الفصل الخامس عشر

وبقي ك وقد ارتسَمَت الدَّهشة على وجهِه، وضحكت أولجا منه، وشدَّته إلى الأريكة عند المدفأة، وبدا عليها فعلًا أنها سعيدة إذ استطاعت أن تخلو به هنا، ولكن سعادتها كانت سعادة صافية لم تُعكِّرها الغيرة بكل تأكيد. وكان انعدام الغيرة وبالتالي انعدام كل تكلُّف يجعل ك يحسُّ بالراحة. وكان ك يجد مُتعة في النظر إلى عينَيها الزرقاوَين اللتَين لا تجذبان ولا تُسيطران، بل تَسكُنان في خجل، وتثبتان في حياء. وأحسَّ ك كأنَّ تحذيرات فريدا وصاحبة الحان لم تجعَله أكثر تقبُّلًا لهذا كله، بل جعلته أكثر انتباهًا وإمعانًا. وضحكَ مع أولجا عندما عبَّرت عن دهشتِها لوصف ك أماليا بالذات بالطيبة، وقالت إنها تتَّصف بكثير من الصفات ولكن صفة الطيبة بالذات ليسَت فيها. وردَّ ك على ذلك بأنه كان بطبيعة الحال يعنيها هي، أولجا، بالمدح، ولكن أماليا شديدة السيطرة لدرجة أن الأمر لا يقف عند حدِّ أنها تستحوذ على كل ما يقال في وجودِها، بل يتعدَّاه إلى أن الإنسان يُقدمه إليها بإرادته. وقالت أولجا وقد ازداد جدُّها: هذا صحيح، أكثر صحة ممَّا تظن. وأماليا أصغر مني، بل وأصغر من برناباس ولكنَّها هي التي تقضي في الأمور في البيت، بالشر أو بالخير. وهي بطبيعة الحال تحمل أكثر ممَّا يحمل الآخَرون خيرًا وشرًّا.

وذهب ك إلى أن هذا الكلام مُبالَغ فيه؛ فقد قالت أماليا منذ قليل إنها مثلًا لا تهتم بأمور أخيها وأن أولجا هي التي تعرف كل شيء عنها … وقالت أولجا: كيف أشرح لك هذا؟ إنَّ أماليا لا تهتم لا ببرناباس ولا بي، إنها في الحقيقة لا تهتم بأحد سوى الوالدَين؛ فهي تُعنى بهما نهارًا وليلًا، ولقد سألَتْهما الآن لتوِّهما عن رغباتهما وذهبت إلى المطبخ لتَطهي لهما ما يَشتهيان، ولقد تحامَلَت على نفسها ونهضَت من أجلهما؛ فهي مريضة منذ الظهر وكانت ترقد على الأريكة. ولكنَّنا، على الرغم من أنها لا تهتم بشئوننا، نتبعها كما لو كانت هي الكبرى، وهي لو نصحتنا بشيء في أمورنا لاتبعناها بكل تأكيد، ولكنها لا تفعل ذلك، فنحن غرباء عنها. وأنت رجل ذو خبرة بالناس، وأنت قادم من الغربة، فقل: ألا تبدو لك شديدة الفِطنة؟

فقال ك: إنها تبدو لي شديدة التعاسة، ولكن كيف يتَّفق مع احترامكم لها أن برناباس يقوم مثلًا بأعمال الساعي، هذه الأعمال التي لا ترضى عنها ولعلها تحتقرُها؟

فردت قائلة: لو أنه عرف له عملًا آخر يقوم به بدلًا من شغلة الساعي هذه التي لا تُرضيه لما تأخر عن الانصراف عنها.

فسأل ك: أليس هو عامل فني في صناعة الأحذية؟

فقالت أولجا: بلى بكل تأكيد، وهو إلى جانب عمله كساعٍ يعمل لدى برونسفيك، ولو شاء لوجد هناك عملًا يكفيه ليلًا ونهارًا ولربح كثيرًا.

وقال ك: فماذا يمنعه؟ ألا يجد بديلًا له لوظيفة الساعي؟

وسألت أولجا مندهشة: تقول بديلًا له في وظيفة الساعي؟ فهل هو قد قبل هذه الوظيفة من أجل الربح؟

وقال ك: ليكن. ولكنَّكِ قلتِ إنها لا تُرضيه.

فقالت أولجا: إنها لا تُرضيه، وله في ذلك أسباب مختلفة، ولكنها على أية حال خدمة القصر، أو على أية حال من خدمة القصر، وهذا ما ينبغي على الإنسان على الأقل أن يؤمن به.

فقال ك: كيف هذا؟ هل أنتم في شكٍّ حتى من هذا؟

فقالت أولجا: في الحقيقة لا يُساورنا في ذلك شك. فبرناباس يذهب إلى دواوين المستشارية ويُخالط الخدم هناك كواحد منهم، ويرى من بعيد بعض الموظَّفين مُتفرِّقين، ويتلقى رسائل ذات أهمية نسبية، بل يتلقَّى أحيانًا رسائل شفهية لينقلها كما سمعها، وهذا كثير، ولنا أن نفخر بما استطاع أن يُحقِّقه وهو ما يزال في سن الشباب الغض.

وهز ك رأسه، ولم يَعُد يُفكِّر الآن في العودة. وسأل: هل لديه زيٌّ خاص؟

فقالت أولجا: أتعني السُّترة؟ لا، لقد صنعَتْها له أماليا حتى قبل أن يعمل ساعيًا. ولكنك تقترب من النقطة الحساسة. فقد كان يتوقع منذ وقت طويل أن يحصل لا على زي رسمي، فليس هناك شيء كهذا في القصر، ولكن على بذلة، ولقد تلقَّى تأكيدًا بهذا، ولكنهم في القصر يسيرون ببطء شديد فيما يتعلَّق بمثل هذه الموضوعات، وأقبح شيء هنا هو أن الإنسان لا يعلم معنى هذا البُطء، فقد يعني أن الموضوع يسير سَيره الروتيني، ولكنه قد يعني كذلك أن الموضوع لم يبدأ سيره بعدُ؛ أي إنهم يريدون على سبيل المثال اختبار برناباس، ومن الممكن أن يعني البطء أيضًا أن الإجراءات انتهت، وأن التأكيد الذي سبق أن أعطي لبرناباس قد سُحب لسبب من الأسباب فلن يحصل على البدلة أبدًا. ولا يستطيع الإنسان أن يعرف شيئًا أكثر دقة، أو لعلَّ الإنسان يعرفه بعد مضيِّ وقت طويل. والناس هنا يتناقلون حكمةً لعلك تعرفها: إن القرارات الحكومية خَجولة كالبنات الصغيرات.

فقال ك وقد تناول العبارة بجدٍّ أكثر ممَّا فعلت أولجا: هذه ملاحظة طيبة، ملاحظة طيبة، وربما اتَّصفت القرارات الحكومية بصفات أخرى من تلك التي تتصف بها البنات الصغيرات.

وقالت أولجا: ربما. وأنا لا أعرف مقصدك. وقد تقصد مدحَها. أما فيما يختصُّ بالبدلة الحكومية، فهي همٌّ من الهموم التي يعاني برناباس منها، ولمَّا كنَّا نتشارك في حمل الهموم فإنها كذلك من همومي. إننا نتساءل لماذا لا ينال البدلة الحكومية، والموظفون، على قَدر علمنا وعلى ما يحكي برناباس، يلبسون الملابس العادية، وهي بطبيعة الحال ملابس جميلة. وأنت قد رأيتَ كلم. وبرناباس ليس بطبيعة الحال موظفًا، ولا حتى من أحطِّ درجة، وهو ليس من الخطل بحيث يرجو أن يُصبح موظفًا. ولقد حكى برناباس أن بعض كبار الخدم ممَّن لا تصل إليهم الأنظار هنا في القرية بطبيعة الحال لا يلبسون بِدلًا حكومية. وقد يظن الإنسان أن في هذا شيئًا من عزاء، ولكن هذا أمر مُضلِّل، فهل برناباس من كبار الخدم؟ لا، وحتى إذا كان يحظى بالحب الشديد، فليس هناك مَن يستطيع أن يقول إنه من كبار الخدم، والدليل على ذلك أنه يأتي إلى القرية، بل ويُقيم فيها، وكبار الخدم أكثر تحفُّظًا من الموظفين، وربما كان لهم حقٌّ في ذلك، وربما كانوا أرفع قدرًا من بعض الموظَّفين. وهناك بعض الأدلة على ذلك؛ فهم يَشتغلون أقل، ولقد قال برناباس إن منظر هؤلاء الرجال الأقوياء الفارعين المختارين وهم يزحفون ببطء شديد خلال الممرات والأروقة منظر رائع، وبرناباس يتلمَّس طريقه بينهم بالالتفاف المتستِّر حواليهم. والخلاصة أنه لا يمكن القول بأن برناباس من كبار الخدم. ومعنى هذا أنه قد يكون واحدًا من صغار الخدم، ولكن هؤلاء الخدم الصغار يلبسون البِدَل الحكومية، على الأقل عندما ينزلون إلى القرية، وهذه البدلة الحكومية ليسَت زيًّا رسميًّا بمعنى الكلمة، هذا إلى أن هناك اختلافات كثيرة تَعتورها، ومهما يكن من أمر فإن الإنسان يتبيَّن الخادم القادم من القصر بالنظر إلى ثيابه، ولقد رأيتَ أنت نفسك بعض هؤلاء الرجال في حانة السادة. وأبرز ما في هذه الثياب أنها غالبًا ضيقة تلتصق بالجسم التصاقًا شديدًا، فما يُمكن لفلاح أو عامل أن يستخدمها. إذن فبرناباس ليس لديه مثل هذه البدلة، وليس هذا الأمر من الأمور المُخجِلة المزرية فحسب، فهذا مما يُمكن احتماله، ولكنه من الأمور التي تجعل الإنسان يشكُّ في كل شيء خاصة في الساعات الحزينة، ولقد مرَّت بنا، ببرناباس وبي، تلك الحال مرات ليست بالقليلة. عند ذاك نتساءل هل هذا العمل الذي يقوم به برناباس خدمة للقصر. إنه بكل تأكيد يذهب إلى بعض المكاتب الحكومية، وما هذا إلا جزء من الكل، عندها حواجز من ورائها مكاتب أخرى. وليس هناك مَن يمنعه من النفاذ إليه منعًا، ولكنه لا يستطيع أن يتقدَّم إليها عندما يجد مرءوسيه الذين يتصرَّفون فيما لدَيه من أمور ويصرفُونه. والإنسان هناك عُرضة للمُراقبة الدائمة، أو هو على الأقل يظن ذلك. وحتى إذا هو تقدم، فما هو النفع الذي يمكن أن يصيبه إذا لم يكن لديه عمل فأصبح هناك دخيلًا؟ ولا ينبغي أن تتصوَّر هذه الحواجز على أنها حدود مُعيَّنة، وهذا شيء لا يفتأ برناباس يَلفت نظري إليه. فهناك كذلك حواجز في المكاتب التي يذهب إليها. ومعنى هذا أن هناك حواجز يتخطَّاها وليس منظرها بمختلف عن منظر تلك التي لم يتخطَّها بعدُ، ولهذا فمِن المُمكن أن يذهب الإنسان مُسبقًا إلى أن المكاتب التي تقع خلف هذه الحدود الأخرى لا تختلف اختلافًا جوهريًّا عن تلك التي عرفها برناباس. كل ما في الأمر أن الإنسان في ساعات حزنه يظنُّ ذلك. ثم يستمر الشك ولا يستطيع الإنسان أن يقاومه. ويتكلم برناباس مع موظَّفين، ويتلقى رسائل. ولكن مَن هؤلاء الموظفون؟ وما هي هذه الرسائل؟ لقد قال إنه نقل إلى كلم، وإنه يتلقَّى منه شخصيًّا الأوامر. وهذا كثير جدًّا؛ فكبار الخدم أنفسهم لا يصلُون إلى هذا الحد، هذا كثير جدًّا، بل هو أكثر ممَّا ينبغي، وهذا هو المخيف من أمره. تصور أنه نقل إلى كلم مباشرةً وأنه يكلمه ويسمع منه! ولكن الأمر فعلًا كذلك؟ نعم إنه كذلك، ولكن لماذا يشكُّ برناباس في أن ذلك الموظَّف الذي يسمونه كلم هو فعلًا كلم؟

فقال ك: يا أولجا، إنكِ لا تُريدين أن تمزحي معي، كيف يُمكن أن يكون هناك شكٌّ في شكل كلم، إن شكله معروف، ولقد رأيته أنا بنفسي.

فقالت أولجا: لا بكلِّ تأكيد يا ك، ليس هذا مزاحًا، بل هو أمر أهتم له جادةً أشد الجد. وأنا لا أحكي لك هذا لأُخفِّف عن نفسي ولأثقل عليك، ولكنك سألت عن برناباس، فكلَّفتني أماليا بأن أحكي لك الحكاية، هذا إلى أنني أعتقد أنه من المفيد لك أن تعرف الأشياء على نحو أكثر دقة. وأنا أحكي لك ما أحكي من أجل برناباس نفسه، حتى لا تَعقِد عليه آمالًا كبيرة جدًّا فيُخيِّب رجاءك ويتألم لخيبتِك؛ فهو حساس جدًّا، وهو على سبيل المثال لم ينَمْ في هذه الليلة لأنك لم تكن راضيًا عنه بالأمس، فقد قلت له إنك مُستاء أشد الاستياء لأنك أوتيت رسولًا مثل برناباس. لقد نفَت كلماتك النوم عن عينَيه. ويبدو أنك لم تلحظ شيئًا من الاضطراب الذي استبد به، فمن واجب سعاة القصر أن يضبطوا أنفسهم وأن يتحكموا فيها أشد التحكم. ولكن عمله ليس بالسهل، حتى معك. وأنت في تصوُّرك لا تتطلَّب الكثير منه، لقد أتيت تحمل تصوُّرات مُعيَّنة عن السعاة وكيف يكون عملهم، وأنت تقيس عليها المطالب التي تفرضها عليه. ولكنهم في القصر يتصوَّرون عمل السعاة على نحو آخر، وهي تصوُّرات لا تتفق مع تصوراتك ولا يُمكن التوفيق بينها حتى لو ضحَّى برناباس كل التضحية في العمل وهو ما يبدو عليه أحيانًا أنه مُستعدٌّ له. والأحرى بالإنسان أن يطيع وألا يعترض، لو لم تكن المسألة مسألة العمل الذي يقوم به وهل هو فعلًا عمل السعاة. ليس له أن يبين لك أي شك بطبيعة الحال؛ لأنَّ ذلك معناه أن يضيع حياته، وأن يخرج خروجًا بشعًا على قوانين يظن هو أنه لا يزال يخضع لها، وهو لا يتكلَّم بحرية حتى عندما يتكلَّم معي، وليس لديَّ من وسيلة لتبديد شكوكه إلا التدليل والتقبيل، وحتى عندما أفعل ذلك أجده يَمتنع عن اعتبار الشكوك شكوكًا. إن لديه شيئًا من أماليا في دمِه. وهو بكل تأكيد لا يقول لي كل شيء على الرغم من أنني الوحيدة التي يضع فيها ثقته ويأمن إليها. على أننا نتكلَّم أحيانًا عن كلم، وأنا لم أرَ كلم بعدُ، وأنت تعرف أن فريدا لا تحبُّني كثيرًا وما كانت لتسمح لي بأن أتطلع إليه، على أن شكله معروف بطبيعة الحال في القرية، فقد رآه بعض الأهالي، وكلُّهم سمعوا عنه، ولقد تكوَّنت صورة لكلم من التصورات والشائعات ومن بعض النوايا الثانوية المزيفة، وهي صورة صحيحة في خطوطها الأساسية، ولكن في خطوطها الأساسية فقط، وفيما عدا ذلك فهي صورة متغيِّرة، ولعلها ليست متغيرة بالدرجة التي يتغير بها شكل كلم في الحقيقة. ويقال إن شكله يختلف عنها اختلافًا تامًّا عندما يأتي إلى القرية، ويختلف عنها عندما ينصرف عن القرية، ويختلف عنها قبل أن يشرب البيرة، ويختلف بعد أن يشرب البيرة، ويختلف عندما يصحو ويختلف عندما ينام، ويختلف عندما يكون وحده، ويختلف عندما يتحدث، ويختلف اختلافًا أساسيًّا — وهذا شيء بديهي — عندما يكون في القصر. بل إنَّ الروايات المتناقَلة في القرية تتضمَّن اختلافات كبيرة جدًّا، اختلافات في الطول وفي المظهر والبدانة واللحية، وهي، لحسن الحظ، تتَّفق فيما يتعلق بالثوب الذي يَرتديه، إنه يرتدي دائمًا نفس الثوب: حُلة سوداء لها سترة ذات طرفين طويلين. على أن هذه الاختلافات لا ترجع إلى أسباب من السحر، بل هي اختلافات بديهية ترجع إلى المزاج في لحظة بعينها، وإلى درجة الانفعال وإلى درجات مُتباينة لا حصر لها من الأمل أو اليأس يكون فيها المُشاهد الذي لا يكون له في غالب الأحيان أن يرى كلم إلا لحظة. وأنا أحكي لك هذا كما حكاه لي برناباس مرارًا، ولمَن لم يتَّصل بالموضوع اتصالًا شخصيًّا مباشرًا أن يكتفي بهذا بصفة عامة وهو قرير العين. أما نحن فلا نستطيع أن نهدأ أو نقرَّ عينًا، هل هذا الذي يتكلَّم معه هو بالفعل كلم أم لا؟ ذلك موضوع حياة أو موت بالنسبة لبرناباس.

فقال ك: وهو كذلك بالنسبة إليَّ أنا كذلك.

وتقارب الاثنان في مجلسهما على الأريكة.

والحقيقة أن هذه الأخبار الجديدة غير المواتية التي نقلتها أولجا إلى ك حزَّت في نفسه، ولكنه وجد الكثير من السلوى في أنه يلتقي هنا بأناسٍ يجري عليهم، على الأقل على قدر ما يبدو في الظاهر، شيء شديد الشبه بما يجري عليه، فهو يستطيع لذلك أن ينضمَّ إليهم وأن يتفاهم معهم في كثير من الأمور لا في بعضها فقط كما هي الحال مع فريدا، وهو إذا كان قد فقدَ الأمل في إصابة نجاح عن طريق سعاية برناباس، فهو يقترب من برناباس هنا في القرية اقترابًا يتزايَد كلَّما يتزايَد ما يَلقاه برناباس من سوء، وما كان ك قد فكَّر قطُّ في أن هناك مسعًى تعيسًا يَنطلق من القرية مثل مسعى برناباس وأخته. على أن هذا المسعى كان بطبيعة الحال أبعد ما يكون عن الوضوح، ولعلَّ محاولة توضيحه كانت ستُظهره على عكس ما يبدو الآن، وما كان ينبغي على المرء أن يدع ما في شخصية أولجا من براءة أو نحوها يُغويه توًّا وينتهي به إلى الإيمان بصدق برناباس.

وأردفت أولجا: وبرناباس يعرف المقالات التي تتناوَل شكلَ كلم معرفة جيدة جدًّا، فقد جمع الكثير منها، وقارن بينها — بل لعلَّه جمع منها أكثر من اللازم — ولقد رأى ذات مرةٍ كلم في القرية من خلال نافذة العربة أو لعلَّه اعتقد أنه رآه وبهذا اكتمل له ما يكفي من أساس للتعرُّف على كلم، ومع ذلك — وكيف يُمكنك أن تفسر هذا؟ — فقد ذهب ذات مرةً إلى مكتب من مكاتب المستشارية في القصر فأشار له بعضهم على واحد من بين موظَّفين كثيرين وقال له عنه أنه كلم، فلم يتعرَّف برناباس عليه، وظلَّ بعد ذلك وقتًا طويلًا لا يستطيع أن يقنع نفسه بأن هذا الذي رآه هو كلم. وإذا أنت سألت برناباس عن وجه الاختلاف بين ذلك الرجل الذي رآه وبين الصورة الشائعة عن كلم، لم يَستطِعِ الإجابة، أو أجاب فوصف الموظَّف الذي رآه في القصر، وإذا بالوصف يُطابق تمامًا وصف كلم على نحو ما نعرفه. وأقول لبرناباس «وما دام الأمر كذلك، فلماذا تشكُّ يا برناباس ولماذا تعذب نفسك؟» فيبدأ، وقد استبدت به حيرة مؤرِّقة ظاهرة لا تخطئها العين، في تعداد صفات خاصة لموظَّف القصر، يبدو عليه أنه لا يحكيها عن خبرة بل يبتدعها ابتداعًا، وهي على الرغم من ذلك طفيفة — تتناول على سبيل المثال إيماءة خاصة بالرأس أو الصدرية غير المُزرَّرة — ولا يمكن للإنسان أن يأخذها مأخذ الجد. أمَّا الشيء الذي يتسم في نظري بمزيد من الأهمية، فطريقة كلم في التعامل مع برناباس. وكثيرًا ما حدثني برناباس عنها، بل ووضَّحها لي بالرسم. لقد جرَت العادة على اقتياد برناباس إلى مكتب كبيرة من مكاتب المستشارية، ليس مكتب موظَّف واحد، بل هي حجرة تقسمها طوليًّا منصة عالية واحدة تمتدُّ من حائط إلى الحائط الآخر إلى قسمَين قسم ضيق لا يكاد ليعبر فيه شخصان أحدهما على الآخر: هذا هو مكان الموظَّفين، وقسم واسع هو مكان أصحاب الحاجات والمتفرِّجين والخدم والسعاة. وهناك على المنصة كُتب كبيرة مفتوحة، صُفَّت أحدها بجوار الآخر، والموظَّفون يقفون عند غالبيتها ويطالعون فيها. ولكن الموظَّفين لا يبقون عند كتاب واحد دائمًا، بل يتبادلون، لا الكتب، بل الأماكن، وأعجب شيء في رأي برناباس هو مشهد الموظَّفين وهم يمرُّون بعضهم على البعض أثناء تبادل الأماكن في هذه المساحة الضيقة. وهناك في المقدمة موائد صغيرة منخفِضة ملاصقة للمنصة يجلس إليها كَتبةٌ يكتبون ما يُمليه عليهم الموظَّفون. وبرناباس يدهش دائمًا لطريقة الإملاء والكتابة. فالموظَّف لا يصدر أمرًا واضحًا إلى الكاتب بأن يكتب ما سيمليه عليه، والموظف لا يُملي بصوت عالٍ، حتى إن الإنسان لا يكاد يلحظ أنه يملي، بل يراه وقد بدا عليه أنه يقرأ كما كان يقرأ من قبل، أو هو يهمس، والكاتب يسمع همسَه. وكثيرًا ما يملي الموظَّف بصوت شديد الانخفاض لا يستطيع الكاتب أن يسمعه وهو جالس فهو يهبُّ واقفًا ليتلقَّف الجملة، ثم يجلس بسرعة ليكتبها، ثم يهبُّ واقفًا مرة أخرى وهكذا دواليك. ما أغرب هذا! إنه شيء لا يكاد الإنسان يفهمه. أما برناباس فلدَيه متَّسع من الوقت بطبيعة الحال ليشاهد هذا كله، فهو يقف في مكان المتفرِّجين ساعات بل أيامًا قبل أن تقع عليه نظرة كلم. وحتى عندما يراه كلم، ويتَّخذ برناباس وضع الانتباه، فإن هذا لا يعني أن الأمر قد قُضي، فمن المُمكن أن يَنصرِف كلم عنه إلى الكتاب وينساه. وهذا ما يحدث كثيرًا. فما هو عمل الساعي هذا الذي يتجرَّد إلى هذا الحد من الأهمية؟ إن الحزن ليتملك نفسي عندما يعلن برناباس في ساعة مبكرة من الصباح أنه ذاهب إلى القصر. وأفكِّر في هذا الطريق الذي يقطعه على ما يبدو في غير نفع، وفي اليوم الذي يبدو أنه يضيعه، وفي هذا الأمل الذي يبدو أنه لا جدوى وراءه. ما فائدة هذا كله؟ وهنا الكثير من العمل في صناعة الأحذية يتكدَّس ولا يُنجزه أحد، وبرونسفيك يلحُّ على برناباس أن يقوم به.

