الفصل الثالث عشر

وما كاد الجميع يَنصرفُون حتى قال ك للمساعدَينِ: اخرُجا.

وأخذهما الأمر المفاجئ فأطاعا، فلما أغلق ك الباب من خلفهما، أرادا أن يعودا وأخذا يَبكيان في الخارج ويدقان على الباب. وصاح ك: أنتما مفصولان. ولن أعود إلى استخدامكما أبدًا.

ولم يَقبلا هذا بطبيعة الحال راضيَيْنِ، وظلَّا يَضربان الباب بأيديهم وأرجلهم ويصيحان: نعود إليك أيها السيد!

وكأنما كان ك الأرض اليابسة، وكانا هما على وشك الغرق في الفيضان. ولكن ك لم يُشفق عليهما، وانتظر بفارغ صبر أن يضطرَّ الصخب الذي يفوق الاحتمال المعلِّم إلى أن يتدخل.

وحدث هذا بعد قليل. وصاح المعلم: دع مساعدَيك اللعينَين يدخلان.

وردَّ ك عليه صائحًا: لقد فصلتهما … وأحدثت الصيحة تأثيرًا إضافيًّا غير مقصود هو إظهار المعلم على الأمر وكيف يبدو عندما يَفصل الرجل القوي مَن يعمل عنده، ثم لا يبقى عند حد الإنذار بل يُنفِّذ الفصل فعلًا. وحاول المعلِّم أن يهدئ المساعدَين باللِّين قائلًا إن عليهما أن ينتظرا هنا في هدوء، وسيُضطرُّ ك في النهاية إلى إدخالهما مرةً أخرى. ثم انصرف. ولعل السكون كان سيستمر لو لم يَصِحْ ك فيهما مرة أخرى بأنهما مفصولان نهائيًّا، وأنهما لا ينبغي أن يأمُلا أوهَى أملٍ في العودة. وهنا عادا إلى الصخب على نحو ما كانا يفعلان من قبلُ. وعاد المعلم، ولكنه لم يتفاوض معهما، بل طرَدَهما خارج البيت، واستعمل — على ما يبدو — خيزرانته المُهابة.

وما لبثا أن عادا للظهور أمام نوافذ حجرة الرياضة، وأخذا يَقرعان النوافذ ويصيحان. ولكن كلماتهما لم تكن مفهومةً. ولم يستمرا في مكانهما هذا مدة طويلة، فلم يكن في مقدورهما أن يسترسلا في القفز على الجليد السَّميك ما شاء لهما قلقهما. ولهذا عجَّلا بالذهاب إلى سور حديقة المدرسة، وقفزا على القاعدة الحجرية للسور الحديدي؛ حيث كان في مقدورهما أن ينظرا إلى داخل الحجرة على نحوٍ أفضل ولكن من بُعدٍ. وأخذا يعدوان ذهابًا وإيابًا مُمسكَينِ بالسور الحديدي، ثم كانا يقفان من حين لآخر ويرفعان أيديهما إلى ك مُتوسلَينِ إليه. واستمرا على هذه الحال طويلًا دون اعتبار لعدم جدوى جهودهما. ذلك أنهما كانا كالمبهورَين. ويبدو أنهما لم يكفَّا عن التوسل على هذا النحو عندما أرخى ك الستائر على النوافذ حتى يتحرَّر من النظر إليهما.

وذهب ك في الحجرة التي أظلمت إلى المتوازيَين بحثًا عن فريدا. فلما نظر إليها نهضَت وسوَّت شَعرها، ومسحت على وجهها واتجهت في صمت لتُعدَّ القهوة. وعلى الرغم من أنها كانت تعلم بكل ما جرى، فقد أحاطها ك علمًا بأن المساعدَينِ قد فُصلا. ولم تزد عن أن هزَّت رأسها، وجلس ك على قمطر في الفصل وأخذ يلاحظ حركاتها الواهنة. لقد كانت النضرة والتصميم هما الشيء الذي أضفى على جسمها التافه جمالًا. وكانت الأيام القليلة التي عاشتها مع ك كافية لإحداث هذا الأثر. ولم يكن العمل في الحانة عملًا سهلًا ولكنه كان على ما يبدو أنسب لها، أو ربما كان البُعد عن كلم هو سبب تدهورها؟ لقد كان قربها من كلم يجعلها مُغرية بدرجة غير معقولة، ولقد انتزعها ك إليه في وسط هذا الإغراء، وها هي ذي تذبل بين ذراعيه.

وقال ك: يا فريدا.

فوضعَت طاحونة البن جانبًا وجاءت إلى ك وجلست على القمطر نفسه. وسألت ك: هل أنت غاضبٌ مني؟

فقال ك: لا. ولكنني أعتقد أنك لا تستطيعين أن تفعلي شيئًا آخر غير ما كنتِ تفعلين. لقد كنتِ تعيشين راضية في حان السادة. وكان الأحرى بي أن أدعكِ هناك.

وقالت فريدا وهي تنظر حزينة أمامها: أن أدعك هناك!

– نعم، كان الأحرى بك أن تدعَني هناك. وأنا لست جديرة بالحياة معك. ولعلك، إذا تخلَّصتَ مني تستطيع أن تصل إلى ما تريد الوصول إليه. إنك تخضع، مراعاةً لي، للمعلِّم المستبد، وتقبل هذه الوظيفة الوضيعة، وتسعى بجهد جهيد لمحادثة كلم. كل هذا من أجلي أنا، وأنا لا أكافئك عليه إلا مكافأةً رديئة.

وقال ك: لا.

وطوَّقها بذراعه مواسيًا. ثم قال: كل هذه توافهُ لا تؤلمني، وأنا لا أريد الذهاب إلى كلم بسببك. وما أكثر ما صنعتِ من أجلي! إنني قبل أن أعرفكِ كنتُ أسيرُ هنا في الضلال. لم يكن هناك مَن يستقبلني، وكنت إذا تقدَّمتُ إلى بعضهم مُلحًّا، انصرف عني مسرعًا. وكنت إذا وجدت أناسًا يمكن أن أنعم بالسكون بينهم. أهرب أنا منهم، مثل آل برناباس.

وقاطعت فريدا ك صائحة بهمَّة: لقد هربتَ منهم؟ أليس كذلك؟ يا حبيبي.

ثم استغرقت مرةً أخرى في تعبها بعد أن قال ك «بلى» مترددًا. وكذلك لم يكن ك مُصممًا على أن يشرح كيف تحولت الأمور كلها إلى الخير بعد ارتباطه بفريدا. ورفع ذراعه ببطء عنها وجلس هنيهة صامتًا، حتى قالت فريدا وكأنما كان ذراعُه يمنحها دفئًا لم تَعُد تستطيع الآن الاستغناء عنه: لن أحتمِل هذه الحياة هنا. وإذا كنت تُريد الإبقاء عليَّ، فيَنبغي أن نهاجر إلى أيِّ مكان، إلى جنوب فرنسا، إلى إسبانيا.

وقال ك: أنا لا أستطيع أن أهاجر، لقد أتيتُ إلى هنا لأبقى هنا. وسأبقى هنا.

وأضاف مُحدثًا نفسه في تناقُض لم يبذل جهدًا في توضيحه: وماذا كان يُمكن أن تجتذبني إلى هذه الأرض الصعبة إلا الحاجة للبقاء هنا.

ثم قال: وكذلك أنت تُريدين البقاء هنا، فهذا بلدك. ولكن كلم هو الذي يَنقُصك، وهذا هو ما يؤدي بك إلى الأفكار اليائسة.

وقالت فريدا: إنك تظنُّ أن كلم هو ما ينقُصني؟ وإن هنا مفيضًا من كلم، فيضًا مُفرطًا.

وما أريد أن أبعد عن هنا إلا لأفلت منه. ليس من ينقصني هو كلم، بل أنت، إنني أريد أن أبعد من هنا بسبِبك؛ لأنني لا أستطيع أن أشبع منك هنا حيث يتجاذبني الجميع، ليتَني أتجرَّد من القناع الجميل، ليتَ جسمي يذبل حتى أستطيع أن أعيش معك في سلام.

ولم يستشفَّ ك من ذلك كلِّه إلا شيئًا واحدًا. وسأل من فوره: أمَا زال كلم على علاقة بكِ؟

ثم أردف: هل يستدعيكِ؟

فقالت فريدا: لا أعرف عن كلم شيئًا. إنني أتحدَّث عن آخرين، عن المساعدَينِ مثلًا.

فقال ك وقد أخذته المفاجأة: آه، المساعدان! هل يُلاحقانك؟

فسألته فريدا: ألم تلحَظ هذا؟

فقال ك: لا.

وحاول دون جدوى أن يتذكَّر شيئًا من التفاصيل. ثم قال: إنهما شابَّان لحوحان قبيحان، أما إنهما تجاسرا على الاقتراب منك، فهذا ما لم ألحظه.

فقالت فريدا: لا؟ ألم تلحَظ أنهما لم ينصرفا من حجرتنا في حان الجسر، على الرغم مما توسَّلنا به لصرفهما من حيل، وإنهما كانا يُراقبان علاقتنا غيورينِ، وإن أحدهما رقد مؤخرًا في مكاني على جوَال القش، وأنهما شهدا الآن ضدَّك ليتسبَّبا في طردك والإضرار بك وليَنفردا بي. ألم تلحظْ هذا كلَّه؟

ونظر ك إلى فريدا دون أن يجيب. كانت الاتهامات التي وجَّهتها ضد المساعدَينِ صحيحة، ولكنه كان من الممكن تأويلها تأويلًا بريئًا على أساس خلقهما المُضحك الصبياني الغرير المتهور. ثم ألا يُقوِّض اتهامهما سعيهما الدائب إلى ملاحقة ك حيثما كان ورفضهما البقاء مع فريدا؟ وأشار ك إلى شيء من هذا القبيل. فقالت فريدا: إنه نفاق. ألم تَكشف أمره؟ ولماذا إذن فصلتهما، إن لم يكن لهذه الأسباب؟

وذهبت إلى النافذة، وأزاحت الستارة إلى الجانب قليلًا، وأطلَّت ثم نادت ك أن يأتي. كان المساعدانِ لا يزالان عند السور الحديدي على الرغم مما دبَّ فيهما من تعب ظاهر، وكانا يستجمعان قواهما من حين لآخر، ويمدان ذراعيهما متوسلين ناحية المدرسة. وكان أحدهما قد شبك سُترته من الخلف بأحد أعمدة السور حتى لا يضطرَّ إلى الاستناد المرة تلو المرة.

