
وإنما كان يُستخدم لتبريد الخمر أيضًا. وفقًا للمؤرخ بليني الأكبر
Pliny the Elder (توفي ٧٩م)،
فقد اخترع الإمبراطور الروماني نيرون
Nero (توفي ٦٨م) دلو الثلج لتبريد الخمور بدلًا
من إضافته إلى النبيذ لجعله باردًا؛ فقد كانت الإضافة تخفِّف من طعمه.
٣٣ الثلوج كان يُحضرها له العبيد.
٣٤
كما استعمل عامة الرومان الغلايات القديمة التي تُدعى
السماور
Samovar، التي كانت
تقدم الخمر الدافئ والماء البارد في الوقت نفسه. كان الجليد
يُخزن لثلاث سنوات كاملةً في غرف حقول الثلج. كانت تلك الغرف
تُصمَّم تحت الأرض أو في الكهوف أو الآبار أو موضوعة في الجبال
حيث الثلج المتراكم في أثناء الشتاء، والذي يتم نقله على شكل
جليد متراص بحيث يمكن حِفظه أثناء الصيف. ويتم تقطيعه إلى قطع
ويباع مبردًا أو لوضعه في المشروبات المثلجة. عند اللحظة
الأولى، كان يتم وضع القطع في قارورة قبلًا بدرجة حرارة
منخفضة للماء، كما كان يوجد غلاية مضاعفة الجدران، وهي موصوفة
بالتفصيل، صنعها جنرال روماني من أجل تقديم النبيذ الحار والماء
البارد للضيوف. قد كان يتم الاختيار، وذلك بتدوير دعامتَي المزهريتين
الموضوعتين على الدبوس الرئيس للمنضدة الحلقية، وذلك بجلب
الصنبور المرغوب به إلى الكوب.
٣٥
المبحث الرابع: العلماء العرب
والمسلمون
مقارنةً بألفاظ ومفردات الحرارة، فإن الكلمات العربية التي تخص
البرودة كانت أقل؛ فالبيئة والوسط الذي عاشوا فيه قلما يعرف
البرودة. وفي حين أننا نرى في اللغة الإنجليزية وجود مرادفين أو
ثلاثة للثلج، نجد ثلاثين مرادفًا للثلج في لغة الإسكيمو، والسبب
في ذلك يعود إلى الحاجة إلى التمايز اللفظي الذي يسهل رؤية
وفهم ووصف كل حالة من حالات الثلج.
٣٦
الشراب المبرد أو المثلج كان معروفًا منذ أيام الأمويين؛
٣٧ فقد ذكر أبو هلال العسكري (توفي بعد ٣٩٥ﻫ/١٠٠٤م) في
كتابه «الأوائل» أن أول من حمل إليه الثلج هو الحجاج بن
يوسف الثقفي (توفي ٩٥ﻫ/٧١٤م) بالعراق.
٣٨
وتذكُر المصادر أن الخليفة هارون الرشيد كان يحمل معه الثلج في
أسفاره، وكان يجلب من الجبال الشمالية للعراق حيث يحمله معه
أيامًا وأسابيع إلى أماكن حارَّة كالحجاز مثلًا. وهو أمر يقتضي
المعرفة بوسائل جيدة لحفظ الثلج.
٣٩
كما كان الفاطميون يستعملون الثلج في قصورهم، ويحملونه في مواكب
الحج إلى مكة، حتى إنهم استخدموه في ساحات القتال.
٤٠
لقد تولَّى أبو الحسن علي بن محمد بن موسى بن حسن بن الفرات (توفي
٣١٢ﻫ/٩٢٤م) الوزارة ثلاث مرَّات في عهد المقتدر بالله (توفي ٣٢٠ﻫ/٩٣٢م)،
وفي كل مرة كان يتسلم فيها مقاليد السلطة كانت ترتفع فيها
أسعار ثلاث مواد هي الشمع والورق (الكاغد) والثلج؛ فقد كان
يستهلك كميات كبيرةً من هذه المواد؛ فما من أحد، كائنًا من كان،
يشرب عنده في الفصول الثلاثة إلا الماء المثلج، وكان يخرج في كل
يوم إلى دار العامة من الثلج أربعون ألف رطل ما عدا ما كان
لخاصته وبيت شرابه.
٤١
وتوثِّق لنا الآداب العربية، منذ القرن التاسع الميلادي على الأقل،
أن العرب كان يعرفون الثلج ويتعاملون به؛ ففي الليلة العاشرة من
قصص «ألف ليلة وليلة» نجد في حكاية الحمَّال والبنات الثلاث
تحدثًا عن المشروبات الباردة المقدمة إلى هارون الرشيد: «فقامت
البوابة وقدمت له سفرة مزركَشة، ووضعت عليها باطية من الصيني، وسكبت
فيها ماء الخلاف، وأرخت فيه قطعة من الثلج ومزجته بسكر، فشكرها الخليفة.»
