لعل أبسط أشكال التهوية الطبيعية التي عرفها الإنسان هي طريقة
تناوب التدفئة والتبريد؛ وذلك بأن نفتح النوافذ والأبواب لإدخال
الهواء البارد إلى غرفة معينة في فصل الشتاء، مما يسبب خفض درجة
الحرارة. كذلك يؤدي إدخال الهواء الحار إلى رفع درجة الحرارة فيها
في فصل الصيف.
٣٤ وقد استخدم قدماء المصريين والإغريق والرومان
الحصائر الرطبة لتبريد الهواء الداخلي، حيث قاموا بتعليقها فوق
فتحات أبواب منازلهم. ويبرد التبخر الهواء عند هبوب الرياح
خلال الحصائر.
٣٥
لكن ثَمة أدلة تشير إلى حدوث تطور في طريقة اقتناص الرياح
وتوجيهها داخل المنازل بهدف تكييفها وتبريدها بشكل أفضل من
الاعتماد على فتح النوافذ والأبواب.
(٢) العرب والمسلمون
يرى الرحَّالة الأمريكي أ.
لوكر
A. Locker أن أول من صنع الملاقف هم عرب لنجة (وهم
القواسم وبنو ياس)،
٣٨ ولنجة تقع اليوم في محافظة هرمز غان الإيرانية،
وتطل على الخليج العربي، في حين ترى الباحثة نادية الغزي أن
عرب لنجة هم «قبيلة جاسم» الذين استوطنوا عمان،
٣٩ وقسم منهم استوطن في «جلفار»، التي هي اليوم
مدينة رأس الخيمة في الإمارات العربية المتحدة، في حين أن
قبيلة «بني ياس» كانوا يستوطنون في منطقة تبعد عن «أبو ظبي» ٣٧كم.
٤٠
في عهد الأمويين دعا الحجاج بن يوسف الثقفي (توفي ٩٥ﻫ/٧١٤م)
إلى عملها في مدينة واسط عاصمته التي بناها في العراق؛ فقد
عمد إلى المرافق التي في المجالس ووضع فيها ألواح الجليد،
فكانت الرياح تمرُّ في الملاقف ويخرج نسيمها إلى المجالس
والصحون، حتى إن الناس استغنَوا عن استخدام المراوح اليدوية
حينها، لكن ونظرًا لعدم توفر الجليد دائمًا ولكلفته،
تم وضع أكياس الخيش المبللة بالماء أمام فتحة الملقف،
فأصبح الهواء يخرج لطيفًا أيضًا.
٤١ لكن طبعًا ليس ببرودة الهواء الذي يمر على ألواح
الجليد.
وفي عهد أبي جعفر المنصور العباسي (توفي ١٥٨ﻫ/٧٧٥م) اتُّخذت
طريقة أخرى للتبريد، حيث كانوا ينصبون الخيش الغليظ، ويُبقون
عليه مبللًا بالماء حتى يبرد الجو. وقد كان الخيش ينصبُّ على
قبة، ثم اتخذت بعد ذلك الشرائح، وانتشرت بين الناس.
٤٢
وكانت حرَّاقات دجلة التي يستعملها رجال الدولة في
غدوهم ورواحهم يعد فيها الثلج، ويعلق عليها
الخيش المبلل بالماء، وكانت ترخى على الخيش ستور
الكرابيس. وكان أهل بغداد ينامون في ليل الصيف على أسطحة المنازل.
٤٣
وقد ورد في كتاب «طبقات الأطباء» لابن أبي أصيبعة
(توفي ٦٦٨ﻫ/١٢٧٠م) الحديث عن قبة الخليفة هارون الرشيد (توفي
١٩٣ﻫ/ ٨٠٩م) المكيفة: «حدَّث أبو محمد بدر بن أبي إصبع الكاتب
قال: حدَّثني جدي قال: دخلت إلى بختيشوع في يوم شديد الحر وهو
جالس في مجلس مخيش بعدة طاقات ريح بينهما طاق أسود،
وفي وسطها قبة عليها جلال من قصب، مظهر بدبيقى قد صُبغ
بماء الورد والكافور والصندل، وعليه جبة يماني سعيدي
مثقلة، ومِطرف قد التحف به فعجبت من زيه. وحين حصلت
معه في القبة نالني من البرد أمر عظيم، فضحك وأمر لي بجبٍّ
ومطرف، وقال: يا غلام اكشف جوانب القبة فكشفت فإذا أبواب
مفتوحة من جوانب الإيوان إلى مواضع مكسوة بالثلج، وغلمان
يروحون ذلك الثلج فيخرج منه البرد الذي لحقني.»