وقالت فريدا: المسكينان! المسكينان!

وسأل ك: تسألين لماذا طردتهما؟

ثم قال: لقد كنتِ أنتِ السبب المباشر.

وسألت فريدا دون أن تُحوِّل بصرها عن النظر إلى الخارج: أنا؟

وقال ك: أعني معاملتك للمساعدَينِ معاملة مُفرطة الود، وصفحك عن بذاءاتهما، وضحكك منهما، ومسحُكِ على شَعرَيهما، وإشفاقك الدائم عليهما، ولقد قلتِ لتوِّك «المسكينان! المسكينان!» ثم الحادثة الأخيرة التي بيَّنَت أنني ثمنٌ رخيص تشترين به إعفاء المساعدَين من الضرب بالخيزرانة.

فقالت فريدا: وهذا هو ما يدور حديثي إلا حوله، هذا هو ما يجعلني تعيسة، وما يصرفني عنك، بينما أنا لا أعرف لي سعادة أعظم من سعادتي بالبقاء معك، دائمًا، بلا انقطاع، بلا نهاية، بينما أنا أحلم بأنه ليس هناك على الأرض مكان هادئ لحبِّنا، لا في القرية، ولا في أي مكانٍ سواها، وأتمثَّل لذلك القبر عميقًا ضيقًا، في القبر نتعانق وكأنما تمسكنا كماشة، وأخفي وجهي فيك، وأنت تخفي وجهك فيَّ، ولن ينظر إلينا أحد أبدًا. أمَّا هنا، أنظر إلى المساعدَين. إنهما لا يمدان أيديهما إليكَ بل إليَّ.

فقال ك: لأنك أنتِ تنظرين إليهما، ولست أنا الذي أنظر إليهما.

فقالت فريدا وقد أوشكَت أن تغضب: أنا بكل تأكيد. وهذا هو ما أقوله وما لا أكفُّ عن قوله. وماذا في ملاحَقة المساعدَينِ لي بلا انقطاع ولو كانا رسولي كلم … وقال ك الذي فاجأته هذه التسمية على الرغم من أنها بدت له طبيعية: رسولي كلم!

فقالت فريدا: بكل تأكيد، إنهما رسولا كلم. وعلى الرغم من ذلك فهما في الوقت نفسه شابَّان بذيئان يحتاجان في تربيتهما إلى الضرب بالخيزرانة، ما أقبحهما شابان أسودان! وما أبشع التناقض بين وجهَيهما اللذَين يوحيان بأنهما من الكبار أو من الطلبة، وبين مسلكهما الصبياني الغرير! أتظنُّ أنني لا أرى هذا؟ إنني أخجل لهما، إنهما لا ينفراني، إنما أنا التي أخجل لهما، وهذا هو لبُّ الموضوع. إنني مسوقة إلى النظر إليهما دائمًا. وأنا أضحك من أن البعض يميل إلى الغضب منهما. وإذا ما ضربهما أحد، مسحت على شَعرَيهما. وعندما أرقد بجانبك في الليل لا أستطيع النوم، وأراني مدفوعة إلى النظر من فوقك إليهما، وكيف يلتفُّ أحدهما بالغطاء التفافًا محكمًا ويستغرق في النوم، بينما الآخر يركع أمام فتحة المدفأة ويشعل النار، وإنني لأنحني إلى أمام حتى لأكاد أوقظك! وليسَت القطة هي التي أفزعتني — آه، إنني أعرف القطط وأعرف من عملي في قاعة الحان النوم المُضطرب الذي لا يكفُّ المرء عن الصحو منه منزعجًا — ليست القطة هي التي أفزعتني، بل أنا التي أفزعت نفسي. وما أنا بحاجة إلى ضجة قطة تفزعني، فإنني أنتفض وحدي عندما أسمع أقل صوتٍ. ولقد خشيت مرةً أن تصحو أنت، وأن ينتهي كل شيء، وذهبت مرة أخرى إلى الشمعة قفزًا فأوقدتُها حتى تصحو بسرعة وتحميني.

وقال ك: لم أعرف هذا كله. ولكنَّني طردتهما لإحساسي بشيء من هذا القبيل إحساسًا غامضًا. ولقد انصرفا الآن، وربما أصبحت الأمور على ما ينبغي.

وقالت فريدا: نعم، لقد انصرفا أخيرًا.

ولكن وجهها كان معذَّبًا ولم يكن ينمُّ عن فرحٍ، وأردفت: ولكننا لا نعرف مَن هما. لقد سمَّيتُهما رسولي كلم، هكذا في فكري، على سبيل العبث، ولعلهما في الواقع كذلك. إن عينَيهما تُذكراني على نحو ما بعيني كلم، نعم، هكذا! بل إن نظرة كلم لتنطلق أحيانًا من عينيهما وتنفذ خلالي. ولهذا فليس من الصواب ما قلته من أنني أخجل لهما. كنتُ أعني أنني أتمنى لو كنت أخجل لهما. وأنا أعرف أن هذا السلوك نفسه، إذا أتى به أناس آخرون سلوك غبي وفاضح ولكنه ليس كذلك عندما يأتيان هما به. إنني أتطلع إلى حماقاتهما بالتقدير والإعجاب. وإذا كانا رسولَي كلم، فمَن الذي يُخلصنا منهما؟ وهل من الخير أن نتخلص منهما؟ أما ينبغي عليك أن تستعيدهما بسرعة وأن تسعدَ لو قبلا العودة؟

وسأل ك: أتريدين أن أعيدهما؟

فقالت فريدا: لا، لا. هذا هو آخر ما يُمكن أن أريده. ولعلِّي لا أستطيع أن أحتمل منظرهما عندما يندفعان داخلين، وفرحهما بلقائي، ونطهما نطيط الصبية، وبسطهما يدَيهما بسط الرجال. ولكنني عندما أفكر أنك عندما تقف منهما موقف الشدة، قد تسدُّ بنفسك سبيلك إلى كلم، أريد أن أحميك من ذلك بكل الوسائل. وأريد في هذه الحالة أن تدعَهما يدخلان. إذن فأدخلهما بسرعة يا ك. لا تعمل حسابًا لي، فما أهميتي؟ وسوف أدافع عن نفسي طالما استطعت. فإذا خسرتُ، فإنما أخسر وأنا أعي أن ذلك حدث من أجلك.

فقال ك: إنك تقوين حُكمي حيال المساعدينِ. لن يعودا أبدًا بإرادتي إلى هنا. أما أنني أخرجتهما فأمر يؤكِّد أن الإنسان يستطيع في بعض الأحوال أن يتحكم فيهما، ويؤكد علاوة على ذلك أنهما لا يتصلان اتصالًا جوهريًّا بكلم. ولقد تلقَّيت بالأمس خطابًا من كلم يتَّضح منه أن كلم حصل على معلومات خاطئة تمامًا عن المساعدَين، ويتَّضح منه كذلك أنه لا يهتمُّ بهما في قليل أو كثير، فلو لم يكن أمرهما كذلك، لحصل على معلومات أكثر دقة عنهما. وأما أنكِ ترَين فيهما كلم، فهذا ما لا يثبت شيئًا، لأنك لا تزالين للأسف تحت تأثير صاحبة الحان، فأنت ترين كلم في كل مكان. إنك لا تزالين عشيقة كلم، وما زلتِ بعيدة عن أن تكوني زوجتي. وإن هذا ليُحزنني في بعض الأحيان حزنًا شديدًا، وأحسُّ بأنني كمَن فقدَ كل شيء، وأحس كأني أتيت لتوي إلى القرية لا مُمتلئًا بالآمال، كما كنت بالفعل عندما أتيت، بل شاعرًا بأن خيبة الأمل هي ما ينتظرني، وأنني سأذوق الخيبة تلو الخيبة حتى أتجرَّع ثمالة كأس الخيبة.

ثم أضاف ك مُبتسمًا عندما رأى أن فريدا حارت عندما سمعت كلماته: ولكن هذا لا يحدث إلا في بعض الأحيان فقط، وهو يثبت في الحقيقة شيئًا طيبًا، وهو قيمتك بالنسبة إليَّ. وإذا كنتِ أنت تُطالبينني بأن أختار بينك وبين المساعدَينِ، فلقد خسر المساعدانِ. يا لها من فكرة! أن أختار بينك وبين المساعدَين؟! إنني أريد أن أتخلَّص منهما نهائيًّا، حتى في الكلام والفكر. ومَن يعلم، فلعل الضعف الذي تملكنا كلينا يرجع إلى أننا لم نتناول طعام الإفطار بعدُ؟

فقالت فريدا وهي تبتسم في ضعف: ربما.

وذهبت إلى العمل. وكذلك أمسك ك المقشة.

ودقَّ بعضهم الباب بعد هنيهة دقًّا خفيفًا. فصاح ك: إنه برناباس.

وألقى المقشة وقفز قفزات قليلة بلغ بها الباب. ونظرت إليه فريدا وقد فزعت لسماع الاسم أكثر من أي شيء آخر. ولم يستطع ك أن يفتح القفل القديم بيدَيه المضطربتَين حالًا. وكان يكرر بلا انقطاع: إنني أفتح.

كان يفعل هذا بدلًا من أن يسأل الذي يدق الباب عن نفسه. وهكذا انتهى به الأمر إلى رؤية شخص آخر غير برناباس يدخل من الباب المفتوح على سعته، كان هذا الشخص هو الصبي الذي أراد من قبل أن يُكلم ك. ولم يشعر ك برغبة في تذكره. وقال: ماذا تريد هنا؟ إن الحصة في الفصل الآخر.

