مصير آل دارناواي
وقفَ اثنان من رسَّامي المناظر الطبيعية يتأملان منظرًا طبيعيًّا، وقد كان أيضًا منظرًا بحريًّا، وكان كلاهما مبهورًا للغاية بالمنظر أمامه، رغم أن انطباعات كلٍّ منهما لم تكن متماثلةً تمامًا؛ فبالنسبة إلى أحدهما، الذي كان فنانًا صاعدًا من لندن، كان المنظر جديدًا وغريبًا أيضًا. أما الآخر، الذي كان فنانًا محليًّا ولكن ذاعت شهرته خارج نطاق منطقته بقليل، فقد كان المنظر مألوفًا بقدر أكبر، ولكنه ربما كان غريبًا بالنظر إلى ما كان يعلمه عن المكان.
كان المنظر من حيث درجةُ اللون والتكوين، كما رآه هذان الرجلان، عبارةً عن مساحة منبسطة من الرمال وفي خلفيتها مشهدٌ للغروب، كان المشهدُ كلُّه يقبع في خطوطٍ رفيعة من الألوان الداكنة، كالأخضر الداكن والبرونز والبُني والرمادي المائل إلى السواد الذي لم يكن كئيبًا فحسب، وإنما كان يثير شيئًا من الغموض يفوق اللون الأصفر الذهبي في ذلك الوقت من الغَسق. ولم يكن يقطع هذه الخطوطَ المستوية سوى مبنًى طويل يمتد من الحقول حتى رمال الشاطئ، في مشهدٍ جعل النباتاتِ الناميةَ حوله من الحشائش والأعشاب المُوحِشة تبدو وكأنها تلتقي بالأعشاب البحرية، ولكن كان أبرز ملامحه أنَّ الجزء العلوي منه كان غير منتظم كما لو كان خَرِبًا، ويتخلَّله الكثيرُ من النوافذ العريضة والصدوع الكبيرة، ما جعله يبدو وكأنه هيكلٌ عظميٌّ مُعتِم على خلفية الضوءِ الآفِل خلفه، في حين كان الجزءُ السفليُّ من المبنى بالكاد لا يحتوي على أي نوافذ على الإطلاق؛ إذ كانت معظم فتحات النوافذ محجوبةً ومسدودةً بالطوب، وكان من الصعب رؤيةُ مَعالمها في ظُلمة الغسق. ومع ذلك، كان هناك على الأقل نافذةٌ واحدة لا تزال كما هي؛ وكانت فيما يبدو هي الأغرب من بين كلِّ النوافذ لأنَّه كان ثمة ضوءٌ ينبعث منها.
تساءَل الرجلُ اللندني الضخم البنية الذي كان يبدو عليه المظهر البوهيمي، وكان شابًّا يافعًا لكن كان له ذقن أحمر أشعثُ جعله يبدو أكثر تقدُّمًا في العمر، وكان تشيلسي يُناديه بطريقةٍ غير رسميةٍ باسم هاري باين؛ تساءَل متعجبًا: «مَنْ عساه يستطيع العيشَ في ذلك الهيكل القديم البالي؟»
أجابه صديقه مارتن وود: «الأشباح، ربما. حسنًا؛ فالأشخاص الذين يعيشون هناك هم في الواقع أقربُ إلى الأشباح.»
ربما كانت المفارقة أنَّ الفنان اللندني كان ريفيًّا في اندهاشه وحَداثة خبرته، بينما كان الفنان المحلي أكثرَ فطنةً وخبرة، وكان ينظر إليه باستمتاعٍ يجمع بين النضج والود. وبالطبع كان الأخير أهدأ وذا هيئة مألوفة أكثر، وكان يرتدي ملابسَ أكثر دكانةً، وكان حليق الذقن، ذا وجهٍ مربعٍ لا تظهر عليه المشاعر.
ثم استطرد قائلًا: «ربما هي آثار الزمن، بطبيعة الحال، أو تواتُر الأزمنة ومن ثَمَّ العائلات بمرور السنين. إنَّ آخر فردٍ من عائلة آل دارناواي العريقة يعيش في هذا المنزل، وليس هناك من فقراء هذا العصر مَن هم في مثل فقرهم. إنهم حتى لا يستطيعون تحمُّل تكاليف إصلاح الطابق العلوي من بنايتهم بما يجعله صالحًا للسكن؛ بل إنهم مضطرون إلى العيش في الغرف السفلية الخَرِبة، كالخفافيش والبوم. ومع ذلك، لديهم صورٌ للعائلة تعود إلى حروب الوردتَين وكذلك أول صورة زيتية في إنجلترا، وبعض هذه الصور بحالةٍ جيدة جدًّا؛ وهذا ما عرَفتُه بالمصادفة لأنهم طلبوا مشورتي المهنية من أجل صيانتها. وثمة صورةٌ منها أخصُّها بالذكر، وهي إحدى الرسومات الأولى، ولكنها ذات حالة جيدة للغاية حتى إنها تصيبك بالقُشَعْريرة.»
أجاب باين: «أعتقد أن المكان كلَّه يصيبك بالقُشَعريرة بمجرد النظر إليه.»
قال الصديق: «حسنًا، صَدقت، إنَّه كذلك.»
ثم سادَت فترةٌ من الصمت قطعَها صوتُ حفيفٍ خافتٍ بين الحشائش بجوار الخندق المائي جعلهم يَجفِلون بعصبيةٍ بسيطة، كانت منطقية بما فيه الكفاية؛ إذ رأوا جسمًا مُعتِمًا يتحرك بسرعة عبر الشاطئ، فيبدو أشبهَ بطائرٍ فَزِع. بيد أنه كان مجرد رجل يسير بسرعة وفي يده حقيبة سوداء، كان الرجل ذا وجهٍ شاحب طويل، وعينَين حادَّتَين رمقَ بهما الفنانَ اللندنيَّ على نحوٍ غامضٍ ومرتابٍ بعض الشيء.
قال وود بنبرةٍ تنمُّ عن بعض الارتياح: «إنه الدكتور بارنيت ليس إلا. مساء الخير أيُّها الطبيب. هل أنت ذاهبٌ إلى المنزل؟ أتمنى ألَّا يكون أحدهم مريضًا.»
هَمهم الطبيبُ قائلًا: «الجميعُ دومًا مرضى في مكان كهذا، ولكنَّ المرض يشتدُّ عليهم أحيانًا فلا يعرفون ما الأمر. إنَّ الجو العام في المكان فاسدٌ ومُسبِّبٌ للأمراض. وهذا أمرٌ لا يُحسَد عليه الشابُّ الأسترالي.»
عاجله باين بسؤال فجأةً وبذهنٍ شارد: «ومَنْ عساه يكون ذلك الشاب الأسترالي؟»
هَمهم الطبيبُ مرةً أخرى: «آه! ألم يُخبِرك صديقك عنه؟ أعتقد أنه في الغالب سيصل اليوم. إنَّها قصةٌ رومانسيةٌ على الطريقة الميلودرامية القديمة؛ حيث يعود الوريثُ إلى قلعته الخَرِبة قادمًا من المستعمرات، وتكتمل القصة باتفاقٍ عائليٍّ قديمٍ بأنْ يتزوج من السيدة التي تشاهد العالم من بُرجها العاجي. أمورٌ غريبة بالية، أليس كذلك؟ لكنها أحيانًا ما تحدث حقًّا. ولقد حصل على القليل من المال، وهي النقطة المضيئة الوحيدة في هذا الشأن.»
سأل مارتن وود بنبرةٍ جافة: «وكيف ترى الآنسةُ دارناواي الأمرَ، من بُرجها العاجي؟»
ردَّ الطبيبُ: «ما تراه حيال كلِّ شيءٍ آخر في هذا الوقت؛ إنهم في ذلك المكان العتيق المليء بالحشائش الذي يُعَدُّ وكرًا للخرافات لا يُعمِلون عقولهم، إنهم يحلمون وينساقون. أعتقد أنها تتقبَّل الاتفاق العائلي المُبرَم والزوجَ القادِم من المستعمرات كجزءٍ من مصير آل دارناواي المحتوم، كما تعلم. إنني أظنُّ حقًّا أنه حتى إن اتضح أنه زنجيٌّ أحدبُ ذو عينٍ واحدةٍ ولديه هوسٌ بالقتل، فإنها سترى فحسب أن ذلك يُضفي لمسةً نهائيةً مميَّزة ومتناغمة على منظر الغسق.»
قال وود ضاحكًا: «إنَّك لا تُعطي صديقي اللندني صورةً متفائلةً مشرقةً عن أصدقائي في الريف. كنت أنوي أن آخذه هناك في زيارة؛ فلا يجدر بأي فنان أن يُفوِّت مشاهدةَ تلك الرسومات الخاصة بآل دارناواي متى سنحَت له الفرصة، ولكن ربما من الأفضل أن أُؤجِّل الأمر إذا كانوا في معمعة الغزو الأسترالي.»
قال الدكتور بارنيت بحرارة: «أوه، بل اذهب لرؤيتهم، حُبًّا بالله. إنَّ أيَّ شيءٍ يُدخِل البهجة على حياتهم الجافة سيجعل مهمتي أسهل كثيرًا. وسيتطلب الأمر عددًا كبيرًا من الأقارب القادمين من المستعمرات، حسب اعتقادي، لإدخال البهجة وإنعاش الأمور؛ فكلما زاد العدد زادت البهجة وعَمَّ المرح. تعالَ، سأصحبك إلى هناك بنفسي.»
وبينما كانوا يقتربون من المنزل، بدا معزولًا وكأنه جزيرة وسط خندق تملؤه مياه راكدة كريهة عبروه من خلال جسرٍ فوقه. وعلى الجانب الآخر، ظهرت أرضيةٌ حجريةٌ فسيحةٌ نوعًا ما تتخلَّلها صدوعٌ كبيرة، وتتناثر فيها حُزَم من الأعشاب والأشواك هنا وهناك. بدا ذلك الرصيفُ الصخري كبيرًا وعاريًا في ضوءِ الغسق الرمادي، ولم يكن باين يظنُّ أنَّ مثل هذا المكان المنزوي يمكن أن يضمَّ بين جنباته مثل هذا القدر الكبير من روح البَرِّيَّة. وكان هذا الرصيفُ يبرز من جانبٍ واحد، كعتبة بابٍ عملاقة، وكان البابُ وراءه؛ إذ يؤدي إلى مَدخل مقنطر على الطراز التيودوري منخفضٍ ومفتوح، ولكنه مظلمٌ كما لو كان كهفًا.
