مقدمة

وُلد فرانتس كافكا في الثالث من شهر يوليو عام ١٨٨٣م في مدينة براغ التي كانت في ذلك الوقت تجمَع بين ثقافتَين؛ الثقافة الألمانية من ناحية، والثقافة التشيكية من ناحية ثانية. ويبدو أن الطبقة التي كانت تحمل الثقافة الألمانية كانت هي الطبقة المرموقة التي يتُوق الناس إلى الوصول إليها والاندِماج فيها والسَّير على طريقها. وكانت أسرة كافكا أسرةً في أصلها رقيقة الحال، كان الجد يعمل بالجزارة، ويسعى هو وأولاده باللحم إلى الزبائن، أما الأب فقد رسم لنفسه طريقًا للصعود الاجتماعي سلكه في حزمٍ عنيفٍ، فبدأ بالرحيل من القرية إلى المدينة — براغ — وتزوَّج من واحدة من أصحاب الثَّراء من بين الأُسَر المتكلِّمة باللغة الألمانية، وتمكَّن من احتراف التجارة وكسب المال، ودفع أولاده رغمًا عنهم إلى الاتجاه إلى قطاعات من التعليم والعمل كان يرى فيها دليلًا على الرِّفعة والوجاهة، وكان في مُعاملته أولادَه عنيفًا شديد العُنف، لا يكاد يدع لهم مُتنفَّسًا في حضرته، فاضطرمَت نفس فرانتس كافكا منذ وقت مُبكِّر بنار الثورة على أبيه، واتجه بينَه وبين نفسه إلى الهروب من البيئة القاسية إلى الأحلام أحلام اليقظة وإلى الخيال الإبداعي بعد ذلك، وربما تحمَّلت شخصية فرانتس كافكا بشيءٍ من العصابية التي كان بعض أفراد أسرة أبيه وأسرة أمِّه يُعانون منها. ووجد فرانتس كافكا نفسه في المدرسة الألمانية في براغ، فلما أتمَّها دفعه أبوه إلى دراسة القانون حتى يتمكَّن من الانخراط في سلك الموظَّفين، والاندماج في هذه الطبقة التي تُدير الأمور وتُهيمِن على المقدَّرات. أما فرانتس نفسه فكان يَتمنَّى أن يدرس الفلسفة والآداب والفنون … وشتَّان ما بين الاتجاهَين من تبايُن! وإذا كان فرانتس كافكا قد اضطرَّ إلى إرضاء أبيه بدراسة القانون؛ فقد عرف في الوقت نفسه كيف يُرضي شغفَه بالفلسفة والآداب والفنون، فقرأ وحدَه ما استطاع واستمع إلى كثير ممَّا كان يُلقَى في الجامعة من محاضَرات في هذه التخصُّصات. وأتمَّ كافكا في عام ١٩٠٦م دراسة القانون وحصل على الدكتوراه، وتدرَّب فترةً في المحاكم شاهَدَ فيها بعينَيه كيف يتمُّ التقاضي، وعرف الصعوبات التي يتعرَّض لها أصحاب الحاجات في متاهات القانون، وكيف يُساقون من مكتب إلى مكتب، ومن دائرة إلى دائرة، يلقفُهم هذا الموظف، ثم ذاك المحامي، ويقعون في براثن هذا المُتعجرِف أو ذاك الأفَّاق، يرجُون الوصول إلى العدالة، وكلَّما اقتربوا منها في ظنِّهم بدَت عنهم في الواقع المرير. وانتقَل بعد فترة التدريب هذه للعمل في شركة للتأمينات العامة ثم إلى مؤسَّسة التأمين على العمال وظلَّ بها حتى استقال لمرضه في عام ١٩٢٢م — وأتاحَت له هذه السنوات الطويلة من العمل معرفة المزيد من أسرار العمل في الدواوين، وتصور الإنسان العصري سجينًا في أغلالها. وانتهى فرانتس كافكا ضحية السُّل في الثالث من يونيو عام ١٩٢٤م، وعمره يقلُّ عن ٤١ سنة قليلًا.

وتتكوَّن الأعمال الأدبية التي خلَّفها كافكا من مجموعة القصص التي نشَرَها في حياته، ومجموعة الروايات التي نُشرَت بعد وفاته ثم طائفة من الرسائل واليوميات والمُذكِّرات. وقد أخرجنا من قبل في مطبوعات «دار الكتاب العربي» ترجمة كاملة لرواية «القضية»، ونُقدِّم اليوم هذه الترجمة لرواية «القصر»، ونرجو أن نتمكَّن من مُتابعة الترجمة حتى تُصبح في متناول يد القرَّاء العرب مجموعة الأعمال الكاملة لكافكا.١