وقال الصبي: إنني قادم من هناك.

ورفَع عينيه الواسعتين البُنيَّتين هادئًا إلى ك، ثم وقف معتدلًا لاصقًا ذراعيه على جانبيه. وقال ك: ماذا تريد إذن؟ بسرعة.

ومال ك قليلًا عليه لأنه كان يتكلَّم بصوت منخفض. وسأل الصبي: هل أستطيع مساعدتك؟

وقال ك لفريدا: إنه يُريد أن يساعدنا.

ثم قال للصبي: ما اسمك؟

فقال الصبي: هانس برونسفيك. تلميذ في الصف الرابع. ابن أوتو برونسفيك، المعلِّم صانع الأحذية في حارة مادلين.

وقال ك وقد ازداد حبًّا له وَرِقَّة: هكذا، اسمك برونسفيك.

وتبيَّن أن هانس قد ثار للخدش الدامي الذي خمشته المعلمة في يد ك وعزم على أن يسانده. وخرج متسللًا من الفصل المجاور من تلقاء نفسه كالهارب من الجندية مُعرِّضًا نفسه لعقاب شديد. ويبدو أن التصورات التي ملكت عليه نفسه كانت تصوُّرات صبيانية. وكانت تُطابق الجد الذي كان يظهر في كل ما كان يعمل. ولقد تعثَّر في بداية الأمر على حجرة الخجل، ولكنه ما لبث أن ألِف ك وفريدا، فلما تلقَّى قهوة طيبة ساخنة وشربها، بدا عليه النشاط والألفة، ثم أصبحت أسئلته تتَّسم بالهمة والإلحاح، وكأنه كان يعرف بأسرع ما يُمكن أهم ما في الأمر حتى يستطيع أن يتخذ على نحو مُستقِل قرارات ﻟ ك وفريدا. وكان الصبي يتَّسم بطابع الأمر والنهي، ولكن هذا الطابع كان يختلط ببراءة صبيانية، تجعل الإنسان يخضع له راضيًا، خضوعًا نصفه صراحةٌ ونصفه مزاحٌ. والمهم أنه استحوذ على الانتباه كله، فتوقف العمل، وطال الإفطار. وعلى الرغم من أنه كان يجلس على قمطر، وكان ك يجلس على المنصة، وكانت فريدا تجلس في كرسي وثير بجواره، فقد لاح الأمر كأن هانس المعلِّم الذي يفحص الإجابات ويُقدر الدرجات. وكانت هناك ابتسامة رقيقة حول فمه الناعم لاح عليها أنها تُلمح إلى أنه يعرف أن الأمر كله لعبة، ولكنه كان فيما عدا هذا شديد الجد في الموضوع، ولعلها لم تكن ابتسامة، وكانت هي سعادة الصبا تُحيط بلعبها شفتيه. وذكر الصبيُّ مُتأخرًا تأخرًا واضحًا أنه يعرف ك منذ دخل ذات مرة عند لازيمان. وسعد ك بذلك وسأله: لقد كنتَ آنَذاك تلعب عند قدمَي المرأة؟

فقال هانس: نعم، إنها أمي.

وحثَّه ك على الحديث عن أمِّه، فلم يفعل إلا مترددًا، وبعد إلحاح، واتضح أنه كان صبيًّا صغيرًا يلوح أحيانًا، وبخاصة عندما يسأل — ربما عن إحساسٍ يتنبأ بالمستقبل، وربما عن انخداعٍ يعتري حواس المستمع القلق المتوتر — كأنه رجل نشيط، أريب، بعيد النظر، ثم ما يلبث أن يتحول فجأة وبلا تمهيد إلى تلميذ صغير لا يفهم بعض الأسئلة ويخطئ فهمَ بعضها الآخر، ويتكلم عن استهتار صبياني بصوت منخفض جدًّا، على الرغم من أن ك نبَّهه إلى هذا العيب أكثر من مرة، ويصعب، على سبيل العناد، عن الإجابة على أسئلة مُلحَّة صمتًا كاملًا دون أن يَضطرب، وهو ما لا يستطيع الكبار فعله بحالٍ من الأحوال. وكان الأمر يلوح كأنما كان يرى أن السؤال من حقِّه هو وحده، وأن أسئلة الآخرين تكسر لائحةً ما وتضيع الوقت. وكان يستطيع عندما يسأله سائل أن يجلس مدة طويلة مُعتدل الجسم، منحني الرأس، مادًّا شفته السفلية. وكانت فريدا مسرورة من مسلكه هذا لدرجة أنها كانت تسأله المرة بعد المرة أسئلة لا ترجُو من ورائها إلا أن تجعله يصمت على هذا النحو. ولقد وُفِّقت إلى ذلك أحيانًا. ولكن ك كان مغتاظًا من هذا الصمت. ولم يخرج ك من كلام الصبي إلا بالقليل. عرف أن الأم كانت مريضة مرضًا هينًا، ولكنه لم يعرف بالتحديد مرضها، وأن الطفل الذي كانت السيدة برونسفيك تحمله على حجرها، كان أخت هانس، واسمها فريدا (ولم يتقبَّل هانس تشابه الاسم مع اسم المرأة التي تسأله إلا عابسًا)، وأنهم يسكنون في القرية جميعًا، ولكن ليس عند لازيمان، ولقد كانوا في ذلك اليوم يزورُونه ليستحمُّوا لديه؛ لأن لازيمان لديه حوض كبير يتمتع به الأولاد — ولم يكن هانس منهم — بالاستحمام والعبث فيه مُتعة خاصة. وتحدث هانس عن أبيه حديث الاحترام أو الخوف، ولكنه لم يكن يتحدث عنه وعن أمه في وقت واحد، ويبدو أن الأب كان قليل القيمة بالقياس إلى الأم، وظلت الأسئلة التي كانت تدور حول الحياة العائلية — على الرغم من الإلحاح والمعاودة — بلا إجابة. وعلم ك من أمر صناعة الأب أنه أكبر صانعِ أحذية في المنطقة، وأنه ليس هناك مَن يُضارعه، ولقد كرَّر هذا المعنى ردًّا على أسئلة كانت تستهدف أمورًا مختلفة تمامًا، وأنه يُكلف الصنَّاع الآخرين، والد برناباس مثلًا، بالأعمال، وهو عندما يكلف والد برناباس بالذات بعملٍ يتعطَّف عليه ويتكرَّم، وهذا ما ظهر على الأقل من حركة اعتزازٍ اصطنعها هانس برأسه، ودفعت فريدا إلى القفز إليه ومَنحِه قُبلةً. أما السؤال عما إذا كان قد دخل القصر، فقد أجاب عليه بعد تكراره مرات كثيرة قائلًا: لا.