وحين قادهم الطبيبُ الرشيق إلى الداخل من دون أي رسمياتٍ شكلية، أصيبَ باين بنوبة اكتئابٍ أخرى إنْ صحَّ التعبير. كان يتوقَّع أن يجد نفسه يصعد إلى برج خَرِب تمامًا عبر سلالم متعرجة وضيقة للغاية؛ ولكنه اكتشف أن الدرجات الأولى التي خَطَا عليها إلى داخل المنزل إنَّما هي في الواقع تهبط به للأسفل. نزلوا جميعًا عدَّة درجاتٍ قصيرة ومُهشَّمة، فوصلوا إلى غرفٍ كبيرة خافتة الإضاءة كانت لتبدو مثل الزنزانات المعتاد وجودها أسفل مثل هذه القلاع، لولا الرسوماتُ القاتمة وأرفف الكتب المُغْبرَّة المتراصة. وكان يوجد هنا وهناك شمعدانٌ قديم به شمعة مضيئة تُسلِّطُ الضوءَ على تفصيلةٍ عَرَضية مُغبرة تُوحي بضربٍ من الأناقة البائدة؛ إلا أن الزائر لم يكن لينبهر بهذه الإضاءة الاصطناعية أو ليحبط منها بقدر ما كان لينبهر أو يحبط بفِعل ذلك الشعاع الوحيد الشاحب من الضوء الطبيعي. وبينما كان يمرُّ بالغرفة الطويلة رأى النافذة الوحيدة في ذلك الجدار — وهي نافذةٌ بيضاويةٌ منخفضة تسترعي النظر يعود طرازها إلى أواخر القرن السابع عشر. لكنَّ الغريبَ في الأمر أنها لم تكن تحظى بإطلالةٍ سماويةٍ مباشرة وإنَّما مجرد انعكاسٍ للسماء؛ شعاع خافت من ضوء النهار ينعكس على صفحة مياه الخندق، تحت الظل المُتدلي للضفة. جال بذاكرة باين شيءٌ بشأن السيدة شالوت، بطلة قصيدة الشاعر العظيم تنيسون، التي لم ترَ العالم الخارجي قط إلا من خلال مرآة؛ فسيدةُ هذا القصر لم ترَ العالَمَ من خلال مرآةٍ فحسب، ولكن رأتْه بصورةٍ مقلوبة أيضًا.
قال وود بصوتٍ خفيض: «يبدو الأمرُ كما لو أنَّ منزل آل دارناواي يتداعى بالمعنى الحرفي والمجازي للكلمة، كما لو أنه يغرقُ ببطءٍ في مستنقعٍ أو في بحرٍ من الرمال المتحركة، حتى يغمره البحر وكأنه سطح أخضر.»
وحتى الدكتور بارنيت، بكلِّ ما كان يتسمُ به من ثباتٍ ورِباطة جأشٍ، جفل بعض الشيء من الصمت الذي دنا به الشخصُ الذي أتى ليستقبلهم؛ ففي الواقع، كان الصمتُ يُخيِّم على أرجاء الغرفة تمامًا حتى إنهم جفلوا جميعًا عندما أدركوا أنَّ الغرفة لم تكن خالية؛ إذ كان فيها ثلاثة أشخاص حين دخلوها؛ ثلاثة أشخاص غير واضحي الملامح يقفون بلا حَراك في الغرفة المظلمة، وكانوا جميعًا يرتدون ثيابًا سوداء، ويبدون كالظلال الداكنة. وفيما اقتربَ الشخصُ الأول من الضوء الرمادي الخافت المُنبعث من النافذة، بدا وجهه رماديَّ اللون كلونِ الشعر المحيط بوجنتَيه. كان ذلك الشخصُ هو العجوز فاين، الخادم، الذي يقوم مقام الأب منذ فترة طويلة منذ وفاة الوالِد الغريب الأطوار، آخر لوردات عائلة دارناواي. وكان ليبدو أكثر وسامة لو لم يكن له أسنان، إلا إنه كانت لديه سِنٌّ واحدة تظهر بين الحين والآخر فتُضفي عليه مظهرًا شريرًا إلى حدٍّ ما. استقبل الرجلُ الطبيبَ وصديقَيه بلطفٍ ورافقهما إلى حيث كان يجلسُ الشخصان الآخران ذوا الملابس السوداء. بدا أحدهما من وجهة نظر باين وكأنه يُضفي على القلعة لمسةً أخرى من العراقة الكئيبة الملائمة لأجواء القلعة وذلك لحقيقة كونه قَسًّا كاثوليكيًّا، ربما خرج من جوف مخبأ للقساوسة في الأيام الكئيبة الغابِرة. تخيَّله باين وهو يُرتِّل الصلوات أو يُسبِّح بمسبحته أو يَطرق الأجراسَ أو يفعل أمورًا مُبهمَة تبعثُ على الكآبة في هذا المكان المُوحِش. أما الآن، فربما يُفترَض أنه يُقدِّم للسيدة سُلوانًا دينيًّا؛ ولكن بالكاد كان ما يُفترض تقديمه من سلوان مجديًا أو يُضفي شيئًا من البهجة على أية حال. أما بالنسبة إلى البقية، فلم يكن القَسُّ شخصيًّا ذا أهمية تُذكَر، بملامحه البسيطة ووجهه الذي يخلو من أية تعابير؛ أما السيدة فقد كانت مسألةً أخرى تمامًا. كان وجهها بعيدًا كل البُعد عن البساطة أو انعدام الأهمية؛ فقد برزَت في ظلام ثوبها وشعرها بشحوبٍ يكاد يثير الفزعَ في النفوس، لكنها كانت ذاتَ جمالٍ يُفزَع له المرء حين يُدرِك أنه جمالٌ حيٌّ. نظرَ باين إليها قدر ما مكَّنَته جُرأتُه؛ وكان يتمنَّى لو أنه يستطيع أنْ ينظر إليها مُدةً أطول ما دام حيًّا.
تبادل وود مع صديقَيه تلك العبارات المُهذَّبة الدمثة بقدر ما يسمح له الأمر ليُمهِّد لغرضه بإعادة النظر في تلك اللوحات المرسومة. اعتذر عن زيارتهم التي جاءت في اليوم الذي كان يعلم أنه يومٌ تعتزم فيه الأسرة الترحيب بأحد أفرادها؛ ولكن سرعان ما أيقن أنَّ الأسرة قد تنفَّست الصُّعَداء إلى حدٍّ ما بقدوم زائرين إليها وذلك كمصدر إلهاءٍ لهم أو ربما ليكسروا حاجزَ صدمتهم؛ ومن ثمَّ، لم يتردد ليصطحب باين عبر غرفة الاستقبال الرئيسية وصولًا إلى المكتبة، حيث كانت اللوحات مُعلَّقة؛ إذ كانت هناك لوحةٌ كان يعتزم أن يَعرضها هي على وجه الخصوص على صديقه، ليس فقط لأنها صورةٌ مميَّزة ولكن لكونها لغزًا مُحيِّرًا. صحبهم القسُّ الضئيلُ الجسم؛ وكان يبدو وكأنه يعرف معلوماتٍ عن اللوحات القديمة بقدر معرفته عن الصلوات القديمة.
قال وود: «إنني فخورٌ لرؤيتي هذه اللوحة. أعتقدُ أنها من أعمال هولباين. وإنْ لم تكن من أعماله فمن المؤكَّد أن شخصًا في نفس عصره كان يضاهي في موهبته الفَذَّة موهبة هولباين.»
كانت اللوحة تُجسِّد الطابعَ الواقعي لتلك الفترة بأسلوبٍ صادق ونابضٍ بالحياة، حيث تُصوِّر رجلًا يرتدي ملابس سوداءَ مُزيَّنة بالذهب والفرو، ذا وجهٍ صارم، مُكتمِل التفاصيل، يميل إلى الشحوب، وعينَين مُنتبهتَيْن.
صاحَ وود: «إنَّه لمن المُؤسِف حقًّا أنَّ مثل هذا الطراز الفني توقَّف عند تلك المرحلة الانتقالية ولم تقم له قائمة أبدًا. ألا تعتقد أنَّ اللوحة واقعية بما يكفي لأن تبدوَ حقيقية؟ ألا تعتقد أن الوجه يُجسِّد ما هو أكثر من ذلك، لا سيَّما أنه يبرز من إطار أكثر جمودًا لأشياء أقلَّ واقعيةً؟ والعينان تبدوان أكثرَ واقعيةً حتى من الوجه. أقسمُ أنَّ العينَين حقيقيتان بدرجةٍ كبيرة للغاية مقارنةً بالوجه! إنَّ الأمر ليبدو كما لو أن تلك المُقلتَيْن الماكرتَيْن المُتأهبتَيْن تبرُزان من قناعٍ شاحبٍ كبير.»
قال باين: «أعتقدُ أنَّ الجمود يمتد ليشمل الجسم نفسه إلى حدٍّ ما؛ فالفنانون لم يُتقِنوا الرسمَ التشريحي الفني حتى انتهاء حقبة القرون الوسطى، على الأقل في الشَّمال. وتلك القدم اليسرى تبدو لي غيرَ متناغمة بدرجةٍ كبيرة مع اللوحة.»
ردَّ وود في هدوءٍ: «لست متأكِّدًا جدًّا من ذلك. فأولئك الفنانون الذين امتهنوا الرسم حين بدأت حقبة الواقعية وقبل أن تُطبَّق الأساليب الواقعية على نحو مُغالًى فيه كانوا في الأغلب أكثرَ واقعيةً مما نظن؛ فقد أضافوا التفاصيل الحقيقية المتعلقة بفن رسم الأشخاص (فن البورتريه) إلى أشياء كان يُعتقَد أنها مجرد أشياءَ تقليدية. لعلك تزعم أنَّ حاجِبَي هذا الرجل أو تجويف عينَيه مائلان قليلًا أو غير متوازنَين؛ ولكني واثقٌ أنك لو كنت تعرفه لاكتشفت أنَّ أحد حاجبَيه كان حقًّا أعلى من الآخر. ولا مجالَ للشك في أنه كان به شيءٌ من عَرَجٍ أو ما شابه، وأنَّ ساقه المتوارية قد رُسِمت عوجاءَ عن عمدٍ.»
اندفعَ باين فجأةً قائلًا: «إنه يبدو لي كشيطانٍ عجوز! لا شك أنَّ حضرة القَس المُوقَّر سيعذرني على ألفاظي.»
قال القَس بتعبيرات وجهٍ مُبهَمة: «إنني أُومِن بوجود الشيطان، شكرًا لك. بل إنه من اللافت للنظر بما يكفي أنَّ ثَمة أسطورةً تقول إنَّ الشيطانَ أعرج.»
قال باين معترضًا: «لا أظنك تقصد أنَّه هو الشيطان نفسُه؛ مَن عساه يكون ذلك الرجل بحق الشيطان؟»
ردَّ رفيقه: «إنه اللورد دارناواي تحت حُكم المَلكيْن هنري السابع وهنري الثامن، لكن هناك أساطيرَ مثيرة للفضول حول هذا الرجل أيضًا؛ وإحدى هذه الأساطير مشار إليها في ذلك النقش الموجود حول الإطار، وقد أُسهِبَت في عددٍ من الملاحظات التي تركها أحدهم في كتاب وجدته هنا. وكلاهما يُثير فضول المرء ويحدوه لقراءته.»