فقال ك: حسنٌ. إذن فبرناباس يتحتَّم عليه أن ينتظر طويلًا إلى أن يُكلَّف بعمل. هذا شيء يصعب فهمه، ويبدو أن عدد الموظَّفين هنا كبير مفرط لا يمكن معه أن يكلف كل ساعٍ بعملٍ، ولا ينبغي أن يكون هذا سببًا للشكوى، فهذا أمر يستوي الجميع أمامه. ثم إن برناباس يُكلف هو كذلك ببعض المهام، ولقد أحضر إليَّ أنا خطابَينِ.

وقالت أولجا: من الممكن ألا نكون على حقٍّ في الشكوى، وبخاصة أنا التي لا أعرف الأمور إلا سمعًا والتي لا أستطيع باعتباري بنتًا أن أحسن فهمها كما يفعل برناباس الذي يُخفي عني من حينٍ لآخر بعضها. ولكن أسمع حكاية الخطابات، وعلى سبيل المثال حكاية الخطابات التي تلقيتِها أنت. إنَّ برناباس لا يتلقَّى هذه الخطابات من كلم مباشرة، بل من الكاتب. في يوم من الأيام، وفي ساعة من الساعات — ولهذا فإنَّ عمل برناباس وإن بدا سهلًا متعب مُرهق لأن عليه أن ينتبه دائمًا وبغير انقطاع — يتذكره الكاتب ويُشير إليه إشارة. ولا يبدو على كلم أنه هو الذي اتخذ بهذا قرارًا؛ لأنه يكون عاكفًا على القراءة في كتابه، أو يكون في تلك اللحظة بالذات مشغولًا بتنظيف نظارته — وهو ما يفعله كثيرًا في غير هذا الظرف — عندما يأتي برناباس، ولعله ينظر إليه أثناء تنظيفه النظارة، هذا إذا كان يستطيع الرؤية بدون نظارة، وبرناباس يشكُّ في ذلك، ذلك أن كلم يكون مطبقًا جفنَيه ويُلوِّح كأنه ينام وكأنه يُنظف النظارة في المنام. وفي هذه الأثناء يبحث الكاتب بين الملفات الكثيرة والرسائل والخطابات التي يحتفظ بها تحت المنضدة خطابًا ﻟ — ك، خطابًا لم يكتبه لتوِّه، بل هو خطاب يدلُّ الظرف الذي يحتويه على أنه قديم جدًّا ظلَّ هناك زمنًا طويلًا. فإذا كان هذا الخطاب خطابًا قديمًا فلماذا تركوا برناباس ينتظر فيطول انتظاره؟ ولماذا تركوك أنت أيضًا تَنتظِر فيطول بك الانتظار؟ ثم لماذا تركوا الخطاب ينتظر حتى أصبح خطابًا قديمًا؟ وهم يُسيئون إلى سُمعة برناباس فيظهر بمظهر الساعي الرديء البطيء. إن الكاتب يُسهِّل الأمر على نفسه فيدفع بالخطاب إلى برناباس قائلًا «من كلم إلى ك» وبهذا يكون على برناباس أن يَنصرِف. ويأتي برناباس إلى البيت لاهثًا يحمل الخطاب الذي حصل عليه أخيرًا، يحمله تحت قميصه على جسمه، ونجلس هنا على الأريكة كما نجلس الآن، فيحكي الحكاية، ونبحث نحن الأمور تفصيليًّا، ونُقدر النتيجة التي وصل إليها، ونتبين في النهاية أنها قليلة جدًّا، وأنها مع قلتها مشكوك فيها، فيضع برناباس الخطاب بعيدًا، فلا هو يجد رغبة في توصيله، ولا هو يُحسُّ رغبة في النوم، ويفكر في الاشتغال بصناعة الأحذية، ويظل طوال الليل جالسًا على هذا الكرسي الصغير هناك لا يغمض له جفنٌ. هذا هو الأمر، وهذه هي يا ك أسراري، ولعلك لا تدهش الآن لإعراض أماليا عنها.

وقال ك: وماذا عن الخطاب؟

فقالت أولجا: آه الخطاب؟ بعد وقتٍ قد يطول إلى أيام وأسابيع، وبعد إلحاح شديد على برناباس يأخذ الخطاب ويذهب ليُسلمه. وهو في هذه الأمور الظاهرية يتبعني ويخضع لي إلى حدٍّ كبير. وأنا أستطيع، بعد أن يتبدَّد الانطباع الأول الذي أحدثتُه في روايته، أن أتمالك نفسي، وهو ما يبدو عليه أنه يستطيع فعله، لأنه يعرف أكثر مما أعرف. فأقول له ما قلته له من قبل مرارًا وتكرارًا مثلًا: «ماذا تريد بالضبط يا برناباس؟ ما هي الوظيفة وما هي الأهداف التي تحلم بها؟ أتُريد أن تنتهي بتصرُّفك إلى حيث تضطرُّ إلى تركنا وتركي نهائيًّا؟ هل هذا هو هدفك؟ ألا ينبغي عليَّ أن أصدق أنه من غير المفهوم أنك تسخط هذا السخط البشع على ما قد وصلت إليه؟ فانظر حوالَيك هل ترى بين جيراننا من وصل إلى ما وصلت أنت إليه؟ حقيقةً إن وضعهم يختلف عن وضعنا، فليس لديهم سبب للطموح إلى أبعد مما تحقَّق لهم، هذا إلى أن المرء — حتى إذا لم يقارن حاله بحال الآخرين — لا بد أن يرى أن كل شيء لديك يسير على خير ما ينبغي. هناك عوائق، وشكوك وألوان من الخيبة، ولكن هذا لا يعني إلا ما كنا نعرفه من قبل، وهو أنك لن تنال شيئًا هدية ومنحة، بل ينبغي عليك أن تنال كل صغيرة بالكفاح والنضال. وهذا سبب آخر لفخارك لا ليأسِك. ثم إنك تُناضل كذلك من أجلنا، أليس كذلك؟ ألا يعني هذا بالنسبة إليك شيئًا؟ ألا يمنحك هذا قوة جديدة؟ أما تحسُّ بالاطمئنان لسعادتي وأكاد أقول كبريائي بأنَّ لي أخًا مثلك؟ إنك تُخيِّب رجائي لا أقول فيما حقَّقتَ بالقصر، بل فيما حقَّقت أنا فيك. إن لك أن تدخل القصر، وإن لك أن تتردَّد على مكاتب المستشارية زائرًا دائمًا، وإن لك أن تقضي الأيام الطوال في نفس الحجرة التي يكون كلم فيها، وأنت ساعٍ مُعترَف بك رسميًّا، وأنت صاحب حق في الحصول على بدلة رسمية، وأنت تأخُذ خطابات هامة لتُوصِّلها إلى أصحابها، أنت كل هذا، ولك أن تفعل كل هذا، ثم إذا بك تنزل إلى هنا، وبدلًا من أن نتعانَق باكين من فرط السعادة، إذا بك عندما تراني تبدو كأنك تفقد كل شجاعة. إنك تشكُّ في كل شيء، ولا يستهويك إلا العمل في صناعة الأحذية، إنك لتترك الخطاب، ضمان مستقبلنا، ولا تهتم به.» هكذا أتكلَّم معه، وأظلُّ ألحُّ عليه وأكرر عليه الكلام نفسه الأيام الطوال حتى يتناول الخطاب زافرًا ويذهب به. ويبدو أنه عندما يفعل ذلك لا يفعله نتيجةً لتأثير كلماتي، وإنما هو يهفو إلى القصر من جديد، وأنَّى له أن يجرؤ على الذهاب إلى هناك إذا لم يُنجِز المهمة.

وقال ك: ولكنكِ على صواب في كل ما تقولين له. لقد لخَّصت كل شيء تلخيصًا صائبًا صوابًا يدعو إلى الدهشة. وإنكِ لتُفكِّرين تفكيرًا واضحًا وضوحًا عجيبًا.

فقالت أولجا: لا، إنك تغتر بكلامي، ولعلِّي أغرُّه هو كذلك به. فما هذا الذي وصل إليه؟ إن له أن يدخل إلى مكتب من مكاتب المستشارية، ولكن هذا المكتب ليس على ما يبدو من مكاتب المستشارية، إنه على الأحرى دهليز مكاتب المستشارية، ولعله ليس حتى دهليزًا بل ربما كان حجرة يُحجز فيها كل الذين لا يسمح لهم بالدخول إلى مكاتب المستشارية الحقيقية. وإنه يتكلَّم مع كلم. ولكن هل هو حقًّا كلم؟ أليس هو على الأحرى رجل يشبه كلم؟ لعله على أكثر تقدير سكرتير يُشبه كلم قليلًا ويجتهد في أن يكون أكثر شبهًا به، فيتصنع الأهمية على طريقة كلم الناعسة الحالمة. وهذه الناحية من شخصيته أسهل ناحية في التقليد، وهناك كثيرون يُحاولون تقليده فيها، وينصرفون بطبيعة الحال عن النواحي الأخرى في شخصيته بدافع الحكمة والفِطنة. وإن رجلًا كثيرًا ما تُحلِّق حوله الآمال ولا تصل إليه فيما ندر، مثل كلم، ليتخذ بسهولة في خيال الناس صورًا مختلفة. ولكلم على سبيل المثال هنا سكرتيرٌ في القرية اسمه موموس. هكذا؟ أنت إذن تعرفه؟ هذا الرجل يعتزل الناس أشد الاعتزال، ولكنَّني رأيته عدة مرات. إنه شابٌّ قوي، أليس كذلك؟ يعني أنه لا يشبه كلم بداهةً بحال من الأحوال. ومع ذلك فيمكنك أن تجد في القرية أناسًا، يُقسمون الأيمان المغلظة على أن موموس هو كلم. وهكذا يعمل الناس أنفسهم على إحداث الاضطراب في أنفسهم. وهل تختلف الحال في القصر عنها هنا؟ لقد قال بعضهم لبرناباس إن ذلك الموظف هناك هو كلم، والحقيقة أن ثمة شبهًا بين الاثنين، ولكنه شبه لا يفتأ برناباس يشكُّ فيه. وكل شيء يدعم شكَّه وارتيابه. فهل من المعقول أن يزجَّ كلم بنفسه في هذه الحُجرة العامة بين الموظفين الآخرين واضعًا القلم خلف صيوان أذنه؟ هذا شيء مُستبعَد أشد الاستبعاد. وكثيرًا ما قال برناباس بطريقة صبيانية — وهذه نزوة لا ريب فيها — إنَّ هذا الموظَّف يُشبه كلم أشد الشبه. ولو كان يجلس في غرفته الخاصة، إلى مكتبه وكان اسمه مكتوبًا على بابه، لما ساورتني الشكوك. هذا كلامٌ صبياني، ولكنه معقول. ولو استعلم برناباس، عندما يكون هناك، لدى الكثيرين عن حقائق الأمور، لكان ذلك أكثر معقولية. وهو يقول إن الحجرة تغص بالناس. وحتى إذا لم تكن معلوماتهم أكثر يقينًا من معلومات ذلك الرجل الذي أشار له، دون ما سؤال منه، إلى كلم، فإنها ستؤدِّي في تنوعها إلى نقاط ارتكاز ومقارنة أيًّا كانت. وليست هذه فكرتي، بل فكرة برناباس، ولكنه لا يجرُؤ على تنفيذها، خوفًا من أن يفقد وظيفته نتيجة لمخالفة غير مقصودة للوائح لا علم له بها؛ فهو لا يجرؤ على الحديث إلى آخرين في هذا الأمر لشدة خوفه. وإن هذا الخوف في الحقيقة لخوف مؤسِف — وإنه ليوضح لي مركزَه توضيحًا دونه كل وصف. ما أشد ما يلوح له كل شيء هناك مريبًا مخيفًا، إذا كان لا يجرؤ حتى على فتح فمه بسؤال بريء. وأنا عندما أفكر في هذا، ألوم نفسي لأنني أدعه يذهب وحده إلى هذه الأماكن المجهولة التي تجري فيها الأمور على هذا النحو، فيضطرُّ — وهو في الحقيقة رجل أقرب إلى التهور منه إلى الجبن — على ما يبدو إلى الارتعاد من الخوف.

فقال ك: إنكِ تَصلين هنا، على ما أعتقد، إلى النقطة الحاسمة. هذه هي الحقيقة. إنني أعتقد أنني أرى الأمور بوضوحٍ بعد كل هذا الذي رويتِه. إنَّ برناباس صغير على هذه المهمة. ولا يُمكن أن يأخذ الإنسانُ شيئًا مما يَحكيه، مأخذ الجد، هذا بكل بساطة. فما دام هو يذوب هناك من فرط الخوف، فإنه لا يستطيع أن يُلاحظ ما يعرض له، فإذا ما أجبره أحد هنا على الحديث، فلن يقوم حديثه إلا على حكايات خرافية مُضطربة. وأنا لا أعجب لذلك. إن الخوف من السلطات شيء غريزي فيكم هنا، وإنه ليُغرس فيكم طوال حياتكم بشتَّى الطرق ومن كافة النواحي، وأنتم تُعينون على ذلك وتُسيرونه ما استطعتم. ومع ذلك فأنا لا أعترض على ذلك في أساسه بشيء، فإذا كانت السلطات طيبة، فلمَ لا يحترمها الإنسان؟ ولكن ما ينبغي أن تبعثوا فجأة بشابٍّ غريرٍ مثل برناباس لم يتجاوز حدود قريته إلى القصر، وتُطالبوه بأن ينقل لكم بصدقٍ ما يعرض له، وتُفسروا كل كلمة من كلماته وكأنها من كلمات الوحي، وتربطوا مصير حياتكم بهذا التفسير. ليس هناك خطأ أشد من هذا. ولقد تركته أنا، يضللني، وعقدت عليه صنوفًا من الأمل، وقاسيت منه ضروبًا من الخيبة، وكان الأمل والخيبة لا يقومان إلا على أساس كلماته؛ أي إنهما لم يكونا يقومان على شيء.

وصمتَت أولجا. وراح ك يقول: لن يكون من السهل عليَّ أن أُخطِّئك في الثقة التي تَثِقينها في أخيكِ، فأنا أرى كيف تُحبِّينه، وأرى ما تنتظرينه منه، ولكني فاعل لأسباب كثيرة من بينها على الأقل، حبك وآمالك، فهناك شيء — ولست أعرف ما هو — يعوقك دائمًا عن أن تتبيَّني تمامًا لا ما قد بلغه بل ما قد ناله منحة. إن له أن يذهب إلى مكاتب المستشارية، أو إذا شئت إلى دهليز، إذن فهو دهليز، ولكن هناك أبوابًا تُؤدي إلى ما بعدها، وحواجز يمكن اجتيازها لمَن قُدِّر له ذلك. فأنا على سبيل المثال لا أستطيع، على الأقل مؤقتًا، أن أطأ هذا الدهليز بحالٍ من الأحوال. وأنا لا أعرف مع مَن يتكلَّم برناباس هناك، ربما كان ذلك الكاتب أحط الخدم، وحتى لو كان أحط الخدم، فهو يستطيع أن يؤدي إلى مَن يستطيع أن يذكر اسمه، وإذا لم يكن يستطيع أن يذكر اسمه، فإنه يستطيع على الأقل أن يُحيل المرء على مَن يستطيع ذِكر اسمه. ومن المُمكِن ألا يكون بين من يقال إنه كلم وبين كلم الحقيقي شيء مُشترك على الإطلاق، وربما كان للشبه وجود إلا أمام اضطراب عيني برناباس العمياوَين، وربما كان هذا الرجل أحط الموظَّفين درجةً، وربما لم يكن موظفًا على الإطلاق، بل كان رجلًا يقوم بمهمَّةٍ ما يقف من أجلها إلى المنصة، فيقرأ شيئًا ما في كتابه الكبير، ويهمس بشيء ويفكر في شيء ما، عندما تقع نظرتُه بعدَ حين على برناباس، وحتى إذا لم يكن هذا صحيحًا، ولم يكن هو ولم يكن أي فعل من أفعاله يعني شيئًا، فربما أوقفه بعضهم هناك لغرض ما. وأنا أعني بهذا كله أن هناك شيئًا ما، شيئًا ما يعرض على برناباس، شيئًا ما على الأقل، أما أن برناباس لا يصل به الشك والخوف واليأس فذنبه هو وحده. وأنا في هذا لا أزال أعتمد على أساس الحالة المضطربة أشد الاضطراب بل المستحيلة أشد الاستحالة. فإننا نمسك بالخطابات بين أيدينا، وأنا لا أثق فيها كثيرًا ولكنني أثق فيها على أية حال أكثر من كلمات برناباس. وقد تكون هذه الخطابات قديمة، عديمة القيمة، أخرجت من بين كومة من خطابات هي كذلك عديمة القيمة، أخرجت بلا اختيار وبلا فهمٍ يزيد على فهمِ العصافير الملوَّنة عندما تستخرج بمنقارها في سوق العيد من بين كومة من الأوراق الورقة التي تحمل بخت هذا أو ذاك من الناس، قد يكون أمر هذه الخطابات على هذا النحو، ولكنها على الأقل تشير إلى عملي إشارةً ما، وهذه الخطابات على ما يبدو لي، وإن لم يكن من المؤكد أنها لصالحي، وهي كما شهد رئيس مجلس القرية وزوجته مُمضاة من كلم بيده، وتحمل، على ما يرى رئيس مجلس القرية أيضًا، أهمية كبيرة وإن كانت أهمية خاصة وقليلة الوضوح.

وسألت أولجا: هل قال رئيس القرية هذا؟

فأجاب ك قائلًا: نعم، هذا هو ما قاله رئيس مجلس القرية.

فقالت أولجا بسرعة: سأحكي ذلك لبرناباس فإنه سيُشجِّعه جدًّا.

فقال ك: إنه ليس بحاجة إلى التشجيع، وإن تشجيعه لا يتم إلا بأن تقولي له أنه على حقٍّ، وأن عليه أن يستمر على طريقته الحالية، على أن يعرف أنه لن يصل بها إلى شيء أبدًا. إنك تستطيعين أن تُشجعي إنسانًا معصوب العينين تشجيعًا شديدًا على النظر من خلال العصابة، فلن يرى شيئًا أبدًا. إنه لن يستطيع الرؤية إلى بعد أن تُنزع عنه العصابة. إن برناباس يحتاج إلى المساعدة لا إلى التشجيع. عليك أن تتصوري الوضع: السلطات ترتفع هناك عالية بضخامتها التي تستعصي على البيان، ولقد كنتُ أظن قبل قدومي إلى هنا أنني أكوِّن عنها صورة تقريبية … وما أشد سذاجة هذا الظن! هناك إذن السلطات، وهذا هو برناباس يواجهها وحده، ليس هناك غيره، يواجهها وحده على نحوٍ يُثير الشفقة، وفي هذا شرف فارط له إذا لم يكن سيمضي حياته كلها متواريًا قابعًا في ركن مُظلم من أركان المكاتب.

فقالت أولجا: لا تظن يا ك أننا نُقلِّل من شأن ثقل المهمة التي تولاها برناباس، إننا لا نتجرَّد من احترام السلطات، ولقد قلت هذا أنت بنفسك.

فقال ك: إنه احترام في المكان الخاطئ. إنَّ هذا الاحترام يُجرِّد المقصود منه من الكرامة. فهل هذا الاحترام، إذا كان برناباس يسيء استخدام منحة الدخول إلى ذلك المكان ليقضي هناك الأيام دون أن يفعل شيئًا، أو كان ينزل إلى هنا ويشك في أولئك الذين كان يرتعد حيالهم أو ينتقص منهم، أو كان لأسباب من الشك أو التعب يهمل توزيع الخطابات أو لا يُعجِّل بنقل الرسائل التي حمل بها؟ ليس هذا احترامًا. على أن اللوم لا يَقتصِر عليه، إنه يَشملُك أنت كذلك يا أولجا، ولا يُمكنني أن أعفيك منه. فأنت على الرغم من أنك تظنين أنك تكنين الاحترام للسلطات، ترسلين برناباس بشبابه وإهماله وضعفه إلى القصر، أو أنتِ على الأقل لم تردِّيه عنه.

فقالت أولجا: إنني كذلك أوجه منذ وقت طويل إلى نفسي اللومَ الذي تُوجهه أنت إليَّ. ولكن لا ألوم نفسي على أني أرسلته إلى القصر؛ فأنا لم أرسله فقد ذهب هو ذاته من تلقاء نفسه إلى هناك، ولقد كان ينبغي عليَّ أن أحُول بينه وبين ذلك بكل الوسائل؛ بالقوة، بالمكر، بالإقناع. كان ينبغي عليَّ أن أمنعه. وحتى إذا كنت لأتخذ اليوم في هذا الأمر قرارًا، وأحسستُ محنة برناباس ومحنة أسرتنا كما أحسست بها في ذلك الوقت، إذا كنت اليوم لأتخذ هذا القرار، وقد وعى برناباس المسئولية كلها والخطر كله، وأصبح ينصرف عني مبتسمًا رقيقًا ليذهب إلى هناك، فلن أقرِّر منعه على الرغم من خبرات هذه الفترة الماضية كلها، وأظنُّ أنك لو كنت مكاني لما تصرفت على نحو يختلف عن تصرُّفي. إنك لا تعرف محنتنا، ولذلك فأنت تظلمنا، وتظلم بخاصة برناباس. لقد كنا فيما مضى أكثر أملًا منا الآن، ولكن أملنا لم يكن في ذلك الوقت كبيرًا، كانت محنتنا كبيرة وظلَّت كبيرة. ألم تقصَّ عليك فريدا شيئًا من أخبارنا؟

– تلميحات. لم تَقُل لي شيئًا محددًا. ولكن اسمكم يكفي وحده لإثارتها.

وقالت أولجا: وصاحبة الحان كذلك لم تقص شيئًا؟

– لا، لم تقل شيئًا.

– ولم يقصَّ عليك أحد غيرهما شيئًا؟

– لا، لا أحد.