وكذلك كانت الإجابة عندما سُئل عما إذا كانت أمُّه قد دخلت القصر. وأخيرًا تعب ك ولاح له هو كذلك أن السؤال لا يُفيد بشيء، وأحق الصبي في هذا، هذا إلى أن ك وجد أنه من المُخجل بعض الشيء أن يُحاول البحث في أسرار العائلة سالكًا طريقًا مُلتوية ومُستغلًّا براءة الصبي، وكان من المُخجل أشد الخجل أنه لم يَصِل عن هذه الطريق إلى معرفة شيء. فلما سأل ك الصبي في النهاية عن نوع المساعَدة التي يُريد هذا أن يقدمها إليه، لم يُدهش عندما سمعه يقول إنه يريد أن يساعده في إنجاز العمل هنا حتى لا يتشاجَر المعلِّم والمعلمة مع ك مرة أخرى. وأوضح ك لهانس أن هذه المساعدة لا فائدة منها؛ لأن المشاجرة من طبع المعلم ولن يستطيع أحد أن يتَّقيها مهما كان دقيقًا في عمله، والعمل في حدِّ ذاته ليس صعبًا، ولكنه تأخَّر فيه نتيجة لظروف طرأت اليوم مصادفةً، وك لا يتصرَّف حيال تشاجُر المعلم كما يتصرف التلاميذ نحوه، إنه يردُّه عنه ردًّا، ولا يهتم له، وهو يأمل أن يتمكن من تجنُّب المعلِّم تمام التجنب قريبًا جدًّا. ولما كانت المساعدة التي يعرضها هانس مساعدةً ضد المعلم فحسب، فإن ك يشكره عليها أحسن الشكر، ولهانس أن يَنصرف ويرجو ك ألا ينال هانس عقابًا. وعلى الرغم من أن ك لم يؤكد أن المساعدة الموجهة ضد المعلم هي المساعدة الوحيدة التي لا يريدها، بل نوَّه إلى ذلك تنويهًا عن غير عمد، تاركًا الباب مفتوحًا أمام مساعدة من نوع آخر؛ فقد فهمَ هانس ذلك أوضح الفهم، وسأله عما إذا كان يرجو مساعدة أخرى، مؤكدًا أنه يقدم المساعدة عن طيب خاطر، وأنه إن لم يستطع إليها سبيلًا، فسيرجو من أمه تقديمها، ولا شكَّ أنها ستوفَّق إلى ذلك. وذكر هانس أن أباه عندما يتعرَّض لمحنة يرجو مساعدة الأم. وأضاف أن أمه سألت مرة عن ك، وأنها لا تخرج من البيت، ولقد ذهبت آنذاك إلى لازيمان استثناءً. أما هانس فهو يذهب إلى هناك كثيرًا ليلعب مع أولاد لازيمان، ولقد سألَته أمه هل رأى موظَّف المساحة هناك مرة أخرى. ولما لم يكن من الخير إثارة الأم بغير جدوى، فهي تُعاني من الضعف والتعب؛ فقد قال لها إنه لم يرَ موظف المساحة هناك، ولم يَدُر حول هذا الموضوع حديث بعد ذلك. وقال هانس إنه عندما رآه هنا في المدرسة، وجد أنه ينبغي عليه أن يتحدَّث إليه حتى يُبلِّغ أمه الخبر، فليس هناك شيء أحب إلى الأم من أن تُنفَّذ رغباتُها دون أن تُصدر بها أمرًا صريحًا. وهنا قال ك، بعد قليل من التفكير، إنه لا يحتاج إلى أية مساعدة، وأنه قد حصل على كل ما يريد، وقال إنه جميل جدًّا من هانس أن يُفكر في مساعدته، وأنه يشكره على حُسن نيته، وأنه قد يحتاج في المستقبل إلى شيء، وفي هذه الحالة سيلجأ إليه، فالعنوان موجود لديه. وقال ك إنه هو، قد يستطيع أن يقدم شيئًا من المساعدة، فهو يأسف لتوعُّك الأم، ويبدو أنه ليس هنا من يفهم العلة التي تعاني منها، وقد يؤدي إهمال الحالة إلى أن تجر العلَّة الطفيفة نكسة خطيرة. ولقد ألمَّ ك ببعض المعرفة الطبية، وجمع خبرة في معالجة المرضى، وهذا أعظم قيمة. ولقد نجح في أمور لم يُوفَّق فيها الأطباء. ولقد أطلق عليه الناس في موطنه اسم «العشب المر» تقديرًا لقُدرته على العلاج. وهو يودُّ على أيَّة حال أن يرى أم هانس وأن يتحدَّث إليها. فقد يستطيع أن يقدم إليها مشورة نافعة، وأنه ليفعل ذلك عن طيب خاطر من أجل هانس. ولمعت عينا هانس عندما سمع هذا العرض، ووجد ك في ذلك ما أغراه على الإلحاح، ولكن النتيجة لم تكن على هواه؛ لأنَّ هانس قال — مجيبًا على أسئلة كثيرة، ودون أن يبدو عليه حزن شديد — إنه غير مسموح بدخول زائر غريب على أمه، فهي في حاجة إلى الرعاية الشديدة. وعلى الرغم من أن ك، في تلك المرة، لم يَكَد يتحدَّث إليها، فقد اضطرَّت إلى ملازمة الفراش بعد ذلك عدة أيام، وهو شيء يتكرر كثيرًا بطبيعة الحال. ولقد غضب الوالد آنذاك من ك أشدَّ الغضب، وليس هناك شكٌّ في أنه لن يسمح أبدًا بأن يأتي ك إلى الأم. ولقد أراد آنذاك أن يَذهب إلى ك ليُعاقبه على مسلكه، وكانت الأمُّ هي التي ردَّته عن ذلك. وهذا إلى أن الأم ذاتها لا تُريد أن تتكلَّم مع أحد بصفة عامة، وليس سؤالها ن ك استثناءً من القاعدة، بل على العكس، فقد كان يُمكنها عند الإشارة إلى ك، أن تُعبِّر عن رغبتها في رؤيته، ولكنها لم تفعل، وكانت بذلك تُعبِّر عن عزمها تعبيرًا لا مراء فيه. هذا إلى أن ما تُعاني منه ليس مرضًا بمعنى الكلمة، فهي تعرف سبب الحالة، وتُشير إليه من حينٍ لآخَر: ويبدو أن السبب هو الجو هنا، إنها لا تستطيع احتماله. ولكنَّها لا تريد مغادرة المكان من أجل الوالد والأولاد، لقد تحسَّنت حالتها الآن عن ذي قبل. كان هذا هو ما توصَّل ك إليه، إن قدرة هانس على التفكير قد ازدادت زيادة واضحة؛ إذ أراد أن يحمي أمه من ك الذي ادَّعى أنه كان يريد مساعدته. لقد اضطرَّ استمساكًا منه بالهدف الطيب، هدف ردِّ ك عن أمه، إلى أن يناقض بعض ما كان قد قاله من قبل، على سبيل المثال موضوع مرض الأم. ومع ذلك فقد تبيَّن ك أن هانس ما زال حَسنَ النيَّة حياله، وإن كل ما حدث هو أن موضوع أمه أنساه كل الموضوعات الأخرى. ولقد كان هانس يظلم كل مَن يأتي ذِكرُه مع الأم، فظلَم ك، ولكنه كان سيفعل الشيء نفسه لو كان المذكور هو الأب. وأراد ك أن يُجرِّب ذِكر الأب، فقال إنَّ الوالد مُصيب كل الإصابة في حمايته الأم من كل إزعاج، وقال إنه، ك، لو توقَّع شيئًا من هذا القبيل لما تجرأ على التوجُّه إلى الأم، وأنه يرجو هانس أن يحمل اعتذاره إلى البيت. ثم قال إنه لا يفهم، وقد عرف سبب علَّة الأم على حد قول هانس، كيف يمنع الأبُ الأمَّ من أن تستجمَّ في جو آخر. وقال إنه لا بدَّ أن يستعمل كلمة يمنع؛ لأن الأم لا تذهب لتغيير الجو، بسببه وبسبب الأولاد، وفي مقدورها أن تصطحب الأولاد معها، فلن تغيب طويلًا، ولن يكون بها حاجة إلى الابتعاد الشديد، فالجو على الجبل الذي يقوم عليه القصر مختلف كل الاختلاف. وما ينبغي أن يخشى الأب نفقات مثل هذه الرحلة، فهو أكبر صانعِ أحذية في المنطقة، ولا شكَّ أن له أو للأم أقاربَ أو معارفَ في القصر يُرحبون باستضافتها. فلماذا لا يتركها تذهب؟ لا ينبغي له أن يُهوِّن من أمر مثل هذه العلة. حقيقةً أن ك لم يرَ الأم إلا عابرًا ولكن شحوبها الظاهر وضَعفها المُلفت للنظر دفعاه إلى التوجه إليها بالحديث، ولقد اندهش في ذلك الوقت لأن الأب ترك المرأة المريضة في الجو الرديء بحُجرة الاستحمام والغسيل، ولم يأخُذ نفسه بشيء من التحفُّظ في الحديث بصوت مُرتفِع. ولعل الأب لا يعرف الأمر على حقيقته، ولعل العلَّة تكون قد تحسَّنت في الفترة الأخيرة، ومثل هذه العلة لها نزواتها، ولكنها تنتهي في النهاية، إذا لم يكافحها الإنسان، إلى الظهور على نحوٍ عنيف ولا يستطيع الإنسان في هذه الحالة مُعالجتها. وإذا لم يكن ك يستطيع ان يتكلَّم مع الأم، فربما كان من الخير أن يتحدَّث إلى الأب وأن يُنبِّهَهُ إلى هذا كلِّه.

واستمع هانس إلى ك مُرهِفًا سمعه، وفهمَ أغلب ما قاله، وأحس بتهديد البقية التي لم يفهمها، ومع ذلك فقد قال إنَّ ك لا يستطيع أن يتكلَّم مع الأب؛ لأن الأب يحسُّ حياله بالنفور، والأرجح أنه لو قابله فسوف يُعامله معاملة المعلم له. قال هانس هذا الكلام مُبتسمًا خجولًا في المواضع التي أشار فيها إلى ك، حزينًا مَقبوضًا في المواضع التي أشار فيها إلى أبيه. ثم أضاف أن ك ربما استطاع أن يتحدث إلى الأم، ولكن بدون علم الأب، ثم استغرق هانس برهةً في التفكير، على النحو الذي تستغرقه عليه في التفكير امرأة تريد أن تفعل شيئًا محرَّمًا، وتبحث عن إمكانية لفعله دون أن تتعرَّض للعقاب، وقال ربما تمكَّن ك من ذلك بعد غد؛ لأنَّ الأب يذهب في ذلك الوقت إلى حان السادة لمناقَشة بعض الأمور، وسيأتي هانس في المساء، ويأخذ ك إلى الأم، على شرط أن تُوافق الأم، وهذا شيء بعيد عن الاحتمال بُعدًا شديدًا. وهي لا تحب أن تفعل شيئًا ضد مشيئة الأب، وهي تطيعه في كل الأمور، حتى الأمور التي يتبيَّن هو، هانس، أنها منافية للعقل. لقد كان هانس في الواقع يَلتمس لدى ك عونًا على أبيه، وكأنما ضلَّ، عندما اعتقد أنه يُريد أن يُعين ك، وكان في الحقيقة يُريد أن يَسبر أغواره ليتبيَّن — بعد أن علم أنه ليس هناك من بين المُحيطين به مَن يستطيع مساعدته — ما إذا كان هذا الرجل الذي ظهر في المكان فجأة، هذا الغريب الذي أشارت الأم إليه، يستطيع أن يساعده. ما أعجب صموت ولؤم وخبث هذا الصبي عن غير إرادة! لم يكد يكون من الممكن حتى هذه اللحظة أن يستنتج الإنسان هذا من خلقه. وما استطاع ك أن يتبيَّن هذا إلا مؤخرًا من خلال الاعترافات التي استخرجها منه مصادفةً وعمدًا. وأخذ هانس يُفكِّر طويلًا مع ك في الصعوبات وكيف يكون تجنُّبها. ولقد كانت تلك الصعوبات من المُحال التغلُّب عليها، مهما أبدى هانس من نيةٍ طيبة. وكان هانس لا يكفُّ عن النظر إلى ك، غارقًا في التفكير باحثًا عن العون، وكانت عيناه ترمش في قلقٍ. كان هانس يرى أنه لا ينبغي أن يذكر لأمِّه شيئًا قبل أن ينصرف الأب؛ أي إنه لن يذكر لها شيئًا إلا في وقت متأخِّر، ثم إنه لن يذكر لها الأمر فجأةً وبسرعة، مُراعاةً لحالتها، بل ببطء وعندما تسنح الفرصة المناسبة، ثم يلتمس موافقتها، فإن وافقت أتى ليحضر ك. ولكن ألن يتأخَّر الوقت؟ ألن يقترب موعد عودة الأب؟ لا، لقد كان الأمر محالًا. وأثبت ك لهانس أن الأمر ليس محالًا. وما ينبغي أن يخشوا ألا يكفي الوقت ففي الحديث القصير، والمقابلة القصيرة الكفاية. ولن يكون على هانس أن يأتي لاصطحاب ك، فسينتظر ك في مكانٍ ما غير بعيد ويتوارى فيه حتى يُشير إليه هانس إشارةً فيأتي من فوره. فقال هانس، لا، ليس ﻟ ك أن يختبئ عند البيت — لقد تملَّكته من جديد الحساسية حيال أمِّه — وليس له أن يقطع الطريق إلى البيت دون علم الأم، وما ينبغي لهانس أن يتَّفق مع ك على شيء لظل سرًّا خفيًّا على الأم. إنما هو سيأتي ليَصطحبه من المدرسة، ولن يحدث هذا قبل أن تعرف الأم وتوافق. وقال ك، حسنًا، ولكن الأمر سيكون خطيرًا، بالفعل، وسيكون من المُمكن أن يفاجئه الأب في البيت، وحتى إذا لم يحدث هذا، فإن الأم لن توافق على استحضار ك خوفًا من هذا، وبهذا سيفشل كل شيء بسبب الأب. وعارض هانس في هذا، واستمر الحوار على هذا النحو.