٤٤
وهذا يعني أن العملية كانت تتم من خلال تهوية فتحات من قِبل
غلمان وضع عليها ثلج داخل أكياس من الخيش حتى لا يتحلل
بسرعة، وبتوجيه الهواء إلى داخل القبة يصبح مبردًا
مكيفًا. ونتوقع أن درجة الحرارة كانت تصل لأقل من ١٨°
مئوية، وقد كان الهواء معطرًا برائحة الورد والكافور
والصندل.
طبعًا كان جبرائيل بن بختيشوع بن جورجس (توفي ٢٥٦ﻫ/٨٧٠م)
طبيبًا سريانيًّا يطبب الخليفة هارون الرشيد والأسرة الحاكمة؛ لذلك
فإن هذا المجلس كان خاصًّا بالميسورين جدًّا من طبقة الأغنياء
والحكام والوزراء وليس بين عامة الناس.
وذكر المقريزي (توفي ٨٤٥ﻫ/١٤٤١م) أن من محاسن أهل مصر أنهم
لا يحتاجون في حر الصيف الدخول في جوف الأرض، كما يعانيه
أهل بغداد. وكان الأثرياء في ذلك العصر يستعيضون عن دخول
السراديب بنصب قبة الخيش أو بيت الخيش. وكانت عادة الأكاسرة أن
يطين سقف بيت في كل يوم صائف، فتكون قيلولة الملك فيه،
وكان يؤتى بأطباق الخلاف طوالًا، فتوضع حول البيت، ويؤتى
بقطع الثلج الكبار فتوضع ما بين أضعافها، وكانت هذه عادة
الأمويين أيضًا.
٤٥
هذه الطريقة سيُعيد الطبيب جون
غوري
J. Gorrie (توفي ١٨٥٥م) استخدامها في فلوريدا في
منتصف القرن التاسع عشر في المشفى الذي يعالج فيه مرضاه من
حمى الملاريا؛ فقد حاول غوري تعليق كتل من الجليد في سقف
المستشفى. وقد اتضح الأمر بأنه حل فعال؛ فقد برَّدت كتل
الجليد الهواء، والهواء برَّد المرضى. وعندما انخفضت
الحمى، فإن بعضًا من مرضاه نجَوا من أمراضهم.
٤٦
وقد رد المؤرخ كامل الغزي (توفي ١٣٥١ﻫ/١٩٣٣م) في
كتابه «نهر الذهب في تاريخ حلب» على ما ذكره ابن أبي أصيبعة في كتابه «طبقات الأطباء»
في ترجمة الطبيب المختار بن الحسن عبدون المعروف بابن
بطلان (توفي ٤٥٨ﻫ/١٠٦٦م) أنه كان يعتقد أن العوارض الجوية
في أصقاع حلب كانت باردةً ثم تحوَّلت إلى حرارة، مستدلًّا على
صحة دعواه هذه بما حكاه له أشياخ أهل حلب من أن شجرة الأترج
ما كانت تنبت في حلب لشدة بردها، وأن الدور القديمة في حلب
لم تكن تُستطاع السكنى في طبقتها السفلى، وأن الباذهنجات
(ملاقف الهواء) حدثت في حلب منذ زمان قريب حتى إنه لا دار إلا
وفيها باذهنج بعد عدم وجودها مطلقًا.
فقال المؤرخ كامل الغزي: «وأما عدم وجود الباذهنجات فيها
أولًا ثم وجودها أخيرًا فإن المفهوم من هذا أن البرد بينما كان
في مدينة حلب شديدًا، إذ تحول بغتةً إلى الحر، ومسَّت الحاجة
إلى عمل الباذهنجات، وهذا مما لا يتصوره عاقل؛ إذ إن سير
التحول الجوي بطيء جدًّا لا يدرك حصوله بأقل من ألف سنة
وأكثر، فالأولى أن يحمل تسرع أهل حلب إلى عمل
الباذهنجات على التفنن وتحسين المباني والاقتداء ببغداد
عاصمة الممالك الإسلامية في الشرق بعمل الباذهنجات تلطيفًا
للجو، وتخفيفًا للرطوبات.»
٤٧
ويبدو أن الملقف المؤقت كان معروفًا لدى سكان بلاد بِركي أو
بِرجي (مدينة في تركيا)، وقد أهدى السلطان أورخان سلطانها محمد
بن آيدين خيمةً تركية اسمها «خاركاه»، وقد وصفها ابن بطوطة
بقوله: «وهي عصًا من الخشب تجمع شبه قبة، وتجعل عليها اللبود،
ويفتح أعلاه لدخول الضوء والريح مثل البادهنج، ويسد متى
احتيج إلى سده.»