٤٢ والباطية هي كوب، والخلاف نوع من صنف شجر الصفصاف، له
ثمرٌ زكي الرائحة ناعم المشم، ويُستخرج من زهره شراب يُمزَج
بالسكر.
وفي المقامة «البغدادية» لبديع الزمان الهمذاني (توفي
٣٩٨ﻫ/١٠٠٧م)، يعد عيسى بن هشام ضحيته السوادي بماء يُشعشَع بالثلج.
وفي المقامة الساسانية ورد الماء المثلج في شعر شخصية أبي الفتح
الإسكندري:
أريد ماءً بثلج
يغشى إناءً طريفا
وهذا يؤكد أن الماء المثلج كان منتشرًا في الأسواق الشعبية، في
بغداد ودمشق وغيرهما من المدن
٤٣ العربية والإسلامية.
حتى إن الذين يتبرَّعون بالماء للناس كانوا يحرصون على تقديمه
باردًا. وقد أكَّد الرحالة ابن حوقل (توفي بعد ٣٦٧ﻫ/بعد ٩٧٧م)
على ذلك منذ القرن ٤ﻫ/١٠م، حيث قال: «وقلما رأيت خانًا أو طرف
سكة أو محلة أو مجمع ناس إلى حائط بسمرقند يخلو من ماء مسبَّل
مجمَّد، وذكر لي من يرجع إلى خبرة أنَّ بسمرقند في المدينة وحيطانها
فيما يشتمل عليه السور الخارج زيادة على ألفَي مكان يُسقى فيها ماء
الجمد مسبلًا عليه الوقوف من بين سقاية مبنية وحباب نحاس
منصوبة وقلال خزف مثبَّتة في الحيطان مبنية.»
٤٤
وقد تميز نظام أوقاف الأسبلة عند المماليك بسقاية عابر السبيل؛
أي منح الأسبلة مباني خاصةً قائمة بحد ذاتها بعد أن كانت ملحَقة
بغيرها من المباني كالمشافي أو المدارس أو المساجد. وقد تميزت
مباني الأسبلة المملوكية بعدة تصاميم معمارية؛ فهي إما ذات شباك
واحد ملحق بمنشأة ذات واجهة واحدة على الطريق العام، كما في مدرسة
أم السلطان شعبان في القاهرة، وإما سبيل ذو شباكين، حيث يُبنى في
أحد أركان مدرسة أو مسجد، مثل سبيل الناصر محمد قلاوون الذي
بُني عام ٧٢٦ﻫ/١٣٢٥م. ويُعتبر سبيل قايتباي من أجمل الأسبلة
التي أنشئت في العصر المملوكي الجركسي. وكانت الأسبلة المملوكية
تُبنى بطريقة هندسية رائعة، فهي تتكون من طابقين؛ الأول يُسمى
بالصهريج، ويكون في داخل الأرض لتخزين المياه، وتُبنى الصهاريج
من مواد عازلة ومقاومة للرطوبة. أما الطابق الثاني فهو حجرة
التسبيل وملحقاتها؛ ففي الواجهة شبابيك التسبيل، ويتقدمها ألواح
حجرية أو رخامة لوضع كيزان الشرب عليها، ويتقدم كل شباك مصطبة
لوقوف المارَّة عليها أثناء الشرب، وبذلك يكونون بمأمن من حركة
الطريق. تُرفع المياه من الصهريج الموجود تحت الأرض عن طريق أنابيب
غير مرئية، ثم تمرُّ على أحواض رخامية إلى أن تصل إلى حجرة
التسبيل، والتي تتوسط أرضيات شبابيك التسبيل، ثم يضاف إليها ماء
الورد لتكون جاهزةً للشرب. بالإضافة إلى أن مهمة الصهاريج تخزين
المياه وحفظها؛ فقد كانت تُستخدم للتبريد.
٤٥ فهي معزولة الجدران؛ لذلك فإن المياه الصادرة عنها من
الطبيعي أن تكون بدرجة حرارة أبرد من درجة حرارة المحيط.
كذلك فإن من أشهر الصهاريج التي بُنيت في العصر المملوكي صهريج
السلطان بيبرس في صف، فقد أنشأه في قلعتها مدرجًا من أربع جهات،
وبنى عليه برجًا زائد الارتفاع، قيل إن ارتفاعه بلغ ١٠٠ ذراع.
٤٦
ولا بد أن تقنية بلاد ما بين النهرين، وتقنية التبريد المصرية
التي نشأت عنها القلة الفخارية الإسبانية
Botijo، كانتا معروفتين في
الأندلس في القرن ٤ﻫ/١٠م، وذلك عن طريق المسافرين العائدين من
المشرق الذين لاحظوا استعمال الثلج هناك، كما عمد الأطباء
الأندلسيون إلى استخدامه دواءً.