انحنى باين للأمام، واشرأبَّ برأسه لتتبُّع النقوشِ القديمة على طول الإطار. وبغضِّ النظر عن الحروف القديمة وتهجئتها، كانت فيما يبدو كلماتٍ مسجوعةً على نحوٍ ما:
قال باين: «تبدو تلك الكلماتُ مُخيفةً بطريقةٍ ما، ولكن ربما لأني لا أفهم منها شيئًا.»
قال وود بنبرةٍ خفيضة: «إنَّها تصبح مخيفة أكثر حين تفهم معناها. والكلام الذي كتب في وقتٍ لاحق، في الكتاب الذي وجدته، يقول كيف أنَّ ذلك الرجل قتل نفسه عن قصدٍ بطريقة تسبَّبَت في إعدام زوجته اعتقادًا بأنها هي مَنْ قتلتْه. وهناك ملحوظةٌ أخرى تُخلِّد مأساةً وقعت في وقتٍ لاحق، وهي أنَّه في الجيل السابع بعد ذلك — تحت حُكم الملك جورج — قتلَ شخصٌ آخر من آل دارناواي نفسه بعد أن وضع لزوجته السُّمَّ في النبيذ على نحوٍ مدروس. ويُقال إنَّ حادثتَي الانتحار كِلتَيهما وقعتا في تمام الساعة السابعة مساءً. أعتقدُ أنَّ الاستنتاج الذي يمكن أن نستنبطه من ذلك هو أنَّ ذلك الشخص يعود حقًّا مع كلِّ وريثٍ سابع وأنَّه يجعل الأمور بشعة، كما تقول الكلمات المسجوعة، لكلِّ امرأةٍ بُلِيَت بقدرٍ من الحُمق يكفي لأن تتزوج منه.»
أجابَ باين: «استنادًا إلى تلك الحُجة، ستكون الأمور مزعجةً نوعًا ما بالنسبة إلى الوريث السابع التالي.»
وخفَض وود صوتَه أكثر بينما قال: «الوريثُ التالي هو الوريثُ السابع.»
رفعَ هاري باين صدره العريض وكتفَيه فجأةً كما لو كان يُلقي عنهما حِملًا ثقيلًا.
وصاحَ قائلًا: «ما هذا الجنون الذي نتحدَّث بشأنه؟ أعتقدُ أننا جميعًا رجالٌ مثقَّفون ونعيشُ في حقبةٍ مستنيرة. لم أظنَّ قط قبل أن أدخل هذا المكان الذي تقشعر له الأبدان أنني سأتحدَّث عن مثل هذه الأمور إلا بهدف السخرية منها.»
قال وود: «أنت مُحقٌّ؛ فلو أنك عشت في هذا القصر المتواري عن الأنظار لفترة طويلة بما يكفي لشَعَرْت بإحساسٍ مختلفٍ حيال الأشياء. لقد بدأت أشعر بفضولٍ كبير تجاه هذه اللوحة؛ إذ تعاملت معها كثيرًا من حيث صيانتُها وتعليقها. يبدو لي أحيانًا أنَّ الوجه المرسوم أكثرُ حيوية من الوجوه الفاقِدة للحياة لِمَن يعيشون هنا، كما أنَّ اللوحة تبدو لي وكأنها تعويذةٌ أو مغناطيسٌ جاذبٌ؛ إنَّها تتحكم في أجواء المكان هنا وتُوجِّه أقدار الأشخاصِ ومصائرَ الأشياء. أعتقد أنَّك ستقول إنَّ هذه مجرد أوهام وتخيُّلات.»
صاحَ باين فجأةً: «ما هذه الجَلَبة؟»
أَحَدُّوا جميعًا السَّمْعَ، ولم يَبدُ أنَّ ثَمة أيَّ صوتٍ سوى صوتِ هدير المياه الخافت في البحر البعيد؛ ثم بدَءوا جميعًا يشعرون وكأنَّ شيئًا يختلط بهذا الصوت، كما لو أنه صوتُ إنسانٍ ينادي عبر هدير الأمواج، في البداية كان خافتًا، ولكنه ظلَّ يقترب أكثر وأكثر. وفي لحظةٍ صاروا جميعًا مُتيقِّنين أن ثَمة مَنْ يَصيح بالخارج في ظُلمة الغَسق.
استدارَ باين نحو النافذة المنخفضة خلفه وانحنى برأسه لينظر خارجها. ولم تكن بالنافذة التي يستطيع أحدٌ أنْ يرى من خلالها سوى الخندق وانعكاسِ الضفة والسماء على مياهه، ولكن هذه الصورة الذهنية المعكوسة لم تكن هي التي رآها من قبل؛ فقد كان ثمة انعكاسٌ لِظلَّيْن مُعتِمَيْن لقدَمَي ورِجلَيْ شخصٍ يقفُ على الضفة. ومن تلك الكُوَّة ذات مجال الرؤية المحدود لم يستطيعوا رؤية شيء سوى تلكما الرِّجلَين وخلفهما انعكاسٌ لصورة الغروب الشاحب المائل إلى الأزرق الرمادي، ولكن حقيقة أنَّ الرأس كان غيرَ مرئيٍّ لهم كما لو أنه يعانق عَنان السماء قد جعلت الصوت الذي تبعَ ذلك المشهد مُفزِعًا بطريقةٍ ما؛ كان الصوتُ لرجلٍ يصيح بشيءٍ لم يتمكَّنوا من سماعه أو تمييزه جيدًا. كان باين ينظر باهتمامٍ عبر النافذة الصغيرة وقد ارتسمت على وجهه علاماتُ الاندهاش، ثم قال بنبرةٍ مختلفةٍ بعضَ الشيء:
«يا لها من وقفةٍ غريبة تلك التي يقفُها!»
همسَ إليه وود مُهدِّئًا: «لا، لا. غالبًا ما تبدو الأشياءُ بهذا المظهر الغريب في حال انعكاسها. إنَّ حركة الأمواج على صفحة المياه هي ما تجعلك تظن ذلك.»
سألَ القس باقتضابٍ: «يظن ماذا؟»
قال وود: «أنَّ قدمه اليُسرى بها عَرَج.»
رأى باين النافذة البيضاوية كما لو أنَّها مرآة سحرية عجيبة؛ وبدا له أنَّها تحمل صورًا أخرى غامضة للموت والهلاك. وكان ثمة شيءٌ آخر بجوار ذلك الشخص لم يفهمه؛ فقد كانت هناك ثلاث أرجل أكثر نحافةً تبدو وكأنها خطوط سوداء في ضوء الغروب، كما لو كانت أرجُلَ عنكبوتٍ أو طائرٍ مفترس يقف بجوار هذا الشخص الغريب. ثم طافت بذهنه فكرةٌ أقل غرابة، وهي أنَّ هذه الأرجل هي لحامِل ثلاثيِّ القوائم كالذي يخصُّ مشعوذًا وثنيًّا؛ وفي اللحظة التالية، اختفى ذلك الشيءُ واختفَت كذلك رِجْلا الشخص الغريب من المشهد.
واستدارَ باين لتلتقيَ عيناه بالوجه الشاحب للعجوز فاين، الخادم، وفمه مفتوحٌ تبرز منه تلك السِّنُّ الوحيدة، وكأنه يودُّ أن يتفوَّه بشيءٍ. قال العجوز: «لقد أتى. وصلت السفينة من أستراليا هذا الصباح.»
وعندما خرجوا من المكتبة عائدين إلى غرفة الاستقبال الرئيسية، سمعوا وقع خطوات الوافِد الجديد وهو يهبط درجات المَدْخل، وخلفه أمتعة خفيفة مختلفة. وحين رأى باين إحداها، ضحك ضحكةً تنمُّ عن ارتياحٍ. لم يكن الحامل الثلاثي القوائم إلا أرجُلًا قابلة للطيِّ لكاميرا محمولة، يَسهُل تجميعُها وفكها؛ ويبدو حتى الآن أنَّ الرجل الذي يحملها طبيعيًّا ومتماسكًا. كان يرتدي ملابسَ داكنة مُهمَلة كملابس قضاءِ العطلات؛ فكان قميصُه خفيفًا رماديَّ اللون، وكان وَقْعُ نعلَيه يُدوِّي على نحو صارم في تلك الغرف الساكنة. وعندما تقدَّم الرجلُ لتحية معارفه الجُدد بدا في خطوته شيءٌ أشبه قليلًا بالعَرَج، لكن باين ورفاقه كانوا ينظرون إلى وجهه، ولم يستطيعوا أن يُشيحوا ببصرهم عنه.
من المؤكَّد أنه شعر أثناء استقبالهم له بشيءٍ غريب وغير مريح، لكنهم كانوا يعرفون تمامًا أنه لم يكن يدرك ما هو. كانت السيدة التي قد خُطِبَت له بطريقةٍ ما جميلةً حقًّا بالقدر الكافي لأن ينجذبَ لها؛ إلا أنَّها كانت تثير في نفسه الخوف لا شكَّ. قدَّم له الخادم فروض الطاعة كتلك التي يُؤدِّيها الخَدَمُ للسادة الإقطاعيين، لكنه كان يُعامله وكأنه شبحٌ. نظر إليه القس وعلى وجهه ملامح من الصعب فهمُها؛ ومن ثَمَّ فربما أصابته ببعض الاضطراب. ثم جالت بخاطر باين مفارقةٌ أخرى، أقربُ إلى المفارقات الإغريقية. كان قد تخيَّل ذلك الغريب على أنه شيطان، ولكنه رأى أنه كان أسوأ من ذلك؛ فقد رأى أنه يسير نحو قدَرٍ محتوم وهو فاقِد الوعي. بدا له الرجل وكأنه يسير باتجاه جريمة ببراءة أوديب السافِرة. كان الرجل قد اقتربَ من قصر العائلة بروح منتعشة ذات بصيرةٍ عمياء ووضع كاميرته ليُصوِّر أول مشهدٍ له فيه؛ وحتى الكاميرا كانت تُشبه الحاملَ الثلاثيَّ القوائم لعرَّافةٍ مأسوية.
وحين كان على وشك أن يُغادر تفاجَأ باين بشيءٍ أظهرَ أنَّ ذلك الأسترالي كان لا يَعي بالفعل ما يدور حوله؛ فقد قال بنبرةٍ خفيضة:
«لا تُغادر … أو عُدْ سريعًا. أنت تبدو كبشريٍّ، وهذا المكان يكاد يُصيبني بالذُّعر.»
وحين خرجَ باين من تلك الحجرات التي تبدو وكأنها مدفونة تحت الأرض إلى نسيم الليل ورائحة البحر، شعر وكأنه خرجَ من عالَم أحلام سفلي اختلطت فيه الأحداثُ ببعضها على نحوٍ مخيف وغير واقعي.
كان وصولُ قريبِ العائلة الغريبِ هذا غيرَ مريح، كما كان غيرَ مُقنِع. واضطربَ لمدى التشابه الكبير بين وجه ذلك الغريب والوجه المرسوم في اللوحة كما لو أنه رأى وحشًا ذا رأسَين. غير أنَّ ذلك كلَّه لم يكن كابوسًا، وربما أيضًا ذلك الوجه الذي رآه بوضوحٍ بالغ.