فقالت أولجا: طبعًا، وكيف يُمكن أن يَحكي أحدهم شيئًا؟ إن كل واحد يعرف عنا شيئًا، وهو إمَّا يعرف الحقيقة على قدر بلوغ الناس إيَّاها، وإما على الأقل شائعة مُتناقَلة أو مُخترعة في غالب الأحوال، وكلهم يُفكرون فينا أكثر مما ينبغي، ولكنا لا نَحكي هذه الأشياء لأحد. فالجميع يخافون من بلُوغها ألسنتَهم. وهم في هذا على حق. وهي أشياء من الصعب التعبير عنها، حتى حيالك يا ك، وأليس من المُحتمَل أن تَنصرِف أنت بعد سماعها وتُعرض عنا على الرغم من أنها على ما يبدو لا تُمسك إلا قليلًا؟ وهكذا نكون قد فقدناك، أنت الذي — ودَعْني أعترف لك بهذا — تكاد تعني الآن بالنسبة إليَّ أكثر ممَّا كانت تعنيه بالنسبة إليَّ خدمة القصر. ومع ذلك — وهذا التناقُض يُؤرقني المساء بطوله — ينبغي أن تعرف هذه الأشياء، لأنك إن لم تَعرِفها، لن تُبصر بوضعنا، وستظلُّ ظالمًا لبرناباس وهو سيحزُّ في نفسي خاصةً، وسنظلُّ نَفتقِر إلى الاتفاق التام، ولن تستطيع أنت مُساعدتنا، ولن تستطيع تقبُّل مساعدتنا التي تفوق المألوف. ولكنَّ هناك سؤالًا أحب أن أطرحه عليك: هل تريد أن تعرف؟

فسأل ك: لماذا تُوجِّهين إليَّ هذا السؤال؟ إذا كانت هذه الأشياء ضرورية فأنا أريد أن أعرفها. ولكن لماذا تسألين على هذا النحو؟

فقالت أولجا: من تأثير الخزعبلات. إنك تَنحرِف إلى أمورنا بريئًا، ولست أكثر إثمًا من برناباس.

فقال ك: احكِ بسُرعة، أنا لستُ خائفًا. إنك بخَوفِكَ النسائي تجعلين الأمر أكثر سوءًا ممَّا هو.

سرُّ أماليا

وقالت أولجا: احكُمي أنتِ بنفسِك. والموضوع يبدو في غاية البساطة … والإنسان لا يفهم لأول وهلة كيف يُمكن أن تكون له أهمية كبيرة. هناك موظَّف كبير في القصر اسمه سورتيني.

فقال ك: لقد سمعت به، ولقد لعب دورًا في استدعائي إلى هنا.

فقالت أولجا: لا أعتقد. فإنَّ سورتيني لا يكاد يظهر للرأي العام. ألا تخلط بينه وبين سورديني، بالدال لا بالتاء؟

فقال ك: أصبت. لقد قصدت سورديني.

فقالت أولجا: نعم، سورديني مشهور جدًّا، إنه واحد من أنشط الموظَّفين، وهم يحكُون عنه الكثير. أما سورتيني فهو على العكس رجل شديد الاعتزال والكثيرون لا يعرفونه. ولقد رأيته للمرة الأولى والأخيرة قبل ثلاثة أعوام. كان ذلك في الثالث من يوليو عند الاحتفال الذي أقامه اتحاد رجال المطافئ، وكان القصر مُشتركًا في الاحتفال وقدَّم مضخَّة حريق جديدة هدية بهذه المناسبة. واشترك سورتيني في تقديم المضخَّة، ويقال إنه يَشتغِل فيما يشتغل بموضوعات إطفاء الحريق (وربما حضر سورتيني الاحتفال نائبًا عن موظَّف آخر — فالموظَّفون كثيرًا ما ينوب أحدهم عن الآخر، ولهذا كان من الصعب على الإنسان أن يعرف اختصاص هذا أو ذاك الموظَّف). وكان يحضر الاحتفال بطبيعة الحال آخَرون، موظَّفون وخدم، وكان سورتيني يتَّخذ مكانه في أقصى الخلف طبقًا لخلقه وطباعه. وهو رجلُ قصير ضعيف غارق في التفكير، ولقد لفت نظر جميع مَن لمَحُوه شكل ثنيات جبهتِه فكل هذه الثنيات، وهي كيرة على الرغم من أنه لم يتجاوَز الأربعين، تتَّجه في خطوط مستقيمة على شكل المروحة من جبينه إلى عظمة أنفه، إنني لم أرَ شيئًا من هذا القبيل قط. كان هذا إذن هو الاحتفال. وكنا، أماليا وأنا، نَنتظِر الاحتفال بشوق قبل أن يقام بأسابيع، وهيأنا ملابس الخروج وجدَّدنا فيها، وكان ثوب أماليا خاصةً جميلًا، كانت البلوزة البيضاء الفضفاضة مرفوعة من الأمام إلى أعلى … وكانت تتحلَّى بشريط من الدانتيللا استعارته أمي لهذا الغرض، ولقد استبدَّ بي الحسد حتى إنَّني قضيت نصف الليلة السابقة على الاحتفال أبكي. فلمَّا جاءت صاحبة حان الجسر صباحًا لتشاهدنا.

وسأل ك: صاحبة خان الجسر؟

فقالت أولجا: نعم، وكانت تَرتبط بنا برباط صداقة قوية. جاءت، واعترفت بأنَّ أماليا حظيَت بأكثر مني، وأقرضَتني عِقدَها المصنوع من العقيق البوهيمي لتُهدِّئني. فلمَّما اكتمَلَ استعدادنا وتهيَّأنا للخروج، وكانت أماليا تقف أمامي والجميع يُعبِّرون عن إعجابهم بحُسنها، وقال والدنا «اذكروا كلمتي هذه، ستنال أماليا اليوم خطيبًا»، انتزعت — ولا أعرف لماذا — العقد الذي كنتُ فخورةً به من جيدي وألبسته أماليا، ولم أَعُد أَحسُدها. لقد انحنَيت أمام انتصارها، واعتقدت أن على الجميع أن ينحنُوا أمامها، وربما فوجئنا في ذلك الوقت بأنها بدَت على هيئة غير التي عهدناها، فهي في الحقيقة لم تكن جميلة، ولكن نظرتها الكئيبة التي احتفظت بها على هذا النحو منذ ذلك الوقت، تجاوَزَتنا عاليًا … فإذا بنا ننحني أمامها بمعنى الكلمة تقريبًا وعلى غير إرادة منا. ولقد لاحظ الجميع ذلك، لاحظه لازيمان وزوجته اللذان أتيا ليأخُذانا معهما.

وسأل ك: تقولين لازيمان؟

وقالت أولجا: نعم، لازيمان. لقد كنَّا في ذلك الوقت في مركز مرموق، وما كان يمكن على سبيل المثال أن يبدأ الحفل بدوننا؛ لأنَّ والدنا كان الرئيس الثالث للتدريب في المطافئ.

وسأل ك: هل كان الوالد في ذلك الوقت قويًّا إلى هذا الحد؟

وهنا تساءلت أولجا وكأنها لم تفهم تمامًا ما قاله ك: والدي؟

ثم راحت تقول: لقد كان قبل ثلاثة أعوام لا يزال شابًّا تقريبًا، يدلُّ على ذلك مثلًا أنه عندما حدَث حريق في حانة السادة حمل أحد الموظَّفين، وهو جالاتر البدين، على ظهره وجرى به إلى الخارج. ولقد كنتُ أنا حاضرة عندما حدث ذلك، والحقيقة أنه لم يكن هناك خطر حريق بمعنى الكلمة، كل ما حدث أن الحطب الجاف المجاور للمِدفأة بدأ يُثير الدخان، ولكن جالاتر خاف وصاح من النافذة طالبًا النجدة، وأتَت فرقة المطافئ وكان على أبي أن يحمله إلى الخارج على الرغم من أن النار كانت قد أُطفئت تمامًا. ذلك أن جالاتر رجل ثقيل الحركة وعليه أن يلزم الحيطة في مثل هذه الأمور، وأنا لا أحكي هذا إلا من أجل أبي، ولم يمرَّ منذ ذلك الوقت أكثر من ثلاث سنوات، فانتظر إليه كيف يقعد هناك.

وعند ذاك لاحظ ك أنَّ أماليا قد عادَت إلى الحجرة، ولكنها كانت عند منضدة الوالدين بعيدة عنهما، وكانت تطعم بيدِها الأم التي لم تكن تستطيع تحريك ذراعيها المُصابَين بالروماتزم، وكانت في الوقت نفسه تُكلم الأب فتحضُّه على أن يصبر قليلًا إلى أن تأتي إليه فتُطعمه هو أيضًا بيدها. ولكنها لم تُصبْ مع الأب نجاحًا لأنه وقد دفعه نهمُه إلى الوصول إلى الحساء تغلب على ضعفه الجسماني. وحاول أن يمتصَّ الحساء من الملعقة ثم حاول بعد ذلك أن يشربها من الصحن، ثم أخذ يُزمجر غاضبًا لأنه فشل في هذا وذاك، كانت الملعقة لا تصل إلى فمه إلا بعد أن تكون قد فرغت تمامًا، ولم يكن يبلغ بفمه الصحن، بل كان يغمس شاربه المتدلي في الحساء الذي كان يتساقط ويتناثر في كل اتجاه إلا في اتجاه الفم. وعاد ك يسأل، ولم يكن يحسُّ حيال العجوزين وحيال ركن منضدة العائلة كله بالشفقة، بل بالنفور والنفور فقط: أعوام ثلاثة فقط أحالته إلى هذه الهيئة؟

فقالت أولجا ببطء: ثلاثة أعوام، وإذا أردنا الدقة ساعات قلائل من حفل، كان الحفل مقامًا على مجرى خارج القرية يطلُّ على جدول، وكان الزحام شديدًا عندما وصلنا، وكان هناك شعب كثير أتى من القرى المُجاوِرة، وكان الصخب عنيفًا اضطربت من أثره أنفاسنا أشد الاضطراب. واقتادنا الوالد في البداية بطبيعة الحال إلى مضخَّة الحريق، وما إن رآها حتى أخذ يضحَك من شدة الفرح، كانت المضخَّة الجديدة تُسعده، وشرع يتحسَّسها ويشرح لنا، ولم يكن يحتمل اعتراضًا أو يرضى بتحفُّظٍ. وكان يلزمنا بأن ننحني تحت المضخة بل وبأن نزحف تحتها تقريبًا لنرى الأجزاء السُّفلية منها، فلمَّا تقاعس برناباس عن ذلك، انهال الوالد عليه ضربًا. أمَّا أماليا فلم تهتمَّ بالمضخة، وظلَّت واقفة مُعتدِلة القامة في ثوبها الجميل، ولم يجرؤ أحد على أن يقول لها شيئًا، أما أنا فجريتُ إليها عدة مرات ولمستها من تحت ذراعها ولكنها ظلَّت صامتة. ولا أزال إلى اليوم أجهل كيف وقفنا أمام المضخة هذه المدة الطويلة، ولم نتبيَّن، إلا عندما انصرف الوالد عنها، أن سورتيني كان هناك، ويبدو أنه كان يقف طوال الوقت وراء المضخة مستندًا إلى رافعة من روافعها، والحقيقة أن الصخب كان فظيعًا وكان أكثر من المألوف في مثل هذه الاحتفالات؛ ذلك أن القصر أهدى إلى فرقة المطافئ بعض الأبواق، وكانت آلات خاصَّة يستطيع الإنسان بأقل جهد أن يخرج منها أعنف الأنغام — حتى الأطفال كانوا يستطيعون ذلك بسهولة. وكنَّا عندما نسمعها نظن أن الأتراك بجيوشهم قد أتوا بالدمار، ولم نكن نستطيع الاعتياد عليها، بل كنَّا كلَّما نفخ فيها بعضهم ننتفض فزعًا. وكانت الأبواق جديدة، ولهذا كان كل واحد يريد أن يجربها، وكان الحفل حفلًا شعبيًّا، ولهذا سمحوا للجميع بذلك. وكان حولنا بعض نافخي الأبواق — وربما اجتذبتهم أماليا بفِتنتِها — وهكذا كان من العسير على الإنسان أن يجمع شتات نفسه، ثم كان أمر الوالد لنا بالانتباه إلى المضخة، وكان هذا أقصى ما يستطيعه الجهد. وكانت النتيجة أننا ظلَلنا وقتًا طويلًا طولًا يفوق المألوف لا نتنبَّه إلى سورتيني الذي لم نكن قد رأيناه من قبل. وأخيرًا همس لازيمان إلى أبي، وكنتُ واقفةً قريبة منه: «سورتيني هناك!» وانحنى أبي انحناءةً شديدة. وأشار إلينا مُنفعلًا أن ننحني نحن كذلك. وكان أبي قبل أن يرى سورتيني يُبجِّله كخبير في شئون الإطفاء ويتحدَّث عنه في البيت كثيرًا، ولهذا كانت رؤية سورتيني في الواقع شيئًا مفاجئًا وعظيم الأهمية في الوقت نفسه. أما سورتيني فلم يهتمَّ بنا — ولم يكن هذا تصرفًا ينفرد به سورتيني، فقد درج غالبية الموظَّفين على عدم الاكتراث بالناس عندما يظهرون في حفل عام — ثم إنه كان متعبًا، ولم يكن يُبقيه في الحفل إلا واجبٌ يفرضه عليه عمله. وليس أسوأ الموظَّفين هم وحدهم الذين يتأفَّفون من مثل هذه الواجبات التمثيلية، واختلط موظفون آخرون وخدم بين الشعب لا لشيء إلا لأنهم كانوا حاضرين. أما هو فقد بقيَ عند المضخة، وكان ينفر بصمته كلَّ مَن حاول أن يقترب منه بالتماس أو تملق وهكذا فإنه لم يلحظنا إلا بعد أن كنَّا قد لاحظنا وجوده بوقت طويل. فلمَّا فرغنا من انحناءتنا المليئة بالاحترام وحاول أبي أن يعتذر عنَّا، نظر إلينا، نظر إلينا الواحد تلو الآخر، وبدا عليه كأنه يَنفُث الزفرات استياءً من أنَّ كل واحد منَّا يتبعه آخر، حتى توقَّف عند أماليا التي اضطرَّ أن يرفع بصره إليها لأنها كانت أطول منه بكثير، وإذا به يَنبهِر ويقفز فوق مجر عربة المضخة ليقترب من أماليا. ولقد أخطأنا نحن فهْمَ مسلكه في بداية الأمر وهمَمنا بالاقتراب منه تحت قيادة الوالد، ولكنه ردَّنا رافعًا يده وأشار إلينا أن نَنصرِف. كان هذا هو كل ما حدث. وأخذنا نُداعب أماليا كثيرًا قائلين لها إنها قد وجدت الخطيب بالفعل، وظلَلنا طوال الوقت في عصر الوقت ذلك اليوم فَرِحين لجهلنا أشد الفرح. ولكن أماليا كانت أكثر صمتًا مما عهدناها. وقال برونسفيك: «لقد وقعت في غرام سورتيني وملك عليها نفسها وحسها.» وكان برونسفيك غليظًا قليل الفهم للشخصيات من نوع أماليا. ولكن ملاحظته هذه لاحت لنا في تلك المرة وكأنها تُوشك أن تكون صائبة. وكنا في ذلك اليوم في نشوة فقد شربنا جميعًا، إلا أماليا، من نبيذ القصر الأحمر الحلو حتى أوشكنا أن نفقد الوعي عندما وصلنا إلى البيت في منتصَف الليل.

وسأل ك: وماذا عن سورتيني؟

فقالت أولجا: آه، سورتيني! لقد رأيت سورتيني في الاحتفال أثناء مروري مرارًا، كان يقعد على مجرِّ عربة المضخة عاقدًا ذراعيه على صدره، وظل هكذا حتى أتت عربة القصر لتأخذه. ولم يذهب حتى إلى تدريبات فرقة المطافئ التي كان أبي متفوقًا فيها على كل الرجال من سنِّه على أمل أن يراه سورتيني.

وسأل ك: وألم تسمعوا منه شيئًا بعد ذلك؟ ويبدو لي أنك تُكنِّين لسورتيني احترامًا عظيمًا …

فقالت أولجا: نعم، احترامًا … نعم … لقد سمعنا منه شيئًا! ففي الصباح التالي أيقظتنا من نومنا المخمور صيحة من أماليا، أما الآخرون فقد خرُّوا من فرط النعاس إلى سُرُرِهم على الفور، وأما أنا فقد كنت في تمام اليقظة فجريت إلى أماليا. كانت تقف عند الشباك وتُمسك بخطاب في يدها، كان أحد الرجال قد دفع به إليها منذ وقت قليل من خلال النافذة، وكان الرجل لا يزال يقف منتظرًا الرد. كانت أماليا قد قرأت الخطاب — وكان الخطاب قصيرًا — وكانت تُمسك به بيدها التي تدلت خائرة. كم كنت أحبها خاصةً عندما تكون خائرة على هذا النحو! وركعت بجوارها وقرأت الخطاب راكعةً. وما كدتُ أفرغ حتى جذَبَته أماليا إليها بعد أن ألقت عليَّ نظرة سريعة، ولم ترضَ بالعودة إلى قراءته، بل مزقته وألقَت به مُمزقًا في وجه الرجل المنتظِر وأغلقت النافذة. كان هذا هو الصباح الحاسم. وأنا أصفه بأنه حاسم، ولكن كل لحظة من لحظات عصر اليوم السابق كانت حاسمةً بالقدْر نفسه.

وسأل ك: وماذا كان بالخطاب؟

فقالت أولجا: آه، لم أقصَّ عليك ذلك بعدُ. كان الخطاب من سورتيني وكان موجهًا إلى البنت ذات العقد العقيقي. أما المضمون فلا أستطيع أن أرويَه بالضبط. ولكنه كان يحتوي على أمر من سورتيني إليها بالحضور إليه في حانة السادة، والحضور على الفور لأنه كان ينوي الانصراف بعد نصف ساعة. وكان الخطاب مكتوبًا بأكثر العبارات سفالة، عبارات لم أسمع بها من قبلُ، وإنما خمنت معناها من السياق فلم أفهَم إلا نصفه. ولو أن إنسانًا لا يعرف أماليا وقرأ الخطاب لأيقن من أن هذه البنت التي يجرُؤ بعضهم ويكتب إليها على هذا النحو بنت فاجرة، هي التي لم تكن لها علاقة بأحد من قبلُ. ولم يكن الخطاب خطابًا غراميًّا، ولم يكن فيه لفظُ تدليلٍ أو مُداعَبة، والظاهر أن سورتيني كان غاضبًا لأن منظر أماليا استبدَّ به وعطَّله عن أعماله. ولقد ذهبنا نحن فيما بعد في تفسير ذلك إلى أن سورتيني كان ينوي على ما يبدو أن يُسافر في الليلة نفسها عائدًا إلى القصر، وأنه إنما بقي في القرية بسبب أماليا، فلمَّا جاء الصباح وكان شديد الغيظ لأنه لم يتمكَّن حتى بالليل من نسيان أماليا، كتب إليها هذا الخطاب. إن الإنسان ليحسُّ حيال الخطاب أول ما يحسُّ بالغيظ حتى لو كان أشد الناس بلادةً، ولو تلقَّت الخطاب واحدة أخرى غير أماليا فربما غلب عليها الخوف من لهجته الغاضبة المهدِّدة، أما أماليا فكان الغيظ هو الذي تملَّكها، فهي لا تعرف الخوف لا لنفسها ولا للآخرين. وبينما عدت أنا هامدة إلى السرير وأنا أعيد في ذهني جزءًا من الجمل الختامية: «فعليك إذن أن تأتي في الحال وإلا …» بقيَت أماليا على جلسة النافذة تنظر إلى الخارج وكأنها تَنتظِر رسلًا آخرين، وكأنها مستعدة لكي تعاملهم على النحو نفسه.

وقال ك مترددًا: هؤلاء هم إذن الموظَّفون … هكذا يجد الإنسان بينهم مثل هذه النماذج … فماذا فعل أبوكِ؟ أرجو أن يكون قد توجه بالشكاية الشديدة من سورتيني إلى السلطة المختصة، إلا إذا كان قد فضَّل سلوك الطريق الأقصر والأضمن وذهب إلى حان السادة. إن أشدَّ ما في الحكاية قُبحًا ليس إهانة أماليا؛ لأن تصحيحها مُمكن، وسهل، وأنا لا أعرف لماذا تنسبين إليها أهمية كبيرة مفرطة في الكبر، لماذا تذهَبين إلى أن سورتيني قد جرح أماليا بمثل هذا الخطاب إلى الأبد، إنني أكاد أفهم هذا من حكايتك، ولكن هذا الأمر هو بالذات الأمر غير المُمكن، كان من الممكن ومن السهل أن يرضيها فتنسى الحادثة بعد أيام قليلة. والحقيقة أن سورتيني لم يفضح أماليا بل فضح نفسه، ولذلك فأنا أرتعد لسورتيني، وأرتعد أمام إمكانية أن يكون هناك إساءة استخدام للسُّلطة يصلُ إلى هذا الحد … إنما فشل في هذه الحالة؛ لأنه قيل مكشوفًا واضحًا لا مراء فيه، ولأنه وجد في أماليا عدوًّا ممتازًا، يُمكن أن ينجح تمامًا في آلاف الحالات الأخرى وأن يُضلل الأعين حتى أعين الضحية ذاتها.

وقالت أولجا: اسكت … إنَّ أماليا تنظر إلى هنا.

كانت أماليا قد فرغت من إطعام الوالدَين، وبدأت تخلع عن الأم ملابسها، فحلَّت أربطة الجلباب، ووضعَت ذراعَي الأم حول رقبتها، ثم رفعت الأم قليلًا وسحبَت الجلباب برقَّة من تحتِها ثم أقعدتها حيث كانت. أما الأب، الذي كان دائمًا غير راضٍ عن اهتمام أماليا بالأمِّ قبله. ويبدو أنَّ السبب في ذلك أن الأم كانت أكثر حاجة إلى العون منه — فقد حاول ربما عقابًا لابنتِه على ما تصوَّر أنه بطء، أن يخلع هو ملابسه بنفسه … ولكنه لم يُوفَّق في ذلك على الإطلاق، على الرغم من أنه بدأ بالشيء الهين التافه وهو الشبشب الواسع الذي كانت قدماه عائمتَين فيه ولم يستطع أن يسحبهما منه، واضطرَّ وهو يُحشرج حشرجة مبحوحة أن يصرف النظر عن ذلك وأن يعود فيستند إلى ظهر كرسيِّه بجسمه المتخشب.

وقالت أولجا: إنك لا تتبيَّن الشيء الحاسم في الموضوع. وربما كنت على حق في كل ما ذهبت إليه، ولكن الشيء الحاسم في الموضوع هو أن أماليا لم تذهب إلى حانة السادة. أما معاملتها للساعي فقد كان من المُمكن التغاضي عنها والتصرف فيها وتضييع معالمها، وأما عدم ذهابها إلى هناك فقد أدَّى إلى وقوع اللعنة على أسرتنا، وأصبحت معاملتها للساعي بالتالي أمرًا لا يُغتفر، بل إنهم أبرزوه للناس وأحلُّوه محل الصدارة.