٤٧
وأشار الرحَّالة المصري عبد الباسط فيروي
٤٨ إلى وجود تراب أحمر اللون في غرناطة تُصنع منه
«الكيزان» التي يُشرَب بها الماء، وهذه الكيزان رقيقة وفي منتهى
الدقة في صناعتها، حيث إنها تُبرد الماء لوحدها.
٤٩ وقد كان أول خليفة لقرطبة في الأندلس عبد الرحمن
الثالث (توفي ٣٥٥ﻫ/٩٦١م) يقدم الفواكه والعصائر الباردة في أكواب
زجاجية مليئة بالثلج المدقوق المكسر. وهذه الضيافة لم تكن معروفة
في أوروبا بعد.
٥٠
لقد كان الناس في كافة العصور الإسلامية وفي أنحاء الممالك
كافةً يستمتعون بالثلج صيفًا، وكان الثلج يُحمل من الشام إلى قصر
كافور الإخشيدي (توفي ٣٥٧ﻫ/٩٦٨م) بمصر ليُستعمل في تبريد
المشروبات. وقد كان يدخل إلى دار ابن عمار، الوصي على الحاكم بأمر
الله (توفي ٤١١ﻫ/١٠٢١م)، والوسيط بينه وبين الناس، نصف حمل ثلجًا
في كل يوم. أما في مكة والبصرة فلم يكن الثلج متوفرًا. وهو ما
نستدل عليه من شعر أبي إسحق الصابئ:
٥١
لهف قلبي على المقام ببغدا
د وشربي من ماء كوز بثلج
نحن بالبصرة الدميمة نُسقى
شر سقيا من مائها الأترجي
كان الثلج يُنقل من مكان لآخر إما بوساطة الطريق البري أو الطريق النهري:
٥٢
وحتى يومنا هذا يوجد أناس في تركيا يمشون بين ٣ أو ٤ ساعات
يوميًّا على أقدامهم، لجلب الثلج من ارتفاع ٢٣٠٠ متر؛ ليصنعوا منه
العصير! إذ يسيرون حتى مع الصيام في شهر رمضان ليخلطوه بالعصير
ويبيعوه أمام المساجد. تتوارث الأجيال هذه المهنة منذ ٩٠ عامًا في
تركيا، والناس تُقبِل على شراء هذا العصير؛ لأنه طبيعي من الجبال
وليس من الثلاجات الصناعية.
٥٣
وقد أشار الباحثون: ت. غوتييه، وواشنطن إرفنغ، وفيدل فرنانديث
مارتينث الذي يتحدث لدى وصفه لسلسلة جبال سييرا نيفادا (جنوبي
غرناطة الإسلامية)، عن الطريق الذي كان يسلكه الثلاجون العرب،
وينقل الرواية المتوارثة القائلة بأن صناعة الثلج كانت قيد
الاستثمار في عهد دولة بني نصر (الغرناطية ٨–٩ﻫ/١٤–١٥م).
٥٤
أما بالنسبة للعلماء العرب والمسلمين فقد كانت لهم بصمات لامعة
في صناعة التبريد وخزنه ونقله؛ فقد حاولوا أن يبتكروا وسائل
وطرائق ومواد تُمكنهم من تبريد الماء في أي زمان ومكان
دون الحاجة لتخزين الثلج أو نقله من مكان لآخر.
(١) أبو بكر الرازي (القرن ٤ﻫ/١٠م)
لقد أفرد أبو بكر لموضوع التبريد وتطبيقاته ثلاث رسائل:
٥٥
- الأولى: بعنوان «في الماء المبرد بالثلج والمبرد
على الثلج»، والتي وجدنا لها عنوانين آخرين
هما: «رسالة في تبريد الماء على الثلج وتبريد
الماء الذي يقع الثلج فيه»، و«رسالة في الماء
المبرد على الثلج والمبرد من غير أن يطرح فيه
الثلج، والذي يغلي ثم يبرد فيه
الثلج».
- والثانية: «في العلة التي يزعم جهال الأطباء أن الثلج
يعطش».
- والثالثة: «مقالة في العلة التي لها يُحرق الثلج
ويُقرح».
للأسف لم نتمكن من معرفة محتوى الرسائل حتى نقيم ما جاء
فيها من أفكار. لكن من الواضح، بالنسبة للرسالتين الأولى
والثانية، معالجة الرازي لأساليب تبريد الماء بوساطة الثلج
الشائع في عصره، ومحاولته الوصول لعملية التبريد باستخدام
المواد الكيميائية، كونه خبيرًا قويًّا في الكيمياء كما هو معروف؛
وبذلك يخفِّف من عناء الثلاجين بالذهاب لإحضار الثلج من أماكن
بعيدة أو تخزينه. وقد رجعنا لأشهر أعمال الرازي في مجال
الكيمياء «سر الأسرار»،
٥٦ ولم نجد له إشارة إلى هذا الموضوع.