أحداث القصر

في وقتٍ مُتأخرٍ من مساء يوم من أيام الشتاء يصلُ رجل اسمه ك (انطق «كا» مُفَخَّمَة) إلى قرية لا نعلم مِن اسمها إلَّا «القرية» تقعُ عند أسفل التلِّ الذي ترتفع عليه مباني القصر، أتى بعد رِحلة على الأقدام ليعمل موظفًا للمساحة بناءً على دعوة يقول إنه تلقَّاها من أصحاب الشأن. ويذهب إلى حانِ الجِسر بالقرية ويحاول أن يقضي الليلة في هدوء حتى يأتي الصباح ويجري اتِّصالاته ويبدأ عمله، ولكن أهل القرية يُواجهونه بالشك والريبة، ولا يتركه صاحب الحان يَبيت إلَّا بعد إجراء اتصال تليفوني مع القصر يسمح بهذا المبيت. ويعتقِد ك أن هذا التصريح بالمبيت يعني أن الأمور كلها تسير على أحسن وجه وأن الشك والريبة السابقين لا يزيدان عن أن يكونا من قَبيل الخطأ أو سوء الفهم. وك لا يعرف من أمر القرية والقصر إلا القليل، وهو يظنُّ أن الجراف أو الأمير في القصر رجل عظيم يُحسن تدبير كل شيء، ويعطي الموظَّفين والعاملين لديه أجرًا حسنًا، وكان ك يُمنِّي نفسه بشيءٍ من الكسب يُوفره ويعود به إلى بلده. فلما أصبح الصباح خرج إلى القرية التي كانت تتوارى تحت الثلوج المتراكمة، ونظَر إلى الأفق فوجد القصر فوق التل لا يُغطيه من الثلج إلا القليل وتبين أن القصر يتكوَّن من مجموعة من المباني التي تُوشك أن تكون مدينة صغيرة، وأن له برجًا واحدًا لا يعلم الناظر إليه هل هو برج كنيسة أو مسكن. ثم أطال النظر فتبيَّن أن القصر الذي كان في البداية يظنُّه منيفًا رائعًا لا يزيد عن أن يكون مدينة بائسة من الحجر الهشِّ الذي يتساقط فُتاته ويفقد طلاءه. وتذكر ك بلدته فلم تكن تَقِلُّ تقريبًا عن هذا القصر المزعوم. — وتبيَّن ك حوالَيه في القرية كنيسة ومدرسة، والتقى بمُدرِّس حاول أن يتكلَّم معه عن القصر والجراف، ولكن المُدرِّس لفَتَ نظر ك إلى وجود أطفال أبرياء بجانبهما لا يصحُّ الخوض في هذا الأمر على مسمَع منهم! وسار ك يُحاول أن يصل إلى القصر، ولكنه أحس بالتعب يتملَّكه فجأة. وتبيَّن أن الطريق إلى القصر لا تصل إليه، وإن كانت تصل إلى مكان قريب منه، وأنها مع ذلك طويلة طولًا لا نهاية له. وانحرَف ك عن طريق القصر واتَّجه إلى بيوت القرية، ودخل أحدها فوجَد رجلَين يستحمان في حوضٍ كبيرٍ، وأطفالًا يلعبون ونساءً يَغسلن ورأى امرأة باهتة اللون شاحبة علم أنها تتَّصل بالقصر، أو على حدِّ تعبيره «بنت من القصر»، وأخذه النُّعاس هناك، فلما أفاق قيل له إن عليه أن ينصرف، فخرج. وقابَلَ رجلين مُتشابهَين كل التشابُه علم منهما أنهما مُساعداه، عيَّنهما الديوان له، على الرغم من أنه كان ينتظِر وصول مُساعدَيه الحقيقيَّين ومعهما أجهزة المساحة. واضطرَّ إلى قبول هذَين المساعدَين، وعلم منهما أن الإنسان لا ينبغي له أن يطأ القصر إلَّا بتصريح، وكلَّفهما بالسعي للحصول على تصريح له فأبلغاه بأن القصر يرفض، وحاول هو أن يتَّصل تليفونيًّا بالقصر فلم يَفهم شيئًا. ثم التقى ك بشابٍّ اسمه برناباس علم منه أنه يعمل ساعيًا بين القرية والقصر، وأنه يحمل إليه رسالة من رئيس الإدارة العاشرة واسمه كلم، يُبلغه فيها بأن عليه أن يتَّصل برئيس القرية ليعرف منه تفصيلات مهمَّته، ويُبلغه فيه بأن برناباس وُضع تحت تصرُّفه ليكون همزة الوصل بينه وبين الديوان. وسار ك مُعتمدًا على ذراع برناباس ليتحدَّث معه في أمر الخطاب والرد عليه، وطال السير حتى وصل الاثنان إلى بيت برناباس ورأى ك هناك والدَي برناباس وأختَيه أماليا وأولجا. وما إن تبيَّن ك أن بيت برناباس لا يتَّصل بالقصر حتى غضب وأراد الانصراف، وانتهز فرصة ذهاب أولجا إلى الحان لإحضار شيء من البيرة، فرافَقَها إلى هناك. ولم يكن هذا الحان هو حان الجسر الذي نزَلَ به في الليلة الماضية، والذي أعطوه به حجرة الخادمة لينام بها حتى يَصدر قرار بشأنه. كان هذا الحان الجديد هو حان السادة. وعلم ك من صاحب حان السادة أن المبيت به مقصور على السادة الذين يَنزلون من القصر إلى القرية، وأن مبيته فيه ضرب من المستحيل. ورأى ك كيف أحاط الخدم بأولجا واسترسلوا معها في الرقص والعبث. وتعرف ك في قاعة الشراب أو خمارة الحان بفريدا خادمة الشراب التي جذبَت انتباهه إليها بنظرتها التي عبَّرت بها عن تفوُّقٍ شديدٍ. وعلم منها أنها عشيقة كلم، وأنها تستطيع أن تُتيح له إمكانية النظر إليه. وبالفعل رفعت سدادة بالباب ونظر ك من خلال ثقب فرأى رجلًا جالسًا: إنه كلم! واتَّفق ك مع فريدا على أن تُمكِّنه من المبيت هنا. وكانت ليلة ارتبط فيها قلباهما بالحب. لقد امتلَك ك فريدا وأصبح يعتقد أنه يمتلك كل شيء بامتلاكه إيَّاها، وكان يعتقد فوق ذلك أنه كسب من كلم شيئًا عظيمًا بالغ العظَمة. وكان على فريدا أن تترك عملها في حان السادة وأن تتبع ك إلى مقرِّه في حان الجسر. وسار الاثنان إلى هناك، وكان المُساعدان يتبعانهما خطوة خطوة ولا يَرضيا بمفارقتهما لحظة، حتى وصلا إلى داخل الحجرة فلم يخرُجا منها. كان ك يغلظ لهما ويرجو التخلُّص منهما أو على الأقل إبعادهما عن ملاحقته حيثما ذهب، وكانت فريدا تَرفق بهما وتحنو عليهما. ومهما يكن من أمر فقد أصاب ك بعض الراحة وأصبح يستطيع التفكير في الذهاب إلى رئيس القرية ليَعرف منه تفصيلات عمله. ولكنه كان في الوقت نفسه، وربما بالدرجة الأولى، مهتمًّا بسبر أغوار القصر ومعرفة حقيقة كلم، وقد جرى بين ك وبين صاحبة حان الجسر حديث طويل حول هذه الموضوعات من ناحية، وحول علاقته بفريدا من ناحية ثانية. والرأي عند صاحبة الحان أن ك أضرَّ بفريدا ضررًا بليغًا بإبعادها عن كلم، وأنه ارتكب حماقة بشعة بذهابه إلى بيت برناباس، وأنه يسعى سعيًا سخيفًا للقاء كلم ولدخول القصر، وأنه قبل هذا كله جاهل شديد الجهل، جاهل على نحو لا سبيل إلى إصلاحه.