وصاح ك: كيف هذا؟

ثم كتم صياحه على الفور عندما رفعت أولجا يدَيها مُتوسلةً … ثم أردف: لا يُمكن أن تذهبي أنت، الأخت، إلى أن أماليا كان ينبغي عليها أن تطيع سورتيني وأن تُهرع إلى حان السادة!

فقالت أولجا: لا، عسى ألا يحوم حولي مثل هذا الاشتباه … كيف يمكنك أن تظن هذا الظن؟ إنني لا أعرف إنسانًا يلزم الحق في تصرفاته كما تلزمه أماليا في كل ما تعمل. لو كانت قد ذهبت إلى حان السادة لكان رأيي أنها على حق في الذهاب، ولقد كان من البطولة أنها أبت الذهاب … أما أنا، فأعترف لك بصراحة، لو أنني تلقيت مثل هذا الخطاب لذهبت … ولما استطعت احتمال الخوف من المستقبل. أماليا وحدها هي التي استطاعت احتماله. ولقد كانت هناك عدة مخارج يُمكن التحايل عن طريقها كان يُمكن على سبيل المثال أن تتزيَّن فتاة أخرى وتتجمَّل — وكانت فترة قد مضَت — وتذهب إلى حان السادة لتتبيَّن أن سورتيني قد انصرف، ولعله قد انصرف بعد إرسال الساعي مُباشرة، وهذا شيء مُحتمل جدًّا لأن نزوات السادة نزوات طيَّارة. ولكنها لم تتصرَّف على هذا النحو، ولم تفعل شيئًا من قبيله؛ فقد كانت تحسُّ بالإهانة في أعماقها، فأجابت دون ما تحفُّظٍ. ولو أنها تظاهَرَت بالطاعة، وتجاوزت عتبة حان السادة لحظة، لكان من المُمكن درء المحنة، فلدَينا هنا مُحامون بارعون يعرفون كيف يَخلقُون من العدم كل ما يُريده الإنسان، ولكننا لم نكن في هذه الحالة نحتكم حتى على هذا العدم المفيد. بل على العكس كان هناك امتهانُ خطاب سورتيني وإهانة الساعي.

فقال ك: وما حديثك عن المحنة، وفيمَ كلامك عن المُحامين؟ فما يُمكن أن تتَّهم أماليا أو تُعاقب على تصرُّف سورتيني الإجرامي؟

فقالت أولجا: بلى. هذا مُمكن. ولم يجرِ هذا بطبيعة الحال طبقًا لقواعد التقاضي، بل إنهم لم يُعاقبوها مباشرةً، بل عاقبوها بطريقة أخرى، عاقَبُوها وعاقَبُوا أسرتنا كلها، ولعلك تبدأ الآن في تبيان عنف هذا العقاب … إن هذا يبدو لك ظلمًا وبشاعةً، ولكن رأيك هذا رأي فردي لا يُشاركك فيه أحد في القرية، وهو رأي يميل إلينا كل الميل، ويرجو أن يُواسينا ولعلَّه كان يصل إلى هذه النتيجة لو لم يكن مبنيًّا على أخطاء واضحة جلية. وفي إمكاني أن أبرهن لك على هذا بسهولة، واعذُرني إذا أنا تكلمت في أثناء ذلك عن فريدا، ولكن فريدا وكلم، بغضِّ النظر عن الصورة التي اتخذها أمرهما في النهاية. جرى بينهما شيء يشبه ذلك الذي جرى بين أماليا وسورتيني، ولعلَّك تَفزع في البداية، ولكنك لن تلبث أن ترى أن ما أقوله لك هو الصواب. وليس الأمر أمر تعوُّدٍ، فإنَّ الإنسان لا يُمكن أن يتبلَّد إلى هذا الحد نتيجةً للتعود إذا كان الموضوع هو الحكم البسيط، إنما الأمر أمر نبذ الأخطاء.

فقال ك: لا يا أولجا. وأنا لا أعرف لماذا تزجِّين بفريدا في الحكاية، فهذه حالة مُختلفة كل الاختلاف، فلا تَخلِطي هكذا أشياء لا صلة بينها أساسًا واستمري في قصتك.

فقالت أولجا: أرجوك. لا تغضب مني إذا أنا أصررتُ على المقارنة، وهناك بقية من الأخطاء حتى فيما يتعلَّق بفريدا، إذا كنت لا تزال تعتقد أن عليك أن تُدافع عنها في هذه المقارنة. إنك لست بحاجة إلى الدفاع عنها، بل ينبغي أن تمدحَها. وأنا إذا كنت أقارن الحالتَين فلستُ أقصد إلى القول إنهما مُتساويتان، إنهما كالأبيض والأسود، والأبيض هنا فريدا. وأسوأ ما يُمكن أن يحدث، هو أن يضحك الإنسان من فريدا، كما أسأت أنا أدبي — ثم ندمت بعد ذلك أشد الندم — وضحكتُ منها في الحانة، هذا إلى أن الضاحك هنا يضحك على شرٍّ أو حسد، ولكنه يضحك على أية حال، أما أماليا فلا يمكن للإنسان أن يحتقرها، إلا إذا كان يرتبط بها برباط القرابة. ولهذا فإن الحالتَينِ مُختلفتانِ أساسًا كما تقول وإن كانتا متشابهتَين.

فقال ك وهو يهز رأسه كارهًا: ليستا متشابهتين. دَعي فريدا جانبًا. إن فريدا لم تتلقَّ خطابًا نظيفًا مثل ذلك الذي تلقَّته أماليا، وفريدا أحبَّت كلم فعلًا، وعلى من يشكُّ في هذا أن يسألها؛ فهي ما زالت إلى اليوم تحبُّه.

وسألت أولجا: وهل هذه اختلافات كبيرة؟ ألا تعتقِد أن كلم كان يُمكنه أن يكتب إلى فريدا خطابًا مُماثلًا؟ إنَّ السادة إذا تركوا مكاتبهم كانوا على هذا النحو فإذا هم لا يَعرفون كيف يُحسنون التصرُّف في الدنيا، وإذا هم يقولون أبشع الكلام، لا أقول كلهم، بل أقول كثير منهم. ومن المُمكن أن يكون الخطاب الذي تلقَّته أماليا خاطرًا خرج إلى الورق دون وعي كامل بما ارتسم على السطور من كلمات. وماذا نعرف عن خواطر السادة وأفكارهم؟ ألم تسمع بنفسك، أو ألم تسمع بعضهم يحكي على اللهجة التي كان كلم يصطنعها مع فريدا؟ والمعروف عن كلم أنه وقحٌ جدًّا، ويُقال إنه يظلُّ الساعات صامتًا لا يتكلَّم، ثمَّ إذا به يَنطِق فجأةً بوقاحة يَرتعد لها الإنسان. أما سورتيني فلم يُعرف عنه هذا، هذا إلى أنه غير معروف بصفة عامة. والحقيقة أن الناس لا يعلمون عنه إلا أن اسمه يُشبه اسم سورديني. ولو لم يكن هناك هذا الشبه بين الاسمَين لما عرفه على ما يبدو أحد. وهو مِن حيث هو خبير في شئون المطافئ يَختلط على ما يبدو في تصور الناس بسورديني والذي هو الخبير الحقيقي في شئون المطافئ والذي يلقي بالأعباء التمثيلية على سورتيني مُستغلًّا التشابه في الاسم، حتى يعكف على عمله دون انقطاع. فإذا ما تملَّك رجل لا خبرة له بالدنيا حب فتاة من القرية فجأة، فإن هذا الحب يتَّخذ بطبيعة الحال أشكالًا أخرى غير تلك التي يتَّخذها إذا تملك جارنا مساعد النجار. وينبغي أن يأخذ الإنسان في اعتباره أن هناك بين الموظف وابنة صانع الأحذية فارقًا كبيرًا ينبغي تجاوزه، ولقد حاول سورتيني تجاوزه على هذا النحو، ولعلَّ إنسانًا غيره يُحاول تجاوُزَه على نحو آخر. حقيقةً إنهم يقولون إننا جميعًا نتبع القصر وأنه لا فارق بيننا وأنه ليس بيننا ما ينبغي التغلُّب عليه، وربما كان هذا صحيحًا بصفة عامة، ولكنَّنا للأسف أوتينا فرصة لنرى أنه، عندما تدعو الحاجة إليه، ليس صحيحًا. ومهما يكن من أمر فإن تصرُّف سورتيني سيبدو لك بعد هذا كله أكثر معقولية وأقل بشاعة، وهو في الحقيقة إذا قورن بمَسلكِ كلم أكثر معقولية، ويُمكن للإنسان، حتى إذا كان مشاركًا في الموضوع عن قرب، أن يتحمَّله على نحو أيسَر بكثير. إن كلم إذا كتب خطابًا رقيقًا فإنه يكون أنكى من أوقح خطاب يكتبه سورتيني. وأرجو أن تفهمني كما ينبغي، إنني لا أجرُؤ على الحكم على كلم، إنني أقارن فحسب لأنك تأبى المُقارنة. إن كلم مثل القائد الذي يتأمَّر على النساء، فهو يأمُر هذه، ثم تلك أن تأتي إليه، وهو لا يحتمل طويلة القامة وما إلى ذلك، وهو يأمر بالانصراف كما يأمر بالحضور. آه، إن كلم لا يكلف نفسه مشقة كتابة الخطابات. وهل لا يزال يبدو من المقارنة أن سورتيني كان يفعل شيئًا هائلًا عندما جلس وهو الرجل الذي يعيش حياة العزلة الكاملة والذي ظلَّت علاقاته بالنساء على الأقل مجهولةً، إلى المنضدة ويكتب بخط الموظفين الجميل خطابًا، خطابًا بَشِعًا؟ وإذا كانت المقارنة لا تؤدي إلى ظهور اختلافٍ في صالح كلم، بل العكس، فهل كان حبُّ فريدا هو السبب؟ إن العلاقة بين النساء والموظَّفين في اعتقادي علاقة يصعب جدًّا، أو على الأحرى يسهل دائمًا الحكم عليها. إنها علاقة لا تتجرد بحالٍ من الأحوال من الحب. وليس هناك حبٌّ تعيس يكون الموظفون طرفًا فيه. وعلى هذا فليس من قبيل المدح أن يقول الواحد عن بنت — وأنا لا أتحدَّث هنا عن فريدا وحدها — أنها أسلمت نفسها لأحد الموظفين لأنها تحبه. فالحقيقة أنها كانت تحبه، وأنها أسلمت نفسها إليه، وليس في هذا ما يُمتدح. ولعلك تعترض بأن أماليا لم تحبَّ سورتيني. آه، إنها لم تحبه، بل ربما كانت تحبه، ومَن يستطيع القَطع بنعم أو لا؟ حتى هي نفسها لا تستطيع. كيف يمكنها أن تظن أنها لم تُحبِبه، إذا كانت قد ردَّته بهذا العنف الذي لم يسبق على ما يبدو أن عُومل به موظف من قبلُ؟ وبرناباس يقول إنها حتى الآن ترتعد أحيانًا للحركة التي أقفلت بها قبل ثلاث سنوات النافذة. وهذا صحيح، ولهذا فلا يجوز أن يسألها الإنسان، فهي قد قطعت علاقتها بسورتيني ولا تعرف إلا هذا، إنها لا تعرف هل كانت تحبُّه أو لا. أما نحن فنعرف أن النساء لا يرضون بحبِّ الموظفين بديلًا عندما يلتفت هؤلاء إليهنَّ. إنهن يُحبِبنهم من قبل حتى إذا أنكرن ذلك إنكارًا، وسورتيني لم يقف عند حد الالتفات إلى أماليا، إنه قفز على مجرِّ العربة عندما رآها، قفز على مجر العربة بساقيه اللتَين تخشبتا من كثرة الجلوس في المكتب. ولكنك ستعترض قائلًا إن أماليا شاذة، نعم إنها شاذة ولقد برهنت على ذلك عندما رفضت الذهاب إلى سورتيني، وفي هذا من الشذوذ كفاية. أما إنها لم تحبَّ سورتيني، فهذا شذوذ يوشك أن يكون فاحشًا، ولا يكاد الإنسان أن يفهمه. لقد أُصِبنا عصر ذلك اليوم بالعمى، ولكننا رغم الغشاوة اعتقدنا أننا نلاحظ أن أماليا وقعت في الحب، وفي هذا دلالة على شيء من الفكر. فإذا نحن جمعنا هذا كله معًا فما هو الفارق بين فريدا وأماليا؟ إنه فارق واحد، وهو أن فريدا فعلت ما رفضته أماليا.

فقال ك: ربما. ولكن الفارق الرئيسي في نظري هو أنَّ فريدا خطيبتي، وأن أماليا في الحقيقة لا تُهمُّني إلا لأنها أختُ برناباس، ساعي القصر، ولأنَّ مقدراتها قد تكون مُتداخلة في عمل برناباس. ولو كان أحد الموظَّفين قد أوقع بها ظلمًا صارخًا، كما كنت أتصور في بداية الحكاية، لاهتممتُ بها اهتمامًا كبيرًا، ولكان اهتمامي بها على اعتبار أنها مسألة عامة، لا مسألة آلام أماليا الخاصة. والآن تغيَّرت الصورة بعد قصتك بطريقة لا أفهمها كل الفهم، ولكنَّني أجدها جديرة بالتصديق بما فيه الكفاية لأنك أنت التي تَروِين، ولهذا فأنا أحبُّ أن أتجاهَل هذا الموضوع كليةً، فأنا لستُ من رجال المطافئ وفيمَ يهمني سورتيني؟ ولكنَّني مُهتم بفريدا، ولهذا فأنا أدهش كيف تقُومين، أنت التي وثقت بك كل الثِّقة والتي أودُّ أن أقيم على ثقتي فيك، عن طريق الحديث عن أماليا بالهجوم الدائب على فريدا وتُحاولين غرس الشك في نفسي حيالها. وأنا لا أُصدِّق أنك تفعلين هذا عن غرض، أو عن غرضٍ سيئ، وإلا لكان عليَّ أن أنصرف. إنك لا تفعَلين هذا لغرضٍ ما، ولكن الظروف هي التي تُضلِّلك وتسوقك إلى هذا، إنك تُحبِّين أماليا وتُريدين لهذا السبب أن ترفعيها فوق كل النساء، ونظرًا لأنك لا تَجِدين في أماليا من نواحي الفخار ما يكفيك لهذا الغرض، فإنك تستعينين على أمرك بتصغير النساء الأُخريات. إن عمل أماليا عجيب، ولكنك كلَّما استرسلت في الرواية، كلما تضاءلت إمكانية القطع بما إذا كانت أماليا عظيمة أو حقيرة، ذكية أو غبية، بطلة أو جبانة، وهي تخفي دوافعها في حنايا صدرها ولن يستطيع إنسان أن يستخرجها. أما فريدا فلم تفعل شيئًا عجيبًا، لقد اتبعت قلبها مع كل من انشغل به بنيَّة طيبة، هل هذا واضح؟! إنه صحيح وكل إنسان يستطيع أن يتأكَّد من صحته. وليس في هذا مكانٍ للثَّرثرة الفارغة. أما أنا فلا أريد أن أحطَّ من قدر أماليا ولا أن أدافع عن فريدا، وإنما أنا أريد أن أُوضِّح لك موقفي من فريدا وأبيِّن لك أن كل هجوم على فريدا يعني هجومًا على وجودي أنا. إنَّني أتيت إلى هنا بمَحضِ إرادتي، وإنني شبكت نفسي هنا بمَحض إرادتي، أما كل ما حدث بعد ذلك، وبخاصة كل تطلُّعاتي إلى المستقل — وهي، وإن كانت قاتمة، موجودة — فمن أفضال فريدا عليَّ، وهذا شيء لا يُمكن أن يؤدِّي النقاش إلى تبديده. حقيقة أنهم استقبلوني هنا على أساس أنني موظَّف مساحة، ولكن هذا كان شيئًا ظاهريًّا، لقد كانوا يعبثون بي، ولقد طردوني من كل بيت، وها هم أولاء يعبثون بي الآن كذلك. ولكن ما أشق ذلك! لقد زدتُ حجمًا على نحو ما، وهذا شيء له معناه، لقد أصبحت لي أشياء، في ظاهرها قليلة، ولكنها هناك: لقد أصبح لي بيت ووظيفة وعمل حقيقي، ولي خطيبة تقوم بالعمل نيابةً عني عندما أكون مشغولًا ببعض المهام، وسأتزوَّجها وأصبح عضوًا في المجتمع، ولي علاوة على علاقة العمل بكلم علاقة شخصية به لم أتمكَّن حتى الآن من الإفادة منها. وليس هذا بالقليل؟ وأنا عندما أحضر إليكم، فمَن هذا الذي تُحيُّونه؟ مَن هذا الذي تُسرِّين إليه بقصة عائلتك؟ مَن هذا الذي تأملين أن تجدي لديه إمكانية مساعدة ما حتى وإن كانت إمكانية ضئيلةً شديدة الضآلة؟ إنه ليس موظف المساحة الذي طرده لازيمان وبرونسفيك بالقوة من بيتهما، إنك تأملين إمكانية هذه المساعدة من الرجل الذي أصبحت لدَيه بعض وسائل السلطة، والفضل في وسائل السلطة هذه يَرجع إلى فريدا، فريدا المتواضِعة التي إذا ما سألتِها عن شيء من هذا القبيل أبت الادَّعاء بأنها تعرف عنه أقل القليل. ومع ذلك فيبدو اعتمادًا على هذا كله أن فريدا فعلَت ببراءتها أكثر مما فعلت أماليا بكبريائها. ذلك أنني أحسُّ بأنك تلتمسين العون لأماليا. وممَّن؟ من فريدا، لا من أحد سواها؟

فقالت أولجا: هل تكلمتُ أنا فعلًا بهذه السوء عن فريدا؟ إنَّني لم أكن أقصد ذلك، وأعتقد أنني لم أفعل، ولكن هذا من المُحتمل، ولقد أصبح وضعنا يتلخص في أننا على نزاعٍ مع الدنيا كلها، وإذا بدأنا بالشكوى، جرفنا التيار دون أن نعلم إلى أين. وأنت على حقٍّ في أن الفارق بيننا وبين فريدا كبير، ومن الخير أن نؤكد على ذلك مرة أخرى. لقد كنا قبل ثلاثة أعوام من بنات العائلات، وكانت فريدا، اليتيمة خادمةً في حان الجسر، وكنا نمرُّ عليها عابرين لا نُعيرها نظرة. لقد كنا بكل تأكيد متكبرين، ولكننا نشأنا على هذا. ولقد رأيت بعينك في تلك الأمسية بحانة السادة وضعنا الحالي: فريدا تمسك بالسوط في يدها، وأنا في جماعة الخدم. ولكن الأمر أكثر سوءًا من هذا. ولفريدا أن تحتقرَنا، فهذا يتناسَب مع مركزها، والظروف الحقيقية تفرضه فرضًا. ولكن أين هذا الذي لا يحتقرُنا! إنَّ الذي يُقرر احتقارنا يدخل على الفور في المجتمع الرفيع العظيم. أتعرف البنت التي خلَفَت فريدا في الحانة؟ اسمها بيبي. لقد تعرَّفتُ بها لأول مرة أول من أمس، وكانت من قبلُ تعمل خادمة. إنها بكل تأكيد تتجاوز فريدا في احتقاري. لقد نظرت إليَّ من النافذة عندما ذهبت لأحضر شيئًا من البيرة ثم جرت إلى الباب وأغلقته، وكان عليَّ أن أتوسل وأطيل التوسل وأن أعدها بالشريط الذي كنت أزين به شَعري، حتى فتحت لي. فلما أعطيتها الشريط ألقت به في أحد الأركان. ولها أن تحتقرني فأنا إلى حد ما أعتقد على فضلها وهي حاملة الخمور في حانة السادة، وإن كانت تعمل هناك مؤقتًا، وكانت بكل تأكيد تفتقر إلى الصفات اللازمة لكي تشتغل هناك بصفة دائمة. ويكفي أن يسمع الإنسان طريقة حديث صاحب الحان إلى بيبي، ويكفي أن يقارنها بطريقة حديثه إلى فريدا. ولكن هذا لا يمنع بيبي من أن تحتقر أماليا، أماليا التي تكفي نظرة واحدة من نظراتها لتخرج بيبي الصغيرة بكل ضفائرها ولفائفها من الحجرة بسرعة لا تستطيع وهي التي تعتمد على ساقيها البدينتين القصيرتين أن تصطنعها. ولقد سمعت منها بالأمس ثرثرة عن أماليا أثارت غيظي، حتى اهتم الضيوف أخيرًا بأمري على النحو الذي سبق لك أن رأيتَه.

فقال ك: ما أكثر خوفَكِ! لقد وضعتُ أنا فريدا في المكان اللائق بها، ولكنني لم أفكر في الحط منكم كما فهمتِ. وإن عائلتكم لتتسم في نظري بشيء خاص، وهذا شيء لم أُخفِه. ولكني لا أفهم كيف يمكن أن يكون هذا الشيء الخاص مدعاةً للاحتقار.

فقالت أولجا: آه، يا ك، سيأتي الوقت الذي ستفهم فيه، وهذا هو ما أخشاه: إنك إذن لا تستطيع أن تفهم بحالٍ من الأحوال كيف يمكن أن يكون تصرف أماليا حيال سورتيني السبب الأول في هذا الاحتقار؟

فقال ك: لو كان هذا قد حدث، فإنه يكون شيئًا غريبًا مُفرط الغرابة. من المُمكن أن يعجب الإنسان بأماليا أو أن يدينها، أما أن يحتقرها الإنسان لهذا السبب؟ وحتى إذا ذهب الإنسان، عن إحساس لا أستطيع فهمه، إلى احتقار أماليا بالفعل، فلماذا يمدُّ الاحتقار ليشملكم، ليشمل الأسرة البريئة؟ وأما أن بيبي احتقرتك فشيء فظيع وسوف أحاسبها على ذلك عندما أذهب مرة إلى حان السادة.

