الفصل الثامن عشر

وبينما ك يجول ببصره بلا هدف رأى فريدا عند أحد مُنحنيات الممر، وتصنَّعَت فريدا أنها لا تعرفه، فنظرت إليه نظرةً جامدةً، وكانت تَحمِل في يدها صينية عليها آنية فارغة. وقال ك للخادم الذي لم يكن يَلتفِت إليه — وكان الخادم يَزداد غيبوبة كلَّما تحدث الإنسان إليه — أنه سيعود بعد قليل، وأسرع إلى فريدا. فلمَّا وصَل إليها أمسكها من كتفَيها وكأنه يعود إلى امتلاكها، ووجه إليها بعض الأسئلة التافهة بينما كان في تلك الأثناء يبحث في عينيها متفحصًا. ولكنه مسلكها الجامد لم يكد يلين، وحاولت وهي مُشتَّتة الفكر أن تُغير وضع الآنية على الصينية مراتٍ ثم قالت: ماذا تريد مني؟ اذهب إلى … أنت تعرف اسمها. وأنت تأتي لتوِّك من عندهما، وفي إمكاني أن أقرأ ذلك على منظرك.

وحوَّل ك الموضوع بسرعة، فلم يكن يُريد أن يأتي العتاب مفاجئًا ولا يبدأ من أقبح نقطة وأكثرها حساسية وقال: كنتُ أظنُّ أنك في قاعة الشراب.

وتطلَّعت فريدا إليه مندهشةً ثم مسحت في رقةٍ بيدها التي لم تكن تُمسك بها الصينية على جبينه وعلى وجنته. وبدا عليها كأنها كانت قد نسيَت شكله، فأرادت أن تتذكَّره، وكذلك بدا على عينيها الانطباع المحجَّب لإنسانٍ يُحاول بصعوبةٍ أن يتذكر شيئًا. ثم قالت ببطءٍ وكأن ما كانت تقوله بلا أهمية: لقد قَبِلُوني مرةً أخرى في قاعة الشراب.

ثم دمجت في الكلام حوارًا كان هو الأكثر أهميةً: ولكن هذا العمل الذي أقوم به الآن لا قيمة له بالنسبة إليَّ، ففي استطاعة كل بنت أن تقوم به. كل بنت تعرف كيف ترتب السرير، وكيف تصطنع وجهًا باشًّا، ولا ترهب معاكسة النزلاء بل تدفعهم إليها دفعًا، تصلُح للعمل خادمةً خصوصية. أما العمل في قاعة الشراب فشيءٌ آخر. ولهذا قبلوني على الفور للعمل في قاعة الشراب على الرغم من أنَّني لم أتركها فيما مضى على نحوٍ مشرف، وأنا أعتمد بطبيعة الحال على حماية. ولقد فرح صاحب الحان بأنني أعتمد الآن على هذه الحماية وأنه استطاع إعادتي إلى العمل. بل لقد بدا الأمر وكأنهم يدفعونني دفعًا إلى قبول العمل، فإذا علمتَ أن قاعة الشراب تُذكِّرني بشيءٍ معيَّن سَهُل عليك أن تفهم الوضع. وأخيرًا قبلتُ العمل. أما هنا فأنا أعمل على سبيل المعاونة. فقد طلبت بيبي ألا نُسبِّب لها عارًا بإجبارها على ترك قاعة الشراب على الفور، ولهذا أعطيناها مهلة قدرها أربع وعشرون ساعة لأنها كانت مجتهدةً ولأنها أدَّت العمل كله على قدر ما مكَّنَتها من ذلك قدراتها.

فقال ك: لقد أحسنتُم تدبير هذه الأمور كلها. ولكنَّك قد هجرت قاعة الشراب مرةً من أجلي، وإذا بك الآن تعودين إليها ونحن على وَشكِ الزفاف.

فقالت فريدا: لن يكون هناك زفاف.

وسأل ك: لأنني كنتُ خائنًا؟

فأومأت فريدا برأسها، فقال ك: اسمعي يا فريدا، لقد تحدَّثنا عن هذه الخيانة المزعومة مرارًا، وكان عليك في كل مرةٍ أن تُقرِّي بأنها لا تعدو أن تكون شبه ظالمة. ولم يتغيَّر من ناحيتي منذ ذلك شيء، لقد بقي كل ما لديَّ بريئًا كما كان وكما لا يُمكن إلا أن يكون. فهل يا ترى حدَث تغيُّر من ناحيتك نتيجةً لإيعازٍ غريب أو غير ذلك؟ إنك على أية حالٍ تظلمينَني. فما هو أمر هاتَين البنتَين؟ إن السمراء — وأنا أوشك أن أحسَّ بالخجل لاضطراري للدفاع عن نفسي تفصيلًا، ولكنك تطالبين بذلك — إن السمراء تثير في نفسي أسًى لا يقلُّ عن الأسى الذي يَعتمِل في نفسي حيالك، وإذا كان في استطاعتي أن أبتعد عنها على أيِّ نحو فإنني أفعل، وهي تسهل ذلك من ناحيتها فليس هناك إنسان أشدَّ احتشامًا منها.