وبينما كانا يسيران على الرمال السوداء المتعرجة على شاطئ البحر القاتم، سألَ باين الطبيبَ قائلًا: «هل قلت إنَّ ذلك الشابَّ هو خطيبُ الآنسة دارناواي بموجب اتفاقٍ عائلي أو شيءٍ من هذا القبيل؟ يبدو الأمرُ كأنه قصة روائية.»
أجابه الدكتور بارنيت: «بل قصةٌ تاريخية. خَلَد آل دارناواي جميعًا إلى النوم قبل عدة قرون، حين انتهت في واقع الأمر كلُّ الأحداث حتى إننا لم نعد نقرأ عنها إلا في القصص الرومانسية. أجل، أعتقد أن ثمة تقليدًا عائليًّا يتزوج بموجبه ابنُ العم وابنة العم من الجيل الثاني أو الثالث حين يكونان في مرحلةٍ عمريةٍ معينة؛ وذلك من أجل ضمِّ الممتلكات. ويجدر بي أن أقول إنه تقليدٌ سخيفٌ لعين، وإذا ما ظلوا يتزوجون بهذه الطريقة، فربما يُفسِّر ذلك استنادًا إلى مبادئ الوراثة كَمَّ السوء والقبح الذي وصلوا إليه.»
قال باين بصوتٍ مخنوقٍ بعض الشيء: «أخشى أني لا أستطيع أن أقول إنهم جميعًا قد أصبحوا في وضع سيئ.»
أجابه الطبيب: «حسنًا، لا يبدو ذلك الشابُّ في وضعٍ سيئٍ بالطبع، على الرغم من أنَّ به عرجًا بالتأكيد.»
صاحَ باين وقد انتابه غضبٌ مفاجئٌ غير مبرَّر: «الشاب! حسنًا، إذا كنت تعتقد أن تلك السيدة الشابة تبدو سيئة، فأعتقد أنك أنت مَنْ تعاني ذوقًا فاسدًا.»
عبسَ وجهُ الطبيبِ وارتسمت عليه ملامحُ السخرية وخاطبه بحدَّة: «أعتقدُ أنني أعرفُ عن هذا الأمر أكثر مما تعرف.»
أكمَلا سيرهما في صمتٍ، وكلٌّ منهما يشعر بأنه كان وقحًا على نحوٍ غير منطقي مع الآخر، وأنَّ كلًّا منهما قد تعامَل مع الآخر بفظاظةٍ غير مبرَّرة؛ وبعد أن انفصلا حَظِي باين بوقتٍ منفردًا مع نفسه للتفكير مليًّا في الأمر؛ إذ كان صديقه قد ظلَّ في القصر لينجز بعض الأعمال بشأن اللوحات.
استغلَّ باين على أكمل وجهٍ تلك الدعوة المُقدَّمة إليه من قريب العائلة القادم من المستعمرات، الذي كان في حاجة إلى شخصٍ ليرفع من معنوياته. وخلال الأسابيع القليلة التي تلَتْ ذلك، تسنَّى له رؤية الكثير من الأرجاء الداخلية القاتمة لمنزل عائلة دارناواي؛ على الرغم من أننا يمكننا القول إنه لم يُكرِّس نفسه كليةً لرفع معنوياته والترفيه عنه؛ فقد كانت كآبة السيدة أكثر رسوخًا وربما كانت في حاجة إلى مزيدٍ من رفع المعنويات؛ على كلٍّ، أظهر باين استعدادًا جادًّا لرفع معنوياتها. لم يكن باين معدوم الضمير رغم ذلك، وقد أثار الوضعُ داخله شعورًا بالارتياب وعدم الارتياح. مرت الأسابيع ولم يكن بمقدور أحدٍ أن يُحدِّد من سلوك الوافد الجديد من آل دارناواي ما إنْ كان يعتبر نفسه خطيبًا بموجب الاتفاق القديم أم لا. كان يتجوَّل في الصالات القاتمة ويقف يُحدِّق بلا غاية في اللوحة الكئيبة المشئومة. كانت ظلالُ ذلك المنزل الشبيه بالسجن قد بدأت تُطْبِق عليه، ولم يتبقَّ من ثقته الأسترالية سوى القليل، ولكن لم يستطع باين أن يكتشف شيئًا بشأن الأمر الذي كان أكثر ما يهمه. حاول أنْ يعهد إلى صديقه مارتن وود بما يخالج نفسه، بينما كان يُعلِّق اللوحات، ولكنه لم يلقَ منه ما يريح باله كثيرًا.
قال وود باقتضابٍ: «يبدو لي أنك لا ينبغي أن تتودَّد إليها، بسبب تلك الخِطبة.»
ردَّ صديقه: «بالطبع ينبغي ألَّا أتودَّدَ إليها إذا كانت هناك خِطبة، ولكن هل ثمة خِطبة بالفعل؟ إنني لم أنطق لها بكلمة؛ ولكنني رأيتُ منها ما يجعلني متأكدًا تمامًا من أنها تعتقد أنه لا توجد خطبة، حتى ولو كانت تعتقد أنه ربما توجد خطبة، فهو لا يجزم بوجود خطبة، ولا يُلمِّح حتى إلى احتمال حدوث خطبة لاحقًا. يبدو لي أنَّ هذا التردُّد غير منصفٍ للجميع.»
قال وود بشيءٍ من الفظاظة: «لا سيَّما بالنسبة إليك، على ما أظن، ولكن إذا سألتني رأيي، فسأخبرك بما أرى؛ إنني أرى أنه خائفٌ.»
سأله باين: «خائفٌ من أن يُقابَل بالرفض؟»
أجابه الآخر: «لا؛ إنَّما هو خائفٌ من أن يُقبَل. لا تغضب مني؛ لا أقصد أنه خائفٌ من السيدة. بل أقصد أنه خائفٌ من اللوحة.»
كرَّر باين: «خائفٌ من اللوحة!»
قال وود: «أقصدُ أنه خائفٌ من اللَّعنة. ألَا تذكر تلك الكلمات المسجوعة بشأن مصير آل دارناواي الذي سيقع عليه وعليها.»
صاحَ باين: «أجل، ولكن اسمعني، إن مصير آل دارناواي لا يمكن أن يعمل في كلا الاتجاهَين. أنت تقول لي في البداية إنني لا يُمكنني أن أتودَّد إليها بسبب ذلك الاتفاق العائلي، ثم تقول إن الاتفاق لن يحدث حتمًا بسبب تلك اللَّعنة، ولكن إذا كانت اللعنة قادرةً على إسقاط ذلك الاتفاق وإنهائه، فماذا عساه يُلزِمها بتطبيق هذا الاتفاق؟ إذا كان كلاهما خائفًا من الزواج بالآخر؛ فلكلٍّ منهما مطلقُ الحرية في الزواج من أي شخصٍ آخر، وعندئذٍ تنتهي اللَّعنة. لماذا عليَّ أن أتكبَّد مراعاةَ شيءٍ لا يعتزمان هما مراعاته؟ أعتقدُ أنَّ وجهة نظرك غير منطقية بالمرة.»
قاطعه وود قائلًا: «إنَّ الأمر برُمته معقَّدٌ بالطبع.» ثم أخذَ يَطرق على إطار لوحةٍ زيتيةٍ مرسومةٍ على قماش الكنفا.
ثم فجأةً، ذات صباح، كسر الوريثُ صمته الطويل المُحيِّر، وقد فعلَ ذلك بطريقةٍ مثيرةٍ للفضول، وبأسلوبٍ صريحٍ بعض الشيء كعادته، لكن على نحوٍ أظهر قلقه للقيام بالشيءِ الصائب. طلب المشورة صراحةً، ليس من هذا الشخص أو ذاك مثلما فعل باين، وإنَّما من الجَمْع كله. وحين تحدَّث استحوذَ على مسامع رفاقه كما لو كان سياسيًّا يخوض انتخاباتٍ عامة. أطلقَ على ذلك «المكاشفة». ولحُسن الحظ لم تكن السيدة ضمن الحضور، وقد شعر باين برجفةٍ تسري في أوصاله حين فكَّر فيما كانت ستشعر به. كان ذلك الأسترالي صريحًا بدرجةٍ كبيرة؛ فرأى أنَّ الصوابَ هو أنْ يَنشُد المساعدة ويطلب معلوماتٍ، فدعا إلى عقد ما يُشبِه مجلسًا عائليًّا كشف خلاله عن كلِّ أوراقه. بل يمكن القول إنه ألقى بكل أوراقه ولم يكشف عنها فقط، ذلك أنه فعل هذا بنبرةٍ يائسة نوعًا ما، كأنه رجل أُنهِك لأيامٍ وليالٍ طِوال بفعل الضغط المتزايد عليه جراء مشكلةٍ ما. وخلال تلك الفترة القصيرة، غيَّرَته ظلالُ ذلك المكان بنوافذه المنخفضة وأرصِفته المُتدنِّية الغارقة على نحوٍ مثير للفضول، وزادَ ذلك من تشابهٍ معين تسلَّل إلى ذاكرتهم جميعًا.
كان الرجالُ الخمسة، ومن بينهم الطبيبُ، جالِسين حول طاولة؛ وكان باين يُفكِّر بفتورٍ أن ما يرتديه من قماش التويد الفاتح وشعره الأحمر هما الشيءُ الوحيد الذي له لون في تلك الغرفة؛ ذلك أنَّ القَسَّ والخادم كانا يرتديان ملابسَ سوداء، كما كان وود ودارناواي يرتديان كالعادة بزَّاتٍ بلون رمادي داكن أقرب ما يكون إلى اللون الأسود. ربما كان هذا التناقض هو ما قصده الشابُّ حين وصفه بأنه بشريٌّ. في تلك اللحظة تمَلمل الشابُّ في كرسيِّه فجأةً وبدأ يتحدَّث. وبعدها بلحظةٍ عرَفَ الفنانُ المذهول أنه كان يتحدَّث عن أكثر الأمور جَللًا في العالَم.
كان يقول: «هل ثمة خطبٌ في ذلك الأمر؟ هذا هو ما ظللت أسأل نفسي بشأنه حتى كِدت أُصابُ بالجنون. لم أكن لأُصدِّق قط أن أُفكِّر في مثل هذه الأمور؛ ولكني أظل أفكر في اللوحة والكلمات المسجوعة والمصادفات أو أيًّا كان ما تُطلِقونه عليها، وتقشعرُّ أوصالي من شدة الخوف. هل ثمة خطبٌ في ذلك الأمر؟ هل ثمة لعنةٌ تُصيب آل دارناواي، أم أنها مجرد حادثةٍ غريبةٍ لعينة؟ هل من الصائبِ إتمامُ الزواج، أم أنني سأجلبُ بذلك مصيرًا جَللًا وسوداويًّا لا أعرف عنه شيئًا على نفسي وعلى شخص آخر؟»
جالت عينه في وجوه كلِّ مَنْ هم جلوسٌ على الطاولة واستقرَّت على وجه القسِّ الهادئ، الذي بدا كأنه يتحدَّث إليه. برَز الجانبُ العملي لدى باين الذي كان يُحاول أن يُخفيَه، واحتجَّ على طرح مسألة الخرافات أمام المجلس الذي تُهيمن عليه تلك الخرافات بدرجة كبيرة. كان يجلس بجوار سليل عائلة دارناواي واندفع في حديثه مقاطعًا حتى قبل أن يتمكَّن القس من الرد.