وقالت أولجا: لو أنك يا ك أردت أن تغيَّر فكر كل مَن يحتقرُوننا لكان عليك أن تتحمَّل بعمل عسير؛ لأن كل هذا ينبع من القصر. إنني أتذكر الساعات التي تلَت ذلك الصباح تمامًا. فقد أتى برونسفيك، الذي كان عاملًا لدينا، كما اعتاد أن يأتي في كل يوم، وكان أبي قد كلَّفه ببعض الأعمال وأعاده إلى بيته. كنا نجلس آنَذاك إلى مائدة الإفطار، كلنا، إلا أنا وأماليا، وكنا في غاية البهجة، وكان أبي لا يكفُّ عن الحديث عن الحفل، وكان لديه مشروعات خاصَّة بالمطافئ؛ ذلك أن القصر لديه فرقة المطافئ الخاصة به، وكانت هذه الفرقة قد أرسلت وفدًا يُمثلها في الحفل، وقد جرت مع هذا الوفد مناقشة تناولت بعض المسائل، ورأى السادة الذين حضروا عن القصر جهود فرقة المطافئ لدينا، وعبَّروا عن آراء طيبة جدًّا حيالها، وعقدوا مقارنة بينها وبين فرقة مطافئ القصر كانت نتيجتُها طيبة بالنسبة لنا، وجرى الحديث عن ضرورة إعادة تنظيم فرقة مطافئ القصر، وحاجة ذلك المشروع إلى مُعلِّمين من القرية، وكان الواضح أن الاختيار سيقع على نفر معين، ولكن أبي كان يأمُل أن يقع الاختيار عليه. وكان يتحدَّث عن ذلك على طريقتِه اللطيفة وهو يُحيط نصف المائدة بذراعَيه، وينظر من خلال النافذة المفتوحة إلى السماء، وكان وجهه يبدُو أثناء ذلك شابًّا سعيدًا بالأمل، كانت هذه هي المرة الأخيرة التي أراه فيها على هذا النحو الذي لم يتكرَّر فيما بعد مُطلقًا. وهنا قالت أماليا بترفُّع لم نعهده فيها من قبل، إنه لا ينبغي أن يَثق الإنسان كثيرًا في مثل هذا الكلام الذي يُلقيه السادة، فقد اعتاد السادة على أن يقولوا في مثل هذه المناسبات كلامًا مفرحًا، ولكنه كلام ليس له إلا القليل من المعنى أو ليس له شيء من معنى على الإطلاق، كلام ما يكاد الواحد منهم يفرغ من التلفُّظ به حتى ينساه إلى الأبد، وإذا جاءت مُناسبة أخرى تكرَّر وقوع الناس في الفخ نفسه. وأنكرت الأم على أماليا هذا الكلام، أما الوالد فقد اكتفى بالضحك من اصطناعها الفِطنة والخبرة، ثم تعثَّر فجأة وبدا عليه كأنه يبحث عن شيء لم يتبيَّن ضياعه إلا الآن فقط، ولكنه لم يكن قد ضيع شيئًا، بل قال: لقد حكى برونسفيك عن ساعٍ وعن خطاب ممزَّق، وسألنا إذا كنا نعرف شيئًا عن هذا الموضوع ومعناه والمقصود منه. ولكنَّنا صمتنا، إلا برناباس، وكان آنَذاك صغيرًا كالحَمل الصغير، فقد قال شيئًا شديد الغباءة أو الجرأة، وتحوَّل الحديث إلى موضوعات أخرى وتوارى هذا الموضوع في طيات النسيان.

عقوبة أماليا

وأردَفَت أولجا: إلا أنَّ الأسئلة ما لبثَت أن انهمرَت علينا من كل ناحية عن حكاية الخطاب، أتى إلينا بها الأصدقاء والأعداء، المعارف والأغراب. ولكن الناس كانوا لا يبقُون عندنا إلا قليلًا، حتى أحسن الأصدقاء كانوا يستأذنُون في الانصراف مُعجِّلين أشد التعجيل. ودخل علينا لازيمان، وكنَّا نعهدُه بطيئًا وقورًا، وبدا عليه كأنه أتى ليقيس أبعاد الحُجرة، لأنه دار ببصرِه دورة ثم انصرف. لقد كان مشهدًا يُشبه العبث الصِّبياني، فما إن انصرف لازيمان كالهارب حتى تملَّص أبي من الآخَرين وجرى وراءه إلى أن بلَغ العتَبة ثم تراجع. وأتى برونسفيك وأعلن أبي بأنه لن يعمل لديه بعد الآن، وقال إنه يريد أن يَفتتح محلًّا خاصًّا به، قال هذا بكل صِدق وأمانة، وقد كان ذكيًّا يعرف كيف يستغلُّ الفُرص. وأتى العملاء وأخذوا يستخرجُون من مخزن أبي أحذيتَهم التي كانوا قد أحضَرُوها للتصليح، وحاوَلَ أبي في بداية الأمر أن يُثني العملاء عن عزمهم — وساعدناه نحن جميعًا بكلِّ ما أوتينا من قوة — ولكنه ما لبثَ أن كفَّ عن المحاولة وأخذ بدلًا من ذلك يساعد العملاء في البحث عن أحذيتِهم، ويشطب من سجلِّ الأعمال سطرًا بعد سطر، كذلك أتى أصحاب الجلود الذين كانوا قد تركوا كميات من الجلود لدينا فأخذوها، وأتى أصحاب الديون واستردُّوا أموالهم، وتمَّ هذا كله دون أدنى شِجار، فقد كان الناس يَفرحون إذا تمكنوا من قطع صلتهم بنا سريعًا ونهائيًّا ولو نجمت عن ذلك خسارة، ولم يكن للخسارة على أية حال مكان. وأخيرًا حدث ما كنا نتوقعه؛ فقد أتى لازيمان رئيس فرقة المطافئ، وما زلت أرى المشهد أمام عيني كأنه حدث لتوِّه: لازيمان رجل طويل وعريض ولكنه مقوَّس الظهر ومريض بالسل، رجل جاد لا يعرف الضحك يقف أمام أبي الذي كان يُعجب به، والذي وعده في ساعات الصفاء بأن يُعيِّنه في وظيفة مساعد رئيس فرقة المطافئ، يقف أمام أبي الآن ليقول له إن اتحاد المطافئ قد فصَلَه ويُطالبه برد الشهادة. وترك الرجال الذين كانوا موجودين في تلك اللحظة لدينا أعمالهم وتزاحموا حول الرجلين على هيئة دائرة. لازيمان لا يستطيع الكلام، وهو لا يفتأ يُربت على كتفي أبي وكأنه يريد أن يستخرج بالربت منه كلمات ينبغي عليه هو أن يقولها ولا يجدُها. وهو لا يكفُّ عن الضحك ولعله يريد بذلك أن يهدئ نفسه وأن يُهدئ الآخَرين، ولما كان لا يعرف الضحك، ولما لم يكن الناس قد سمعوه من قبل يضحك، فلم يخطر بباله أحد أن يُصدِّق أن هذا ضحك. أما أبي فقد وهنَ من ذلك اليوم، ويئس من مساعدة الآخَرين، بل إنه يبدو ضعيفًا إلى درجة لا يستطيع معها أن يُفكِّر في الأمر وعمَّ يدور. ولقد كنا كلنا يائسين على النحو نفسه، ولكنَّنا كنا شبابًا فلم نصدق بمثل هذه الهزيمة الكاملة، وكنَّا نعتقد أن صف الزوار الكثيرين سيأتينا في النهاية برجل يأمر بأن تقف الأمور عند حد، ثم يُرغمها على أن تغير اتجاهها. ولقد لاح لنا لجهلنا أنَّ لازيمان هو أنسب الرجال لهذه المهمَّة. وتوقعنا في لهفة أن تخرُج من بين هذا الضحك المُستمر في النهاية كلمة واضحة. وهل كان هناك شيء يُثير الضحك، شيء غير الظلم السخيف الذي حلَّ بنا. فيا سيادة الرئيس، يا سيادة الرئيس، قلْ هذا للناس. كان هذا هو الذي خطرَ ببالِنا فتزاحمنا مُقتربين منه مما اضطرَّه، لفرط دهشتنا، إلى حركات مُلتوية غريبة. وأخيرًا بدأ، لا بتحقيق أمانينا الكامنة، بل بالانصياع لصيحات الناس المشجعة أو الغاضبة، وهكذا تكلَّم. وكان الأمل لا يزال يُداعبنا. واستهلَّ بمدحٍ عظيم للوالد، وقال عنه إنه حلية اتحاد المطافئ، وقُدوة للجيل الجديد لا يصل إليها مُجتهد، وعضو في الاتحاد يكَد يُؤدِّي خروجه منه إلى تحطيمه. كان هذا جميلًا جدًّا، وليتَه سكت عند هذا الحد ولم يُكمل! ولكنه أكمل. فقال وإذا كان الاتحاد قد قرَّر أن يُطالب الوالد بالاستقالة، الاستقالة مؤقتًا، فواضح أن أسبابًا شديدة اضطرَّته إلى ذلك. ولعلَّ الأمور لم تكن لتصل إلى هذا الحد لولا الجهود الباهرة التي أظهَرَها الوالد في حفل الأمس، ولكن هذه الجهود أثارت انتباه السلطات بشكلٍ خاص، وأصبح الاتحاد الآن تحت الأضواء وأصبح عليه أن يهتمَّ بنظافته الآن أكثر مما كان يهتم به من قبل. ثم جاءت إهانة الساعي، فلم يجد الاتحاد له مخرجًا سوى اتخاذ هذا القرار، وتحمل هو، لازيمان، بالمهمَّة الشاقة، مهمَّة تبليغه. ورجا الوالد ألا يُصعبها عليه. وما أشد فرح لازيمان عندما تمَّ له هذا البلاغ! ولقد أحسَّ لذلك بالثقة التي حالت بينه وبين المبالَغة في الرقة، فإذا هو يُشير بإصبعه إلى الشهادة المعلَّقة على الحائط. وهزَّ الوالد رأسه وذهب ليأتيَه بها، ولكنه لم يستطع أن يرفعها من فوق المسمار بيدَيه المرتعشتَين، فارتقيت كرسيًّا وأعنتُه على ذلك. ومنذ تلك اللحظة انتهى كل شيء. ولم يُخرج أبي الشهادة من الإطار الذي احتواها، بل قدَّمها إلى لازيمان كما هي. ثم جلس في أحد الأركان ولم يتحرَّك ولم يَعُد يتكلَّم مع أحد، وتكفَّلنا نحن بالتباحث مع الناس على قدر ما استطعنا.

وسأل ك: وأين هو تأثير القصر هنا في رأيك؟ والظاهر حتى الآن أنه لم يتدخَّل. إنَّ ما قصصتِه إلى الآن ليس إلا خوفًا استرسل إليه الناس بدون تفكير، وفرحًا منهم للضرِّ الذي لحق بالجار، وصداقة لم يُخلصوا لها، وهذه أشياء موجودة في كل مكان. ثم إن الموضوع بالنسبة للوالد — على الأقل فيما يبدو لي — لا يزيد عن أن يكون تفاهة. فما هي هذه الشهادة؟ إنها بيان بقُدراته، ولقد ظلَّت لديه هذه القدرات بعد سحب الشهادة، وهذه القُدرات هي التي جعلته رجلًا لا استغناء عنه، وهذا خير. ولقد كان في استطاعته أن يصعب الأمر على الرئيس لو أنه عندما سمع الكلمة الثانية رما إليه الشهادة عند قدمَيه. وقد لفت نظري بصفة خاصة أنكِ لم تذكُري أماليا مطلقًا وهي التي تسبَّبت في هذا كله، ولعلها كانت تقف في الخلف هادئةً وتنظر إلى الخراب.

فقالت أولجا: لا، لا يُمكن أن نوجِّه اللوم إلى أحد، فما كان في استطاعة أحد أن يتصرَّف على نحو آخر، لقد كان كل شيء من تأثير القصر.

وتلقَّفت أماليا العبار فكررتها: تأثير القصر.

وكانت أماليا قد دخلت من الفناء دون أن يلحَظها أحد، أما الوالدان فكانا قد تمدَّدا في الفراش منذ وقت طويل. وأردفت أماليا: هذه حكايات القصر تتحاكيانها؟ وما زلتما تَجلِسان معًا؟ ولقد كنت يا ك تُريد أن تستأذن في الانصراف من فورك، وها هي ذي الساعة تقترب من العاشرة. هل تهمُّك مثل هذه الحكايات؟ لدينا هنا أناس يعيشون على هذه الحكايات، فهم يجلسون معًا، كما تجلسان الآن، ويتجادلان فيها، وأنت على ما يبدو لي لست من هؤلاء الناس.

فقال ك: بلى! أنا منهم تمامًا! أما أولئك الذين لا يهتمون بمثل هذه الحكايات ويدعون الآخَرين يهتمُّون بها فلا أحفل بهم كثيرًا.

فقالت أماليا: هه! ولكن اهتمامات هؤلاء الناس مُختلفة أشد الاختلاف. ولقد سمعت عن شابٍّ كان يشغَل نفسَه آناء الليل وأطراف النهار بالتفكير في القصر وأهمل كل ما عداه حتى خاف الناس على عقله الذي كان مشغولًا بالقصر كله. وأخيرًا تبين أنه لم يكن القصر ذاته، بل ابنة غسالة تعمل في مكاتب المستشارية، ولقد نالها وأصبح كل شيء على ما يُرام.

فقال ك: إنني أظنُّ أن هذا الشاب قد يُعجبني.

وقالت أماليا: أما إن هذا الشاب قد يعجبك، فهو ما أشك فيه، وربما كانت زوجته هي التي تُعجبك! ولكن استمرا فيما أنتُما فيه دون ما إزعاج مني، فأنا ذاهبة للنوم، وأنا مُضطرَّة لإطفاء النور، بسبب الوالدَين، حقيقةً أنهما يغطَّان في نومٍ عميق، ولكن نومهما الحقيقي ينتهي بعد ساعة، فيَنزعِجان لأخفَتِ ضَوء. تُصبحان على خير.

وبالفعل أظلمت الدنيا على الفور، وأعدَّت أماليا لنفسها في مكانٍ ما على الأرض قرب سرير الوالدَين فراشًا.

وسأل ك: مَن هذا الشاب الذي تحدَّثَت أماليا عنه؟

فقالت أولجا: لا أعرف، لعله برونسفيك، وإن كانت القصة لا تنطبق عليه تمامًا، ولعله آخر. وليس من السهل فهم كلام أماليا، لأن الإنسان لا يعرف هل هي تتحدَّث بالتهكُّم أو بالجد، وهل في أغلب الأحيان تقول الجد وإن بدأ تهكمًا.

فقال ك: لندع التأويلات جانبًا. ولكن قولي لي كيف وصلت بك الحال إلى التبعية الشديدة لها؟ هل كانت كذلك قبل المِحنة الكبرى؟ أم صارت إلى ذلك بعدها؟ وألا يحدُوك الأمل في أن تَستقلي عنها؟ وهل هذه التبعية تَعتمِد على أساس ما من العقل؟ إن أماليا هي الصغرى وكان المفروض أن تُطيعك هي. ثم إنها قد تسببت، مذنبة كانت أو بريئة، في المحنة التي حلَّت بالأسرة. وبدلًا من أن تتوسَّل إليكم في كل يوم من جديد أن تغفروا لها، إذا هي ترفع الرأس عاليًا فوق الجميع، ولا تهتم بشيء، إلا بالوالدَين وعلى سبيل التكرم والتفضل، وهي لا تُريد أن تتعلم شيئًا، كما قالت بصريح العبارة، وإذا هي تكلمت معكم، فإن كلامها يكون في الغالب جادًّا وإن بدا تهكمًا. أم لعلها تتعالى لجمالها الذي أشرتِ إليه عدة مرات؟ وأنا أرى أنكم مُتشابهون أشد التشابه، وليست السمات التي تجعلها تختلف في الشكل عنكِ وعن برناباس، بالسمات المليحة، إنَّني عندما رأيتُها للمرة الأولى فزعت لنظرتها الباردة البليدة. ثم إنها، وهي الصغرى، لا تبدو هكذا للناظرين، إنها تبدو على تلك الصورة النسائية التي لا عمر لها، والتي لا توحي بأنها كانت في يوم من الأيام شابة. وأنتِ ترينها في كل يوم، ولا تحسين بصرامة وجهها. ولهذا فإنني، عندما أفكر في الأمر مليًّا، لا أحمل عاطفة سورديني نحوها محمل الجد الشديد، ولعله كان يقصد من الخطاب عقابها لا استدعاءها.

فقالت أولجا: كل شيء عند سادة القصر مُمكن سواء كانت البنت أجمل البنات أو كانت أقبح المخلوقات. إلا أنك تُخطئ في شأن أماليا خطأً كاملًا. وأنا لا أجد من الأسباب ما يدعوني إلى استمالتك إلى أماليا، وإنما أنا أحاول هذه المحاولة من أجلك أنت. لقد كانت أماليا على نحو ما السبب في محنتِنا، هذا شيء مؤكَّد. ولكن الوالد نفسه وهو الذي عانى من المِحنة أشد مُعاناة والذي لم يستطع أن يتحكَّم في نفسه، وهو الذي عانى من ألفاظه وبخاصة في البيت، لم يوجه إلى أماليا في أقسى أوقات المحنة كلمة لوم واحدة. وليس هذا لأنه يقبل تصرُّف أماليا، فكيف يُمكنه وهو المعجب بسورتيني أن يقبله؟! إنه لم يستطع أن يفهم تصرُّفها بحالٍ من الأحوال. ولعلَّه كان يرضى بأن يُقدم نفسه وما ملك ضحية لسورتيني، ولكن ليس على النحو الذي جرى بالفعل، على أثر الغيظ الذي استبدَّ بسورتيني على ما يبدو. وأقول على ما يبدو لأنَّنا لم نسمع عن سورتيني شيئًا بعد ذلك مطلقًا. وإذا كان من قبل يعتزل الناس، فقد أصبح الآن وكأنه غير موجود. وكان الأحرى بك أن ترى أماليا في ذلك الوقت. لقد كنَّا نعرف جميعًا أننا لن نلقى عقابًا صريحًا. كل ما حدث أن الناس نفروا منا. الناس هنا وفي القصر. وبينما لاحظنا نفور الناس هنا، لم نلحظ شيئًا مما جرى في القصر. ونحن لم نكن فيما مضى نحسُّ شيئًا من عطف القصر، فكيف يُمكننا أن نتبيَّن تحولًا فيه؟! لقد كان هذا الهدوء هو أبشع شيء. لم يكن أبشع شيء هو نفور الناس عنا، لا، فقد كان من الممكن أن ينفرُوا منا اقتناعًا برأيٍ ما، ولعلهم لم يكونوا يحملون لنا شيئًا ذا بال، ولم يكن الاحتقار الحالي موجودًا آنذاك، لقد تصرفوا عن خوف، ثم أصبحوا يتلهفون على معرفة النهاية. ولم نكن نخشى جوعًا، فقد ردَّ إلينا المدينون جميعًا مالنا، وكانت نتيجة تصفية الحساب في صالحنا، وكان أقاربنا يُساعدوننا سرًّا بما نحتاج إليه من طعام، ولقد كان هذا سهلًا؛ لأنَّ الوقت كان وقت الحصاد. ولكننا لم نكن نمتلك أرضًا، ولم يكن الناس يرضون في أيِّ مكان بتشغيلنا حتى أوشكنا لأول مرة في حياتنا على البطالة. وهكذا كنا نجلس معًا، مُغلِقين النوافذ، في قيظ يوليو وأغسطس. فلم يحدث شيء. لم نتلقَّ دعوة للمُثول أمام محكمة، ولم نتلقَّ خبرًا، ولم نتلقَّ تقريرًا ولا زيارة، لم نتلقَّ أي شيء.

فقال ك: لم يحدث شيء، ولم تتوقَّعوا عقوبة صريحة، فممَّ كنتم تخافون؟ من بشر!