وذهب ك إلى رئيس مجلس القرية فوجده مريضًا يُلازم الفراش، وجرى بين الاثنين حديث طويل عن نظام عمل الدواوين وكيف يُمكن أن يحدث أن يُستَدعَى إلى القرية موظَّف مساحة لا حاجة للقرية به، وكان رئيس القرية يخشى أن يُسبب شرحه المطول لروتين الحكومة الجرافية المَلل لمحدِّثه، وكان ك على العكس يجد حديث رئيس القرية مُسلِّيًا. وكيف يمكن ألا تكون القرية بحاجة إلى ك موظفًا للمساحة وقد تلقَّى خطابًا من كلم اعتبره تأكيدًا لتعيينه في هذا المنصب؟ ولكن رئيس القرية يرى أن هذا الخطاب خطاب خاصٌّ ليست له الصفة الرسمية، وأن ك يستطيع الرحيل إن شاء. ولكن ك رفض الرحيل، وأصرَّ على نيل حقِّه، وكيف يمكنه العودة إلى بلده هكذا وقد خابت رحلته، وتبدَّدت آماله، وضاع ماله، واستحال عليه العثور على عمل مُماثل وارتبط هنا بفتاة وعدها بالزواج؟ وانصرف ك غاضبًا. وما إن وصل إلى الحان حتى تبيَّن أن صاحبة الحان قد قرَّرت طرده من حانها، وأنها اضطُرَّت إلى ملازمة الفراش من فرط ثورتها عليه. فذهب إليها ليُهدئها ودار بينهما حديثٌ طويلٌ، قصَّت في خلاله على ك قصة زواجها وحصولها على الحان، وارتباط هذا كله بكلم الذي كانت عشيقة له، وصِلاتها الكثيرة بأصحاب الحل والربط، ووعدت ك بأن تُحاول توصيل طلبه محادثة كلم بشرط أن يَعِدها هو بألَّا يفعل شيئًا من تلقاء نفسه. وعندما عاد ك إلى حجرته وجد فريدا مع المُعلم الذي جاء ليبلغ ك بأن رئيس القرية يخشى أن يقوم ك بعمل مُتهوِّر، ولذلك فهو يعرض عليه أن يقبل وظيفة خادم المدرسة حتى تُقرِّر الدواوين الأميرية شيئًا نهائيًّا في مسألته. ورفض ك العرض ثائرًا عليه، ولكنه اضطُرَّ في النهاية إلى قبوله مؤقتًا لأنه يُتيح لفريدا وله مكانًا يسكنان فيه، ومصدرًا للرزق. ولم يكن مكان السكن الجديد سوى حُجرة من حجرتين تتكوَّن منهما المدرسة، سيَسمح لفريدا وك بالنوم فيها ليلًا، على أن يُخلياها مُبكِّرَين قبل حضور التلاميذ. وترك ك فريدا والمُساعدَين وهم يتأهَّبون للانتقال إلى المدرسة، وذهب هو يحاول الالتقاء بكلم. ذهب إلى حان السادة. وهناك بحث عن الثقب الذي كان قد رأى كلم من خلاله بالأمس فلم يَعثر له على أثر. والتقى ببيبي خادمة الخمارة التي خلَفَت فريدا، ودار بينهما حديث علم منه أن كلم ليس بالحجرة، فليست هذه حجرته، وأنه يُوشك على الرحيل الآن بالزحَّافة. وأسرع ك إلى الخارج، وذهب إلى الفناء المغطَّى بالثلوج، ورأى زحَّافة تقف فيه ورأى الحوذي وتكلم معه، وعلم منه أنه يستطيع التسلُّل إلى الزحافة واستخراج زجاجة كونياك منها لكي يشرب منها جرعة، ويشرب منها الحوذي كذلك. ودفع البرد ك إلى قبول النصيحة وركب الزحافة ونَعِم بما فيها من دفء ورفاهية، وشرب شيئًا من الكونياك اشتدَّت به أوصاله. وفوجئ ك بالنور يُضاء ورجل يأتي. ولكن هذا الرجل لم يكن كلم. ودار بين ك وبين هذا الرجل حديثٌ علم منه أنه لن يلتقي بكلم بحال من الأحوال، سواء انتظر أم لم ينتظر. وأصر ك على الانتظار، فأمر الرجل الحوذي بأن يُعيد الزحافة والحصانين إلى الإسطبل. وأيقن ك من أن انتظاره لن يُؤدي إلى نتيجة، فعاد أدراجه إلى الحان وجلس في قاعة الشراب. وهناك سمع صوت انطلاق الزحافة، لقد رحل كلم بعد أن زالت العوائق من طريقه ونظَّفوا الفناء من آثار الأقدام التي كانت قد ارتسمت فيه. وجاء إليه رجل اسمه موموس قدَّم نفسه على أنه سكرتير كلم في القرية، وطلب إليه أن يأتي ليَستجوِبه، فرفض ك رفضًا قاطعًا على الرغم من أن صاحبة الحان — التي كانت حاضرة — نصَحَته بالقبول، فلا يصل شيء إلى كلم إلَّا عن طريق سكرتيره. وقابل ك على الباب وهو يتأهَّب للانصراف، صاحب الحان الذي لامَهُ على أنه لم يقبل أنه يستجوبه موموس.