أما الرسالة الثالثة فواضح أنه أراد أن يعالج فيها ما يسمى
«عضة البرد
Frostbite»
٥٧ وهو مرض يُصيب جلد أصابع اليدين والرجلين وما تحته
من الأنسجة بسبب التعرض للبرد القارس والجليد، حيث لدرجة حرارة
تتراوح بين −٤ و−٢ درجة مئوية.
٥٨
(٢) ابن بختويه (القرن ٤ﻫ/١٠م)
ذكر ابن بختويه (توفي حوالَي ٤٢٠ﻫ/١٠٢٩م) في
«كتاب المقدمات أو كنز الطبيب» طريقةً لتجميد الماء في غير
وقته، ولا نعلم إن كان قد أخذها عن أبي بكر الرازي أم
لا: «من الشب اليماني الجيد رطل، ويُسحق جيدًا في قدر فخار
جديدة، ويُلقى عليه ستة أرطال ماء صافٍ، ويُجعل في
تنور، ويُطين عليه حتى يذهب منه الثلثان ويبقى الثلث
لا يزيد ولا ينقص، فإنه يشتد، ثم يُرفع في قنينة ويُسَد رأسها
جيدًا. فإذا أردت العمل به أخذت ثلجية جديدة وفيها ماء صافٍ،
واجعل في الماء عشرة مثاقيل من الماء المعمول بالشب، ويُترك
ساعةً واحدةً، فإنه يصير ثلجًا. وكذلك أيضًا زعم بعض المغاربة
في صفة تجميد الماء في الصيف، فقال: اعمد إلى بذر الكتان
فانقعه في خل خمر جيد ثقيف، فإذا جمد فيه فألقه في جرة أو حب
مليء ماءً. قال فإنه يجمد فيه من الماء ولو أنه في حزيران أو تموز.»
٥٩
ويُقصد ﺑ «الخل الثقيف» أي المركز غير الممدد، أما مادة «الشب
اليماني» التي أشار إليها ابن بختويه فقد كان يقصد بها «ملح
نترات البوتاسيوم» التي لها خاصية خفض درجة حرارة الماء،
هذا ما بيَّنه كلٌّ من فون
كريمر
Von Kremer وفيشر
Fisher في القرن العشرين، وليس الكربونات
والشب. كما أشار لهذا إ. أو. فون ليبمان في عام ١٩٠٦م.
٦٠
ففي الفترة المبكرة في عصر ابن بختويه كان يطلق على نترات
البوتاسيوم عدة أسماء، وما وصفه ابن بختويه هو طريقة تكرير
نترات البوتاسيوم بحلها في الماء ثم تبخيرها ثم تبلورها. وقد
كان يؤخذ القليل من محلول النترات المركز ثم تضاف للماء المراد تبريده.
٦١
وقد ذُكر ملح نترات البوتاسيوم في كتاب العلاجات البسيطة
«الجامع لمفردات الأدوية والأغذية» لمؤلفه عبد الله بن أحمد البيطار
٦٢ (توفي ٦٤٦ﻫ/١٢٤٨م) حيث ذكر أن المادة كانت معروفة
باسم البارود بين علماء المغرب.
(٣) البِيروني (القرن ٥ﻫ/١١م)
عرَّف البِيروني عملية التبريد بوساطة أملاح الأمونيوم؛ ففي
حديثه عن غاز النشادر وممَّ يتكون ودوره في صنع الثلج،
قال: «النشادر يُبرِّد الماء، وإن جُعل مادةً في ماء جمَّده.»
٦٣
(٤) ابن أبي أصيبعة (القرن ٧ﻫ/١٣م)
ذكر ابن أبي أصيبعة (توفي ٦٦٨ﻫ/١٢٦٩م) في عدة مواضع في
كتابه «عيون الأنباء في طبقات الأطباء» عن استخدام الثلج في
العلاج الطبي لبعض الأمراض من قِبل الأطباء، وسنورد فيما
يأتي أبرز تلك الروايات التي حدثت في عهد هارون الرشيد؛ إذ
قال: «قال يوسف بن إبراهيم: حدَّثني العباس بن علي بن المهدي أن
الرشيد اتخذ مسجدًا جامعًا في بستان موسى الهادي، وأمر إخوته
وأهل بيته بحضوره في كل يوم جمعة ليتولى الصلاة بهم فيه. قال
فحضر والدي علي بن المهدي ذلك المسجد في يومٍ حارٍّ وصلَّى فيه
وانصرف إلى داره بسوق يحيى، فكسبه حر ذلك اليوم صداعًا كاد
يذهب ببصره، فأحضر له جميع متطببي مدينة السلام، وكان آخر من
أحضر منهم عيسى أبو قريش فوافاهم قد اجتمعوا للمناظرة، فقال
ليس يتفق لجماعةٍ رأي حتى يذهب بصر هذا، ثم دعا بدهن
بنفسج وماء ورد وخل خمر وثلج؛ فجعل في مضربة من ذلك
الدهن بقدر وزن درهمَين، وصب عليه شيئًا من الخل وشيئًا من الماء،
وفتَّ فيه شيئًا من الثلج، وحرَّك المضربة حتى اختلط جميع ما فيها
ثم أمر بتصبير راحة منه وسط رأسه والصبر عليه حتى ينشفه الرأس
ثم زيادة راحة أخرى، فلم يزل يفعل ذلك ثلاث مرات أو أربعًا حتى
سكن عنه الصداع وعوفي من العلة.»