فقالت أولجا: كيف أشرح لك؟ لم نكن نخاف مِن شيء قادم، بل كنَّا نعاني من الحاضر، لقد كنا في وسط العقوبة. لقد كان الناس في القرية ينتظرُون أن نذهب إليهم، وأن يفتح الوالد محلَّه من جديد، وأن تعود أماليا، التي كانت تُجيد حياكة الملابس لا تعمل إلا لأوجه الوجهاء، إلى نشاطها، لقد أسف الناس لما قدمت أيديهم. هذا إلى أن القضاء النهائي على أسرة مرموقة في القرية له نتائجه السيئة التي يحلُّ طرف منها بكل فرد، ولقد اعتقد الأهالي، عندما انصرفوا عنَّا، أنهم يُؤدُّون واجبًا، ولعلنا لو كنا مكانهم لفعلنا نفس الشيء. ثم هم لم يكونوا يعرفون حقيقة الأمر، كل ما عرفوه أن الساعي عاد إلى حان السادة وقد امتلأت يدُه بالورق الممزَّق. ولقد رأته فريدا وهو يخرج من الحان ثم رأته بعد ذلك وهو يعود إليها، وتبادَلَت معه بعض الكلمات ثم أذاعت بين الناس على الفور ما نما إلى علمها. وهي لم تفعل ذلك لعداء حيالنا، ولكن لأن هذا كان واجبها، ولقد كان في الحالة نفسها واجب كل فرد. والمهم أن أكثر شيء يُرحِّب به الناس هو أن ينتهي الموضوع كله نهاية سعيدة. فلو أننا أتينا فجأة بخبر يقول إن كل شيء قد سُوِّي، وإن الموضوع كان يقوم على خطأ تكشَّفت حقيقته تمامًا، أو إن الموضوع سيئة تبعَتْها حسنة فمحَتها، أو إنه — وحتى هذا كان سيُرضي الناس — كانت جناية أمكنَنا بفضل علاقتنا بالقصر تسويتُها. لو فعلنا ذلك لأقبلوا علينا بكل تأكيد باشِّين فعانَقُونا وقبَّلُونا وأقاموا لنا الأفراح. لقد شهدتُ أشياء من هذا النوع من قبل مرارًا. بل إن مثل هذا الخبر لا ضرورة له. لو أننا ذهبنا إلى الناس أحرارًا طلقاء وعرَضنا عليهم أن نُعيد الصلات القديمة دون أن نشير بكلمة إلى حكاية الخطاب، لكان في ذلك الكفاية، ولصرفوا النظر جميعًا فَرِحين عن الخوض في الموضوع. لقد انفضَّ الناس عنا ليس فقط عن خوف، ولكنهم انفضُّوا عنا أيضًا عن خزي، لأنهم بكل بساطة لم يكونوا يريدون أن يسمعوا عن الموضوع شيئًا، ولا أن يتكلَّموا عنه، ولا أن يُفكروا فيه، ولا أن يتَّصلوا به بأي شكل. وإذا كانت فريدا قد أفشَت سرَّ الموضوع، فهي لم تفعل ذلك لكي تفرَح فينا، وإنما لكي تحميَ نفسها وتحمي الجميع منها، لكي تُنبِّه المجتمع إلى أن شيئًا قد حدث هنا، شيئًا ينبغي على الجميع أن يبذُلوا غاية الجهد للابتعاد عنه. ولم نكن نحن، ونحن عائلة تعيش هنا، المقصودِين بذلك ولكن الموضوع نفسه هو الذي كان مقصودًا، ولم نكن نحن مقصودين إلا من حيث صلتنا بالموضوع الذي تورَّطنا فيه. فلو أننا ظهرنا من جديد، وتركنا الماضي وشأنه، وبيَّنا بسلوكنا أننا تغلبنا على الموضوع بأي طريقة كانت، واقتنع الرأي العام على هذا النحو بأن الموضوع، مهما كان كنهُه، لن يعود إلى مائدة المناقشة مرةً أخرى، فإن كل شيء يسير إلى خير حال. إذن لوجَدنا المروءة التي عهدناها من قبل. وحتى لو لم ننسَ الموضوع القديم إلا إلى حدٍّ ما، فإن الناس كانوا سيفهموننا وسيُساعدوننا على نسيانها تمامًا. ولكننا بدلًا من أن نفعل ذلك قعدنا في البيت. ولست أعرف ماذا كنا نَنتظِر. ربما كنا ننتظر قرار أماليا؛ لأنها كانت قد انتزعت منفسها في ذلك الصباح القيادة وظلَّت تتشبَّث بها. ولم تكن تتوسَّل إلى ذلك بتصرفات خاصة ولا بأوامر ولا برجاء، بل كانت تَعتمِد على شيء واحد تقريبًا هو الصمت. وكنا نحن الآخرين عاكفين على التباحث والتشاور، كنا طوال النهار من الصباح إلى المساء نتهامَس بلا انقطاع، وكان أبي أحيانًا يحسُّ بفزع مُفاجئ فيناديني إليه، فأقضي نصف الوقت بجوار فراشه. وكنا في بعض الأحيان نقعد أحدنا إلى الآخر، برناباس وأنا، ولم يكن برناباس يفهم آنَذاك من الأمر إلا قليلًا جدًّا، وكان يطالب دائمًا بتوضيحات حارة، يُطالب بنفس التوضيحات، لقد كان على الأرجح يعرف أنَّ السنوات الخالية من الهموم التي يأملها أقرانه لا وجود لها بالنسبة إليه — وهكذا كُنا نقعد معًا، على نحو يُشبه يا ك جلستنا الآن، وكنا ننسى أن الليل قد حل وأن الصباح قد انبلج. وكانت الأم هي أضعفنا جميعًا؛ لأنها على الأرجح لم تكن تحمل أحزاننا المشتركة فحسب، بل كانت تحمل فوقها أحزان كل منَّا على حِدَة، وهكذا لاحظنا مفزوعين تغيرات ظهرت عليها، كنا نتوقع في غير وضوح حدوثها، تغيرات كانت توشك أن تحيق بالأسرة كلها. كان المكان المفضَّل لها هو ركن أريكة — لم تَعُد الأريكة لدينا، بعد أن أخذها برونسفيك منذ وقت طويل، ووضعها في الحُجرة الكبيرة لديه — كانت تجلس هناك، وتنعس — ولم نكن نعلم ما بها بالضبط — أو كانت، على ما كنَّا نستشف من شفتيها، تُكلم نفسها كلامًا كثيرًا. لقد كان من الطبيعي أن نعكف على مناقشة حكاية الخطاب دوامًا، وأن نشقَّها طولًا وعرضًا، وأن نبحث كل تفصيلاتها المؤكدة، وكل إمكانياتها المريبة، وأن نتفوَّق بعضنا على البعض في ابتداع وسائل الحل الجيد، كان هذا أمرًا طبيعيًّا وأمرًا محتومًا في الوقت نفسه، ولكنه لم يكن من الخير في شيء، لأننا كنا لا نفتأ ننغمس في هذا الذي كنا نُريد أن نخلص منه. وماذا كانت فائدة هذه الأفكار الممتازة التي كانت تخطر ببالِنا؟ لم تكن من بينها فكرة يمكن تنفيذها بدون أماليا، لقد كانت كل هذه الأفكار مجرَّد تمهيدٍ، تمهيد أحمق؛ لأنَّ نتائجه لم تكن تصل إلى أماليا، ولو وصلت إليها لما لقيت لديها إلا الصمت. على أنني الآن لحسن الحظ أفهم أماليا أفضل ممَّا كنتُ أفهمها فيما مضى. لقد كانت تحمل أكثر ممَّا كنا نحمل جميعًا، وإن الإنسان ليعجز عن فهمِ كيف احتملت كل هذا وما زالت تعيش بيننا إلى الآن. ولعل أمَّنا كانت تحمل آلامنا جميعًا، كانت تحملها لأنها حلَّت بها، ولكنها لم تستطع أن تصمد طويلًا. ولا يمكن أن نقول إنها لا تحملها الآن؛ فقد كانت فيما مضى كذلك مُضطربة العقل. ولكن أماليا لم تكن تَحمل الآلام فحسب، لقد كان لديها العقل الذي يمكنها من النظر في أعماقها، في الوقت الذي كنا نحن فيه لا نرى إلا النتائج، كانت هي ترى القاع، وكنا نأمل أن تتاح لنا بعض السُّبل اليسيرة، وكانت هي تعلم أن الأمر قد قُضي، وكنا لا نجد لنا ما نلوذ به سوى التهامُس، وكانت هي تلوذ بالصمت، لقد كانت تُواجه الحقيقة عينًا في عين وكانت تعيش وكانت تتحمَّل الحياة في ذلك الوقت كما تتحمَّلها الآن. لقد كانت أحوالنا في المحنة أفضل من أحوالنا بكثير. حقيقة أننا اضطُررنا إلى ترك البيت ليأتي برونسفيك ويُقيم فيه، وعيَّنوا لنا هذا الكوخ لنَنتقِل إليه، وحملنا أشياءنا إليه على عربة يد نقلةً بعد نقلة، كنَّا — برناباس وأنا — نجرُّ العربة، وكان أبي وأماليا يدفعان من الخلف، أما الأم التي كنا قد نقلناها إلى الكوخ في البداية فكانت تَجلس في الكوخ على صندوق من الخشب وتستقبلنا بأنينٍ خفيض. ولكنني أذكر أننا حتى في أثناء جر العربة — ولقد كان جرُّها شيئًا مخجلًا لأننا كنا نلتقي في الطريق بعربات نقل المحاصيل وكان الذين يُرافقونها يتسمَّرُون ويُشيحون عنا بأبصارهم — كنا لا نكفُّ، برناباس وأنا، عن الحديث عن آلامنا ومشروعاتنا، وكنا أحيانًا نقف أثناء الكلام ولا نعود إلى السير إلا بعد أن يصيح فينا أبي «هاللو» مذكرًا إيَّانا بالواجب. ولكن هذه المباحثات كلها لم تُغيِّر من حياتنا شيئًا بعد انتقالنا إلى الكوخ، لم يتغيَّر من حياتنا شيء بعد انتقالنا إلى الكوخ، لم يتغيَّر من حياتنا إلا أننا بدأنا نحسُّ الفقر شيئًا فشيئًا. فقد توقَّفَت منح الأقارب، وفرغت أموالنا أو أوشكت، وفي ذلك الوقت بالذات بدأ الاحتقار الذي تَعرِفه ينصبُّ علينا. لقد لاحظ الناس أننا لم نتمكَّن من الخلاص من حكاية الخطاب، وغضبوا لذلك منا، ولكنهم لم يكونوا يستهينون بصعوبة المِحنة التي لم يكونوا يعرفونها، وإن كانوا يعلمون أنهم لو حلَّت بهم هذه البلية لما كانوا على الأرجح سيتغلَّبون عليها خيرًا منا، وكانوا لذلك يجدُون مزيدًا من الأسباب التي تحملُهم على الانفصال عنا. ولو أنَّنا كنا قد استطعنا أن نتغلَّب على هذه البلية لاحترَمَنا الناس أعظم الاحترام جزاءً لما تمكنا منه، أما وقد فشلنا فقد حول الناس المسلك الذي اتخذوه حيالنا مؤقتًا إلى مسلك نهائي: لقد نبذونا من كل مكان كانوا يختلفون إليه. وكفُّوا عن الحديث عنا حديثهم عن البشر، وعن ذِكر اسم عائلتنا، وكانوا يَذكروننا نسبةً إلى أخينا برناباس، فهو أكثرنا براءةً. حتى كوخنا ساءت سُمعته. وأنت لو صدقت مع نفسك لاعترفت بأنك عندما دخلت الكوخ هنا لأول مرة اعتقدت أنك تجد المُبرِّر لهذه السُّمعة القبيحة. كان الناس عندما يأتون إلينا يتأفَّفون من أتفَه الأشياء، مِن أن مصباح الغاز الصغير مثلًا يتدلى فوق المنضدة هناك. وهل هناك مكان آخر يتدلَّى فوقه إلا المنضدة؟ ولكنَّهم كانوا يجدون هذا شيئًا غير مُحتمَل. ولو أنك غيَّرت مكان المصباح لما غيَّر هذا شيئًا من نفورهم. كان الاحتقار ينصبُّ على كل ما كنَّا وكل ما أوتينا.

الالتماسات

– فماذا فعلنا في تلك الأثناء؟ فعلنا أقبح ما كان يُمكننا أن نفعل، فعلنا شيئًا كان ينبغي أن ينصبَّ علينا من أجل الواقعة الأصلية: لقد خنَّا أماليا، وانتزعنا أنفسنا من أوامرها الصامتة، فلم نكن نستطيع أن تستمرَّ حياتنا على هذا النحو، لم نكن نستطيع أن نعيش بلا أمل، وشرعنا، كلٌّ بطريقته، نتوسَّل إلى القصر أو نندفع إليه راجين المغفرة كنَّا نعلم أننا لن نستطيع أن نُصحِّح شيئًا، وكنا نعرف أن الصلة الوحيدة التي بيننا وبين القصر والتي كان يمكن أن نُعلِّق بها الأمل وأعني بها سورتيني، الموظف الميال إلى أبي، قد تبددت نتيجةً للأحداث، ولكننا مع ذلك بدأنا العمل. وبدأ أبي. وبدأت التوسُّلات الحمقى إلى الناظر والأمناء والمحامين والكتبة. ولم يكن الموظفون في غالبية الأحوال يستقبلونه، فإذا تمكَّن بالحيلة أو عن طريق المصادفة من مقابلة بعض الموظفين — وكم كنا نُهلل لذلك فرحين ونفرك أيدينا! — فقد كان هؤلاء يطردُونه بأقصى سرعة ولا يستقبلونه بعد ذلك أبدًا. وكان من اليسير عليهم الرد عليه، وما أسهل هذه المهمَّة على القصر. فماذا كان يريد؟ ماذا حدث له؟ لماذا يطلب الصفح؟ متى وممَّن امتد إليه إصبع واحد من القصر؟ حقيقة أنه كان قد انتهى إلى الفقر، وأنه قد فقدَ عُملاءه، وما إلى ذلك، ولكن تلك كانت من الظواهر التي تطرأ على الحياة اليومية للناس، كانت مِن مسائل الحرف والأسواق، وهل ينبغي على القصر أن يهتمَّ بكل شيء؟ والحقيقة أن القصر يهتمُّ بكل شيء، ولكنه لم يكن يستطيع أن يتدخَّل تدخُّلًا مباشرًا غليظًا في تطور الأمور لا لهدف إلا خدمة مصلحة رجل واحد. هل كان ينبغي على القصر أن يُرسل موظَّفيه للجري وراء العملاء وإعادتهم إلى أبي عنوةً؟ وكان أبي يعترض قائلًا — وكنا نحن نناقش هذه الأشياء بدقة من قبلُ في البيت ثم نتكور بعد ذلك في ركن من الأركان وكأننا نتوارى عن أماليا التي كانت تلاحظ ما يجري كله ولا تتدخَّل فيه — إنه لا يشكو من الفقر لأنه يستطيع بسهولة أن يعرض الخسارة التي لحقَت بتجارته، وهذه كلها مسائل ثانوية إذا ما صفح القصر عنه. وكانوا يُجيبون عليه قائلين: وكيف يُمكن للقصر أن يصفح؟ ليس هناك اتهام إلى الآن، ليس هناك اتهام مثبت في السجلات، على الأقل في السجلات المسموح للمحامين بالاطلاع عليها، والنتيجة، على قدر ما تُبيِّن الأوراق، أنه ليس هناك شيء اتخذه ضده، وأنه ليس هناك ما يوشك أن يُتخذ ضده. وهل يمكنه أن يذكر القرار الرسمي الذي صدر ضده؟ لم يكن أبي يستطيع ذلك. أم هل حدث تدخل من جانب جهاز من الأجهزة الرسمية؟ لم يكن أبي يعلم شيئًا عن هذا. وما دام لا يعرف، وإذا لم يكن هناك شيء قد حدث، فماذا يريد؟ عمَّ يُريد الصفح؟ ربما عن إزعاج السلطات بلا هدف، وهذا شيء لا سبيل إلى الصفح عنه. ولم يكن أبي يتراجَع، ولقد كان في ذلك الوقت لا يزال قويًّا، وكان البطالة المفروضة عليه تتيح له من الوقت الكثير. «سأسترد لماليا شرفها وما وقت ذلك ببعيد» — هذا ما كان يقوله أبي لبرناباس وأحيانًا لي مرارًا كل يوم، ولكنه لم يكن يقوله إلا بصوت خفيض، فلم تكن أماليا لتسمعه. وهو لم يَقُله إلا من أجل أماليا، والحقيقة أنه لم يكن يُفكِّر في استرداد الشرف، بل كان يفكر في شيء واحد هو الصفح، ولكن الحصول على الصفح كان يفترض إثبات الذنب أولًا، وهذا ما كانت المكاتب تُنكره عليه إنكارًا. وانتهى إلى التفكير — وهذا يدلُّ على أن عقله كان قد ضعف — في أنهم يُخفون عنه الذنب لأنه لا يدفع بما فيه الكفاية، فلم يكن حتى ذلك الحين يدفع إلا الرسوم المحددة والتي كانت — على الأقل بالنسبة لظروفنا — مرتفعة ارتفاعًا كبيرًا. وهكذا أصبح يعتقد أنه ينبغي عليه أن يدفع المزيد، ولا شك أنه كان مخطئًا في هذا؛ ذلك أن الموظفين في المكاتب لدينا يقبضون الرشاوي ولكنهم لا يفعلون ذلك إلا ليوفروا على أنفسهم كلامًا لا يجدي ولا يفيد، ولكنك لا تحصل لقاء الرشوة على شيء. ولقد كان هذا هو أمل أبي ولهذا فلم نشأ أن نزعجه وبعنا ما بقيَ لدينا — ولم يكن ما بقي لدينا إلا الأشياء التي لا سبيل للاستغناء عنها تقريبًا — حتى نمدَّ الوالد بالمال اللازم لبحثه وتقصيه، وظللنا لوقت طويل نجد الرضا عندما نسمع الوالد على الأقل يُشخلِل ببعض العملة في جيبه وهو يخرج إلى مسعاه في كل صباح. أما نحن فكنا بطبيعة الحال نجوع النهار، ولا نصل إلى نتيجة لتدبير المال إلا إلى الإبقاء للوالد على شيء من الابتهاج بالأمل. ولم يكد يكون في هذا خير. فلم يلبث أن أحسَّ بالتعب في مشاويره، وطالت الأمور التي كانت توشك على الانتهاء لولا انسياب المال. ولما لم يكن هناك مَن يستطيع أن يُحقِّق في الحقيقة شيئًا خارقًا للمألوف، فقد تظاهر بعض الكتبة في بعض الأحيان بأنه يفعل شيئًا مُلمِّحًا إلى أن بعض الآثار قد ظهرت وأنه لن يتتبعها تنفيذًا لواجب مفروض وإنما حبًّا في الوالد، وبدلًا من أن يزداد الوالد ريبةً، ازداد تصديقًا. وعاد الوالد بوعد من هذا النوع واضح السخف وكأنه عاد إلى البيت بالبركة كل البركة، وكان من المؤلم أن نراه وهو يُحاول من وراء ظهر أماليا، أن يفهمنا أن نجاة أماليا التي لن تُفاجئ إنسانًا أكثر منها هي، قد أصبحت بفضل جهودِه وشيكة، وأن كل شيء لا يزال سرًّا ينبغي علينا أن نُخفيه أشد الإخفاء. من المؤكد أن الحال كانت ستستمر على هذا المنوال طويلًا، لو لم تتحوَّل إلى العجز التام عن إمداد الوالد بالمال. حقيقةً أن برونسفيك كان، بعد إلحاحٍ كثير وتوسلٍ، قد قبِل تعيين برناباس لدَيه مُساعدًا — على أن يذهب برناباس إليه في الظلام الدامس بالليل ليأخذ ما يكلَّف به من عمل ثم يُعيده بعد ذلك في الظلام الدامس — ولا بدَّ أن نَعترِف بأن برونسفيك قد عرض أعماله من أجلنا لشيء من الخطر، ولكنه لم يكن يدفع لبرناباس إلا النذر اليسير، وإن عمل برناباس لعمل جيد لا يعتوره أدنى عيب — ولكن الأجر الذي كان يحصل عليه كان لا يكفي إلا بشِقِّ الأنفس ليدفع عنا غائلة الجوع. وأعلن الوالد، بعد تمهيد كثير، وعلى نحو فيه الترفُّق الشديد به، أننا سنقطع عنه التدعيم المالي، ولكنه تقبل إعلاننا في هدوء كبير. لم يعد في إمكانه أن يرى بالعقل أن مساعيَه لا تؤدي إلى نتيجة، ولكنه كان قد تعب على الرغم من ذلك نتيجةً لضروب الخيبة المُتواترة.

حقيقةً إنه كان يقول — ولم يكن آنَذاك يتكلَّم بوضوح وهو الرجل الذي كان من قبل يتكلَّم بوضوحٍ يُوشك أن يكون مفرطًا — أنه لم يكن سيَحتاج إلا القليل من المال، لأنه كان سيعلَم الخبر اليقين في الغد أو اليوم، وأن كل الجهود التي بذلها راحَت أدراج الرياح وأنها إنما فشلت بسبب المال، وما إلى ذلك، ولكن نبرة كلامه كانت تدلُّ على أنه لم يكن يُؤمن بصحة هذا الرأي. ثم إنه بدأ على الفور مُباشرةً في مخطَّطات جديدة. ونظرًّا لأنه لم يتمكَّن من إثبات الذنب، ولم يكن في مقدورِه نتيجةً لهذا أن يصلَ إلى شيء عن طريق الجهاز الحكومي، فقد تحتَّم عليه أن يُحول جهوده كلَّها إلى التوسُّل والالتجاء إلى الموظَّفين شخصيًّا. ومن المؤكد أنه كان من بين الموظفين رجال قلبهم طيب شفوق ليس له أن يحتكم إليهم طالما كانوا في المكتب، ولكنهم قد يلينون له في خارجه إذا ما فاجأهم الإنسان في ساعة ملائمة.

وهنا قطع ك الرواية التي كان حتى ذلك الحين يُنصت إليها بأذن صاغية، سائلًا أولجا: وأنت لا تَستصوِبين ذلك؟

حقيقةً أن الرواية كانت ستُجيب حتمًا على هذا السؤال، ولكنه كان يريد أن يعرف الجواب الآن.

وقالت أولجا: لا. فليس هناك مجال للشفقة أو لما شابه ذلك. ولقد كنا نعرف ذلك على الرغم من أننا كنا صغارًا غررًا، وكذلك كان أبي بطبيعة الحال يعرف، ولكنه كان قد نسيَ ذلك كما نسيَ غالبية الأمور الأخرى. ووضع الوالد خطة تقوم على أن يقف على مقربة من القصر في المكان الذي تمرُّ منه عربات الموظفين، وأن يحاول ما استطاع أن يتقدم بالتماس الصفح. وهذه، إذا أردنا الصراحة، خطة مجرَّدة من العقل تمامًا، وما كان يمكن أن تؤدي إلى نتيجة حتى ولو حدث المستحيل ووصل الالتماس بالفعل إلى مسمع أحد الموظفين. فهل يمكن لموظف واحد أن يصفح؟ لا يمكن، على أحسن الفروض، أن يكون الصفح إلا من شأن السلطة كلها، ويبدو أن السُّلطة نفسها لا تستطيع أن تصفح، وأن كل ما تستطيع فعله هو نقل ما يصل إليها. ثم هل يستطيع موظَّف ما، حتى إذا نزل من العربة واهتمَّ بالموضوع، أن يُكوِّن صورةً عنه من غمغمة أبي الفقير المرهق الهَرِم؟ والموظفون مثقفون ثقافة جيدة، ولكنهم متخصِّصون في ناحية بعينها، ويكفي أن يسمع الموظف كلمة واحدة في ناحية تخصصه ليفهم على الفور الكثير، أما إذا كان الموضوع خارجًا عن تخصُّصه، فيُمكنك أن تشرحه له ساعات طوال. ولعله يهز رأسه عن أدب، ولكنه لن يفهم منه شيئًا. هذه كلها أمور بديهية. ويمكن أن نتأمل المسائل الحكومية التي تخصُّنا، إنها شيء هينٌ يُنجزه الموظَّف بهزَّة من كتفه، فإذا ما حاولنا نحن أن نفهم أصلها فقد نضيع حياتنا ولا نصل إلى شيء. وحتى لو التقى الوالد بالموظَّف المختص، فلن يستطيع هذا الموظف أن ينجز شيئًا بدون ملفات، ولن يستطيع أولًا وقبل كل شيء آخر أن يُنجز شيئًا في الشارع، وهو لا يستطيع أن يصفح، بل يستطيع أن ينجز الموضوعات بالطريقة الحكومية، ولهذا فهو سيُحيل الطالب إلى سبيل الحكومة من أجل هذا الهدف، ولقد حاول الوالد من قبلُ أن يَصِل عن طريق الحكومة إلى شيء ففشل كل الفشل. ولا بد أن الوالد قد بلغ من ضعف العقل درجة بعيدة فظن أنه يستطيع أن يصل بهذا المخطط الجديد إلى شيء. ولو كان هناك أدنى احتمال من هذا النوع لامتلأ الشارع بحمَلَة التوسُّلات والرجاءات. لقد كانت هناك استحالة يعرفها مَن أوتي أبسط تعليم، ولهذا كان الشارع خاويًا. ولعلَّ تلك الحال كانت تقوي الوالد فيما عقد عليه الأمل، فقد كان يَلتمِس القوة في كل ناحية. ولقد كان بحاجة شديدة إلى هذا. فما كان ينبغي للعقل السليم أن يَستسلِم إلى مثل هذه الأفكار الكبيرة، بل كان ينبغي عليه على أقصى تقدير أن يتبيَّن الاستحالة واضحةً جلية. والموظَّفون عندما يستقلُّون العربات ذاهبَين إلى القرية أو عائدَين إلى القصر، لا يتنزَّهون، بل هناك عمل ينتظرهم في القرية وفي القصر، ولهذا فهم يندفعون بأقصى سرعة. ولا يخطر ببالهم حتى أن يتطلَّعوا من نافذة العربة بحثًا عن طالب حاجة في الخارج … وإنَّ العربة لتغصُّ بالملفات التي يعكف الموظَّفون على دراستها!

وقال ك: ولكنَّني رأيت باطن زحافة أحد الموظَّفين ولم يكن بها ملفات.

لقد انفتح أمام ك في حكاية أولجا عالم عظيم يُوشك أن يكون عصيًّا على التصديق حتى إن ك لم يستطع أن يمنعَ نفسه من أن يتحرَّك إليه بخبراته القليلة ليقنع نفسه بوجود هذا العالم وليقنع نفسه هو بوجوده الذاتي على نحو أكثر وضوحًا.