فقال وكأنه يفرض نبرةً من المرح: «في الواقع، تلك المصادفات تُثير الفضول، أعترفُ بذلك، ولكنها بالطبع …» ثم توقف كمَن أصابتْه صاعقةٌ من السماء. ذلك أنَّ سليل عائلة دارناواي قد استدار بحدَّة نحوه لأنه قاطعَ الحديث، وبينما استدار، كان حاجبه الأيسر مرفوعًا عن مستوى الحاجب الأيمن، وفي غمضة عينٍ بدا أنَّ الوجه المرسوم في اللوحة يُحدِّق إليه فكان الشبه بينهما دقيقًا بدرجةٍ مُروِّعة. رأى الجميع ذلك؛ وارتسمت على وجوههم ملامحُ الدهشة والذهول وكأن ضوءًا برَّاقًا ذهبَ بأبصارهم. وأطلق الخادم العجوز أنينًا غائرًا ومكتومًا.
قال سليلُ العائلة بصوتٍ أجش: «لا جدوى من ذلك، إننا بصدد شيءٍ في غاية الفظاعة.»
صدَّق القس على كلامه بنبرةٍ خفيضة: «أجل، إننا بصدد شيءٍ فظيع؛ إنه أفظع شيءٍ أعرفه، واسمه الهُرَاء.»
قال دارناواي ولا يزال مُثبِّتًا عينه نحوه: «ماذا قلت؟»
كرَّر القس كلامه قائلًا: «قلتُ إنَّه هُرَاء. لم أكن محدَّدًا في كلامي حتى هذه اللحظة؛ لأن ذلك لم يكن من شأني؛ كنت أباشر فقط بعض الأعمال في الجوار وطلبَت الآنسة دارناواي رؤيتي، ولكن بما أنك تسألني عن السبب بصفة شخصية وبصراحة، فمن السهل للغاية أن أجيب. بالطبع ليس ثمة لعنةٌ تتعلق بآل دارناواي تمنعك من الزواج بأي امرأة لديك سببٌ وجيه للزواج منها. ليس من المقدَّر للمرء أن يقع في أبسط الخطايا العَرضية، فضلًا عن جرائم مثل الانتحار والقتل. لا شيءَ يمكن أن يجبرك على الإتيان بأفعالٍ شريرة وخبيثة رُغمًا عنك فقط لأنك تنتمي إلى عائلة دارناواي، تمامًا كما لا يمكن لأحدٍ أن يجبرني على ذلك لمجرد أنني أنتمي إلى عائلة براون. مصير آل براون.» ثم أضاف منتشيًا: «ربما يكون لمصير آل براون وقدرهم المحتوم وَقعٌ أفضل.»
كرَّر الأسترالي مضمون كلام القَسِّ وهو يُحدِّق فيه: «وأنت من بين كلِّ الناس تخبرني أن أفكر في الأمر بهذه الصورة.»
أجابه القس في نبرة مرحة: «بل أقولُ لك أن تفكِّر في شيءٍ آخر، ماذا حدثَ لفن التصوير الفوتوغرافي الصاعد؟ كيف تتوافق معه هذه الكاميرا؟ أعرفُ أنَّ المكان مُعتِمٌ كثيرًا في الطابق السفلي، ولكن يمكن بسهولة تحويلُ تلك الأقواس الجوفاء في الطابق العلوي إلى استوديو تصوير فوتوغرافي من الطراز الأول. يمكن الاستعانةُ ببعض العُمَّال لتجهيزها بسقفٍ زجاجيٍّ في غضون وقتٍ قصير للغاية.»
صاح مارتن وود محتجًّا: «حقًّا، أعتقدُ أنك ينبغي أن تكون آخِر مَن يعبث بتلك الأقواس القوطية الجميلة، التي تُعَدُّ أفضل عملٍ قدَّمَته عقيدتك الدينية لهذا العالم. كنت أعتقدُ أنك تُكِنُّ شعورًا ما تجاه هذا النوع من الفن، ولكنني لا أستطيعُ أن أفهم لِمَ أنت متحمسٌ للغاية لفن التصوير الفوتوغرافي.»
أجاب الأبُ براون: «إنني متحمسٌ للغاية لضوءِ النهار، لا سيَّما في ذلك الشأن الكئيب؛ ويتميَّز التصوير الفوتوغرافي بأنَّه يعتمدُ على ضوء النهار. وإذا كنتَ لا تعرف أنني على استعداد لأنْ أَدُكَّ كلَّ الأقواس القوطية في العالَم دكًّا لأجل أنْ أحافظ على سلامة عقل إنسانٍ واحدٍ فقط، فأنت لا تعلم الكثير عن عقيدتي الدينية بقدر ما تظن.»
انتفضَ الشابُّ الأسترالي واقفًا على قدمَيه وكأنه قد بُعِث إلى الحياة من جديد، وقال: «يا إلهي! هذا هو القولُ الصائب، رغم أنني لم أتوقع قط أن أسمعه من جانبك. أتعرف أيُّها السيد المحترم، سأفعل شيئًا يثبت لك أنني لم أفقد رباطة جأشي في النهاية.»
كان الخادمُ العجوز لا يزال ينظرُ إليه بانتباهٍ ورجفة، كما لو أنه يشعر أنَّ ثمة مبالغةً في استخفاف الشاب بالأمر وصاحَ: «أوه، ماذا ستفعل الآن؟»
قال دارناواي: «سأصوِّر اللوحة المرسومة.»
ولم يَكد يمرُّ أسبوعٌ بعد ذلك حتى عادت عاصفة المأساة تلوحُ في الأفق، فأفَلَتْ شمسُ المنطق وسلامة العقل التي كان القسُّ يَنشُدها دون جدوى، وغرقَ القصرُ مرةً أخرى في ظلام مصير آل دارناواي المحتوم. كان إعداد الاستوديو الجديد وتجهيزه أمرًا سهلًا للغاية؛ فقد كان يبدو من الداخل كأي استوديو آخر، كان خاويًا تمامًا اللَّهم إلا من ضوء النهار الذي كان يملأ أرجاءه. كان مَنْ يأتي من الغرف المظلمة الكئيبة في الطابق السفلي يشعر عادةً بأنه يدخل إلى غرفةٍ تعجُّ بالفن الحديث، لا تحمل أيَّ ملامح واضحة شأنها شأن المستقبل. ونزولًا على اقتراح وود، الذي كان يعرف القلعة جيدًا والذي تجاوز تذمره الأول بشأن النواحي الجمالية، ظلت هناك في الطابق العلوي الخَرِب غرفةٌ صغيرةٌ لم تُمَسَّ جَرَى تحويلها بسهولةٍ إلى غرفة مظلمة، كان يدخلها دارناواي بعد خروجه من ضوء النهار الأبيض ويتحسَّس طريقه فيها على بصيص الأشعة القرمزية لمصباحٍ أحمر. قال وود ضاحكًا إنَّ المصباح الأحمر سوَّى الخلاف بينه وبين فكرة تخريب الممتلكات؛ إذ كان ذلك الظلامُ الدامسُ يُحاكي في طابعه الشاعري الحالِم كهفَ المُشتغِل بالكيمياء القديمة.
كان دارناواي قد استيقظ فجرًا في اليوم الذي قرَّر أنْ يُصوِّر فيه تلك اللوحة الغامضة، وطلبَ أنْ تُحمَل اللوحة من غرفة المكتبة عبر السُّلَّم اللولبي الوحيد الذي يربط بين الطابقَين. عدَّلَ دارناواي وضعيتها في ضوء النهار الأبيض الساطع على حامل لوحاتٍ، وثبَّت حامل الكاميرا الثلاثي القوائم أمامها. قال إنه كان يتوق بشدة لأنْ يُرسل صورة من تلك اللوحة إلى شخصٍ متخصص في جمع التحف الفنية القديمة كان قد كتبَ عن التحف الأثرية الموجودة في المنزل؛ ولكن كان الآخرون يَعلمون أنَّ هذا مجرد عُذرٍ يُغطِّي به على أمورٍ أعمق؛ فقد كان الأمرُ على أقل تقدير نِزالًا بين دارناواي وشكوكه، إنْ لم يكن نزالًا روحيًّا بالمعنى الحرفي بينه وبين تلك اللوحة الملعونة. كان يريد أنْ يجعل ضوءَ النهار المُوظَّفَ في التصوير الفوتوغرافي يواجه تلك اللوحة الزيتية الكئيبة التي هي لوحةٌ رائعة بالطبع، وأنْ يرى ما إنْ كان سطوعُ شمس الفن الجديد سيطغى على ظلال الفن القديم ويطرد أشباحه.
ربما كان ذلك هو السببَ وراء تفضيله تَولِّيَ الأمر بنفسه، حتى ولو كانت بعض التفاصيل ستستغرق وقتًا أطول وتنطوي على تأخير أكثر من المعتاد. على أية حالٍ، منعَ دارناواي مَنْ حاولوا زيارة الاستوديو خلال يوم التجرِبة، وكانوا قلةً، وقد وجدوا أنه في حالةٍ شديدة من التركيز والتدقيق يُخيِّم عليها جوٌّ من العزلة والغموض. كان الخادمُ قد أحضرَ له وجبة؛ لأن دارناواي رفضَ أن ينزل لتناول الطعام، ثم عاد الرجلُ العجوز بعد عدة ساعاتٍ ليجد أنه قد تناول وجبته نوعًا ما كالمعتاد؛ ولكنه حين أتى لأخذها لم يتلقَّ منه أيَّ كلمة شكر سوى غمغمةٍ مُبهَمة من جانبه. صَعِدَ باين إليه ذات مرةٍ ليرى كيف كان يُبلي، ولكنه نزل مرةً أخرى حين وجد أنَّ هذا المصوِّر الفوتوغرافي لم يكن راغبًا في الحديث. رمى الأبُ براون إلى الغاية نفسِها ولكن بطريقة غير متطفلة؛ ذلك أنه أخذَ خطابًا كان الرجلُ الذي يُعتزَم إرسال الصورة إليه قد بعثه إلى دارناواي، لكنه ترك الخطاب على طاولة صغيرة بجانبه، وأيًّا كان ما شعرَ به حيال ذلك المنزل الزجاجي الرائع الذي يضج بضوء النهار الساطع والتفاني لأجل هواية ما، ذلك العالَم الذي شاركَ هو نفسُه في صنعه بطريقةٍ ما، فقد احتفظَ بالأمر لنفسه ثم نزلَ إلى الطابق السفلي. كان لديه سببٌ يجعله سرعان ما يتذكَّر قريبًا جدًّا أنه آخِر شخصٍ نزلَ عبر السُّلَّم المهجور الذي يربط بين الطابقَين، تاركًا خلفه رجلًا وحيدًا وغرفةً شاغرة. كان الآخرون يقفون في غرفة الاستقبال التي تُؤدِّي إلى المكتبة، تحت ساعةٍ كبيرةٍ من خشب الآبُنُوس الأسود التي كانت تبدو كتابوتٍ ضخم.