٦٤
(٥) القلقشندي (القرن ٩ﻫ/١٥م)
يذكر لنا أبو العباس القلقشندي (توفي ٨٢١ﻫ/١٤١٨م) تفاصيل
كثيرة عن عمليات نقل الثلج في كتابه «صبح الأعشى في صناعة
الإنشا»؛ فقد خصَّص الباب الثالث من الخاتمة للحديث عن هجن الثلج
والمراكب المعدة لحمل الثلج الذي يُحمل من الشام إلى الأبواب
السلطانية بالديار المصرية؛ إذ يشرح في البداية أن سبب عملية
الشحن هذه هو عدم وجود مياه مبردة أو مثلجة في الصيف في
مصر، «ثم لاعتناء ملوك مصر بالثلج قرَّروا له هجنًا تحمله في
البر وسفنًا تحمله في البحر حتى يصل إلى القلعة المحروسة».
٦٥
وقد كانت عملية الشحن تتم من بلاد الشام إلى مصر بطريقين:
-
الأول بحري: من طرابلس الشام نحو دمياط، ثم يستخدم نهر
النيل إلى بولاق، ومن هناك يتابع مسيره برًّا
إلى القصور السلطانية.
-
الثاني بري: ينطلق من دمشق إلى الصنمين ثم منها إلى
بانياس ثم منها إلى أربد ثم منها إلى بيسان ثم
منها إلى جنين ثم منها إلى قاقون ثم منها إلى
لد ثم منها إلى غزة ثم منها إلى العريش ثم
منها إلى الورادة ثم منها إلى المطيلب ثم منها
إلى قطيا ثم منها إلى القصير ثم منها إلى
الصالحية ثم منها إلى بلبيس ثم منها إلى قلعة
السلطان.
قال القلقشندي: «الفصل الثاني من الباب الثالث من الخاتمة في
المراكب المعدة لنقل الثلج من الشام قد ذكر في التعريف أنها
كانت في أيام الملك الظاهر بيبرس تغمَّده الله برحمته ثلاث مراكب
في السنة لا تزيد على ذلك، قال ودامت على أيام سلطاننا يعني
الملك الناصر محمد بن قلاوون في السلطنة الثالثة، وبقيت صدرًا
منها ثم أخذت في التزيد إلى أن بلغت أحد عشر مركبًا في مملكتَي
الشام وطرابلس، وربما زادت على ذلك. قال: وآخر عهدي بها من
السبعة إلى الثمانية تطلب من الشام ولا تكلف طرابلس إلا
المساعدة، وكل ذلك بحسب اختلاف الأوقات ودواعي الضرورات. قال:
والمراكب تأتي دمياط في البحر ثم يخرج الثلج في النيل إلى ساحل
بولاق فيُنقل منه على البغال السلطانية، ويُحمل إلى الشرابخاناه
الشريفة على ما تقدَّم ذِكره، وقد جرَت العادة أن المراكب إذا سفرت
سفر معها من يتداركها من ثلاجين لمداراتها ثم الواصلون بها في
البحر يعودون على البريد في البر.»
٦٦
«الفصل الثالث من الباب الثالث من الخاتمة في الهجن المعدة
لنقل ذلك قد ذكر في التعريف أنه مما حدث في الدولة الناصرية
«محمد بن قلاوون» واستمر، وقد كان قبل ذلك لا يُحمل إلا في البحر
خاصة، ثم ذكر أن هذه المراكز من دمشق إلى الصنمين ثم منها إلى
بانياس ثم منها إلى أربد ثم منها إلى بيسان ثم منها إلى جنين
ثم منها إلى قاقون ثم منها إلى لد ثم منها إلى غزة ثم منها إلى
العريش ثم منها إلى الورادة ثم منها إلى المطيلب ثم منها إلى
قطيا ثم منها إلى القصير ثم منها إلى الصالحية ثم منها إلى
بلبيس ثم منها إلى القلعة. قال والمستقر في كل مركز ست هجن؛
خمسة للأحمال وهجين للهجان تكون كل نقلة خمسة أحمال، وهذه الهجن
من الشام إلى العريش على المملكة الشامية خلا جنين؛ فإنها على
صفد، ومن الورادة إلى القلعة هجن من المناخات السلطانية والكلفة
على مال مصر، ولا تستقر هذه الهجن بهذه المراكز إلا أوان حمل
الثلج، وهي حزيران وتشرين الثاني، وعدة نقلاته إحدى وسبعون نقلة
متقاربًا مدد ما بينها، ثم صار يزيد على ذلك ويجهز مع كل
نقلة بريدي يتداركه ويجهز معه ثلاجًا خبيرًا بحمله ومداراته يحمل
على فرس ببريد ثانٍ. قال واستقر في وقت أن يحمل الثلاج على خيل
الولاية. واعلم أن الثلج إذا وصل على المراكب والهجن حتى انتهى
إلى القلعة خُزن بالشرابخاناه السلطانية. قال في التعريف: ومذ
قرر أن يحمل من الثلج على الظهر ما يحمل استقر منه خاص
المشروب؛ لأنه يصل أنظف وآمن عاقبةً. على أن المتسفرين يأخذون
الجاشني منه بحضور أمير مجلس وشاد الشرابخاناه السلطانية
وخزانها، أما المنقول في البحر فلما عدا ذلك قال: وللمجهزين به
من الخلع ورسوم الإنعام رسوم مستقرة وعوائد مستمرة. قلت وقد جرت
العادة أن واصل الثلج في كل نقلة في البر والبحر تكتب به رجعة
من ديوان الإنشاء، وهذا هو وجه تعلقه بديوان الإنشاء.»