وخرج ك ليذهب إلى المدرسة. وقابل في الطريق المساعدَين ثم برناباس الذي جاء إليه بخطاب من كلم. وفتَحَه ك فوجد أن كلم يتوجَّه إليه بالشكر على ما تمَّ من أعمال الساحة ويحثُّه على أن تصل الأعمال إلى نهايتها المرجوَّة. ودهش ك لمضمون الخطاب؛ فهو أكثر الناس علمًا بأنه لم يَقُم بشيءٍ يمتُّ إلى المساحة بصلة. وتوقَّع ك أن يكون في الأمر خطأ، ورجا برناباس أن يبلغ السيد المدير ردًّا على خطابه التماسه بالمُثول بين يدَيه ولو لفترةٍ صغيرةٍ جدًّا. وسار ك طريقَه إلى المدرسة بين حانق على برناباس لأنه في تصوُّره لا يقوم بالعمل على ما يَنبغي، ومُستميل له لأنه على أية حال الصِّلة الوحيدة بينه وبين القصر. ووجد ك فريدا في المدرسة وقد أعدَّت في أحد الفصلَين مكانًا لسُكناهما، وكان الفصل يحتوي على أجهزة الرياضة البدنية. وتناول ك وفريدا معًا طعام العشاء ولم يكن يُنغِّص على ك راحته شيء أكثر من وجود المُساعدَين معهما والتصاقهما بهما، ومُضايقتهما لهما. ولكن ك لم يكن يستطيع أن يفعل شيئًا للتخلُّص منهما، وكان ينظر بدهشة إلى حنوِّ فريدا عليهما. وحان وقت النوم، وكانت الحجرة باردةً برودة لا سبيل إلى احتمالها، فحطَّم ك مخزن المدرسة بالبلطة وأخرج منه خشب الوقود وأوقد به المدفأة، وتمدَّد وصاحبته على جوال مملوء بالقش، وكلَّف المساعدَين التناوب على ملاحظة المدفأة حتى لا تنطفئ وتبرد الحجرة في هذا الشتاء القارس. وهكذا انقضت الليلة لم يعكر هدوءها إلا مرور قطة على فريدا أثناء نومها، فصحت مفزوعة وقامت تبحث عنها فانتهز أحد المساعدين الفرصة وتمدد مكانها على جوال القش ولم يَبرحه إلَّا بعد أن نَهَرَهُ ك. فلما أصبح الصباح تواتَرَت مُشكلات هذه الحياة المؤقتة التي لا تقوم على مقومات صحيحة. فقد أتى التلاميذ مُبكِّرين على عادتهم، ولكن المدرسة لم تكن قد تهيَّأت بعدُ لبدء الدراسة؛ فلم تتمَّ أعمال النظافة، ولم يحدث شيء من ترتيب، وهذا فصل من الفصلين قد تحوَّل إلى حجرة نوم لا يصحو مَن فيها! وكانت المعلمة جيزا غاضبةً لأنَّ قطتها أُصِيبت بجرحٍ — ربما على أثر معركتها بالليل مع فريدا — ولم يهدأ غضبها إلا بعد أن تكفَّل ك وفريدا بالعناية بالقطة الجريحة، وكان المُعلم ثائرًا لاضطراب حال المدرسة. وانتهى الأمر بالمعلم إلى فصل ك من العمل، ولكن ك رفض الفصل، فجمع المُعلم التلاميذ جميعًا في الحجرة الأخرى، ونصَح ك بأن يُفكر فيما يفعل وألا يَسترسل في الحماقات. وبدأ ك يُدبر أموره، ففصل المساعدَين اللذَين كان سخطه عليهما قد تجاوز كل حدٍّ، وطارَدَهما ما استطاع، وتركهما خارج المدرسة يقفان وسط الثلوج المتراكمة. وتبين ك أن فريدا حزينة، وأنها بين آسفة على ترك عملها في الحان وساعية إلى دفعه إلى أن يتركا هذا المكان الصعب ويُهاجِرا إلى جنوب فرنسا أو إسبانيا. ولكن ك كان مُصممًا على البقاء. وقرع الباب بعضهم، فظنه ك أنه برناباس أتى إليه بردٍّ من كلم. ولكن القادم لم يكن برناباس بل كان صبيًّا من صبية المدرسة صعب عليه ما حدث فأتى ليواسي ك. واكتشف ك أن هذا الصبي هو ابن المرأة الواهنة التي كان ك قد رآها في يومه الأول بالقرية، والتي قيل له إنها بنت من القصر، وحاول ك بشتى الطرق المُلتوية أن يحمل الصبي على تدبير مقابلة بينه وبين هذه المرأة حتى تُمكنه من الاتصال بالقصر، فاستجاب الصبي ووعده بأن يحاول. واشتد غضب فريدا من ك، واتهمَته بأنه يتجاهلها، وبأنه يدَّعي أنه يريد الوصول إلى كلم وهو في الحقيقة يُخفي نوايا خبيثة. ودافع ك عن نفسه ما استطاع وخرج يلتمس برناباس، وذهب إلى بيته على الرغم من تحذير فريدا إيَّاه من آل برناباس. وكان ك في الحقيقة يريد أن يسأل سؤالًا واحدًا ويَنصرف، ولكنه لبث الساعات يتحدث مع أولجا أخت برناباس التي فتحت قلبها وقصَّت عليه قصة الأسرة والمصيبة التي حلَّت بها.

كانت الأسرة تتمتَّع بسمعة طيبة في القرية، وكان الناس يُحبُّون أفرادها ويحترمونهم، حتى أقامت القرية احتفالًا بفرقة المطافئ حضره أحد مُوظَّفي القصر واسمه سورتيني، وما إن رأى أماليا أخت برناباس الأخرى حتى تعلَّق بها أشد التعلق، وأرسل إليها في الليلة نفسها إلى البيت خادمه محمَّلًا بخطابٍ بذيء يطلب إليها أن تأتي إليه في حان السادة. فغضبت أماليا لكرامتها ومزَّقت الخطاب وألقته في وجه الخادم. وانتشر الخبر في القرية. ولم يكن الخبر الذي انتشر هو دفاع أماليا عن كرامتها وشرفها، بل كان تجاسرها على إهانة خادم سورتيني وسورتيني نفسه لسبب ما لم يكن هناك من يُريد أن يعرفه أو يهتم له. وأصبحت القرية ترى في فعلة أماليا بشاعة لا قِبَل لأحد بها، فانصرف الناس عن أماليا وذويها، وبارت تجارة الأب وتدهورت حالة الأسرة. وحاول الأب أن يتَّصل بالقصر ليُصلح الأمر وليشكو من الظلم ولكنه خسر ماله وصحته ولم يصل إلى شيء. وأخيرًا فكَّرت أولجا في أن تحلَّ المشكلة بطريقتها، فاستسلمت لخدم القصر الذين ينزلون مع السادة إلى القرية ويُقيمون في حظيرة حان السادة. وتمكَّنت أولجا من الوصول ببرناباس إلى العمل في القصر ساعيًا ليسَت له صفة رسمية؛ فهو يقف في الدواوين الساعات وربما الأيام حتى يجد رسالة يحملها إلى القرية، وكان الخطاب الذي حمَلَه إلى ك هو أول عمل يُكلَّف به. وبينما أولجا وك يتحدَّثان ويتناقشان ويتبادلان الآراء، دقَّ بعضهم الباب فنظرت أولجا وتبيَّنت أنه أحد المساعدين. وتناول ك الخطاب وخرج من الباب الخلفي عبر الحديقة وتسلَّق الجدار ليفاجئ الرجل ويضربه. ولكنه لم يضربه بل دخل معه في حديث فهم منه أن المساعد الآخر قد ذهب إلى القصر ليشكو من أن ك لا يفهم المزاح، ولقد كانت المهمة التي كلَّفهما بها القصر هي مصاحبة ك وتسليته. وعلم ك من هذا المساعد، واسمه يريمياس، أنه التحق بالعمل خادمًا في حان السادة، وأن فريدا كذلك قد تركت المدرسة وعادت إلى عملها في الخمارة، فلم تَعُد تحتمل خيانة ك وذهابه إلى بيت آل برناباس واتصاله بالبنتَين الفاجرتَين. واتجه ك من فوره إلى حان السادة وهو يظنُّ أنه سيتمكَّن من إصلاح ما فسد من أمره مع فريدا. وفي الطريق التقى ببرناباس الذي أبلغه أن السيد أرلانجر، أحد سكرتيرَي كلم الأوائل، يُريد مقابلته، وأنه ينتظره في حجرته بالحان.