سأل باين بعد برهةٍ قصيرة: «كيف كان دارناواي يُبلي، حين صَعِدتَ آخر مرةٍ؟»
وضعَ القس يده على جبهته وقال بابتسامةٍ حزينة: «لا تقل إنني أُعاني اضطرابًا نفسيًّا، ولكن أعتقد أنني مذهول تمامًا من ضوء النهار في تلك الغرفة، ولم أستطع أن أرى الأشياء بوضوح. وللأمانة، شعرتُ للحظةٍ أنَّ ثمة شيئًا غريبًا بشأن دارناواي وهو يقفُ أمام تلك اللوحة.»
قال بارنيت من فوره: «أوه، إنَّها رِجله العَرجاء، نعرفُ ذلك.»
قال باين فجأةً، ولكنه أخفضَ صوته: «أتعلم، لا أعتقدُ أننا نعرفُ كلَّ شيءٍ أو أيَّ شيءٍ عنها. ما خطبُ رجله؟ ما خطبُ رِجل سَلَفِه؟»
قال وود: «ثمة شيءٌ عن ذلك في الكتاب الذي كنتُ أقرؤه هناك، في أرشيف العائلة. سأُحضره إليكم.» ودخَلَ إلى غرفة المكتبة المجاورة.
قال الأبُ براون بنبرةٍ هادئة: «لا بدَّ أنَّ السيد باين لديه سببٌ خاص يدفعه إلى السؤال عن هذا.»
قال باين، ولكن بصوتٍ أكثر انخفاضًا: «ربما سأفشي الأمر مرةً وإلى الأبد. ففي النهاية، هناك تفسيرٌ منطقي لذلك. ربما يكون رجلٌ من أي مكانٍ وتنكَّر ليبدوَ تمامًا كما في اللوحة. ماذا نعرفُ عن دارناواي؟ إنه يتصرَّف بطريقةٍ غريبة …»
كان الآخرون يُحدِّقون فيه بشيءٍ من ذهول؛ لكن بدا على القس الهدوءُ بينما كان يسمعُ ذلك.
قال: «لا أظنُّ أنَّ اللوحة القديمة قد جرى تصويرها من قبل؛ ولذا فهو يريد أن يُصوِّرها. لا أظنُّ أنَّ ثمة ما هو غريبٌ حيال ذلك.»
قال وود مُبتسمًا: «في الواقع، لا عجبَ في ذلك على الإطلاق.» إذ كان قد عاد لتوه والكتاب في يده. وبينما كان يتحدَّث، تحرَّك عقرب الساعة السوداء الكبيرة خلفه وسُمِعَ دويُّ الدقات في أرجاء الغرفة مُعلِنًا تمامَ السابعة. ومع الدقة الأخيرة، ارتطم شيءٌ بأرضية الغرفة العلوية اهتزت له جنباتُ المنزل كلِّه وكأنه كان صاعقةً من السماء؛ وكان الأبُ براون قد صعدَ درجتَين بالفعل على السُّلَّم المُلتوي قبل أن يتوقَّف الصوت.
صاحَ باين على نحوٍ لا إرادي: «يا إلهي! إنَّه وحده في الأعلى.»
قال الأبُ براون من دون أن يستدير، وقد توارى في أعلى السُّلَّم: «أجل، يُفترَض أنْ نجده وحده.»
وحين أفاقَ بقيتهم من وقْع الصدمة التي أصابتهم بالشلل وهُرِعوا على السُّلَّم الحجري ودخلوا إلى غرفة الاستوديو الجديدة، وجدوه وحده فعلًا. وجدوه ملقًى وسط حُطام كاميرته المرتفعة، وكانت أرجل الحامِل الطويلة المتفرعة تقف عند ثلاث زوايا مختلفة؛ وقد وقعَ دارناواي عليها وكانت هناك ساقٌ سوداء واحدة مستلقيةٌ على الأرض تصنع زاويةً رابعة على طول الأرضية. بدَت تلك الكومة السوداء للحظة وكأنها واقعةٌ في شرَك عنكبوتٍ ضخم مخيف. وفي لحظة وبعد أن تلمَّسوه أدرَكوا أنه قد فارقَ الحياة. ووحدها اللوحة هي التي ظلت في مكانها على حامِل اللوحات دون أن تُمَسَّ، وقد يُخيَّل للمرءِ أنَّ العينَين المُبتسمتَيْن كانتا بارزتَيْن في مكانهما.
وبعد ساعةٍ من مساعدة الأب براون في تهدئة جو الارتباك الذي ساد المنزل الذي شهدَ الحادثة، التقى بالخادم وهو يُغمغم بصورةٍ آلية تكاد تشبه الساعة التي دقَّت مُعلِنةً عن حلول تلك الساعة المشئومة. وقد عرَفَ الأبُ براون تقريبًا الكلمات التي كان يُغمغم بها الخادمُ دون أن يسمعها:
وفيما كان الأبُ براون على وشك أن يقول له شيئًا ليُهدِّئه، بدا الرجلُ العجوز وكأنه ينتبه فجأةً وقد تصلَّبَ جسده من شدَّة الغضب؛ وتحوَّلت غمغمته إلى صيحةٍ مخيفة.
صاحَ قائلًا: «أنت! أنت وضوء النهار الذي اقترحته! ربما ستقول الآن إنَّه لا يوجد ما يُسمَّى بمصير آل دارناواي المحتوم.»
قال الأبُ براون بلطفٍ: «رأيي في هذا الصدد لا يتغيَّر.» ثم أضافَ بعد أن توقَّف برهةً: «آمُلُ أنْ تنظر في آخر أمنيةٍ لسليل دارناواي المسكين، وأنْ تُرسل الصورة إلى مَنْ كان سيرسلها إليه.»
صاحَ الطبيبُ بنبرةٍ حادة: «الصورة! ما جدوى ذلك؟ في الواقع، الأمرُ مثيرٌ للفضول كثيرًا، ولكن ما مِن صورةٍ هناك. يبدو أنه لم يلتقط تلك الصورة في نهاية المطاف، بعد أن ظلَّ يعبث طوال اليوم.»
استدار الأبُ براون بحِدَّةٍ وقال: «إذن التقِطوها أنتم بأنفسكم. كان دارناواي المسكين مُحِقًّا تمامًا، من المهم جدًّا التقاط هذه الصورة.»
وفيما كان الزائرون، وهم الطبيبُ والقس والفنانان، يسيرون بعيدًا عن المنزل في مسيرةٍ كئيبة مُتشِحةٍ بالسواد على الرمال البُنيَّة والصفراء، كان الصمتُ يُخيِّم عليهم جميعًا في البداية، كما لو أنهم مصعوقون. وكان هناك حتمًا ما يُشبه هزيمًا من الرعد في سماءٍ صافية على إثر ما تحقق عن الخرافة المَنسيَّة في الوقت ذاتِه الذي نَسُوا هم فيه تلك الخرافة؛ حين ساد الحديث عن العقلانية والتسويغ المنطقي وملأ عقلَ القس والطبيب تمامًا كما ملأ المُصوِّر الفوتوغرافي غرف الطابق العلوي بضوءِ النهار. ربما كانوا يتبعون أسلوبًا عقلانيًّا حسبما كانوا يريدون؛ بيد أنَّ ذلك الوريثَ السابع قد عاد في ضوء النهار الساطع، وفي ضوء النهار ذاته في تمام السابعة أُودِيَ بحياته.
قال مارتن وود: «أخشى أنَّ الجميعَ الآن سيُصدِّقون خرافة آل دارناواي.»
قال الطبيبُ بنبرةٍ حادة: «أعرفُ شخصًا لن يصدِّقها. لماذا أُصدِّقُ الخرافاتِ لمجرد أنَّ أحدهم انتحر؟»
سَأَله القسُّ: «أتعتقدُ أنَّ السيد دارناواي المسكين قد انتحر؟»
أجابه الطبيبُ: «أنا واثقٌ من أنه انتحر.»
وافقه الآخر قائلًا: «من الممكن ذلك.»
«لقد كان وحده تمامًا في تلك الغرفة العلوية، وكان لديه خِزانةُ أدويةٍ كاملة مليئة بالسموم في الغرفة المظلمة. بالإضافة إلى أنَّ هذا هو المعهود من آل دارناواي فِعله.»
«ألا ترى أنَّ ثمة خطبًا ما في تحقيق لعنة آل دارناواي؟»
قال الطبيبُ: «لا. أنا أُومن بلعنةٍ واحدة في تلك العائلة، وهي لعنةُ قانون تلك الأسرة. لقد قلت لكم إنها صفاتٌ متأصلة بحُكم الوراثة، وإنَّهم جميعًا أنصافُ مجانين. إنك إذا ما آثرت الجمودَ وتزوجتَ وأنجبت في مستنقع أسرتك بهذه الطريقة، فإنك ستتدهور لا محالة شئت أم أبيت. إنَّ قوانين الوراثة لا يمكن التلاعب بها، ولا يمكن نكران الحقائق العلمية. إنَّ عقول آل دارناواي تتداعى، تمامًا كما تتداعى منازلهم القديمة الخَرِبة بفِعل البحر وملوحة الهواء. لقد انتحر، هذا مؤكَّد؛ وأكادُ أجزم أنَّ البقية الباقية منهم سيفعلون جميعًا الأمرَ نفسه. ربما هذا هو أفضلُ ما يمكنهم القيام به.»
وبينما كان رجلُ العِلم يتحدَّث، قفز وجهُ ابنة آل دارناواي إلى ذاكرة باين على حين غِرة وفي وضوحٍ مفزع، ذلك الوجه المأساوي الشاحِب في مقابل السواد اللُّجي المُبهَم، ولكنه كان جمالًا أخاذًا في حد ذاته ويفوق حَدَّ الجمال البشري. فتحَ فمه لكي يتحدَّث، ولكنه وَجَدَ الكلمات تذوب على شفَتَيه.
قال الأبُ براون للطبيب: «حسنًا، ولكن هل تؤمن بالخرافات في نهاية المطاف؟»
«ماذا تقصد بقولك أُومن بالخرافات؟ إنني أُومن بالانتحار كضرورةٍ علمية.»
أجابه القس: «حسنًا، لا أرى فارقًا في الاختيار ما بين الخرافات العلمية والخرافات السحرية الأخرى. يبدو أنَّ كلَيهما ينتهي بإصابة الأشخاص بالشلل، فلا يستطيعون تحريك أرجلهم أو أيديهم أو إنقاذ أنفسهم أو أرواحهم. لقد قالت الكلمات المسجوعة إنَّ مصير آل دارناواي أنهم يُقتَلون، ويقول الكتابُ العلمي إنَّ مصير آل دارناواي أنْ يقتلوا أنفسهم. يبدو أنهم مُستعبَدون في كلتا الحالتَين.»