٦٧
ومن النص السابق نستدل على أن مئات الأطنان من الثلج كانت
تُشحن سنويًّا من بلاد الشام إلى مصر، وهذا يدل على أنها كانت
صناعة قائمة بحد ذاتها.
(٦) عبد الله البدري (القرن ٩ﻫ/١٥م)
في حديثه عن الثلج في دمشق قال أبو البقاء عبد الله البدري
(توفي ٨٩٤ﻫ/١٤٨٨م): «وبها الثلج الذي يقيم من العام إلى
القابل. ويُحمل ثلج السلطان إلى القاهرة مدة العام، وما يستعمل
بدمشق الجميع يخزنونه في حواصل معدة له.»
٦٨
أي إن الناس كانوا يخزنون الثلج في دمشق بعد أن يحضروه من
جبل الشيخ أو جبل الثلج لمدة سنة كاملة ضمن مخازن خاصة لذلك،
ومن دمشق كان يصدر الثلج المخصص للسلاطين في
مصر.
(٧) ابن غانم الرياش (القرن ١١ﻫ/١٧م)
ذكر إبراهيم بن غانم الرياش الأندلسي (توفي ١٠٤٨ﻫ/١٦٣٨م) في
كتابه «العز والمنافع للمجاهدين في سبيل الله بالمدافع» طريقةً
كيميائية كانت تُستخدم في تبريد المدافع المصنوعة من النحاس
بسرعة؛ وذلك حتى لا ينتظروا تبرُّدها في الهواء.
قال الرياش: «إذا رُمي بمِدفع عشر مرات من غير توقف أو
ثمانيًا أن يبرده بماء بارد، وأفضل من ذلك بالخل ممزوجًا معه ماء،
فتكون له سلكتان أو ثلاث تدخل في إناء كبير بالماء ثم يغسل بها
المدفع ثم ينشفه في باطنه بسلكة،
٦٩ ويكنسه بها من الوسخ الذي يكون فيه من كثرة الرمي.»
٧٠ طبعًا كان الرياش يدرك تمامًا أن تبريد المدفع
السميك يختلف عن تبريد المدفع الرقيق؛ فالمدفع السميك القوي
يسخن ببطء، أما الرقيق التصفيح أو الرهيف فإنه يسخن بسرعة بسبب
شدة الحرارة، ويمكن الاستدلال على سخونة وبرودة المعدن من خلال
رنينه الذي يختلف في الحالتين.
قال الرياش: «واعلم أن المدفع الصحيح الكثير المعدن لا يسخن
بسرعة مثل الرهيف؛ لأن قدر ما يكون أغلظ يصبر للنار أكثر، وإذا
نقصت قوة المدفع في الرمي بسبب الحرارة يعرف ذلك منها إذا
يضرب عليها باليد أو بحجارة يتنوع حسها، ويكون بخلاف ما يسمعه
منه إذا كان باردًا.»
٧١
(٨) خير الدين الأسدي (القرن ١٤ﻫ/٢٠م)
أخيرًا، يحدثنا المؤرخ الحلبي خير الدين الأسدي (توفي
١٣٩١ﻫ/١٩٧١م) في كتابه «موسوعة حلب المقارنة» عن سنة الثلج:
«جاءت على بلاد الشام سنةٌ دُعيت سنة الثلج، وظل الثلج يهطل
فيها عشرة أيام متواصلةً، وكانوا يجمعون الثلج شتاءً، ويجعلونه
أكوامًا كبيرة يُلقى عليها التبن ثم التراب بعد أن يرصُّوه
بمضارب ويتركوه للصيف.