واتجه ك إلى الممر الذي تُطلُّ عليه غرف السادة، وهي غرف كثيرة مُتشابهة لا يستطيع الإنسان أن يُميز الواحدة عن الأخرى. وأشار الخادم الذي رافقه إلى هناك إلى واحدة منها، وقال إنها حجرة أرلانجر، وحضَّه على الانتظار حتى يصحو أرلانجر من النوم ويستدعيَه لاستجوابه. وانتظر ك. وبينما ك ينتظر هناك رأى فريدا تحمل صينية فاتجه إليها، وتكلم معها محاولًا إعادة المياه إلى مجاريها، ولكن فريدا أصرَّت على اتهامه بخيانتها وإلى قطع كل صِلة قامت بينهما، وتركته وذهبت إلى حجرتها التي كانت تقيم فيها مع يريمياس. وعاد ك إلى غرف السادة وحاوَل التعرُّف على حجرة أرلانجر فلم يستطع، ولم يكن هناك من يستطيع إرشاده إليها. ففكَّر في أن يفتح أي غرفة وينظر هل أرلانجر بداخلها. فإن لم يجده فقد يجد من يستطيع إرشاده. وساقته هذه الحيلة إلى حجرة سكرتير آخر هو السكرتير بورجل الذي دعاه للدخول، وأجلسه على حافة السرير وأخذ يتحدث معه عن الديوان وعن أعمال الموظَّفين وكيف تجري حتى استبدَّ التعب ﺑ ك واستغرق في نوم عميق. وصحا ك على صوت يناديه. كان أرلانجر في الحجرة المجاورة وعلم بوجود ك، فطلبه إليه ليتحدث إليه بسرعة قبل أن يَنصرف؛ فقد أزف موعد انطلاقه إلى القصر. وأسرع ك إليه فأبلغه أرلانجر بأن علاقته بفريدا قد تسبَّبت في تركها العمل في الخمارة وقد أدى هذا إلى شيء من الارتباك الذي ربما أثر على كلم، ولهذا كان من الضروري أن تعود فريدا إلى عملها على الفور. وانصرف أرلانجر. ووقف ك في الممر يرقب توزيع الملفات على غرف الموظفين، وكانت عملية تتمُّ في صعوبة بالغة لأن غرف الموظفين ظلَّت مغلقة أو شبه مُغلقة، وكان الخادم المُكلَّف بالتوزيع لا يستطيع لهذا السبب التفاهم مع الموظَّفين في أمر الملفات التي تخصُّهم. وفجأة دق جرس هناك دقًّا عاليًا مستمرًّا وأتى صاحب الحان وزوجته مُهرولَين وكأن كارثة حلَّت. وتبيَّن ك أن وجوده في هذا المكان في هذا الوقت هو الذي تسبَّب في كل هذه التعقيدات، فلم يكن الموظَّفون يحتملون رؤية شخص مثله في مطلع النهار! واقتيد ك إلى الخمارة حيث قضى الليلة نائمًا على لوحٍ من الخشب. وفي الصباح جرى بينه وبين بيبي حديث طويل عن الفرق بينها وبين فريدا، وعن المِحنة التي تردَّت هي إليها إذ ارتقَت إلى خادمة خمارة ثم انحطَّت بعد ذلك من جديد. إلى مرتبة خادمة حُجرات، وكان رأيها أن ك هو السبب في ذلك. ومهما يكن من أمر فقد جمعت الظروف السيئة بينهما، فما أشبه ما يحدث له بما يجري عليها! واقترحت بيبي على ك أن يأتي خفية إلى حُجرة الخادمات ويعيش معهنَّ دون أن يراه أحد، فإذا جاء الربيع وشاع الدفء وعثر ك على مكان أفضل فله إن شاء أن يغادر حجرة الخادمات، ووضَّحت له أنه بذلك لا يفقد حريته، كل ما سيكون عليه هو أن يختبئ عن الأعين وأن يطيع الخادمات في كل أمر. فلما سأل ك عن الربيع وموعده أجابت بيبي بأن الشتاء في القرية طويل طولًا مُسرفًا، ولكن الربيع سيأتي يومًا ما، فلكلِّ فصلٍ موعده الذي يحلُّ فيه. وشرحت بيبي ﻟ ك مكان الباب الموصِّل إلى حجرة الخادمات واتفقت معه على الدقات التي ينبغي عليه أن يدقَّها حتى يعرفنه. وأتت صاحبة الحان فجأةً وقطعت عليهما الحديث، وتحدَّثت هي مع ك ثم اصطحبته إلى حجرة ملابسها ليرى الثياب الكثيرة التي تمتلكها لعله يتراجَع عن الفكرة التي تظنُّ أنه قد كوَّنها عن هندامها. لقد كان على ما يبدو يتصور أنها لا تُحسن اختيار ثيابها، فإذا به يتبين أنها مغرمة بالثياب لا تَشبع منها. وصحَّح ك الفكرة قائلًا إنه لم يُقلَّ من شأن هندامها، بل ذهب إلى أنها ليست صاحبة حان فقط، فصاحبة الحان لا شأنَ لها بهذه الثياب، ثم اشتد في التعبير فقال إنه يعني أنها تكذب. وكان ردها عليه أنه كذلك يكذب، فهو ليس مجرَّد موظَّف مساحة. وتنتهي الصفحات التي وصلتنا من الرواية بحكم صاحبة الحان على ك بأنه: إما مجنون أو طفل أو إنسان شرير جدًّا، خطير جدًّا.