وكان ك منذ مدة طويلة قد استدعى هانس من المقعد إلى المنصة. وشدَّه إليه وأخذ يُداعبه من حين لآخر مُطيِّبًا خاطره. وساعد القُرب، على الرغم من مُعارضة هانس أحيانًا، إلى الوصول إلى اتِّفاق، واتَّفق الاثنان أخيرًا على ما يلي: سيقول هانس لأمه الحقيقة كاملةً، ويُضيف، بقصد تسهيلِه الحصول على مُوافقتها، أن ك يُريد أن يتحدَّث مع برونسفيك ذاته، في أمرٍ آخر غير أمرِ الأم، في أمرٍ من أمورِه هو. ولقد كان هذا صحيحًا كذلك؛ ذلك أن ك كان قد فكر أثناء الحديث في أن برونسفيك — وإن كان رجلًا خطيرًا شرِّيرًا — لا يُمكن أن يكون عدوًّا له، فهو، على ما ذَكر رئيس مجلس القرية، الذي تزعم — لأسباب سياسية طبعًا — أولئك الذين طالبوا باستدعاء موظَّف المساحة. ومعنى هذا أن قُدوم ك إلى القرية شيء مُستحب، ومعناه أيضًا أن التحية السخيفة التي قابَلَ بها ك في أول يوم، والنفور الذي تحدَّث هانس عنه، شيئان لا يكاد يُمكن فهمهما. وربما كان السبب في غضب برونسفيك هو أن ك لم يتَّجه إليه أولًا طالبًا المساعدة، وربما كان هناك سوء فهمٍ آخر يُمكن تصحيحُه ببضع كلمات. وإذا ما تحقَّق هذا، فسيكون في استطاعة ك أن يجد في برونسفيك عونًا على المعلِّم، وربما عونًا على رئيس مجلس القرية، لكشف هذا الخداع الرُّوتيني — أما كان في الحقيقة كذلك؟ — الذي كان رئيس مجلس القرية والمعلِّم يتوسَّلان به لرده عن دواوين القصر وإجباره على العمل خادمًا للمدرسة. وإذا كان صراعٌ قد جرى أخيرًا بين رئيس مجلس القرية وبرونسفيك حول ك، فسيكون على برونسفيك أن يضمَّ ك إلى جانبه، وسينزل ك ضيفًا على برونسفيك في بيته. وسيجد مقومات سلطة برونسفيك تحت تصرُّفه كيدًا لرئيس مجلس القرية. ومَن يعلم إلى أيِّ حدٍّ سيَصل في أموره؟ ولسوف يقترب على أيَّة حال من المرأة كثيرًا. هكذا لعب بالأحلام ولعبت الأحلام به، بينما كان هانس غارقًا في التفكير في أمه، يتأمَّل صمت ك باهتمامٍ وقلقٍ، كما يتأمل الإنسان صمت الطبيب الذي يستغرق في التفكير ليَصل إلى علاج لحالة صعبة. ووافَق هانس على اقتراح ك أن يتحدَّث إلى برونسفيك في أمر مساحة الأرض، ولم يُوافق هانس عليه، إلا أنه سيحمي الأم من الأب، ولأنه يختصُّ بحالة الضرورة القصوى التي كان يرجو لها ألا تطرأ. وسأل هانس ك كيف سيُبرر للأب حضوره في ساعة متأخرة، ورضي في النهاية — وإن اكتأب وجهُه — بأن يُبرِّره ك بقيامه بعمل لا قِبلَ له على احتماله في خدمة المدرسة، وبمعاناته لمعاملة من النوع نفسه من قِبل المعلِّم، ممَّا أدى به إلى يأسٍ مفاجئٍ أنساه إقامة اعتبار لأي شيء.

ولما تمَّ تدبير كل شيء على هذا النحو على قدر ما بدا لهما، وتبيَّنا أن إمكانية النجاح لم تَعُد على الأقل من قبيل المحال، تخلَّص هانس من عبء التفكير، وأبدى مزيدًا من البشاشة، وأخذ يُثرثر هنيهة على طريقة الأطفال، مع ك في بداية الأمر، ثم بعد ذلك مع فريدا التي جلست طويلًا هناك وبدَت كأنها انشغلت بأفكارٍ أخرى، ثم عادَت الآن لتُشارك في الحديث. وسألت فريدا هانس فيما سألته عما يريد أن يصير، فلم يُفكِّر كثيرًا وقال إنه يريد أن يصير رجلًا مثل ك. فلما سألتْه عن الأسباب، لم يستطع بطبيعة الحال أن يُجيب، وعندما سألته عما إذا كان يريد أن يصير خادمَ مدرسةٍ، نفى نفيًا قاطعًا. فلمَّا استمرت في الاستفهام والتقصِّي، تبيَّن الطريق المعوج الذي سلَكه للوصول إلى أمنيتِه. فلم يكن الوضع الحال ﻟ ك أهلًا للتمنِّي، بل كان وضعًا حزينًا ومقيتًا، ولقد رأى هانس هذا تمامًا، ولم يكن بحاجة إلى ملاحَظة الآخرين ليتبيَّنه. ولقد قال إنه يريد أن يَحمي الأم من كل نظرة ينظرها ك ومن كل كلمة يقولها. ولكنَّه مع ذلك أتى إلى ك والتمس مساعدته وسعد بموافقته، ولقد اعتقد أنه يستطيع أن يتبيَّن شيئًا مشابهًا لدى الآخرين، وكان هو الذي ذَكر أمه ﻟ ك. ولقد تولَّد لدَيه من هذا التناقُض الاعتقاد بأنَّ ك الآن وضيع مُنفِّر، ولكنه سيتفوَّق على الآخرين جميعًا في مستقبل بعيد بُعدًا يكاد يستحيل تصوُّره. ولقد كان هذا البُعد السخيف، والتطور الممتاز الذي ينتظر أن يؤدِّي إليه يجتذبان هانس، وكان مُستعدًّا أن يَقبل ك في وضعه الحالي من أجلهما. وكان في أمنية هانس شيء صبياني خاص يصنع ذكاء الكبار ويتمثل في أنَّ هانس كان ينظر إلى ك نظرة الصغير إلى الكبير الذي يمتدُّ مستقبله امتدادًا أوسع من مستقبله هو وهو الصبي الغرير. ولقد كان هانس يتحدَّث عن هذه الأشياء بجدٍّ يوشك أن يكون كئيبًا عندما اضطرَّته فريدا إلى الحديث عنها اضطرارًا بأسئلتها المتكرِّرة. حتى أشاع ك البشاشة في نفسه عندما قال له أنه يعرف السبب الذي يحسُده من أجله هانس، إنه العصا الجميلة ذات العقد الموضوعة على المنضدة، والتي كان ك يعبث بها لاهيًا أثناء الحديث. وقال ك إنه يجيد صناعة هذه العِصي، وأنه سيَصنع لهانس عصًا أكثر جمالًا إذا نجَحَت خططتهما. ولم يتبيَّن بوضوحٍ تامٍّ هل كان هانس يعني العصا دون ما سواها فعلًا، ولقد فرح بوعد ك واستأذن باشًّا في الانصراف، ولم ينسَ أن يضغط يد ك بحرارة قائلًا: إلى بعد غدٍ إذن.

ولقد طال بقاء هانس طولًا ما كان ينبغي أن يتجاوَزه؛ ذلك أن المعلِّم فتح الباب عنوةً بعد قليل، وصرخ عندما رأى ك وفريدا يجلسان هادئَينِ إلى المائدة.

– معذرةً على الإزعاج! ولكن قولا لي متى تقومان بأعمال النظافة والترتيب؟ إننا نجلس في الفصل الآخَر مُتزاحمِين، والدرس يعاني من الازدحام، أما أنتما فتتمدَّدان هنا على راحتكما في حجرة الرياضة البدنية الكبيرة، ولقد أبعدتما المساعدينِ حتى يكون نصيبكما من المكان أكبر. فانهضا الآن وتحرَّكا.

ثم قال موجهًا الكلام إلى ك وحده: أمَّا أنت فاذهب وأحضر لي طعام الإفطار الآن من حان الجسر.

قال المعلم كل هذا الكلام صارخًا صراخًا عنيفًا، ولكن الكلمات كانت رقيقة نسبيًّا حتى عبارة «أمَّا أنت» وهي عبارة خشنة في حد ذاتها. وكان ك مُستعدًّا للطاعة على الفور. ولكنه أراد أن يسبر أغوار المعلم فقال: ولكنَّني مفصول.

فقال المعلم: مفصولٌ أو غير مفصولٍ، عليك أن تُحضر لي طعام الإفطار.

فقال ك: ولكنني أريد أن أعرف هل أنا مفصول أو غير مفصول.

فقال المعلم: ما هذا الهراء؟ إنك لم تَقبل الفصل.

فسأل ك: أيكفي هذا لإبطال مفعول الفصل؟

فقال المعلم: يكفيني أنا، وعليك أن تُصدِّقني في ذلك، ولكنه يكفي رئيس مجلس القرية، وهذا ما لا أستطيع فهمه. أسرِعِ الآن، وإلا طردتك بالفعل من هنا.