٧٢
وقد ذكر أحد التجار للأسدي كيف كان ينقل أمخاخ الخراف
(أدمغتها) من مدينة حلب إلى مدينة بيروت يوميًّا بوساطة علب من
التوتياء، وكان يضع في كل علبة نصف لوح من الجليد ليحافظ عليها
من الفساد.
٧٣ طبعًا ما كان يدعوه لذلك هو الاستفادة من فارق
السعر بين المدينتين.
كانت ثلوج حلب لا تكفي، فكان يجلب من «مرعش» على ظهور
الجمال إلى حلب وبيروت.
٧٤ كما كان الثلج يُنقل إلى حلب قناطير مقنطرة من
مدينة كلز (أو كلس حاليًّا في تركيا) لكثرته فيها في الشتاء
قبل أن توجد معامل الجليد في حلب.
٧٥
المبحث الخامس: الأوروبيون
والأمريكيون
كان تخزين الثلج شائعًا فيما وراء جبال البيرينيه، وقد بقي
استخدام طريقة التخزين قائمًا حتى القرن العشرين، خصوصًا في سويسرا
وبُلدان أخرى في وسط أوروبا، حيث تكون فصول الشتاء باردة على نحو
يجعل هذه العملية مربحة تجاريًّا. وقد أشار الباحث ف. م. فيلدهاوس
إلى كتاب وحيد موجود في أوروبا حول موضوع الثلج، وهو «حول استخدام الثلج»
٧٦ في القرن السابع عشر، لكننا نجد في إسبانيا قبل هذا
العمل مصنفات لكاردوسو
Cardoso
ونيكولاس
مونارديس
N. B. Monardes (توفي ١٥٨٨م) التي تشير إلى وصفات
للطبيبَين العربيين أبي بكر الرازي وابن سينا.
٧٧
وقد أشار الأب جيل، عام ١٦٠٠م، في كتابه «جغرافية قطلونية»، إلى
وجود آبار جليد في مونتسيني
٧٨ (بالكاتالونية:
Montseny)، وهي إحدى بلديات
مقاطعة برشلونة، والتي تقع في منطقة كاتالونيا، شرق
إسبانيا.
وفي عام ١٦٦٢م نشر العالم روبرت
بويل
R. Boyle (توفي ١٦٩١م) كتابًا أشار فيه إلى مزيجات من
الأجسام تصلح للتبريد، وتمكَّن بعده بثلاث سنوات الأستاذ في مكتب
باريسفيليب دي
لاهير
Ph. De La Hire (توفي ١٧١٨م) من تجميد الماء بوساطة ملح النشادر.
٧٩
وقد عدَّد لنا فرنسيس
بيكون
F. Bacon (توفي ١٦٢٦م) الأساليب الشائعة في القرن
١٧م لتخزين الأشياء وحفظها بوساطة البرودة؛ إذ كانت تخزن في
الكهوف التي تقع تحت الأرض، أو تحاط بالثلج والجليد في أماكن
عميقة محفورة لهذا الغرض، أو بإنزال الأشياء للآبار، أو بتغطيتها
بوساطة الزئبق والمعادن، أو بغمرها بالسوائل التي تحول الخشب إلى
حجر، أو بدفن الأشياء بالأرض كما يفعل الصينيون بالخزف الصيني، حيث
إنهم يبقونه تحت الأرض أربعين أو خمسين عامًا؛ وذلك حتى يستخرجه
الورثة بوصفه نوعًا من المعدن الصناعي.
٨٠
تشير الوثائق إلى أن العالم وليم
كولن
W. Cullen (توفي ١٧٩٠م)، أستاذ الكيمياء بجامعة
إيدنبيرغ، أول من استطاع إنتاج الثلج بشكل صناعي؛ ففي حوالَي عام
١٧٥٥م، استخدم كولن تطاير الأثير لتبريد الماء، ثم استطاع الإسراع
بعملية تبخير الأثير وخفض حرارة تبخيره، باستخدام مضخة لخفض ضغطه؛
الأمر الذي ساعد على تحويل الماء المبرد إلى ثلج.
٨١ كما تمكَّن نارن
Nairne
من تجميد الماء في وعاء مغلق في حمض السلفوريك، حيث كان الحمض يمتص
ما تبخر من الماء فتهبط درجة الحرارة ويتجمد الماء سريعًا.
٨٢
تعود محاولات إسالة الغازات عن طريق التبريد والضغط إلى الثلث
الأخير من القرن الثامن عشر، حيث استطاع كلٌّ من كلوت
Clouet ومونج
Monge إسالة ثنائي أكسيد الكبريت عام ١٧٨٠م،
٨٣ وقام مارتينوس فان
ماروم
M. Van Marum (توفي ١٨٣٧م) وأ. باس فان
مروستفيجك
A. B. Van Mroastvijk بمحاولة ناجحة في إسالة النشادر
(الأمونيا) عام ١٧٨٧م. وقد حقَّق مايكل فاراداي
M. Faraday (توفي ١٨٦٧م) عام ١٨٢٣م نجاحًا في
إسالة غازَي كلوروكبريتيد الهيدروجين وغاز الزرنيخ، إلا أن الغازات
المعروفة والموجودة في الهواء مثل النتروجين والهيدروجين والأكسجين
أبت كل الطرائق التي تعتمد على الضغط وحده، وهو ما جعل العلماء
يطلقون عليها اسم «الغازات الدائمة».