حول «القصر»

تشترك هذه الرواية مع كثير من أعمال كافكا في أنها نُشرت بعد وفاته اعتمادًا على مخطوطات لم يكن قد أعدها للنشر، بل ولم يكن يعتقد أنها تَصلُح للنشر على حالتها؛ فقد كانت مُفكَّكة لم يُحدِّد تتابعًا لفصولها … وكانت تتضمن الكثير من المُحاوَلات في الموضع الواحد … وكانت تشتمل على فقرات كثيرة مشطوبة … وكانت مكتوبة في أجزاء كثيرة منها باختزالٍ خاصٍّ. ولكن الرواية كُتِب لها البقاء في أجزاء مطبوعة لأول مرة في عام ١٩٢٦م. وتوالت الطبعات بعد ذلك وقد أضيفت إليها زيادات قال الناشر إنها من المخطوط. ولا تزال الشكوك قائمة إلى الآن حول الصورة التي ينبغي أن تكون عليها الرواية، وإن كان من المستبعَد أن يكون النص قد تناوله تحريفٌ كبيرٌ.

والمعروف أن هذه الرواية نشأت في الفترة بين عام ١٩٢١ و١٩٢٢م. وكان كافكا قد تعرَّف في عام ١٩٢٠م بميلينا يزينسكا، ابنة أستاذ في جامعة براغ، وزوجة طالب — هو ارنست بولاك — لا يَفرغ من دراسته أبدًا. وكانت ميلينا شخصية فريدة، عميقة الفهم، مُرهَفة الحس، ميَّالة إلى المبالغة وتحطيم القيود؛ فقد ثارت على أبيها فحبَسها في مصحَّة فهرَبَت إلى فيينا، وسارت في طريقها مستقلَّة تفعل ما يحلو لها … وعلى الرغم من أنها كانت مُتزوجة من ارنست بولاك فقد كانت تسعى إلى الحب الجنوني ولا تجد فيه عيبًا. وعلى الرغم من أن كافكا مال إليها وأحبَّها، فقد سعى إلى ردِّها وكان مريضًا بالسُّل وكان يَكبُرها بسنواتٍ كثيرة (هو ٣٨ وهي ٢٥)، وكان يعرف أنه شخصية صعبة كثيرة الشكوى. ولكنه في الوقت نفسه يعرف أنه لن يستطيع الاستغناء عنها فقد أصبحت له. واستمرت العلاقة بينهما وإن ظلَّت في أغلب الأحوال قاصرة على المراسَلات، ويبدو أنها أثَّرت على فكره وإبداعه تأثيرًا كبيرًا. وكانت هي من أقدر الناس على سبر أغواره، وهي التي قالت مستحضرة حاله: «إن الأمر ليَبدُو كأننا قادرون على الحياة، لأنَّنا لُذنا ذات مرة بالكذب أو العمى أو الحماس أو الاقتناع أو التشاؤم أو غير ذلك. ولكنه هو لم يَلُذ قطُّ بملجأ واقٍ، فهو لا يستطيع مطلقًا أن يكذب، تمامًا كما أنه لا يستطيع أن يسكر. إنه يفتقر إلى الملجأ والمأوى. ولهذا فهو يتعرَّض لكلِّ ما نحن بمنأى عنه، مثل العريان بين المستورِين … إن وجوده وجود محتوم في أصله وجوهره، وهو يَفتقر إلى كل العناصر التي كان يُمكنها أن تُعينه على تصوير الحياة على نحو ما جميلًا كان أو بائسًا … وهو زاهد زهدًا عاريًا عن البطولة … إن البطولة في نظره كذب وجبن … إنه ليس إنسانًا يتخذ الزهد وسيلة إلى هدف، بل هو إنسان اضطرته شفافيته الفظيعة ونقاوته وعجزه عن قبول الحلول الوسط إلى الزهد … إنه على ما أعرف لا يرفض الحياة، بل يرفض هذا النوع من الحياة.» ويبدو أن الزهد الذي تتحدَّث عنه ميلينا زهد من نوع الزهد الصيني الذي نقرأ عنه في «الطريق والفضيلة».٢

وفي أواخر العام سافر كافكا إلى مصحة المصدُورين في مالتياري في جبال تاترا العليا (بتشيكوسلوفاكيا) وظل بها عدة أشهر يَلتمِس الشفاء من مرضه الخطير. وكانت حالته المعنوية سيئة تضطرب بين اليأس والخوف، إلا من إشراقات عابرة قليلة. وعاد كافكا إلى براغ في سبتمبر ١٩٢١م دون أن يفيد من المصحة شيئًا، ودون أن تُعينه الإجازة على استجماع نفسه. ولكنه لم يكُفَّ عن الكتابة. حتى كانت بداية عام ١٩٢٢م فشرع يكتب رواية «القصر» ليُعبِّر بها عن ذات نفسه، — وكانت في بداية الأمر رواية ذاتية تبدأ ﺑ «أنا»، ثم حوَّلها إلى صيغة الغائب بعد ذلك — وليُعبِّر بها عن مجموعة من مشكلات الإنسان عامة، وإنسان عصرنا هذا خاصةً. كان كافكا قد وصل في تأمُّلاته الذاتية إلى أنه أفسد حياته وأضنى بدنه ولم يَصِل إلى شيء، وكان يكيل اللوم لنفسه قبل أن يصبَّ غضبه على المؤثِّرات الخارجية. فها هو ذا يُسجِّل في يومياته: «… لقد لاح لي الأمر كأنني أوتيت مركز دائرة مثلي في ذلك مثل كل إنسان آخر، وكأنَّني أوتيت نصف القطر الموصِّل إلى المركز، مثلي في ذلك مثل كل إنسان آخر، حتى أسير عليه ثم أخط المُحيط الجميل لتكتمل دائرتي حولي. ولكنَّني كنتُ دائمًا لا أبدأ الخطو على نصف قُطر إلا لأقطعه وأبدأ على غيره … حتى لم يَعُد هناك مكان لمُحاولة جديدة، لم يَعُد هناك مكان بسبب الشيخوخة وضعف الأعصاب، وإن العجز عن المحاولة من جديد ليُساوي النهاية. وأصبحت لا أتقدم خطوة على نصف قطر إلَّا لتسوء حالتي بدلًا من أن تتحسَّن …» ولعلَّه صنع موظَّف المساحة في القصر شاكلته، فجعله إنسانًا يكثر المحاولة ويُنوعها ولا يصل في النهاية إلى هدف.