وصاحت فريدا: نعم!

لقد انطلقت الكلمات منها وكأنها تنطلق ضد إرادتها، وفرح ك عندما رآها قد تلهث على هذا النحو، لقد كانت على هيئةٍ غير التي كانت تريد أن تبدو عليها: إنَّ لكَ أن تعتبرها محتشمةً، وأن تُسمِّيَ أفحش النساء محتشمة! وأنت تقول ذلك، على الرغم من بُعده عن التصديق، تقوله مخلصًا، فأنت لا تتلوَّن، أنا أعرف هذا.

ولقد قالت صاحبة حان الجسر عنك: «إنَّني لا أستطيع أن أحبه، وكذلك لا أستطيع أن أهجره، فإنَّ الإنسان لا يستطيع عندما يرى طفلًا لا يُجيد المشي ويندفع رغم ذلك إلى الأمام أن يتحكَّم في نفسه، إنَّ الإنسان يجد نفسه مُضطرًّا إلى التدخل.»

فقال ك مبتسمًا: فاتبعي الآن مذهبها هذا، أما هذه البنت، ولنَدَع جانبًا ما إذا كانت مُحتشمةً أو فاجرة، فأنا لا أريد أن أعرف عنها شيئًا.

وسألت فريدا في تصميم: ولكن لماذا تقول عنها إنها محتشمة؟ هل جرَّبتها أم هل تريد أن تحطَّ بذلك من قدر آخَرين؟

واعتبر ك هذا الاهتمام من جانب فريدا علامةً طيبة، فقال: لا هذا ولا ذاك. إنني أقول ذلك عن امتنانٍ لها. فقد سهلت عليَّ فهمها، ولأنني، حتى إذا نادتني المرة تلو المرة، لن أستطيع حمل نفسي على الذهاب إلى هناك، وهذه خسارةٌ كبيرة بالنسبة إليَّ لأنني لا بد أن أذهب إلى هناك من أجل مستقبلنا المشترك، كما تعرفين. ولهذا فلا بد أن أتكلَّم أيضًا مع البنت الأخرى التي أقدِّرها لنشاطها وسعة أفقها وأثرتها، البنت التي لا يمكن لأحدٍ أن يقول عنها إنها جذابة.

فقالت فريدا: ولكن الخدم يُخالفونك في هذا الرأي.

فقال ك: يخالفونني فيما يختص بهذا الموضوع وفيما يختص بالكثير من الموضوعات الأخرى. وهل تُريدين استنتاجًا من شهوات الخدم الحكم بأنَّني خائن؟

وصمتَت فريدا وتركت ك راضيةً يأخُذ الصينية من يدها ويضعها على الأرض، ويضع ذراعَه تحت ذراعها، ويبدأ في السير معها في المكان الضيق ببُطءٍ جيئةً وذهابًا.

وقالت وهو يَمتنع قليلًا عن اقترابه منها: أنت لا تعرف ما هو الإخلاص. وليس المُهم هو موقفك من البنتَين. إنَّ ذهابك إلى هذه الأسرة وعودتك من هناك حاملًا رائحة حُجرتهم في ملابسك، فضيحةٌ لا يمكنني احتمالها. وأنت تجري من المدرسة، دون أن تقول شيئًا، وتبقى لدى البنتَين نصف الليلة، وإذا سأل أحدهم عنك جعلتَ البنتَين تُنكرانك، تنكرانك عن حب، وبخاصةٍ المحتشمة التي لا نظيرَ لها! ثم أنت تتسلَّل من طريقٍ سرِّيٍّ عندما تخرج من البيت ربما حفاظًا منك على سمعة البنتَين! نعم سُمعة البنتَين! لا. لا نُريد أن نعود إلى هذا الحديث مرةً أخرى.