٨٤
ربما كان الأمريكي أوليفر
إيفانز
O. Evans (توفي ١٨١٩م) أول من أشار إلى فكرة
التبريد بالتبخير عام ١٨٠٥م ثم الانضغاط والإسالة مرة أخرى (وهي
فكرة دورة التبريد بانضغاط البخار المعروفة حاليًّا)، لكن من غير
المؤكد قيامه بتجربتها أم لا، في حين أن يعقوب بيركنز
J. Perkins (توفي ١٨٤٩م)
يعد أول من قدَّم وصفًا موثقًا لدورة التبريد بانضغاط البخار
باستخدام الأثير عام ١٨٣٤م. وبعد ٢٢ سنة تمكَّن المهندس الاسترالي
جيمس هاريسون
J. Harrison
(توفي ١٨٩٣م) من صنع آلة لإنتاج الثلج، تعمل وفق التصميم الذي
اقترحه بيركنز، ولكن باستخدام أثير كبريتي بدلًا من الأثير. ومن
غير المؤكد إذا كان هاريسون على علم بتصميم بيركنز أم لا. وفي عام
١٨٧٠م، استخدم كارل فان
لينده
C. Von Linde (توفي ١٩٣٤م) في ألمانيا الأمونيا بدلًا من
الأثير، حيث تتبخر الأمونيا في الضغط الجوي عند درجة حرارة قدرها
−٣٣٫٣° مئوية، ومنذ ذلك الحين ولسنوات طويلة أصبحت من الموائع
المستخدمة كمُبردات.
٨٥
وفي عام ١٨٤٥م تمكنجون
غوري
J. Gorrie (توفي ١٨٥٥م) من صنع آلة لتجميد الهواء
بوساطة الضغط الجوي، فكان يبرد بعض غرف المرضى في المشافي
ويستحضر كمية من الجليد الصناعي. وقد جاراه في ألمانيا وفرنسا
وندهاوس ونيس
Nice، فأدَّت أبحاثهما
إلى وضع أدوات ضاغطة لتجميد الماء وحفظ المواد الغذائية كالبقول
والسمن والفواكه في أوانٍ مبردة صناعيًّا، لكن هذه الأجهزة كانت
مكلفةً جدًّا؛ لأنها تحتاج لمحركات مرتفعة الثمن.
٨٦
وفي عام ١٨٥٧م قام الفرنسي فردينناد
كاريه
F. Carré (توفي ١٨٩٤م) بصنع آلة تجميد بناها على
مبدأ امتصاص الأبخرة بوساطة الأثير سولفوريك، ثم استبدله بالنشادر
لسرعة انفجاره وأخطاره، فكان آلته تجمع بين الشروط الاقتصادية
والعملية. وقد ساعده في ذلك شارل
تاليه
C. Tellier (توفي ١٩١٣م) فطوَّر آلته بشكل أفضل،
وراح كلاهما يعمل في مجال تبريد الأطعمة.
٨٧
وبدأ تبريد المشروبات يصبح رائجًا في أوروبا، وبشكل خاص في
إيطاليا وإسبانيا وفرنسا بحلول القرن السابع عشر. وبدأ بهذا
الوقت استخدام «ملح بيتر» أو «الملح الصيني – نترات البوتاسيوم»
المذاب في الماء للتبريد، حيث اكتشف أن مزج هذا الملح بالماء
يسبب انخفاضًا كبيرًا بدرجات الحرارة. ومع نهاية القرن السابع
عشر، كانت المشروبات المجمدة والعصائر المثلجة رائجةً في
المجتمع الفرنسي.
في نهاية القرن الثامن عشر بدأ شحن الجليد تجاريًّا، وكان
لكلٍّ من الأمريكيين فردريك
تودور Frederick Tudor (توفي ١٨٦٤م) وناثنال جيفري ويثي Nathaniel Wyeth (توفي
١٨٥٦م) الفضل في تحويل هذه التجارة إلى تجارة رابحة ومنتشرة
في أنحاء العالم كافةً؛ فقد قام الأول بتطوير تقنيات العزل،
وتمكَّن من تخفيض فواقد الذوبان بشكل كبير، واهتمَّ بشحن الثلج
إلى المناطق الاستوائية، أما الثاني فقد قام بتطوير طريقة سريعة
ورخيصة لتقطيع ألواح الجليد مسرعًا بذلك إلى تخزينها ونقلها.
وازدهرت هذه التجارة بشكل كبير، وأصبح الجليد أكثر توفرًا في
العالم، وبدأ يُستخدم كوسيط للتبريد.