أما إنَّ فرانتس كافكا صنع الرواية من حياته فأمر تشهَد عليه العناصر المكوِّنة للمشاهد الرئيسية في «القصر». منظر القرية في القاع والقصر على الربوة العالية، منظر رآه كافكا في تسيراو عام ١٩١٧م … منظر الدواوين وما يجري فيها منظر عرفه ك في عمله سواء في المحاكم أو في مؤسسة التأمين … منظر حان السادة اقتبسه كافكا من حانة كان بعض الأدباء يَرتادُونها في فيينا، وكانوا يُسمُّونها فيما بينهم حانة الفاجرات … ومنظر الثلوج والكنيسة والحديقة وغيرها كثير. وكذلك الشخصيات التي رسمها في الرواية نقَلَها على طريقته عن شخصيات عرفها، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: ارنست بولاك … فيليتسه باور … ميلينا يزينسكا … ولكن هذه العناصر الواقعية كانت تتحوَّل على يدَيه إلى عناصر تتجاذَبها المُتناقضات ويُحيط بها التناقُض والغموض.

وعكَف كافكا على الكتابة عندما سافر إلى شبيندلموله في فبراير سنة ١٩٢٢م، فأتمَّ في أربعة أسابيع جزءًا وفيرًا منها، ثم تناولها بعد ذلك عندما عاد إلى براغ، واستمر يكتب حتى شهر يونيو، وأخذها معه إلى بلانا ولوشنيتس ليكملها، فكتب وكتب ثم توقف في سبتمبر ولم يَعُد إليها بعد ذلك.

ويختلف النقَّاد اختلافًا كبيرًا في تفسير رواية «القصر» في مجموعها، ويختلفون اختلافًا أقل في تفسير عناصرها.

فهناك مَن ذهب إلى أن هذه الرواية عمل فني لا يقصد إلى شيء آخر سوى الفن، ولهذا لا محلَّ فيها للأفكار الفلسفية أو المضامين الصوفية أو المفاهيم الاجتماعية. ويرى هذا الفريق من النقَّاد أن كافكا ابتكر هذا النوع من التأليف الفني الذي يقوم على تحويل الأحلام إلى كلام، وأن القارئ يُصيب إذا فهم الرواية على أنها حلم أو مجموعة من الأحلام، ويُخطئ إذا حملها غير ذلك.

وهناك من ذهب إلى أن كافكا أراد أن يُبيِّن بأعماله الأدبية حدود التفكير الإنساني، ويُبيِّن النقطة التي ينتهي فيها المعقول ويبدأ اللامعقول، فهو يَعرض بهذا مشكلة أساسية من المشكلات التي يُعاني منها الإنسان عندما يتورط لسبب أو آخر في الخلط بين المعقول واللامعقول، أو يَضطرِب بصره فلا يُميز بين الاثنين.

وهناك مَن تصور أن كافكا يُريد أن يصور حيرة الإنسان الذي تهفو نفسه إلى المنَّة الإلهية، فهو ينظر إليها في عليائها، ويتطلَّع إليها في أفقِها البعيد، ويُجرِّب كل سبيل يعرض له علَّه أن يصلَ إليها، ولكنه يتورَّط في الخطأ المرة بعد المرة، وينساق تارةً إلى هذه الناحية وتارةً إلى تلك، فلا يقترب من المنَّة، بل يغوص في أعماق الحضيض، وقد يهلك فيه، وقد تُتاح له فرصة حياة هي أدنى حياة.

وهناك مَن أبرز عنصر النقد الاجتماعي فرأى أن كافكا يُصور السادة في القصر المنيف العالي والعامة في القرية المنخفضة البائسة والبلدة يستبدُّون بالأمر كله، ويفعلون بالناس ما يحلوا لهم، ويعتمدون في ذلك على أجهزة خبيثة، وموظَّفين لئام، والعامة يُعانون من الظلم والتجبُّر ويفقدون في المِحنة كل شيء، وقد تفسد ضمائر بعضهم في هذا الجو القاتم فيصطنع لنفسه شيئًا من السلطان يُؤذي به مواطنيه الأبرياء.

وليس هناك شك في أن هذه الدراسات النقدية باتجاهاتها المختلفة قد ألقَت الضوء على جوانب أدب كافكا فاتَّضح منه الكثير، وهو أدب رمزي يحتاج إلى كثير من الجهد للوصول إلى فهمِه لكي يرتاح له الإنسان. والسؤال الأساسي الذي تقوم على إجابته كل محاولة لتفسير الرواية هو: مَن هو كلم؟ ويَرتبط بهذا السؤال سؤال آخر هو: من هو ك؟

كلم رمز اتخذه كافكا ليعبر به عن «مقومات الحياة». إنه ذلك الشيء الذي لا يحتاج الإنسان بالضرورة إلى علمٍ أو حرفةٍ للوصول إليه، فربما وصَل إليه أناس لم يُكلفوا أنفسهم مشقَّة التفكير الكثير، والتعمق في أسرار الكون وغوامض البشر. وليس هذا الشيء واحدًا بالنسبة للناس جميعًا، ولكنه جوهري لا يكون للإنسان كيان بين الناس إلا به. فهذه صاحبة الحان تحلم بكلم أو تعشقه، وبعبارة مجرَّدة من الرمزية، تحلم بمُقومات حياتها، وتجدها في زوج مطيع لها مُنضوٍ لإرادتها، وحان تقوم على تدبيره وتحسن أمره. وصاحبة الحان امرأة بسيطة، وكافكا يرمز إلى بساطتها بالصورة الباهتة التي تحتفظ بها وتحرص عليها، والتي لا تُمثل كلم، بل تمثل الساعي الذي كان الصلة بين كلم وبينها. فهي إذن لم تَرتفع إلى ذلك المستوى الفكري الذي يبحث في مقومات الحياة وكنهها، ويكفيها أنها أحاطت بها على نحو ما، وأن تتحقَّق بها.