وارتاح ك نفسًا، لقد تحدَّث المعلم في هذه الأثناء إذن إلى رئيس مجلس القرية، أو لعله لم يتحدث إليه، بل تنبأ برأي رئيس مجلس القرية، وكان هذا الرأي في صالح ك. وأسرع ك ليحضر الإفطار، وما كاد يخطو بضع خطوات في الممر حتى نادى عليه المعلم أن يعود. ولعلَّ المعلم أراد أن يختبر استعداد ك للخدمة فأصدر إليه هذا الأمر الخاص، لينظم تصرفاته في المستقبل طبقًا لرد فعل ك، أو لعله أحس برغبة جديدة في الأمر والنهي ووجَد مُتعة في جعل ك يذهب مسرعًا ثم في جعله يدور عائدًا بسرعة أيضًا كخدم الحانات. وكان ك يعلم أنه عندما يُسرف في التهاون سيَتحوَّل إلى عبدٍ للمُعلم وإلى لعبة في يدَيه، ولكنه كان مُصممًا على قبول نزوات المعلم إلى الآن إلى حدٍّ ما صابرًا؛ ذلك أن المعلم الذي لم يستطع، كما تبيَّن، أن يفصله فصلًا قانونيًّا، يستطيع أن يُحيل الوظيفة بالنِّسبة إلى ك عذابًا لا يُطاق. ولقد أصبح ك يهتمُّ بهذه الوظيفة أكثر من ذي قبل؛ فقد أعطاه الحديث مع هانس آمالًا جديدة … صحيح أنها آمالٌ واهية، وأنها تَفتقِر تمامًا إلى كل أساس، ولكنَّها آمال لم يعد من المُمكن نسيانها. إنها الآمال التي عقدها على برناباس. وإذا كان يريد السير وراءها، فليس أمامه من سبيل إلا تجميع قواه من أجلها، وعدم الاهتمام بشيء سواها، يستوي في ذلك الطعام والمسكن ودواوين القرية بل وفريدا ذاتها. والحقيقة أن فريدا كانت هي اهتمامه الوحيد، فلم تكن الأمور الأخرى تهمُّه إلا بالقياس إليها. ولهذا كان عليه أن يسعى للاحتفاظ بهذه الوظيفة التي كانت تمنَح فريدا بعض الأمن، ولم يكن ينبغي له — من أجل هذا الهدف — أن يندم على الرضوخ لتصرفات من المعلم أكثر مما كان ليقبل لو لم يكن يرمي إلى هذا الهدف. ولم يكن هذا كله يؤلمه ألمًا شديدًا، بل كان يَدخل في نطاق تلك الطائفة من الآلام التي يتعرَّض لها الإنسان في الحياة دائمًا، ولم يكن شيئًا مذكورًا بالقياس إلى ما كان ك يسعى إليه، وهو لم يأتِ إلى هنا إلا ليعيش حياة الكرامة والسلام.

ولهذا فقد كان مُستعدًّا لإطاعة الأمر الجديد — كما كان مُستعدًّا للإسراع إلى الحان — والاهتمام على الفور بتنظيم الحُجرة وترتيبها لتنتقل إليها المعلِّمة. وكان عليه أن يسرع حتى يذهب بعد ذلك لإحضار الإفطار، ولقد كان المعلم شديد الجوع والعطش. ووعده ك بأن يتمَّ كل شيء على ما يرام. ونظر المعلم لحظة إلى ك وهو يُسرع في العمل فيُنحِّي فراش النوم جانبًا، ويُرتب أجهزة الرياضة البدنية، ويكنس الفصل بسرعة كبيرة، بينما عكفت فريدا على مسح المنصة وتلميعها. ويبدو أن المعلِّم رضي على هذه الهمة، ونبَّه ك إلى كومة من خشب التدفئة كانت أمام الباب — فلم يَعُد يُريد أن يسمح ﻟ ك بدخول المخزن — ثم ذهب إلى التلاميذ بعد أن هدَّد ك بأنه سيعود مرةً أخرى ليرى ما تمَّ.

وسألت فريدا ك، بعد بُرهة من العمل الصامت، لماذا يُطيع المعلِّم الآن هذه الطاعة الشديدة. كان سؤالها سؤالًا مفعمًا بالعطف والمُواساة، ولكن ك، وقد فكَّر في أن فريدا لم تُوفق إلا أقل التوفيق في الوفاء بما وعدته به من حمايته من أوامر المعلِّم وفظاعاته، قال باختصار إنه الآن قد أصبح خادم مدرسةٍ وعليه أن يؤدي الأعمال المُناطة به. ثم عاد السكون إلى المكان من جديد، إلى أن سألها ك — وقد تذكر من حديثها القصير الآن إليه أنها ظلَّت أثناء حديثه مع هانس تسبح في خضمِّ أفكار مقلقة — عما يشغل بالها، وكان هو يحمل الخشب إلى المدفأة. وأجابت ببطء وهي ترفع بصرها إليه، بأن بالها ليس مشغولًا بشيء معين، إنما هي تفكر في صاحبة الحان وفي صدق بعض كلامها. فلما ألحَّ عليها أجابت، بعد كثير من التمنع والرفض، بإسهاب، وبدون أن تنصرف عن عملها، ولم تكن تتصرَّف على هذا النحو عن نشاط وهمة — فما كان عملها يتقدم على الإطلاق، بل كانت تتصرَّف على هذا النحو حتى لا تضطرَّ إلى النظر إلى ك … وحكَت فريدا كيف أنها أنصتَت في البداية هادئة إلى حديث ك مع هانس، وكيف أن بعض كلمات ك أفزعتها فبدأت تجتهد في الإحاطة بمعنى الكلمات على نحو أكثر وضوحًا، وكيف أنها لم تَعُد تستطيع أن تتبيَّن في كلمات ك مصداقًا لتحذير يرجع الفضل فيه إلى صاحبة الحان، تحذيرًا لم تكن تصدق أنه يُمكن أن يتحقَّق. واغتاظ ك من عباراتها العامة، لم يستعطِفه صوتها الشاكي المختنق بالدموع، بل استفزه — وكان السبب الأول هو أن صاحبة الحان عادَت تتدخل في حياته، على الأقل عن طريق الذكريات بعد أن فشلت في التدخل شخصيًّا — وألقى الخشب الذي كان يحمله إلى الأرض وقعَد فوقه وطالبها بكلمات جادة غاية الجد أن تُوضِّح له الأمر غاية الوضوح. وبدأت فريدا تقول: لقد بذلت صاحبة الحان جهودها مرارًا، وبخاصة في البداية لتحملَني على الشك فيك، ولم تكن تدَّعي أنك تكذب، بل كانت، على العكس، تقول، إنك صريح صراحة صبيانية، ولكن خلقك يَختلِف عن خلقنا، حتى إننا عندما تتكلَّم بصراحة، لا نستطيع إلا بصعوبة أن نحمل أنفسنا على تصديقك، ولو لم تكن الصديقة الطيبة قد أنقَذَتنا من قبل، لما كنا سنتعوَّد على تصديقِك إلا بعد الخبرة المريرة. وحتى هي، التي تمتاز بنظرة حادَّة تُبصِّر الناس بها، لم يكَد يختلف ما جرى عليها عن هذا الذي جرى علينا. ولكنَّها بعد حديثها الأخير معك في حان الجسر تبيَّنَت — وأنا أعيد كلماتها القبيحة — ألاعيبك ولن تستطيع بعد الآن أن تخدعها، مهما اجتهدتَ في إخفاء نواياك. ولكنَّك لا تخفي شيئًا، كما قالت مرارًا، ولقد قالت كذلك: اجتهدي في أيَّة مناسبة تختارينها في الإنصات إليه فعلًا، إنصاتًا غير سطحي، إنصاتًا فعليًّا. وهي لم تفعل أكثر من هذا، وهكذا تبيَّنَت بخصوصي ما يلي: إنك ارتمَيت عليَّ — ولقد استعملت هي هذه الكلمة المقيتة — لا لسبب إلا لأنَّني عرضت لك في طريقك، ولم أبدُ في نظرك قبيحة، ولأنك تعتبر كل خادمة تعمل في الحان — على خطأ شديد — الضحية الموسومة لكلِّ عميلٍ يَبسُط يده. ثم إنك — كما علمَت صاحبة الحان من صاحب حان السادة — كنتَ لسببٍ ما تُريد أن تقضي الليلة في حان السادة، ولم يكن هناك وسيلة لبلوغ هذا الهدف إلا عن طريقي. كل هذا كان يكفي سببًا لتُمثل عليَّ لليلة واحدة دور العاشق، فلما أردت المزيد، كان عليك أن تسعى إلى المزيد، وكان هذا المزيد هو كلم. وصاحبة الحان لا تدَّعي أنها تعرف ماذا تريد من كلم، ولكنَّها تدعي فقط أنك كنت قبل أن تَعرفني تسعى إلى كلم بنفس العنف الذي سعيت به إليه بعد ذلك. وليس هناك غير فرق واحد، هو أنك كنت من قبل يائسًا، أما الآن فأنت تعتقد أنك تجد فيَّ وسيلة أكيدة تستعين بها فعليًّا وسريعًا للتقدُّم إلى كلم والتقدم إليه على نحو يتمَّيز بالتفوق. ولقد فزعتُ فزعًا شديدًا — ولكنه كان فزعًا عابرًا في بداية الأمر وبلا سبب عميق — عندما قلت اليوم إنك كنتَ هنا ضالًّا قبل أن تعرفني. لعلَّ هذه هي نفس الكلمات التي استعملتها صاحبة الحان، لقد قالت هي أيضًا أنك لم تُصبح واعيًا بهدفك إلا بعد أن عرفتني. ليس هناك من سبب لذلك إلا أنك اعتقدتَ أنك استوليتَ في شخصي على عشيقة كلم، وأنك أصبحت في حيازة رهن لن تدعَه إلا لقاء ثمنٍ باهظ، وأنك لا تسعى إلا إلى هدف واحد، هو مُفاوضة كلم في أمر هذا الثمن. ونظرًا لأنك لا تهتم بي أقل الاهتمام، وتهتم بالثمن الاهتمام كله، فإنك مُستعدٌّ لقبول أيِّ اتفاق بشأني، وأنت عنيد فيما يتَّصل بالثمن. ولهذا فأنت لا تهتم بفقداني الوظيفة التي كنتُ أشغلها في حان السادة، وباضطراري مبارحة حان الجسر، واضطراري القيام بالعمل الشاق في خدمة المدرسة. وأنت لا تُبدي شيئًا من الحنان، بل ليس لديك وقت لي، وأنت تتركني للمساعدَين، ولا تعرف الغيرة عليَّ، فليس لي من قيمة في نظرك سوى أنني كنتُ عشيقة كلم، وأنت في جهلك لا تسعى إلى جعلي أنسى كلم، حتى لا أعارض في النهاية معارضةً شديدة عندما تأتي اللحظة الحاسمة. ثم إنك تُحارب صاحبة الحان لأنك تظن أنها الوحيدة التي تستطيع أن تَنتزعك مني، ولهذا فأنت تُبالغ في مصادمتها حتى ينتهي الأمر أن تضطرَّ إلى مغادرة حان الجسر معي. وأنت لا تشكُّ في أنني، على قدر طاقتي وفي كل الظروف، ملك لك. وأنت تتصوَّر مُفاوضتك لكلم على أنها صفقة يجري فيها تبادُل مالٍ لقاء مالٍ. وأنت تعمل حساب كل الإمكانيات، وأنت مستعدٌّ — ما دمتَ ستَنال الثمن — لأن تفعل أي شيء، فإذا ما أرادني كلم، فستُعطيني له، وإذا أراد أن تبقى معي، فستبقى عندي، وإذا أراد أن تنبذني، فستَنبذني، ولكنك مُستعدٌّ كذلك للتمثيل، فإذا وجدت في حبِّي نفعًا، فستتظاهر بأنك تحبني. وأنت تحاول أن تتغلَّب على عدم اكتراثه، بإبراز دناءتك، أو بأن تنقل إليه أسراري الغرامية معه والتي تُمثِّل وقائع حدثت بالفعل، وترجوه أن يُعيدني إليه لقاء دفع الأجر بطبيعة الحال. وإذا لم تُفلح هذه الوسائل كلها فستتسوَّل عنده باسم الزوجين ك. ولكنك — وهذه هي النتيجة التي انتهت إليها صاحبة الحان — ستتبيَّن أنك كنت واهمًا في كل أمر من الأمور، في اعتقاداتك وآمالك، وفي تصوُّرك لكلم وفي علاقاته بي، وعند ذاك سيبدأ الجحيم بالنسبة إليَّ، فسأصبح بالفعل الشيء الوحيد الذي ظلَّ ملكًا لك، وستظل معتمدًا عليه، ولكنَّني سأكون في الوقت نفسه شيئًا تأكَّد لك أنه عديم القيمة، وأصبحت تعامله على هذا الأساس؛ لأنك لا تحسُّ نحوي بإحساسٍ آخر سوى إحساس المالك.