وقالت أولجا: هذا مُمكِن. وفي هذه الحالة يكون الموضوع أشدَّ وأعنف، ومعنى هذا أن الموظَّف يُعالج مسائل هامة جدًّا ملفاتها ثمينة أو ضخمة لا يُمكن أخذها في العربة، وفي هذه الحالة يأمُر الموظف بأن تندفع الخيول التي تجر العربة بسُرعة أكبر. وليس هناك على أية حال مَن يمكن أن يمنح الوالد شيئًا من الوقت. هذا إلى أن الطرق الموصلة إلى القصر كثيرة، وتارةً تكون هذه الطريق هي المفضَّلة فإذا الغالبية يسلُكونها، وتارةً تكون طريق أخرى هي المفضَّلة فيَندفعون إليها. ولم يتوصَّل أحد للآن إلى القواعد التي يقوم عليها هذا التغيير. فهم في الساعة الثامنة صباحًا قد يتحوَّلون إلى طريق أخرى، وما تمرُّ عشر دقائق حتى يسلكون ثالثة، وقد يعودون بعد نصف ساعة إلى الأولى ويظلُّون عليها طوال اليوم، ولكن احتمال التغيير قائم في كل لحظة. حقيقةً، إن الطرق كلها تتلاقى على مقربة من القرية، ولكن العربات كلها تندفع هناك بسرعة هائلة حتى إذا كانت على مقربة من القصر سارت بسرعة مُعتدلة نوعًا ما. وكما أن سير العربات في الطرقات يستعصي على الفهم ولا يلتزم بنظام، كذلك عدد العربات. فهناك أيام لا تظهر فيها عربات على الإطلاق، وهناك أيام تكثر العربات فيها كثرة شديدة. ويمكنك أن تتصوَّر حال والدنا حيال هذا كله. إنه يرتدي أحسن حلة — وتكاد تكون هي حلته الوحيدة — ويخرج في كل صباح تصحبه دعواتنا. ويأخذ معه شارة صغيرة من شارات المطافئ — والحقيقة أنه احتفظ بها بغير حق — ويعلقها على سترته خارج القرية، وهو يخشى أن يفعل ذلك في القرية، على الرغم من أن هذه الشارة صغيرة جدًّا لا يكاد إنسان يراها على بُعد خُطوتين، ولكن الوالد يرى أنها تصلح لاجتذاب أنظار الموظفين المندفعين بعرباتهم إليه. وهناك على مسافة غير بعيدة عن الطريق المؤدية إلى القصر مزرعة يُمثلها رجل اسمه برتوخ يُورِّد الخضروات إلى القصر، وقد اختار الوالد مكانه على القاعدة الحجرية الضيقة لسور المزرعة الحديدي. ولقد صبر برتوخ على هذه الحال لأنه كان فيما مضى صديقًا للوالد وكان من أخلص عملائه؛ ذلك أن قدمه مصابة بشيء من التشويه، وكان يعتقد أن الوالد هو الوحيد الذي يستطيع أن يصنع له حذاءً يُناسبها. وهناك جلس الوالد اليوم تلو اليوم، وكان الوقت خريفًا تعكَّره جوُّه، وكَثُرت أمطاره، ولكن الوالد لم يكن يعبأ بالجو وأحواله على الإطلاق. كان الوالد يضع يده في الصباح في ساعة معيَّنة على مقبض الباب، ويُلوِّح إلينا مودعًا، وكان يعود في المساء — وكان يبدو لنا كأنه كان يزداد كل يوم انحناءً — كان يعود وقد ابتلَّ ما عليه من ثيابٍ أشد البلل، فيُلقي بنفسه في ركن. وكان في بداية الأمر يحكي لنا عن خبراته اليسيرة، يحكي مثلًا أن برتوخ أخذته الشفَقة به والصداقة القديمة فألقى إليه من فوق السور بطانية، أو يحكي أنه يظن أنه تبيَّن في إحدى العربات التي مرَّت به هذا أو ذاك الموظف، أو يحكي أن حوذيًّا عرفه فمسَّه بجلدة السوط مداعبًا. ولكنَّه فيما بعد كف عن هذا الحديث، ويبدو أنه فقد الأمل في أن يصل هنا إلى شيء، على أنه ظل يَعتقِد أن واجبه أو مهمته الفظيعة تفرض عليه أن يذهب إلى هناك وأن يقضي اليوم بِطُوله هناك. وفي ذلك الوقت بدأت آلامه الروماتزمية، كان الشتاء يقترب، وتساقط الثلج مبكرًا، والشتاء عندنا يبدأ مبكرًا. وهكذا كان يجلس هناك تارةً على الحجر المبلَّل بمياه المطر، وتارةً يجلس في الثلج. وكان في الليل يتأوَّه من فرط آلامه، وكان في بعض الأحيان يحتار في الصبح ولا يعرف هل يخرج أو يبقى، ثم كان يتغلب على حيرته وينصرف. وكانت الأم تتعلَّق به وتُحاول منعه من الخروج، فسمح لها، ويبدو أنه فعل ذلك عن خوفٍ تملَّكه بعد أن أصبحت أعضاؤه لا تُطيعه، بأن تذهب معه، وهكذا استبدت الآلام بأمي هي الأخرى. وكثيرًا ما كنا نذهب إليهما، نحمل إليهما الطعام أو نقوم بزيارتهما فحسب، ونحاول إقناعهما بالعودة إلى البيت. وكم كنا نراهما هناك خائرَين يعتمد أحدهما على الآخر على مقعدهما الضيق وقد التفا في غطاء واحد رقيق لا يكاد يشملهما معًا وليس حولهما إلا صفحة رمادية من الثلج والضباب لا يرى الناظر فيها مهما بعُد ببصرِه طولًا وعرضًا لأيام كثيرة عربةً أو إنسانًا! يا له من منظر! يا له من منظر يا ك حتى جاء صباح لم يستطع الوالد فيه أن يُنزل ساقَيه المتخشبتَين من السرير. لقد كانت حالة كئيبة! كان في غمرة هذَيان الحمى يتصوَّر كأن عرَبة وقفت الآن في المكان العالي عند برتوخ ونزل منها موظف وبحث عنه على طول السور ثم عاد إلى العربة غاضبًا، يهزُّ رأسه أسفًا! وكان الوالد يُصدر في تلك الأثناء صرخات عالية وكأنما كان يريد من مكانه هنا أن يلفت نظر الموظَّف إليه وأن يشرح له أنه لا ذنب له في الغياب عن السور. وطال الغياب، فلم يَعُد إلى مكانه هناك قط، وأصبح عليه أن يَلزم الفراش الأسابيع الطوال. وتولَّت أماليا شأن الخدمة والرعاية والعلاج، واستمرت على ذلك حتى اليوم باستثناء فترات قليلة. وهي تعرف بعض الأعشاب التي تُهدئ الآلام، ولا تكاد تحتاج إلى النوم، ولا تفزع بحال من الأحوال، ولا تخاف، ولا تحيد عن الصبر أبدًا، وهي تقوم بالأعمال اللازمة للوالد والوالدة. وإذا كنَّا نحن نحوم هنا وهناك حائرين دون أن نتمكَّن من المساعدة بشيء، فإنها تظلُّ هي في كل المواقف هادئة فاترة. فلمَّا تجاوَز الوالد الخطر وأصبح في مقدور الوالد أن يَهبِط من الفراش مُستندًا على شيء من يمين ويسار في حيطة وبجهد جهيد، تراجعت أماليا وتركته لنا.

مخططات أولجا

– واتجه التفكير الآن في إيجاد عمل للوالد تكون لديه القدرة عليه؛ أي عمل يجعله على الأقل يعتقد أن الغرض منه هو درء الذنب عن الأسرة. ولم يكن من الصعب العثور على عمل من هذا النوع، ولم يكن القعود أمام مزرعة برتوخ في الحقيقة سوى عملًا قوامُه النيَّة والنية فقط، ولكنَّني وجدتُ عملًا أعطاني بعض الأمل. كان الحديث إذا دار في المكاتب أو على لسان الكتبة عن ذنبنا، يقتصر على الإشارة إلى إهانة ساعي سورتيني، ولم يكن هناك مَن يجرؤ على الدخول في الأمر إلى أبعد من هذا الحد. وعلى هذا قلت في نفسي، إذا كان الرأي العام، على الأقل فيما يبدو، لا يعرف إلا عن إهانة سورتيني، فمن المُمكن، على الأقل ظاهريًّا، إصلاح الموضوع إذا ما طيَّبنا خاطر الساعي. فليس هناك عريضة اتهام، على نحو ما قالوا، وليس هناك مكتبٌ يعالج الموضوع، ولهذا فللسَّاعي حرية الصفح عما مسَّ شخصه، وما يزيد الموضوع في الحقيقة عن ذلك. ولم يكن من المُحتمل أن يتَّسم هذا الأمر بأهمية حاسمة، فما كان إلا أمرًا ظاهريًّا، وما كان يُمكن أن يتطوَّر على نحوٍ آخر. وستكون النتيجة أن الوالد سيَبتهِج، ولعلَّنا نستطيع إرضاءً له أن نضيِّق الخناق على أولئك الذين قدموا إليه المعلومات والبيانات وعذبوه بها، وكان أول ما ينبغي فعله هو بطبيعة الحال العثور على الساعي. فلما حكيت للوالد عن الخطة غضب في بداية الأمر غضبًا شديدًا، لأنه كان قد أصبح عنيدًا مُفرطًا في العند، وكان تارةً يعتقد — ولقد حدث هذا أثناء مرضِه — أننا عُقناه عن الوصول إلى النجاح النهائي بقَطعنا العون المالي عنه أولًا، وبإلزامه الفراش الآن، وكان تارةً أخرى عاجزًا عن استيعاب أفكار الآخرين. وكان أن رفض الخطة قبل أن أفرغ من عرضها، وكان رأيه أنه ينبغي عليه أن يستأنف الانتظار عند مزرعة برتوخ، ولما لم يكن يستطيع السعي إلى هناك على قدميه كل يوم، فمن الواجب أن ننقله إلى هناك بعربة اليد. ولكنَّني لم أفقد الأمل، وكررت المحاولة وإذا به يتقبل الفكرة تدريجيًّا، ولم يكن يُزعجه إلا أنه سيكون في الأمر كله تابعًا لي، فأنا التي كنتُ قد رأيت الساعي آنذاك، وهو لا يعرفه، والحقيقة أن السعاة يتشابهون، وأنني لم أكن واثقة تمام الثِّقة من أنني سأتعرَّف على الساعي المقصود إن رأيته. وبدأنا نذهب إلى حان السادة ونبحث بين الخدم. والحقيقة أن الساعي كان خادمًا لدى سورتيني، وكان من المحتمَل جدًّا أن نجده بين خدم سيدٍ آخر، وإذا لم نتمكَّن من العثور عليه، فربما كان من المُمكن أن نحصل على أخبار عنه من الخدم الآخَرين. وكان ينبغي علينا لهذا أن نذهب في كل مساء إلى حانة السادة، ولم يكن هناك مكان نَلقى فيه ترحيبًا، فما بالك بهذا المكان الذي لم يكن كل مَن لدَيه مال يستطيع الظهور فيه. ولكنَّهم هناك تبيَّنوا أنهم يحتاجون إلينا، وأنت لا شك تعرف كيف كانت فريدا تُعاني من الخدم معاناتها من الكارثة الحالة، والحقيقة أن الخدم في الغالب أناس هادئون دلَّلهم العمل الخفيف وأصابهم بالتثاقُل. والموظَّفون عندما يدعو أحدهم للآخر دعوة طيبة يقولون «عسى تنعم بما ينعم به الخدم!» ويقال إن الخدم هم — من ناحية التنعُّم — السادة الحقيقيون في القصر، وهم يعرفون كيف يَظهرون بمظهرٍ هادئ وقور حيث يخضعون لقوانين القصر — وقد أكَّد لي الكثيرون هذه الحقيقة — ونحن نجد هنا بقايا من هذا المسلك، ولكنها مجرَّد بقايا، وفيما عدا ذلك يبدو الخدم هنا في القرية حيث لا تسري عليهم قوانين القصر كاملة وكأنهم يتحوَّلون إلى أناس آخرين. إنهم هنا جمهرة غاشمة جامحة لا تخضع للقوانين بل تخضع لشهواتها التي لا تشبع. إن فجورهم لا يعرف حدًّا، ومن حسن حظ القرية أنهم لا يخرجون من حان السادة إلا بأمر، أما في حان السادة فينبغي على المرء أن يجد وسيلة للتصرُّف معهم. ولقد لقيَت فريدا في هذا السبيل صعوبة شديدة، ولهذا رحَّبت ترحيبًا كبيرًا باستخدامي لتَهدئة الخدم. فأنا أذهب منذ أكثر من عامين على الأقل مرتَين أسبوعيًّا فأقضي الليل مع الخدم في الحظيرة. وكان أبي فيما مضى، عندما كان يستطيع الذهاب معي إلى حانة السادة، ينام في ركن ما بقاعة الشراب ويَنتظِر قدومي في الصباح المبكِّر بأخبار جديدة. وكانت تلك الأخبار قليلة جدًّا. ونحن إلى اليوم لم نَعثُر على الساعي الذي نبحث عنه، ويقال إنه لا يزال يعمل في خدمة سورتيني الذي يقدره أشد التقدير، ويقال إنه تبعه عندما انتقل ليَعتكِف في مكتبٍ بعيد من مكاتب المستشارية. وكانت حال غالبة عليه مثل حالنا، قد مضى عليهم وقتٌ طويل لم يَروِه، وإذا ادعى أحدهم أنه رآه، فلم يكن ادِّعاؤه إلا خطأ. وبهذا قد يمكن القول بأن خطتي فشلت، ولكنها في الحقيقة لم تفشل كليةً، فنحن لم نجد الساعي، وحالة الوالد قد تدهوَرت للأسف تمامًا نتيجة لذهابه إلى حان السادة ونَومِه هناك، وربما كذلك نتيجة لإشفاقه عليَّ — على قَدرِ ما كان قد بقيَ لديه من قُدرة على الإشفاق — وانتهى إلى الوضع الذي رأيته عليه، ولعلَّ حالته أفضل من حالة الأم التي نتوقَّع في كل يوم وفاتها، وما يؤجل وفاتها إلا جهد أماليا الخارقة للمألوف في العناية بها. أما الشيء الذي حقَّقته في حان السادة فيتمثل في ارتباطٍ ما بالقصر. ولا تحتقرني إذا قلت لك إنني لا أندم على ما فعلت. ولعلك تتساءل عما يُمكن أن يكون عليه هذا الارتباط من الأهمية. وأنت على حق. فليس الارتباط كبيرًا. فأنا أعرف الآن خدمًا كثيرين، أو أعرف على وجه التقريب خدمَ كل السادة الذين نزلوا إلى القرية في السنوات الماضية، وإذا أنا ذهبت يومًا إلى القصر، فلن أكون غريبة هناك. حقيقةً إن هؤلاء الذين أعرفهم هم الخدم في القرية، وإنهم في القصر غيرهم هنا، ولعلَّهم وهم هناك لا يعرفون أحدًا، وبخاصة لا يعرفون مَن كانت لهم به علاقة في القرية، على الرغم من أنهم قد أقسموا لي في الحظيرة مائة مرة على أنهم سوف يفرحون أشد الفرح بلقائي في القصر. ولقد علمت قلة ما تعنيه مثل هذه الوعود. ولكن هذا ليس أهم ما في الأمر. فإن علاقتي بالقصر لا تقوم على الخدم فحسب، بل تقوم على أنني أتوقع وآمُل أن يكون هناك واحد يلاحظني ويلاحظ ما أعمل — وليس من شكٍّ في أن إدارة الخدم الكثيرين قسم بالغ الأهمية، جم الاهتمام في الديوان — وأن هذا الذي يلاحظني قد يصل إلى حكم عليَّ أكثر رقة، وقد يتبيَّن أنني أقوم — بطريقة مؤسفة حقيقةً — بالنضال من أجل أسرتنا وباستئناف جهود الوالد. وإذا تصور الإنسان الأمر على هذا النحو فقد يغفر لي قبولي المال من الخدم وصرفه على أسرتنا. هذا إلى أنني حققتُ شيئًا آخر، لا شك في أنك ستُضيفنه إلى ذنبي. لقد عرفت من الخدم شيئًا عن كيفية الوصول إلى الدخول في خدمة القصر بطرق ملتوية، ودون ما حاجة إلى طريقة التعيين العامة الصعبة التي تطُول إلى أعوام، والحقيقة أن الإنسان لا يُصبح بهذه الطرق المُلتوية موظفًا عامًّا، بل موظفًا سريًّا بنصف ترخيص، ليس له حقوق وليس عليه واجبات، وأقبح ما في الأمر أن الإنسان لا تكون عليه واجبات، وإنما يتحقَّق للإنسان شيء، وهو أنه يكون بجوار كل الأمور: فيستطيع أن يتبيَّن الظروف السانحة وأن يَنتهزَها، وإذا لم يكن الإنسان موظَّفًا، فقد يجد بالمصادفة عملًا ما، فقد يحدث أن يُستدعى موظفٌ ليس موجودًا في تلك اللحظة بالذات، فيعجل الإنسان بتلبية النداء، وإذا به يصبح ما لم يكن منذ لحظة: يصبح موظفًا. ولكن متى يجد الإنسان مثل هذه الفرصة؟ ربما في الحال، فما يكاد الإنسان يدخل، ما يكاد يتلفَّت حواليه، حتى تكون وهو المبتدئ يُدركها وينتهزها، وربما مرَّت السنوات التي تزيد على المدة التي تتطلَّبها طريقة التعيين الرسمية دون أن يجد الإنسان الفرصة، ومَن كان موظفًا بنصف ترخيص من هذا النوع لا يحقُّ له أن يدخل سلك الوظائف بالطريقة الرسمية. وهذا يعني أن المحاذير كثيرة. ولكنها قليلة بالقياس إلى طريقة التعيين الرسمية التي تُدقِّق أفظع التدقيق في الاختيار والتي لا تنبذ من البداية مَن كانت عائلته مشبوهة في سمعتها، إن مَن كانت تلك هي حالة يَرتعد سنوات طويلة عندما يتقدم للتعيين عن هذا السبيل انتظارًا للنتيجة، والجميع يسألونه من كل ناحية مُندهِشين منذ اليوم الأول كيف يجرؤ على السعي إلى شيء ميئوس منه على هذا النحو، ولكنه يتعلق بشيء من أمل وإلا كيف يُمكنه أن يعيش؟! وتمر أعوام طويلة، ربما يكون قد أصبح بعدها شيخًا مُتقدمًا في السن، ويتلقَّى الرفض، ويعلم أن كل شيء قد ضاع وأن حياته كانت عديمة الجدوى. وهناك بطبيعة الحال استثناءات، وهذا هو ما يُغري. فقد يحدُث أن يقبل في نهاية المطاف أناس من ذوي السُّمعة المشبوهة، وهناك موظَّفون يحبون رغم إرادتهم رائحة مثل هذه الحياة الغشيمة، فإذا هم أثناء اختبارات التعيين يُشمشمون بأنوفهم، ويزمُّون بأفواههم، ويقلبون عيونهم، فمثل هذا الرجل المشبُوه السُّمعة يلوح لهم جذابًا مثيرًا للشهية إلى درجة هائلة، فلا يستطيعون مقاومته إلا بالاستمساك العنيف بكتب القانون وما احتوَت من مواد. وقد يحدث في بعض الأحيان ألا يساعد ذلك الرجل على التعيين، بل يؤدي إلى إطالة إجراءات التعيين إطالة لا نهاية لها فهي لا تنتهي إلى نهاية بل توقف بعد وفاة الرجل. وهكذا فإن طريقة التعيين الرسمية القانونية، وكذلك الطريقة الأخرى تمتلئان جميعًا بالصعوبات المكشوفة والمُستترة، ومن الفطنة أن يزن الإنسان الأمور كلها وزنًا دقيقًا قبل أن يُقْدِم على شيء من هذا القبيل. ولقد عكفنا برناباس وأنا على وزن الأمور وزنًا دقيقًا، كنا نجلس معًا، عندما أعود من حان السادة، فأحكي الجديد من الأخبار التي نَمَت إلى عِلمي، ونظلُّ عاكفين على مناقشتها الأيام الطوال، وكان العمل يظلُّ في يد برناباس أطول ممَّا ينبغي. وربما وقع عليَّ في رأيك هنا ذنب. لقد كنت أعرف أن حكايات الخدم لا يَعتمِد عليها كثيرًا، وكنت أعرف أنهم لم يكونوا يحبُّون الحديث إلا عن القصر، وأنهم كانوا يحولون انتباهي إلى أمور أخرى، وأنهم كانوا لا يقولون الكلمة إلا بعد توسُّل واستجداء، ولكنَّهم كانوا إذا تحرَّكت نفوسهم، يتكلمون فيُثرثرون بالكلام الفارغ، ويبالغون ويتزايَدون في المبالغة والتخريف، فلا يكون على ما يبدو في التصايح اللانهائي الذي يتبع الواحد فيه منهم الآخر على أفضل الفروض أكثر من بضع إشارات ضئيلة. أما أنا فكنتُ أحكي لبرناباس كل شيء على نحو ما شاهدت ولاحظت، وكان هو — ولم تكن لدَيه القدرة على التمييز بين الصدق والكذب، وكان نتيجة لوضع أسرتنا مُتعطشًا إلى الاستماع إلى مثل هذه الأشياء — يتجرع هذه الأخبار تجرعًا ويتحرَّق شوقًا إلى مزيد. وهكذا وقعت خطتي التالية بالفعل على برناباس. لم يَعُد هناك أمل في بلوغ المزيد عن طريق الخدم. ولم يكن هناك من سبيلٍ إلى العثور على ساعي سورتيني، ولم يكن هناك أمل في العثور عليه يومًا ما، ولاح الأمر كان سورتيني وبالتالي الساعي يَنحازان إلى بعيد، وكثيرًا ما اكتنف منظرُهما واسمهما النسيان، وكنتُ أضطرُّ في أحوال كثيرة إلى وصفهما بإسهاب ولا أصِلُ في النهاية إلى نتيجة أكثر من أن سامعي يذكرهما بصعوبة ولا يستطيع أن يذكُر لي من أمرهما أكثر من هذا. أما حياتي مع الخدم فلم يكن لي بطبيعة الحال تأثير على كيفية الحكم عليها، وكنتُ آمُلُ أن ينظر إليها على النحو الذي تسير عليه، وأن يَقتطع شيء ولو ضئيل من ذنب الأسرة، ولكني لم أجد من الدلائل ما يُبين لي ذلك. ومع ذلك فقد بقيت عليها، نظرًا لأنني لم أكن أعرف لي إمكانية أخرى للحصول على شيء في القصر. ولكني وجدت لبرناباس إمكانية في القصر. ذلك أنني كنت عندما أرغب — ولقد كنتُ شديدة الرغبة — أستطيع أن أتبيَّن أن مَن يدخل في خدمة القصر يستطيع أن يُحقِّق الكثير لعائلته. والسؤال هو بطبيعة الحال إلى حدٍّ يُمكن تصديق هذه الحكايات؟ لم يكن من الممكن تبيان هذا، ولكنَّني كنت على بيِّنة من أن ما يمكن الوصول إليه على هذا النحو قليل. فإذا أكَّد لي مثلًا خادم لن أراه في المستقبل أبدًا، وحتى لو رأيته فلا يكاد يكون في مقدوري معرفته، أنه سيُساعد أخي على الحصول على وظيفة في القصر، أو أنه سيُساعده على الأقل إذا ما هو أتى إلى القصر بأيِّ وسيلة، فيقدم إليه مثلًا ما ينعشه — فقد علمت من حكايات الخدم أنَّ المتقدمين للوظائف يفقدون الوعي أثناء فترة الانتظار الطويلة أو يَضطرِبون فيضيع عليهم كل شيء إذا لم يتولَّ الأصدقاء إنعاشهم — فإنني أحمل هذه الحكايات على أنها تحذيرات صحيحة على ما يبدو، وإن كنت متأكِّدة من أن الوعود المتصلة بها لا أساس لها. ولم يكن الأمر على هذا النحو بالنِّسبة لبرناباس. حقيقةً إنني حذَّرته من أن يصدق هذه الحكايات، ولكنَّني ما كدت أحكي له حتى كفاه هذا سببًا لقبول مشروعاتي. ولم تكن حكاياتي أنا هي التي أثَّرت عليه الأثر الأكبر، بل أثرت عليه خاصةً حكايات الخدم. وهكذا وجدت أنني لا أعتمد إلا على نفسي وحدي كل الاعتماد، فلم يكن هناك مَن يستطيع التفاهم مع أبي وأمي سوى أماليا، وكانت أماليا تعتزلني أكثر فأكثر كلَّما أمعنت في استئناف مخطَّطات أبي على طريقتي، وهي قد تتكلَّم معي أمامك أو أمام الآخرين، ولكنَّنا لا نتكلَّم معًا مُطلقًا عندما نكون وحدنا. ولقد تحوَّلت في يد الخدم في حان السادة إلى لعبة كانوا يَبذُلون كل الجهود لتحطيمها مُغتاظين. إنني لم أتكلَّم مع واحد منهم في السنتين الماضيتين كلمة واحدة تقوم على الألفة والود، فكل الكلام هناك خبثٌ وكذبٌ وجنونٌ، وهكذا لم يَعُد أمامي سوى برناباس، ولقد كان برناباس صغير السن جدًّا. وكنتُ وأنا أحكي له حكاياتي وأرى في عينيه البريق الذي احتفظ به منذ ذلك الحين، أفزع، ولكنني لم أكن أتراجع، لأن اللعبة كانت تغري بالكثير. وأنا لم أكن أتابع بطبيعة الحال مخطَّطات كمخططات أبي التي كانت كبيرة وإن كانت في الوقت نفسه فارغة جوفاء، ولم يكن لديَّ تصميم الرجال، ولهذا اكتفيت بالسعي لإصلاح إهانة الساعي، وكنت أرجو أن يذكر التواضع من بين ميزاتي. وهكذا أخذت أسعى عن طريق برناباس سعيًا وثيقًا وعلى نحو مختلف إلى تحقيق ما قد فشلت أنا في تحقيقه. لقد أهنا ساعيًا وتسبَّبنا في انعزاله عن المكاتب القريبة، فليس هناك شيء أقرب إلى التفكير من أن نُقدِّم في شخص برناباس ساعيًا آخر، ونجعل برناباس يقوم بعمل الساعي المهان، ونُمكِّن بهذا للساعي المهان من البقاء في البعد هادئًا ما شاء من وقتٍ حتى ينسى الإهانة. والحقيقة أنني تبيَّنت أن هذه الخطة المُتواضِعة لا تخلو من تكبُّر، فهي قد تُوحي بأننا نريد أن نُملي على السلطات كيف تُنظِّم شئون الأفراد أو بأننا نشكُّ في أن السلطات لها القُدرة من تلقاء ذاتها على اتخاذ أفضل التدابير، بل في أنها قد اتَّخذت من تلقاء ذاتها بالفعل أفضل التدابير قبل أن يخطُر ببالنا بوقتٍ طويل أن هناك ما يُمكن اتخاذه من تدابير. ولكنَّني عدتُ أعتقِد أنه من المحال أن تُسيء السلطات فهمي إلى هذا النحو، وإنَّ السلطات إذا فعلت هذا فإنها لا تفعلُه إلا بغرضٍ وعن قصد، ومن هنا فإنَّ فكرة بحث كل ما أقوم به من جهود مرفوضة أصلًا. ولهذا فلم أنصرف عما انتوَيت عليه، وأعانني على ذلك طموح برناباس. ولقد استبدَّ الكِبْر ببرناباس في فترة التمهيد والاستعداء حتى إنه اعتبر العمل في صناعة الأحذية عملًا قذرًا بالنسبة إليه عندما يصبح في المستقبل موظفًا في المستشارية. بل إنه تجاوَزَ ذلك وأصبح يجرؤ على مُعارضة أماليا إذا تحدَّثت إليه بكلمة، وهو ما كان يحدث نادرًا، وكان يُعارضها عن مبدأ. وسمحت له عن طيب خاطر بهذه المُتعة السريعة التي انتهَت هي والكبرياء بسرعة، كما كنت أتوقَّع، في اليوم الأول لذهابه إلى القصر. وبدأ برناباس عمله الظاهري الذي حكيتُ لك عنه. وكان دخول برناباس للمرة الأولى بدون صعوبة إلى القصر أو على الأصح إلى هذا القِسم من الديوان الذي سيُصبح، إنَّ صح التعبير، مكان عملِه مثارًا للدهشة. لقد أوشك هذا النجاح الذي حقَّقه أن يذهب بعقلي آنذاك، وجريت من فوري إلى أماليا، عندما همس إليَّ برناباس في طريق عودته إلى البيت بالخبر، وأمسكتُ بها، وضمَمتُها إليَّ في ركن، وقبَّلتُها بشفتي وأسناني بعنف فبكَت من الألم والفزع. ولم أستطع من فرط انفعالي أن أقول لها شيئًا، ثم إننا لم نكن قد تحادثنا معًا منذ وقت طويل، فأجَّلت الحديث إلى يوم تالٍ. فلما كانت الأيام التالية لم يَعُد هناك كلام يقال. فلم يزد ما بلغناه بسرعة بعد ذلك شيئًا. وظلَّ برناباس عامَين كاملين يعيش هذه الحياة الرتيبة المُقبضة. لقد أعرض الخدم كل الإعراض، وكنتُ قد أعطيت برناباس خطابًا صغيرًا أوصيت الخدم فيه بأن يولوه اهتمامهم، وذكَّرتهم فيه بوعودهم. وعلى الرغم من أن برناباس كان أحيانًا يقع على خدم لا أعرفهم، وبالرغم من أن طريقة برناباس كانت تُثير الغيظ؛ فقد كان ينشر الخطاب ويصمُت ولا يجرؤ على الكلام في المكان العالي، فإنه من المخجل أنهم لم يُساعدوه، حتى جاءه أحدهم بالخلاص — خلاصًا وكان يمكننا نحن أن نحققه وحدنا ومنذ وقت طويل — ولعلَّ هذا الخادم الذي جاءه بالخلاص كان قد رأى الخطاب عدة مرات يُبسط أمامه ويفرض عليه فرضًا. ولم يكن الخلاص يتمثَّل إلا في أنه أخذ الخطاب وكمشه في يده وألقى به في سلة المهملات. ولقد خطر ببالي أنه أوشك أن يقول: «إنكم قد اعتدتُم على معالجة خطاباتنا على النحو نفسه.» وعلى الرغم من أن هذه الفترة ظلَّت بلا نتيجة فإنها كانت طيبة التأثير على برناباس، إذا شاء الإنسان أن يرى أثرًا طيبًا في أنه تقدَّم في السن قبل الأوان وأصبح رجلًا قبل الأوان. أما أنا فكثيرًا ما كنتُ أحسُّ بالحزن عندما أتطلَّع إليه وأقارنه بالصبي الذي كانَهُ قبل عامَين. هذا على الرغم من أنني أفتقر إلى السلوى والمسانَدة اللتَين يُمكن أن يمنحني إياهما عندما يكون رجلًا. إنه ما كان ليَصِل إلى القصر بدوني، لكنه منذ وصل إلى هناك أصبح مُستقلًّا عني، وأنا صفيَّته الوحيدة، ومع ذلك فهو بكل تأكيد لا يحكي لي إلا جزءًا صغيرًا مما يُثقل قلبه. إنه يحكي لي كثيرًا عن القصر، ولكن الإنسان لا يستطيع استنتاجًا من حكاياته ومن الوقائع الصغيرة التي يذكرها أن يفهم ولو من بعيد، كيف حوره القصر وجعله على هذا النحو. إن الإنسان لا يستطيع بصفة خاصة أن يفهم كيف فقدَ الآن، وقد أصبح رجلًا، الشجاعةَ كل الشجاعة التي كانت لدَيه صبيًّا، والتي كانت آنذاك عنيفة نخشى كلنا نتائجها كل الخشية. إن الوقوف والانتظار باستمرارٍ يومًا بعد يوم بدون فائدة، وبدون ما أمل في التغيير، يُصيبان الإنسان بالخور واليأس، ويجعلانه في النهاية عاجزًا عن أن يفعل شيئًا سوى هذا الوقوف اليائس. ولكن لماذا لم يُقاوم فيما مضى؟ إنه لم يفعل لأنه تبيَّن بعد قليل أنني كنتُ على حق، وأن الطموح لا هدفَ له هناك، إلا احتمال تحسين وضع أسرتنا. ذلك أن كل شيء هناك — باستثناء نزوات الخدم — مُتواضِع جدًّا، إن الطموح يلتمس إشباعه في العمل، ونظرًا لأن الموضوع يكتسي في هذه الحالة بالأهمية الكبرى، فإن الذات تتلاشى تمامًا، وليس هناك مكان للرغبات الصبيانية. ولقد اعتقد برناباس، على ما حكى لي، أنه رأى بوضوحٍ عِظَمَ سلطانٍ وعِلمَ الموظَّفين، حتى أولئك الموظفون الذين تحوم حولهم الشكوك الكثيرة، والذين أتيح له أن يلج حُجرتهم. لقد رأى كيف يملُّون بسرعة بعيون توشك أن تنقفل، وأيدٍ لا تأتي إلا بحركات قصيرة، وكيف يُنهون الأعمال مع الخدم الغلاظ بحركة من السبابة لا ينطقُون معها بكلمة، فيهرع الخدم في تلك اللحظات وهم يلهثون في صعوبة ويبتسمون في سعادة، ورأى كيف يجدون النص المعقَّد في كتبهم وينكبُّون عليه، وكيف يندفع الآخرون، على قدر ما يسمح لهم المكان الضيق بالاندفاع، ويمدُّون نحوه رقابهم. وكان أن أحدثت هذه الأشياء وأشباهها في ذهن برناباس صورًا عظيمة لهؤلاء الرجال، وأحسَّ بأنه، لو تمكن من أن يجعلهم يلحظونه ويسمحون له بأن يتحدَّث إليهم ببضع كلمات — لا باعتباره غريبًا، ولكن باعتباره زميلًا في المستشارية … زميلًا قليل الرتبة بطبيعة الحال — فإنه سيتمكَّن من تحقيق أشياء لأسرتنا لا قِبَل لأحد على التنبؤ بها. ولكنه لم يصل إلى هذا الحد، وبرناباس لا يجرؤ على فعل شيء من شأنه أن يَقربه إليه، على الرغم من أنه يعرف تمامًا، أنه بغض النظر عن شبابه وسط أسرتنا، قد تقدَّم نتيجةً للظروف المؤسفة إلى مرتبة رب الأسرة المثقلة بالمسئولية. وهنا أَصِل إلى آخر ما أعترف لك به: لقد أتيت أنت إلى هنا منذ أسبوع. وسمعت أنا في حان السادة شخصًا يُشير إلى ذلك فلم أعبأ بالأمر. لقد أتى موظَّفُ مساحة. ولم أكن أعرف حتى معنى العبارة. وفي المساء التالي جاء برناباس إلى البيت مبكرًا، وكنتُ مُعتادة على الذهاب لملاقاته في ساعة معيَّنة والسير معه جزءًا من الطريق، فرأى أماليا في الحجرة، ولهذا جرَّني إلى الشارع ووضَع وجهَه على كتفي وبكى عدة دقائق. لقد تحوَّل من جديدٍ إلى الصبي الذي كانه فيما مضى. لقد حدث له شيء لم ينمُ بعدُ النموَّ الكافي لاحتماله. كان يبدو وكأن عالمًا جديدًا انفتح أمامه فجأةً وكأنه لا يستطيع تحمُّل ما في هذا الجديد من سعادة وهموم. ولم يكن ما حدَث له يزيد عن أنه تلقَّى خطابًا ليُسلِّمه إليك. ولكن هذا الخطاب كان الخطاب الأول، وكان العمل الأول الذي يوكَل إليه.