أما ك فإنسان أتى إلى مجتمع قائم بحسناته وسيئاته، بميزاته وعيوبه، ليحاول في ستة أيام أن يقيم لنفسه حياة فيه. (والستة أيام رمزٌ استقاه كافكا من قصة الخليقة المعروفة في الأديان السماوية كلها: إنها المدة التي يتكوَّن فيها الكون. والخادمة بيبي، وهي بنت بسيطة ما زالت تسعى لتحقيق مقوِّمات حياة لها في المجتمع، تشير إلى هذه الفترة. فقد سنحت لها فرصة محببة إلى نفسها، وهي فرصة العمل في قاعة الشراب، ولكنها لم تؤتَ الأيام الستة كاملة لتتم فيها بناء كيانها، ولهذا فشلت وعادت أدراجها). أتى ك إذن إلى المجتمع القائم ليعيش فيه. ولكنه أخذ يُحلِّق بفكره إلى آفاق عالية لم يؤتَ القدرة على التحليق فيها. لقد أتى ليعمل موظفًا للمساحة، ثم تبيَّن أن القرية لا تحتاج إليه، فما باله يبقى ويصمم على البقاء؟ وما هي هذه القوة التي يعتمد عليها ليفرض نفسه؟ لقد ذكروا له الأسباب المعقولة التي تجعل من تعيين موظَّف مساحة بها ضربًا من السخف، فهي صغيرة وأهلها لا يتنازعون على حدود ممتلكاتهم. ولكنه كان قد بدأ يُعمِل فكره للتعمق في مقومات الحياة في هذه القرية، فهو يسأل عن الجراف (الأمير)، وعن الديوان، وهو يفرض نفسه بهيئته الحالمة المُتأملة الغريبة على البسطاء الذين لم يألفوا هذا النوع من الناس. إنه يَندفع إلى نوع من السلوك لا طاقة له به: فهو إنسانٌ ضعيفُ البنية سريع التعب، يغلب عليه النعاس، ويعجز عن المشي، ويكاد يعتمد على الغير … وهو يُظهر ما لا يُبطن ويُضمر في نفسه ما لا قبل لأحد على معرفته … وهو عنيد بغير إرادة … وهو مُكابر ينقض كل رأي، ويدَّعي أنه يعرف كل شيء وهو لا يعرف شيئًا. ولهذا فهو يتورط في الخطأ بعد الخطأ ويضل طريقه، فبدلًا من أن يندفع إلى هدفه مباشرةً يسلك السبل المتطرفة فيحاول غواية فريدا، ويحاول اصطياد كلم في الفناء، ويحاول الوصول بطُرقٍ مُلتوية إلى بنت القصر، ويحاول استغلال أسرة برناباس.

ولكن الرواية تحتمل تأويلات أخرى فنحن لا نعرف ك قبل وصوله إلى القرية، وربما كانت تصرُّفاته المضطربة في القرية نتيجة للظروف السيئة التي تعرض لها. ومهما يكن من أمر ك ومن أمر شخصيته المُضطربة، فإن فساد الأحوال في القرية، وتعسُّف السادة في حكمها يظهران في الصورة التي يرسمها كافكا في الرواية على نحو يثير النفس ويحضُّ على الثورة. فهذا هو أحد السادة على سبيل المثال يعجب بواحدة من بنات الشعب في القرية فلا يتورَّع عن دعوتها إلى الفجور، فلما امتنعَت وأهانت ساعيَه تعرَّضت للضُّر الشديد هي وأسرتها، وتجاهَلَ الناس المشكلة الحقيقية ونظروا إلى المشكلة الفرعية الثانوية وحدها، وما كانت إلا دفاعًا مشروعًا عن النفس. إلى هذا الحد وصل استبداد أهل القصر بأهل القرية. ولقد حاول الوالد أن يردَّ الحق إلى نصابه، وجرَّب الاتصال بأولي الشأن في الديوان ذي القوانين واللوائح فضاع في متاهاته، وخسر صحته وماله، واضطرت البنت الشريفة إلى الصمت يقينًا منها بأنه إذا لم يكن وراء السعي نفعٌ فمن الفِطنة أن يركن الإنسان إلى السكوت، أما البنت الأخرى فقد هَوَت إلى طريق الفجور تريد أن تصل عن طريقه إلى ردِّ شرف الأسرة!

وإذا لم يكن كافكا في أعماله المختلفة يُحدد طريق النجاة الذي يتصوَّره، فإنما يرجع ذلك إلى أنه كان يؤثر أن يُلقي الأسئلة لتستغلَّ بها الأذهان وتحسن فهمها وتجد لها الحلول المناسبة، ويُؤثر أن يعبئ نفس القارئ بالثورة على الظلم والجهل والضلال. وكان كافكا بصفة عامة بعيدًا عن التيارات السياسية، ولكنه كان ينظر إلى تقدُّم الاشتراكية في العالم راضيًا. ولقد روى بعض أصدقائه عنه تعليقًا على الاشتراكية السوفييتية قال فيه: «إن الناس في روسيا يُحاولون إقامة عالم تسُوده العدالة الكاملة.»

وفي عام ١٩٦٣م انعقد في قصر ليبليس قرب ميلنك بتشيكوسلوفاكيا مؤتمر هام لدراسة كافكا وأعماله ومكانته ومكانتها في البلاد الاشتراكية، وكانت أكاديمية العلوم التشيكية هي الداعية إليه. وقدَّم المشتركون دراسات مُختلفة عبَّروا بها عن آرائهم وعن أثر أدب كافكا في الأعمال الطليعية في العالم المعاصر كله؛ فقد كان طليعة للحرية على طريقته الضاحكة الباكية. وكان من رأي ارنست فيشر، المفكر النمساوي الاشتراكي المعروف، أن كافكا كان يميل إلى تأويل الأشياء المرهونة بعامل الزمن تأويلًا ميتافيزيقيًّا، وإلى تجميد اللحظة التاريخية لتصبح بالنسبة للإنسان حالة دائمة، ولكن استطراده الجدلي من كل إجابة إلى سؤال جديد، ومن كل قضية إلى نقيضِها كان يُحطم هذا التجميد على الدوام.

دكتور مصطفى ماهر
١  انظر مقالنا «القضية لكافكا» في العدد ١١ من مجلة تراث الإنسانية عام ١٩٦٧م؛ ففيه عرض مفصل لحياة فرانتس كافكا وأعماله، وكذلك كتابنا «صفحات خالدة من الأدب الألماني» بيروت ١٩٧٠م، وخاصة ص٤٥٩–٤٨٠ و٦٦٨.
٢  انظر الطريق والفضيلة، ترجمة دكتور عبد الغفار مكاوي، سلسلة الألف كتاب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