وأنصت ك إليها في شغف، زامًّا فمَه، ولقد تدحرج الخشب من تحته وأوشك هو أن ينزلق على الأرض، ولكنه لم يحفل بذلك. وفي هذه اللحظة نهض واقفًا، وجلس على المنصة، وأمسك يدَ فريدا التي حاولت في ضعف أن تسحبها منه، وقال: إنَّني لم أستطع أن أفرِّق في حديثك دائمًا بين رأيك ورأي صاحبة الحان.

فقالت فريدا: لم يكن سوى رأي صاحبة الحان. ولقد أصغيت إلى كلامها كله لأنَّني أجلُّها، ولقد كانت تلك هي المرة الأولى في حياتي التي أرفض فيها رأيها كل الرفض. فقد بدا لي كل ما قالته سخيفًا بعيدًا عن كل فهمٍ لما يتَّصل بيني وبينك. بل لقد بدا لي الصواب في عكس ما قالته تمامًا. وفكَّرتُ في الصباح المعتم الذي تلا ليلتنا الأولى وكيف ركعت بجواري وأنت تنظُر إليَّ نظرةَ مَن ضاع منه كل شيء، وكيف حدث بعد ذلك فعلًا أنني — مهما اجتهدت — لم أعنك، بل عرقلتك. لقد أصبحَت صاحبة الحان بسببي عدوَّتك. وإنها عداوة قوية ما زلت تستهين بها. لقد اضطُررت بسببي — فقد كنت مهتمًّا بي أشد الاهتمام — إلى أن تُناضل من أجل مكانك، وكنت ضعيفًا حيال رئيس مجلس القرية، ثم أصبح عليك أن تخضَع للمُعلِّم، وأن تظلَّ تحت رحمة المساعدَينِ، أما أقبح شيء فهو أنك ربما أذنبتَ في حقِّ كلم بسببي. وإنك تُحاول الآن بلا هوادة أن تصل إلى كلم، وليس هذا سوى مسعى واهن لتُصالحه على نحوٍ ما. وكنت أنا أقول لنفسي إن صاحبة الحان التي تعرف بكل تأكيد كل هذا أفضل مني بكثير تُريد بهمساتها أن تقيني من الندم الفظيع. وإن هذا السعي من جانبها لجهد طيِّب ولكنه بغير طائل. فإن حبِّي لك قادر على أن يُعينك على التغلب على كل شيء، قادر على دفعك إلى الأمام إن لم يكن في القرية هنا، ففي أيِّ مكان آخر. ولقد برهَن حبِّي على قوَّته عندما أنقذك من أسرة برناباس.

فقال ك: كان هذا إذن رأيك المُعارض لرأي صاحبة الحان. فماذا تغيَّر منه منذ ذلك الحين؟

فقالت فريدا وهي تنظر إلى يد ك التي كان يمسك بها يدها: لا أعرف. ربما لم يتغير شيء. إنك عندما تكون هكذا قريبًا مني وتسألني بهدوء، فإنني أعتقد أنه لم يتغيَّر شيء. والحقيقة …

وسحبَت يدَها من يد ك، وجلست أمامه مُعتدلة تبكي دون أن تُغطِّي وجهها، بل كانت تعرض له وجهها المبلَّل بالدموع مجردًا وكأنها لم تكن تَبكي على نفسها ولم يكن لدَيها ما تُخفيه، بل تبكي من خيانة ك، ولهذا فهو يستحق بُؤس منظرها: والحقيقة أن كل شيء قد تغيَّر منذ سمعتك تتكلَّم مع الصبي. لقد بدأت كلامك معه على نحو بريء كل البراءة، وسألته عن الأحوال في البيت وعن هذا وذاك. لقد تصوَّرتك وكأنك تدخل قاعة الحانة كريمًا، صريحًا، تبحث عن نظرتي بهمَّة وسَذاجة الصبية. لم يكن هناك فرْق بينك في هذه الحال وبينك آنَذاك، وكنت أتمنى شيئًا واحدًا، كنتُ أتمنَّى لو كانت صاحبة الحان هنا، لتصغيَ إليك ولتُحاول أن تبقى على رأيها. ثم لاحظت فجأة، ولا أعرف كيف حدث هذا، لاحظت النية التي كانت تخالجك وأنت تتكلَّم مع الصبي. لقد اكتسبت بكلماتك الحنونة ثقتَه التي لم يكن من السهل اكتسابها، لكي تندفع مباشرةً إلى هدفك الذي أخذت أتبيَّنه بوضوح مُتزايد. كان هدفك هو المرأة. وكان كلامك الذي تظاهر بالخوف عليها يكشف بوضوح تامٍّ اهتمامَك بمصالحك دون ما سواها. لقد خنتَ المرأة قبل أن تنالها. لقد رأيتُ في كلماتك ماضيَّ، بل ومستقبلي كذلك. وتصوَّرت كأن صاحبة الحان تجلس بجواري وتشرح لي الأمور كلها، وأنا أحاول بكل جهدي أن أصدَّها، وأتبيَّن أن مثل هذا الجهد لا يجدي نفعًا — ولم أكُن أنا في تلك الحال المرأة التي خُدعت، فأنت لم تخدعني حتى الآن، بل كانت المرأة الغريبة هي التي خدعت. فلما تمالكت نفسي وسألت هانس عما يُريد أن يكون، وقال إنه يريد أن يكون مثلك؛ أي إنه كان في حوزتك تمامًا، لم أجد فرقًا كبيرًا بين الصبي الطيب الذي يُغرر به هنا، وبيني آنذاك في قاعة الحان.

فقال ك وقد تمالك نفسَه نتيجةً لتعوُّده على اللوم: إنَّ كل ما تقولين صحيح على نحوٍ ما. وهو ليس مُنافيًا للصدق، ولكنه عدائي. إنها أفكار صاحبة الحان، عدوَّتي، حتى إذا ظننت أنها أفكارك أنت، وهذا ممَّا يُواسيني. ولكنها أفكار مُفيدة، ففي إمكان الإنسان أن يتعلَّم من صاحبة الحان بعض الأشياء. وهي لم تَقُل لي هذا الكلام بنفسها على الرغم من أنها لم تَحرص على التخفيف عني، ويبدو أنها أسرَّت إليك بهذا السلاح لتستخدميه في ساعة تكون قبيحة بالنسبة إليَّ غاية القُبح حاسمة غاية الحسم. وإذا كنت أنا أستغلُّك، فهي تستغلُّك على نحو مُشابه. ولكن فكري يا فريدا: إنه حتى إذا كانت كل الأمور كما قالت لك صاحبة الحان تمامًا، فإنها لا تكون مؤسفة أشد الأسف إلا في حالة واحدة؛ إن لم تكوني تُحبيني. في هذه الحالة، وفي هذه الحالة فقط، أكون قد نلتك بتدبير ولؤم لأستغلك استغلال المرابي. وربما كان من خطَّتي في ذلك الوقت أن أثير شفقتَكِ عليَّ بأن أسير مع أولجا أمامك وأنا أتأبَّط ذراعها، ولكن صاحبة الحان نسيَت أن تُضيف هذا إلى قائمة آثامي. أما إذا لم تكن الحال قبيحة، ولم يكن هناك حيوان مُفترس لئيم قد جذبك إليه، بل كنت أنت قد مِلتِ إليَّ كما مِلتُ أنا إليك، والتقَينا معًا، وكل منا ينسى ذاته، فماذا يكون الأمر تكلَّمي يا فريدا؟ إذن فأنا أُسيِّر أمري كأمرك، فليس هنا خلاف، إنما هنا عداوة. وهذا الكلام ينطبق على كل الأحوال، ويَنطبق كذلك على هانس. وأنت في حكمك على حديثي مع هانس تُبالغين مُبالغة شديدة منساقة مع عاطفتك. فإذا لم تكن أهداف هانس وأهدافي واحدة، فالأمر لا يصلُ إلى حدِّ القول بأن هناك تعارضًا بينها، هذا إلى أن هانس لم يَغفل عن خلافنا، وإذا صدقتك في هذا، فإنك تنتقصين من قيمة هذا الرجل الصغير الحريص، وحتى لو فرض أنه غفل عن كل شيء، فلن ينجم عن هذا ضرٌّ يمسُّ إنسانًا، وهذا هو ما أرجوه.