قال الدكتور بارنيت: «ولكنني كنت أعتقد أنك تؤمن بوجهات النظر المنطقية لهذه الأمور، ألا تؤمن بما يُسمَّى بالوراثة؟»
أجابه القس بنبرةٍ واضحة ومرتفعة: «قلت إنني أُومن بضوءِ النهار، ولن أختار بين نفَقَين من الخرافات الخفية ينتهي كلٌّ منهما إلى الظلام. ودليلُ كلامي هو أنكم جميعًا لا تعرفون ما حَدَثَ بالفعل في ذلك المنزل.»
سأله باين: «أتقصد بشأن الانتحار؟»
قال الأبُ براون وقد دوَّى صوته بطريقةٍ ما في أرجاء الشاطئ رغم أنه لم يرفع صوته إلا قليلًا: «أقصدُ بشأن جريمة القتل. لقد كانت جريمةَ قتلٍ؛ ولكنها جريمةُ قتل للإرادة، التي جعلها الرَّبُّ حُرَّة.»
لم يعرف باين قطُّ ما قاله الرجل الآخر في تلك اللحظة ردًّا على هذا؛ ذلك أنَّ الكلمة كان لها تأثيرٌ غريبٌ عليه؛ فقد دوَّت في أذنه وكأنها نفخة في بوق فجعلته يتوقَّف في مكانه. وَقَفَ ساكنًا وسط الشاطئ الرملي المُهمَل وجعل الآخرين يتجاوزونه في سيرهم بحيث صاروا هم أمامه؛ وشعر بالدم يتدفق في كل أوردته وبقُشَعريرةٍ تسري في جسده انتصبَ لها شعرُ رأسه، ومع ذلك شعر بمذاقٍ غريبٍ وجديدٍ من السعادة. كانت هذه الحالة الشعورية سريعةً جدًّا ومعقدةً للغاية بحيث لم يستطع أن يفهمها، وقد خلُصَ منها إلى أنه عاجزٌ عن تحليلها؛ لكنه أمرٌ أشعره بالارتياح. وبعد أن ظلَّ واقفًا بلا حَراك للحظةٍ، استدار وعاودَ السير ببطءٍ على الرمال نحو منزل آل دارناواي.
عَبَرَ الخندق بخطواتٍ كاد الجسرُ يهتزُّ لها، ونزلَ السُّلَّم واجتازَ الغرف الطويلة بخطواتٍ رنَّانة مُدوِّية إلى أنْ وصل إلى حيث كانت أديليد دارناواي تجلس وتلفُّها هالةٌ من ضوء النافذة البيضاوية الخافت، كما لو كانت قديسة مَنسيَّة تُرِكَت في أرض الموت. رفعت نظرها، وقد ارتسمت على وجهها نظرةُ تعجبٍ زادته بهاءً.
قالت: «ما الأمرُ، لماذا عُدت؟»
قال بنبرةٍ تكاد تنمُّ عن ضحكةٍ: «لقد جئتُ لأجل الجمال النائم. إنَّ هذا المنزل العتيق قد خَلَدَ إلى النوم منذ أمدٍ بعيد، كما قال الطبيب؛ ولكن من السخيف أن تتظاهري أنكِ امرأة عجوز. اخرجي إلى النور واستمعي لصوت الحقيقة. لقد جئتُكِ بكلمة؛ إنَّها كلمةٌ فظيعة، ولكنها ستكسر عنك تعويذة أَسْرك.»
لم تفهم كلمةً مما قاله، لكنَّ شيئًا ما دفعها للنهوض والسماح له ليسير بها عبر القاعة الطويلة فصعدا الدرَج وخرجا تحت سماءِ الليل. امتدت أطلالُ حديقةٍ خَرِبة مُهمَلة باتجاه البحر، وكان هناك نافورةٌ قديمة على شكل ترايتون، ابن إله البحر عند الإغريق، كانت خضراء من أثر الصدأ، تبدو متأهبةً دون حَراك، ولم تكن النافورة تضخ شيئًا من ذلك القرن الجاف في الحوض الفارغ. كان كثيرًا ما يرى ذلك الهيكل الخَرِب في ظلمة السماء ليلًا أثناء مروره به، وبدا له ذلك ضربًا من الحظ العسر بأكثرَ من طريقة. لا شكَّ أنه لن يمر وقتٌ طويل حتى تمتلئ تلك الأجران الجوفاء، لكنها ستمتلئ بمياه البحر الخضراء المالحة، وستموت الزهور غرقًا مختنقةً بين الأعشاب البحرية. وقد قال لنفسه إنَّ ابنة آل دارناواي ربما ستتزوج بالفعل، ولكنها ستُزَف إلى الموت وإلى مصير أصمَّ لا يرحم كالبحر، ولكنه كان يضع يده الآن على تمثال ترايتون البرونزي، التي بدَت كما لو كانت يدَ رجلٍ عملاق، وهزَّه كما لو كان وثنًا أو إلهًا شريرًا لتلك الحديقة يريد أن يُحطِّمه.
سألته في ثباتٍ: «ماذا تعني؟ ما هي تلك الكلمة التي ستُحرِّرنا؟»
قال: «الكلمة هي جريمة قتل، والحرية التي ستجلبها لنا هذه الكلمة هي حرية نضرة كزهور الربيع. لا؛ لست أقصد أنني قتلت أحدًا، ولكن حقيقة أنَّ ثمة شخصًا ربما قُتِل هي في حد ذاتها أخبارٌ رائعة، بعد كلِّ تلك الكوابيس التي كنتِ تعيشين فيها. ألَا تفهمين؟ في أحلامكِ التي ترينها كل شيءٍ حدث لكِ كان منبعه من داخلكِ؛ إنَّ مصير آل دارناواي مُختزنٌ في نفوس أفراد الأسرة؛ لقد كشفَ ذلك الحُلم عن نفسه وكأنه زهرةٌ مريعة. ولم يكن هناك من مفرٍّ منه حتى ولو كان بالمصادفة السعيدة؛ كان الأمرُ كلُّه محتومًا؛ سواءٌ فاين وقصص زوجته العجوز، أم بارنيت وما يقوله عن عِلم الوراثة المستحدث، لكن ذلك الرجل الذي ماتَ لم يكن ضحيةَ لعنةٍ سحرية أو جنون متوارث. لقد قُتِل؛ وبالنسبة إلينا فإنَّ جريمة القتل هذه مجرد حادثة؛ أجل، فليرقد في سلام، لكنها حادثةٌ سعيدة. إنه شعاعُ نور يُبدِّد الظلمة؛ لأنه ينبعث من الخارج.»
ابتسمت فجأةً وقالت: «أجل، أعتقدُ أنني أفهمك. قد يكون حديثُك كالمجانين، لكنني أفهمك. ولكن مَنْ قتله؟»
أجابَ في هدوءٍ: «لا أعلم، لكن الأب براون يعلم. وكما قال الأبُ براون، فهي على الأقل جريمة قتل ارتُكِبَت بإرادةٍ حرةٍ كرياح البحر هذه.»
قالت بعد أن سكتت برهةً: «الأبُ براون شخصيةٌ رائعة. كان هو الشخصَ الوحيد الذي أبهجَ حياتي بكلِّ طريقةٍ حتى …»
سألها باين: «حتى ماذا؟» واندفع في حركةٍ متهورة؛ إذ مالَ نحوها ودفع ذلك الوحش البرونزي بعيدًا حتى بدا وكأنه يهتز على قاعدته.
قالت وقد علَت وجهَها الابتسامةُ مجددًا: «حسنًا، حتى جئت أنت.»
وهكذا استيقظ القصرُ النائم، ولم يَرِد وصفٌ لمراحل استيقاظه في أي جزءٍ من هذه القصة، رغم أنَّ كثيرًا من تلك المراحل قد وقعَت أحداثها قبل أن يُسدل ذلك الليلُ سدوله على الشاطئ. وبينما كان هاري باين يسير عائدًا إلى المنزل، على تلك الرمال الداكنة التي كثيرًا ما سار عليها في حالاتٍ مزاجية مختلفة، كان في قمةٍ من السعادة التي يمكن أن يشعرَ بها أي إنسان، وكانت أحداث الموت والبعث داخله في أوجها. ولم يكن يواجه أيَّ صعوبةٍ في تخيُّل ذلك المكان مرة أخرى وقد نمَت به الأزهار وتمثال ترايتون البرونزي يلمع كإله ذهبي برَّاق، والنافورة يتدفق منها الماء أو النبيذ، لكن كل هذه المظاهر السعيدة والبراقة تجلَّت أمامه بفِعل كلمة واحدة «جريمة قتل»، ولكنها لا زالت كلمةً لم يفهمها فهمًا تامًّا. لقد صدَّق الكلمة وأخذها على مَحْمَل الثقة، لكنه لم يكن أحمق؛ فقد كان واحدًا مِمَّنْ يستشعرون صوت الحقيقة ويُميِّزونه.
كان قد مرَّ أكثر من شهرٍ حين عادَ باين إلى منزله في لندن ليحضر موعدًا مع الأب براون، وكان قد أخذ الصورة الفوتوغرافية المطلوبة معه. كانت علاقته العاطفية قد أينعت، وكانت تتكيَّف تحت وطأة تلك المأساة؛ ومن ثمَّ كانت وطأة المأساة نفسها خفيفةً عليه؛ لكن كان من الصعب أن يراها إلا كفاجعةٍ عائلية. وقد كان منشغلًا كثيرًا وبوجوهٍ عدَّة، ولم يتمكَّن من تصوير اللوحة المرسومة بشريط ماغنسيوم مشتعل إلا بعد أن عاد منزل آل دارناواي لممارسة روتينه الصارم، وأُعيدت اللوحة إلى مكانها في المكتبة. وقبل أن يرسلها إلى خبير التحف الأثرية كما كان مُخطَّطًا منذ البداية، أحضر الصورة الفوتوغرافية إلى القَسِّ الذي طلبَ رؤيتها وألحَّ في طلبه.
قال: «لا يمكنني أن أفهم موقفك حيال كلِّ ما حدث أيُّها الأبُ براون، فأنت تتصرَّف وكأنك قد حَللت المشكلة بالفعل بطريقتك الخاصة.»
هزَّ القس رأسه في حزنٍ وأجابه: «لم أحُلَّ ولو حتى جزءًا ضئيلًا منها، لا بد وأنني غبيٌّ، ولكنني عالقٌ نوعًا ما؛ عالقٌ عند أكثر نقطة عملية في هذه الحادثة. الأمرُ كلُّه غريبٌ؛ إنه بسيطٌ للغاية حتى نقطةٍ معينة، ثم … دعني أُلقي نظرةً على تلك الصورة، أتسمح لي؟»
وأمسكَ بالصورة وقرَّبها للحظةٍ من عينَيه بينما ضيَّقهما لأنه كان يُعاني من قِصر النظر، ثم قال: «هل معك عدسة مُكبِّرة؟»
أخرجَ باين عدسةً مُكبِّرة ونظر من خلالها القَس باهتمام لبرهةٍ من الوقت ثم قال: «انظر إلى عنوان ذلك الكتاب على حافة رف الكتب بجوار الإطار؛ إنه يقول «تاريخ البابا جون». والآن، أتساءَل … أجل، بقلم جورج؛ والكتاب الذي فوقه من أيسلندا تقريبًا. يا إلهي! يا لها من طريقةٍ غريبة لاكتشاف الأمر! يا لي من أبله مُغفل لأنني لم أُلاحظ الأمر حين كنت هناك!»