وسكتَت أولجا. وساد المكان سكون، إلا من صوت تنفُّس الوالدَين الثقيل الذي كان من حينٍ لآخر يتحوَّل إلى حشرجة. وقال ك ببساطة وكأنه يكمل رواية أولجا: لقد تنكَّرتم أمامي، وأحضر برناباس إليَّ الخطاب وكأنه ساعٍ قديم كثير العمل، وكذلك تصنَّعتِ أنت وأماليا — وفي هذا كنتما مُتفقتَين — أن إحضار الخطابات ومهمَّة الساعي من الأمور الثانوية.

فقالت أولجا: ينبغي أن تُفرِّق بيننا. أما برناباس فقد تحوَّل نتيجة للخطابَين على الرغم من شكوكه في عمله إلى صبي سعيد. وهذه الشكوك تمسُّه هو وتمسني أنا، أما أنت فإنه يتشرف بأن يَظهر حيالك بمظهر الساعي الحقيقي على قدر ما يتصوَّره. ولقد كلَّفني على سبيل المثال، على الرغم من أن أمله في الحصول على بدلة رسمية قد تزايد، بأن أغيِّر له في ظرف ساعتَين شكل سراويله حتى يكون شكلها على الأقل مُشابهًا لشكل سراويل البدلة الرسمية، وحتى يلوح لك، لأنَّ خداعك في هذه الناحية بطبيعة الحال أمر هينٌ، في هيئة لا تُثير شكوكك. هذا عن برناباس. أما أماليا فإنها في الحقيقة تحتقر عمل السُّعاة، وهي الآن تحتقره أكثر من ذي قبل بعد أن لاح على برناباس أنه حقَّق فيه شيئًا من النجاح، ومن السهل عليها أن تتبيَّن ذلك من هيئة برناباس ومن جلوسنا معها وتهامُسنا. فهي إذن صادقة في كلامها، ولا ينبغي أن تشكَّ في كلامها هذا بحالٍ من الأحوال وإلا ضللت في شكل كلِّ الضلال. هذا عن أماليا. أما أنا فإذا كنت، يا ك، قد قلَّلت في بعض الأحيان من قدر عمل الساعي، فلم أكُن أقصد إلى خداعك، بل كنت أتصرَّف عن خوف. فهذان الخطابان اللذان مرَّا عن طريق يد برناباس هما آية المنَّة الأولى — وإن كان الشك يكتنفها من كل جانب — التي تتلقَّاها أسرتنا منذ ثلاث سنين. وهذا التحول — إذا كان في الحقيقة تحولًا وليس خداعًا، فالخداع أكثر من التحول — يرتبط بوصولك إلى هنا، ولقد ارتبط مصيرنا بمصيرك بنوعٍ ما من التبعية، ولعلَّ هذين الخطابين مجرد بداية، ولعل عمل برناباس كساعٍ يتجاوز حدود مهمَّته معك إلى ما عداها — وهذا شيء نتمناه ما استطعنا. ولكن الأمور إلى الآن لا تتجه إلا إلى هدف واحد هو أنت. أما فيما يختص بالقصر فينبغي علينا أن نرضى بما يُقسم لنا هناك، وأما فيما يختص بالقرية هنا، فربما استطعنا أن نفعل نحن شيئًا، أعني: ضمان رضاك أو على الأقل اتقاءَ نفُورك، وأهم من هذا وذاك حمايتك بكل ما أوتينا من قوة وخبرة حتى لا تضيع عليك الصِّلة بالقصر، تلك الصلة التي ربما نستطيع الحياة منها. وكيف السبيل إلى تدبير هذا على أحسن وجه؟ ألا تُساورك الشكوك حيالنا عندما نقترب منك، لأنك هنا غريب ولأنك بكلِّ تأكيد تمتلئ من كل ناحية بالشك، بالشك الذي له ما يُبرِّره. ونحن نتعرَّض للاحتقار، وأنت تتأثَّر بالرأي العام وتتأثَّر خاصةً بخطيبتك. فكيف نتقدَّم نحوك، دون أن نقف في وجه خطيبتك — وليس هذا غرضَنا — ودون أن نحدث بك نتيجة لذلك الألم؟ ثم إنَّ الرسائل التي قرأتها أنا بدقَّة قبل أن تتسلَّمها أنت — ولم يقرأها برناباس لأنه لا يسمح لنفسه كساعٍ بمثل هذا التصرف — لاحت لي من النظرة الأولى غير ذات أهمية كبيرة، وقديمة، ولقد تجرَّدت من الأهمية بتحويلها إياك إلى رئيس القرية. فكيف يكون سلوكنا حيالك فيما يختصُّ بهذه الناحية؟ هل نؤكد لك أهميتها، فنضع أنفسنا موضع الريبة؟ إننا بهذا نبالغ في قيمة شيء تفاهته واضحة، ونحضُّك، باعتبارنا حمَلَة الأخبار على أن تسير إلى أهدافنا لا إلى أهدافك، لقد كان في استطاعتنا أن نُقلِّل من أهمية الأخبار نفسها في نظرك، وأن نغشك رغمًا عنا. هل ننصرف عن إضفاء قيمة كبيرة إلى الخطابات، فنضع أنفسنا كذلك في موضع الريبة؟ فلماذا نشغل أنفسنا بتوصيل هذه الخطابات العارية عن الأهمية؟ ولماذا تناقضَت أفعالنا وكلماتنا، ولماذا خدعناك، وخدعنا علاوةً عليك صاحب العمل الذي لم يُسلمنا بكل تأكيد الخطابات لكي نجرِّدَها من القيمة لدى مُتسلمها بما نقدم إليه من تفسيرات؟! والحل الوسط، أي اتخاذ موقف بين المبالغة إلى هذه الناحية والمبالغة إلى تلك، وبعبارة أخرى الحكم على الخطابات الحكم الصحيح، مُستحيل. فهذه الخطابات نفسها تغير قيمتها باستمرار، والأفكار التي تدفع الخطابات إلى تكوينها، لا نهاية لها، والفكرة التي يتوقَّف الإنسان عندها تحدث بالمصادفة، وهذا يعني أن الرأي وليد المصادفة. فإذا تدخل الخوف عليك في الأمر، اضطرب كل شيء. ولا ينبغي أن تحكم على كلامي حكمًا قاسيًا مفرطًا في القسوة. فعندما يأتي برناباس، على سبيل المثال — وهذا قد حدث — ويقول إنك غير راضٍ عن خدمة الساعي، وأنه عرَضَ، وهو في غمرة الفزع الأول وعلى نحو لم يتجرَّد للأسف من حساسية السُّعاة، أن يعتزل هذه الخدمة، فإنني مُستعدَّة تصحيحًا للخطأ للخداع والكذب والغش، وارتكاب الشرور من كل نوع إذا كانت تُعين على شيء. ولكنَّني في هذه الحالة أتصرَّف على هذا النحو، على الأقل حسب اعتقادي، من أجلك ومن أجلنا.

وقرع أحدهم الباب، وهُرعت أولجا إلى الباب وفتحته، فانساب في وسط الظلام شريط من الضوء المُنبعِث من المصباح في الخارج.

وألقى الزائر المتأخِّر أسئلة هامسة، وتلقَّى عليها إجابةً هامسة، ولكنه لم يرضَ بها، وأراد أن يدخل إلى الحُجرة. ويبدو أن أولجا لم تستطع ردَّه فنادَت على أماليا، والظاهر أنها كانت تتوقَّع منها أن تفعل ما في مقدورها لتُبعد الزائر صونًا لنوم الوالدَين. وبالفعل أسرعت أماليا ودفَعَت أولجا جانبًا وخرجت إلى الشارع وأغلقت وراءها الباب. ولم تبقَ في الخارج سوى لحظة واحدة، وعادَت توًّا، وقد حقَّقت بسرعة ما عجزت عنه أولجا.

وعلم ك من أولجا أن الزائر كان يُريده هو، وأن الزائر هو أحد المساعدَين أتى بتكليفٍ من فريدا للبحث عنه. وأرادت أولجا أن تحمي ك من المساعد، وإذا كان ك ينوي أن يعترف فيما بعد بالزيارة فله أن يفعل، ولكنها لم تُرِد أن يكتشفَه المساعد. ووافق ك على رأيها. ولكن ك رفض عرض أولجا بأن يقضيَ الليلة هنا وينتظر عودة برناباس. والحقيقة أنه لم يكن مِن المُستبعَد أن يقبل العرض لأن الوقت كان قد تأخَّر، هذا إلى أن ك تصور أنه، سواء رضي أم لم يرضَ، قد أصبح مُرتبطًا بهذه الأسرة، بحيث أن قبوله النوم هنا، وإن كان لاعتبارات أخرى شيئًا مؤسفًا، هو أكثر الأمور طبيعية بالنسبة إليه في القرية كلها، ومع ذلك فقد رفَض؛ لأن زيارة المساعد قد أفزعته، ولم يفهم كيف أن فريدا، التي تَعرف ما صمَّم عليه، لم تتردَّد، وقد عاد إليها المساعدان اللذان تعلَّما كيف يخشيانه، في إرسال أحد المساعدَينِ إليه، نعم أحد المساعدَينِ، بينما بقيَ الآخر لديها. وسأل أولجا عما إذا كان لديها سَوط، فعلم أن ليس لديها، ولكنه وجد لديها عصًا جيدة فأخذها، وسأل أولجا هل للبيت مخرج آخر، وعلم أن البيت له بالفعل مخرجٌ آخر يُؤدي إلى الفناء، وعلى مَن يُريد أن يصل من خلاله إلى الشارع أن يتسلَّق جدار الحديقة المُجاوِرة وأن يجتاز هذه الحديقة حتى يصل إليه. وقرَّر ك أن يسلكه. واقتادَته أولجا خلال الفناء إلى السور، وكان في أثناء ذلك يُهدِّئ على عجلٍ من روعها، ويُوضِّح لها أنه غير غاضب عليها لما عمدت إليه من لمسات فنية صغيرة أضافتها إلى روايتها، بل إنه على العكس من ذلك يفهمها كل الفهم، ويشكُرها على الثِّقة التي أولته إيَّاها والتي برهنَت عليها بروايتها، وكلَّفها بأن ترسل إليه برناباس فور عودته إلى المدرسة حتى ولو في ظلمة الليل. وقال لها إنَّ رسائل برناباس ليست في الحقيقة كل أملِه، وإلا لكانت حاله في غاية السوء، ولكنه لا يريد بحال من الأحوال أن يُفرط فيها، إنه يريد أن يتمسَّك بها، وألا ينسى أولجا، فهي تكاد تكون أهم من الرسائل: أولجا بشجاعتها وسعة أفقها وفطنتِها وتضحيتها من أجل أسرتها. وإذا كان عليه أن يختار بين أماليا وأولجا فلن يحتاج في ذلك إلى تفكيرٍ كثير. وصافحها بحرارة بينما اندفع متسلقًا جدار حديقة الجيران.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