وقالت فريدا وهي تُطلق زفرة: إنه من الصعب على الإنسان، يا ك، أن يجد طريقه! وأنا، بكلِّ تأكيد، لم أحسَّ حيالك بالريبة، وإذا كان شيء من الريبة قد انتقل إليَّ من صاحبة الحان، فإنني أنبذه وأنا سعيدة وأرجوك المغفرة وأنا راكعة على ركبتي، وهذا هو في الحقيقة ما أفعله طوال الوقت، مهما قلتُ من أشياء قبيحة. والحقيقة رغم هذا كله هي أنك تخفي عني الكثير، إنك تأتي وتذهب، وأنا لا أعلم من أين ولا إلى أين. بل إنك، عندما دقَّ هانس الباب، ناديت اسم برناباس. فإذا لم تكن تثق فيَّ، فكيف يمكن ألا يتولد الشك في نفسي وإنني في هذه الحالة أركن إلى صاحبة الحان كليةً، وإن مسلَكَك ليبدو وكأنه يُؤكِّد ما تذهب إليه. ألم تطرد المساعدَينِ بسببي؟ ليتك تعرف مدى حاجتي إلى أن أجد في كل ما تقوله وتفعله بذرة صالحة بالنسبة إليَّ.

فقال ك: إنني أولًا وقبل كل شيء آخر يا فريدا لا أُخفي عليك أقل شيء. ولكن ما أشدَّ كره صاحبة الحان لي! وما أشد ما تبذل من جهد لتنتزعك مني! وما أقبح الوسائل التي تتوسل بها! وما أغرب استسلامك لها، يا فريدا! ما أغرب استسلامك لها! ولكن قولي لي كيف أُخفي عليك شيئًا؟ إنك تعرفين أنني أريد أن أصل إلى كلم، وتعرفين أنك لا تستطيعين مُعاونتي على ذلك وأنني لا بد أن أُعوِّل على نفسي، وأنت ترين بنفسك أنني لم أتمكَّن من شيء إلى الآن. أم هل ينبغي عليَّ أن أحكي لك المحاولات الفاشلة التي أذلتني في الواقع أشدَّ الإذلال، حتى أذوق الذلَّ مرتَين؟ هل ينبغي أن أتفاخَر بأنني انتظرت على باب زحافة كلم أمسية كاملة أرتعش من البرد ولا أفيد شيئًا؟ إنني أهرع إليك، سعيدًا بأنني لن أضطرَّ إلى التفكير في هذه الأمور، فإذا بي ألقى كل هذا منك، ألقاه يَنطلِق نحوي بالتهديد. أما أمر برناباس، فأنا لا أخفي عليك أنني أنتظره. فهو ساعي كلم. لستُ أنا الذي جعلته ساعيًا لكلم.

وصاحت فريدا: ها أنت ذا تعود إلى ذِكر برناباس. إنني لا أستطيع أن أُصدِّق أنه ساعٍ بمعنى الكلمة.

فقال ك: قد تكونين على حقٍّ. ولكنه الساعي الوحيد الذي أرسل إليَّ.

فقالت فريدا: هذا مما يَزيد في سُوئه. وهذا مما يفرض عليك أن تزيد في حرصك منه.

فقال ك مبتسمًا: إنه للأسف لم يُعطني فرصة لذلك. إنه يأتي نادرًا، ولا يَحمل إليَّ إلا أمورًا لا قيمة لها. وليست له من قيمة إلا أنه يأتي من عند كلم مباشرةً.

فقالت فريدا: ولكن هذا يعني أن كلم لم يَعُد هدفك، ولعلَّ هذا هو ما يقلقني أشد القلق. لقد حاولت على الدوام أن تَندفِع إلى كلم مُتجنبًا إيَّاي، وكان هذا قبيحًا، وها أنت ذا تَنصرِف على ما يبدو عن كلم، وهذا أقبح بكثير، إنَّ هذا شيء لم تتوقَّعه حتى صاحبة الحان ذاتها، لقد انتهَت سعادتي، على رأي صاحبة الحان، ولقد كانت سعادةً واهيةً ولكنَّها كانت حقيقية، انتهَت سعادتي منذ اليوم الذي توصَّلت فيه نهائيًّا إلى أن أملك في كلم أملًا لا طائل وراءه. إنك لم تَعُد تأمُل في هذا اليوم. لقد دخل عليك صبيٌّ فجأة، فبدأت تُصارعه من أجل الحصول على أمِّه، كما تصارع من أجل الحصول على الهواء الذي تتنفَّسه.

– لقد أصبتُ في فهمِك حديثي مع هانس. لقد كان الأمر فعلًا على ما ذكرت. ولكن هل تداعَت حياتك الماضية كلها بالنسبة إليك (باستثناء صاحبة الحان بطبيعة الحال، التي لا يُمكن أن تكون ضمن ما يتداعى) حتى لم يَعُد في إمكانك أن تَعرفي كيف ينبغي على الإنسان أن يُناضل في سبيل التقدم وبخاصة عندما يكون الإنسان من الطبقة الدنيا؟ كيف ينبغي على الإنسان أن يستخدم كل ما يحمل بارقة أمل؟ وهذه المرأة من القصر، لقد قالت لي هي نفسها ذلك، عندما ضلَّت الطريق في أول يوم ذهبَت إلى لازيمان. ليس هناك شيء يخطر بالبال أقرب من التماس النصيحة لديها أو حتى العون. وإذا كانت صاحبة الحان تعرف بدقة دقيقة كل العقبات التي تحول بين المرء وبين كلم، فلعلَّ هذه المرأة تعرف الطريق، فهي قد سلكَتْه عند نزولها.

وسألت فريدا: الطريق إلى كلم؟

فقال ك: إلى كلم، بكل تأكيد، إلى مَن غيره.

وهبَّ ك واقفًا وقال: لا يُمكن أن أتأخَّر أكثر من هذا عن إحضار طعام الإفطار.

وألحَّت عليه أن يتجاوَز هذا السبب ويبقى وكأنما كان بقاؤه هو الذي سيُؤكِّد كل ما قد قاله لها مُواسيًا. ولكن ك ذكَّرها بالمعلِّم، وأشار إلى الباب الذي يمكن أن ينفتح بين لحظة وأخرى عن هديرٍ كهدير الرعد، ووعدَها بأن يُعجل بالعودة، وبأنه سيقوم بكل الأعمال، حتى التدفئة سيتولى أمرها. وأخيرًا رضيت فريدا وصمتَت.

وعندما سار ك في الخارج يدقُّ الجليد بقدميه — وكان ينبغي عليه أن يكون قد فرغ من إخلاء الطريق من الجليد. ما أعجب البطء الذي اعترى العمل! رأى أحد المساعدَين يمسك بالسور الحديدي وقد أشرف على الموت من فرط التعب. إنه واحد! فأين الآخر؟ هل يا ترى قد تمكَّن ك من تحطيم صمود أحدهما على الأقل؟ أما هذا الذي بقيَ فقد كان بطبيعة الحال شديد الدأب لا يرجع عن الأمر، ولقد ظهر هذا واضحًا، عندما عاد إلى النشاط على أثر رؤيته ك، وعاود مدَّ ذراعيه وتحريك عينيه متوسلًا على نحوٍ أكثر عنفًا.

وقال ك في نفسه: إنَّ صموده لصمودٌ نموذجي!

ولكنه اضطرَّ إلى أن يضيف:

ولكنه صمود يُؤدي بالإنسان إلى التجمُّد على السور.

ولم يفعل ك شيئًا ظاهريًّا سوى التهديد بقبضتِه فاستحال على المساعد أن يقترب، بل تراجع مسافة غير قصيرة إلى الوراء خائفًا. وفي تلك اللحظة فتحت فريدا شباكًا لكي تجدِّد هواء الحجرة قبل التدفئة على نحو ما تفاهمت مع ك. فانصرف المساعد عن ك وتسلَّل إلى النافذة منجذبًا إليها انجذابًا لا طاقة له على معارضته. ولوَّحت فريدا بيدها قليلًا من الشباك — وكان وجهُها مضطربًا في تعبيره بين الودِّ حيال المساعد والحيرة المختلطة بالتوسُّل حيال ك — ولم يكن ظاهرًا هل كانت حركة يدها تعني الصد أو التحية، ولكن المساعد لم يتردَّد في التقدم نحوها والاقتراب منها. وهنا أقفلت فريدا الشباك الخارجي بسرعة ولكنها بقيت خلفه، واضعة يدها على المقبض، وقد مالت برأسها إلى جانب، وفتحت عينيها على سعتهما واصطنَعت ابتسامة جامدة. هل كانت تعلم أنها كانت بذلك تجتذب المساعد أكثر مما تردعه؟ ولم يَعُد ك ينظر إلى الخلف، فقد كان يفضِّل أن يسرع على أشد ما يستطيع ليعود في أقرب وقتٍ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