سأله باين بنفاد صبرٍ: «ولكن ما هو الذي اكتشفته؟»
قال الأب براون: «القرينة الأخيرة، ولن أكون عالقًا بعد الآن. أجل؛ أعتقد أنني أعرف الآن كيف وقعَت أحداث تلك القصة البائسة من الألف إلى الياء.»
أصرَّ الآخر في حديثه: «ولكن لماذا؟»
قال القس وهو يبتسم: «لماذا؟! لأن مكتبة آل دارناواي كانت تحوي كتبًا عن البابا جون وعن أيسلندا، فضلًا عن ذكر كتابٍ آخر رأيته وبداية عنوانه «عقيدة فريدريك الدينية» وهو عنوانٌ ليس من الصعب للغاية تكملتُه.» ثم تلاشت ابتسامته بعد أن لاحظ أن الآخر منزعجٌ من كلامه، وقال بنبرةٍ أكثر جِدية: «في الواقع، هذه النقطة الأخيرة، وعلى الرغم من أنها القرينة الأخيرة، فهي لا تُعَد النقطة الأساسية في هذه المسألة. كان ثمة أشياءُ أخرى أكثر إثارةً للفضول من ذلك في هذه المسألة. كانت أحدها دليلًا لافتًا للنظر. دعني أبدأ حديثي بشيءٍ قد يفاجئك. لم يمت دارناواي بحلول الساعة السابعة ذلك المساء. كان ميتًا بالفعل طوال اليوم.»
قال باين مغمغمًا: «إنَّ كلمة «يفاجئك» تبدو متواضعة للغاية لا تَفي بالغرض، بما أننا، أنا وأنت، رأيناه وهو يتجوَّل بعدها.»
قال الأبُ براون في هدوءٍ: «لا، لم نفعل، أعتقدُ أنَّ كِلَينا رآه، أو اعتقد كلانا أنه رآه، مهتمًّا كثيرًا بضبط بؤرة كاميرته. ألم يكن رأسه تحت ذلك الرداء الأسود حين مررت من الغرفة؟ كان ذلك الحال أيضًا حين صعدت أنا له؛ ولهذا شعرتُ بأنَّ ثمة شيئًا غريبًا بشأن الغرفة أو وضعية جسده. لم يكن الأمر أنَّ قدمه عرجاء، إنَّما الفكرة أنها لم تكن عرجاء. كان يرتدي نفس طراز الملابس الداكنة؛ ولكن إذا رأيت ما تعتقد أنه رجلٌ يقف بنفس الطريقة التي يقف بها رجل آخر، فسترى أن وضعيته غريبة ومصطنعة.»
صاحَ باين وكأنه يرتجف: «أتعني حقًّا أنه كان رجلًا مجهولًا؟»
قال الأبُ براون: «كان هذا هو القاتل، كان قد قتل دارناواي بالفعل في وضح النهار ووارى الجثة وتوارى هو في الغرفة المظلمة، وهي مكانٌ ممتاز للاختفاء عن الأنظار؛ لأنه لا أحدَ يدخلها في الغالب، وإنْ دخلها فلن يرى أي شيءٍ بوضوح، ولكنه ترك الجثة تتداعى عندما دقَّت الساعة السابعة، بالطبع، حتى يُفسَّر الأمر كلُّه وكأنه من صنيع اللَّعنة.»
قال باين: «ولكنني لا أفهم، لِمَ لم يقتله عند حلول السابعة، بدلًا من أن يتكبَّد عناء إخفاء جثة لمدة أربع عشرة ساعة؟»
قال القس: «دعني أسألك سؤالًا آخر، لماذا لم تُلتقَط أي صورة؟ لأنَّ القاتل حرَصَ على أن يقتله عند استيقاظه وقبل أن يتمكَّن من التقاط الصورة. كان من الضروري بالنسبة إلى القاتل ألَّا تصلَ تلك الصورة الفوتوغرافية إلى خبير التحف الأثرية.»
سادَ الصمتُ فجأةً للحظة، واستطرد القس في حديثه بنبرةٍ منخفضة: «ألَا ترى كَمْ هو بسيط؟ لماذا؟ أنت نفسُك رأيتَ جانبًا من الاحتمال الوارد، ولكن الأمر أبسط حتى مما تخيَّلت. لقد قلت إنه يمكن أن يُزيِّف رجلٌ شخصيته ليُشبِه رجلًا آخر في صورةٍ قديمة. ومن الأسهل بالتأكيد تزييف صورةٍ بحيث تشبه رجلًا؛ ومن ثمَّ، فإنه بصريح العبارة لا يوجد ما يُسمَّى بلعنة آل دارناواي، هذا حقيقيٌّ. ولا وجودَ لأي لوحةٍ قديمة، وكذلك لا وجود لأي أسجوعةٍ قديمة؛ ولا وجود لأسطورة الرجل الذي تسبَّب في إعدام زوجته، ولكن كان هناك رجلٌ خبيثٌ شديدُ الدهاء على استعدادٍ لأن يتسبَّب في مقتل أحدهم كي يسرق منه زوجته الموعودة.»
وفجأةً، ابتسم القس لباين ابتسامةً حزينة، كما لو كان يُطمئِنه وقال: «أعتقدُ الآن أنك ترى كلامي يرمي إليك، ولكنك لم تكن أنت الوحيد الذي دخلَ ذلك المنزل لأسبابٍ عاطفية. أنت تعرف الرجل، أو تظن أنك تعرفه، ولكن كان ثمة الكثير من الجوانب الخفية في شخصية ذلك الرجل المدعو مارتن وود، فهو فنانٌ وخبيرٌ بالتحف الأثرية، ولم يكن أيُّ أحدٍ من معارفه الفنية ليُخمِّن هذا بشأنه. تذكَّر أنه طُلِبَ منه الحضور لتقييم اللوحات وأرشفتها؛ في سلة مهملاتٍ أرستقراطية من ذلك النوع الذي يُقصَد منه في الواقع إخبار آل دارناواي بما يمتلكونه من كنوز فنية. لم يكن آل دارناواي ليُفاجَئوا بظهور أشياءَ لم يُلاحِظوها من قبل. كان عليه أن يُؤدِّي مهمته بطريقةٍ احترافية، وهذا ما حدث؛ ربما كان مُحقًّا حين قال إنه لو لم يكن هولباين هو مَنْ رسم تلك اللوحة فلا بدَّ أنه شخصٌ آخر يتمتع بموهبة فَذَّة تُضاهي موهبته.»
قال باين: «إنني مذهولٌ حقًّا، ولكن ثمة أمورًا كثيرة لا أفهمها. كيف عرَفَ شكل سليل آل دارناواي؟ كيف قتله في الواقع؟ يبدو الأطباءُ الآن في حيرة من أمرهم.»
قال القس: «لقد رأيت صورةً فوتوغرافية لذلك الأسترالي مع السيدة كان قد بعثَ بها قبل وصوله، وثمة طرقٌ كثيرة يمكنه بها معرفة الكثير حين تعرَّف على الوريث الجديد. ربما لا نعرف هذه التفاصيل؛ ولكنها ليست بمعضلة. تذكَّر أنه كان يساعد في الغرفة المظلمة؛ يبدو لي أنَّ تلك الغرفة هي المكان المثالي، لنقل — مثلًا — لكي يطعن الرجل بنَصلٍ مسموم، حيث السُّمُّ موجود وفي المتناول. لا؛ أقولُ إنَّ هذه الأمور ليست بمعضلة، لكنَّ المعضلة التي أعاقتني هي كيف كان وود في مكانَين مختلفَين في الوقت نفسِه. كيف يمكنه أن يأخذ الجثة من الغرفة المظلمة ويضعها في مكانها أمام الكاميرا بحيث تقع في غضون ثوانٍ معدودة، من دون النزول على السُّلَّم، بينما كان في غرفة المكتبة يبحث عن كتاب؟ وكنت مغفلًا لأنني لم أنظر إلى الكتب التي كانت في المكتبة؛ ولكنني رأيتُ في هذه الصورة فقط — بمحض الصدفة التي لا أستحقها — تلك الحقيقةَ البسيطة بشأن كتابٍ عن البابا جون.»
قال باين متجهمًا: «لقد احتفظتَ بأفضل قطع الأُحْجية حتى النهاية. ما علاقة البابا جون بهذا الأمر بحق السماء؟»
قال القس: «لا تنسَ الكتابَ الذي عنوانه شيءٌ من أيسلندا، أو العقيدة الدينية لشخص ما يُدعى فريدريك، لكن لا يبقى سوى أن أسأل أيُّ نوعٍ من الرجال كان اللورد دارناواي الراحل.»
علَّق باين بتثاقلٍ قائلًا: «آهٍ، أحقًّا؟»
استطرد الأبُ براون: «أعتقدُ أنه كان مثقفًا ومرحًا وغريبَ الأطوار نوعًا ما؛ فأما كونه مثقفًا، فقد عرف أنه لا وجودَ لشخص يُدعى البابا جون. وأما كونه مرحًا، فقد فكر على الأرجح في عنوان «ثعابين أيسلندا» أو شيءٍ آخر لم يكن له وجود. وإني لأجرؤ على وضع العنوان الثالث «العقيدة الدينية لفريدريك الأعظم»، الذي ليس له وجودٌ أيضًا. والآن، ألا ترى أنَّ هذه العناوين قد تكون هي العناوينَ التي تُوضَع على مغلفات كتبٍ ليس لها وجود؛ أو بكلماتٍ أخرى على خِزانة كتبٍ لم تكن خِزانة كتبٍ في الواقع؟»
صاحَ باين: «أها! أدرك ما ترمي إليه الآن. كان هناك سُلَّمٌ خفي …»
قال القس وهو يُومئ برأسه: «يؤدي إلى الغرفة التي اختارها وود بنفسه لكي تكون هي الغرفةَ المظلمة. أنا آسفٌ. لم يسعني أنْ أفهم الأمر. إنَّ المسألة بسيطةٌ وغبية على نحو مريع، بنفس قدر غبائي في تلك المسألة البسيطة. ولكننا كنا مشوشين ومشغولين بحكايةٍ قديمةٍ وعتيقة لأرستقراطيةٍ بائدة، وقصرٍ عائلي متداعٍ؛ ولم يكن بالأمر البديهي الوارد أن نأمل التمكُّن من الهرب باستخدام ممرٍّ سري. لقد كان مخبأً سريًّا قديمًا للقساوسة؛ وأستحقُّ أنْ أُوضَع فيه.»