٤٨
كما ذكر ابن الطوير (توفي ٦١٧ﻫ/١٢٢٠م) في حديثه عن الإيوان
الكبير بأنه كان يفرش بأحسن فرش وينصب فيه مرتبة كبيرة
قريبة من باذهنجه.
٤٩
وقد ذكر المقريزي أن هذا الإيوان بناه خامس الخلفاء
الفاطميين العزيز بالله نزار بن معد بن إسماعيل (توفي
٣٨٦ﻫ/٩٩٦م) سنة ٣٦٩ﻫ/٩٧٩م بالقصر الكبير الشرقي، وكان به
جلوس الخلفاء العام بمجلس الملك قبل انتقال الجلوس نهائيًّا
إلى قاعة الذهب في زمن أبي علي منصور بن أحمد (توفي
٥٢٥ﻫ/١١٣٠م) الذي تلقب عند توليته بلقب الآمر بأحكام الله.
٥٠
وذكر عبد اللطيف البغدادي (توفي ٦٢٩ﻫ/١٢٣١م) أن نفقة
الملاقف الكبرى والمتقنة في عصره في مصر كانت تصل إلى
خمسمائة دينار.
٥١
وتشير الوثائق إلى أنه منذ القرن الرابع الهجري/العاشر
الميلادي بدأت الملاقف تدخل في حسابات علماء الفلك، خصوصًا
من قِبل الفلكيين في مصر؛ فقد بحث العالم الفلكي ابن يونس (توفي
٣٩٩ﻫ/ ١٠٠٨م) حول الاتجاه الصحيح لكثرة البادهنج، فالمعروف أن
النسيم العليل في مصر يهب من الشمال باتجاه الشمال الغربي؛
ولذا فإن الملاقف المصرية كانت ذات كوة واحدة.
٥٢
كما تناول ابن السراج الحلبي شهاب الدين أحمد بن علي
القلانسي (توفي بعد ٧٢٦ﻫ/١٣٢٦م) في رسائله عن الآلات الفلكية
تصميمًا تخطيطيًّا لشكل البادهنج والجهات التي يجب أن يوضع
وفقها. وقد تساءل الباحث ديفيد كنج عن سبب تناول ابن
السراج لموضوع التهوية في كتاب فلكي من هذا النوع، وقد تبيَّن
له أنه من بين مجموعة الجداول الفلكية التي كانت تُستخدم في
القاهرة في العصور الوسطى لضبط الوقت وتحديد مواقيت الصلاة،
كان يوجد جدول يمكِّن من يستخدمه من تحديد مواضع
البادهنج بناءً على زاوية شروق الشمس في الشتاء (حوالَي ٢٧°
جنوب شرق). وقد كانت جميع مباني القاهرة في تلك الأزمنة تحرص
على وجود البادهنج فيها. وقد أفاد وجود شكل البادهنج في نص
فلكي لاكتشاف العناصر الأساسية التي تحكم تخطيط المدينة الإسلامية.
٥٣
وأخيرًا فقد أفرد لنا شهاب الدين بن المجدي (توفي
٨٥٠ﻫ/١٥٦٠م) رسالةً صغيرةً بعنوان «تحفة الأحباب في نصب
البادهنج والمحراب»،
٥٤ أراد من خلالها مساعدة البنَّائين في تحديد جهة
الرياح أو سمت القبلة؛ أي إن الرسالة تُعتبر بمثابة دليل
إرشادي عملي حول كيفية ضبط مكان واتجاه الملقف، وكيف يمكن
الاستفادة من تحديد اتجاه الملقف لمواجهة الرياح في تحديد
اتجاه القبلة.
إذَن يدلنا انتشار الملاقف منذ القرن التاسع للميلاد، وحتى
يومنا هذا في البلاد العربية والإسلامية، على معرفة العرب
والمسلمين بعملية ضبط التهوية، والتي تعني في جوهرها التحكم
بمستوى الرطوبة النسبية في الهواء الداخل للبناء؛ مما ينجم عنه
شعور بالبرودة.
٥٥ وربما يكون أقدم نوع لهذه الملاقف — والتي لا
تزال قائمةً في القاهرة — هو ملقف الجدار القبلي لمسجد
الصالح طلائع بن زُريك (توفي ٥٥٥ﻫ/١١٦٠م).
٥٦