فقال ك: لا نُريد أن نعود إلى هذا الحديث، ولكن لنتكلَّم يا فريدا في موضوعٍ آخر. والحقيقة أنه ليس هناك شيءٌ يقال فيه. وأنت تعرفين لماذا يَنبغي عليَّ أن أذهب إلى هناك. وليس الذهاب إلى هناك بالشيء السَّهل، ولكنِّي أُكره نفسي عليه. ولا ينبغي أن تجعلي الأمور أكثر ثقلًا عليَّ ممَّا هي. ولقد كانت فكرتي التي فكرتها اليوم أن أذهب إلى هناك للحظةٍ وأسأل عن برناباس الذي كنت أنتظِر أن يأتيني برسالةٍ هامة، علَّه أتى بعد طول انتظاري له. وعلمت أنه لم يأتِ، وأنه سيأتي وشيكًا، وهو ما لاح لي قابلًا للتصديق. ولم أشأْ أن أطلب إرساله إلى المدرسة ليُقابلني هناك، لأنني لم أكن أريد أن يتسبَّب وجوده في إزعاجك. ومضَت الساعات ولم يأتِ، للأسف. وإنما أتى شخصٌ آخر، شخصٌ أمقُتُه. ولم أكن أحب أن أدعه يتجسَّس عليَّ، ولهذا خرجت عن طريق حديقة الجيران، وكذلك لم أشأ أن أتوارى عنه، ولهذا ذهبت إليه حرًّا طليقًا في الشارع ومعي عصا أعترف بأنها كانت مرنةً جدًّا. هذا هو كل ما في الأمر، وليس هناك ما يقال عنه أكثر من ذلك. ولكنْ هناك أمرٌ آخر لي فيه حديث. ما هو أمر المساعدَينِ اللذَين أمقت ذِكرهما كما تمقُتين أنت ذِكر هذه العائلة؟ قارني علاقتك بهما ومسلَكي حيال العائلة. وأنا أفهم نفورك من هذه العائلة ويُمكنني أن أشاركك إياه. إنني لا أذهب إليها إلا من أجل الموضوع، حتى إنَّني أكاد أحسُّ أحيانًا بأنني أظلمها باستغلالي إياها. أما أنتِ وأما المساعدان. إنكِ لم تُنكري أنهما يُلاحقانكِ، بل لقد اعترفت بأن هناك شيئًا فيكِ يجذبك إليهما. وأنا لم أغضب منك لذلك وفهمت أن هناك قوًى تفعل فعلها وأنكِ لم تَصِلي بعد إلى حيث تستطيعين مجابهتها، وسعدتُ بأنك على الأقل تمنعتِ وصددت، وساعدتُ أنا في الدفاع عنك، فلما تركت بضع ساعات، واثقًا من إخلاصك، مطمئنًّا إلى أن البيت مُغلق إغلاقًا محكمًا، وإلى أنني قد اضطررت المساعدَين إلى الفرار — وأنا أخشى أنني لا أزال أستهين بهما — أقول لما تركت بضع ساعات وأهملت أمرهما، وأوتي هذا اليريمياس — وهو إذا تأمَّله الإنسان بدقة تبيَّن أنه رجلٌ سمج معتلُّ الصحة متقدم في السن — من الجسارة ما جعله يقترب من النافذة، أصبح عليَّ. لهذا السبب وحده أن أفقدكِ يا فريدا، وأن أسمع منك بدلًا من التحية: «لن يكون هناك زفاف.» ألست أنا الذي يحقُّ له أن يوجه اللوم، ولكني لا أوجه إليك لومًا، وما زلت إلى الآن لا أوجه إليك لومًا.

وتصوَّر ك مرةً أخرى أنه من الخير أن يُلهي فريدا قليلًا، فرجاها أن تأتيه بشيءٍ من الطعام لأنه لم يأكل شيئًا لتُحضِر شيئًا، ولكنها لم تتبع الممر الذي كان ك يظن أنه يؤدي إلى المطبخ، بل انحرفت إلى الجانب ونزلت بضع درجات سلَّم. وعادت بعد قليل بصحنٍ عليه بعض الشرائح وزجاجة نبيذ، ولكن ما أتت به كان يبدو كما لو لم يكن سوى بقايا وجبة: كانت الشرائح قد سُويت على الصحن، وكانت زجاجة النبيذ قد فرغ ثلاثة أرباعها. ولم يَقُل ك شيئًا وبدأ يأكل بشهيةٍ طيبة وسأل: هل كنتِ في المطبخ؟

فقالت: لا، في حُجرتي، فلي حجرةٌ هنا أسفل المبنى.

وقال ك: ليتَكِ أخذتني معك. إنني أريد أن أنزل إلى حُجرتك حتى أجلس أثناء تناول الطعام.

وقالت فريدا: سآتيك بكرسيٍ وثير.

وكانت قد اندفعت إلى الطريق. ولكن ك استردها قائلًا: شكرًا. لا أريد أن أنزل، ولا حاجة إلى كرسي.

واحتملت فريدا قبضته عنيدة، وكانت تميل برأسها ميلًا شديدًا وتعضُّ شفتيها. وقالت: إنه في الحجرة. وهل توقَّعتَ أن يكون الأمر على نحوٍ غير ذلك؟ إنه يرقد في سريري، فقد أصيب بالبرد، وهو يرتعش، ولم يأكل شيئًا تقريبًا. والحقيقة أن الذنب كله ذنبك أنت، ولو لم تَطرُد المساعدَينِ، ولو لم تجرِ وراءهما، لكنا الآن جالسِين في سلامٍ في المدرسة. لقد حطمت سعادتنا. هل تظنُّ أن يريمياس كان أثناء الخدمة يجرؤ أن يخطفني؟ إذا ظننت ذلك فإنك تجهل النظام القائم هنا تمام الجهل. لقد كان يريد أن يأتي إليَّ، ولقد تعذَّب، ولقد تربص بي، ولكن هذا كله لم يزد عن أن يكون لعبًا من نوع الكلب الجوعان حول المائدة فهو يدور حوالَيها ولا يجرؤ على القفز فوقها. وكذلك أنا. لقد جذبني إليه، وهو رفيقٌ لي من أيام الطفولة وكنَّا نلعب معًا على سفح جبل القصر، لقد كانت أوقاتًا جميلة، ولكنك لم تسألني عن ماضٍ. على أن هذا كله لم يكن الشيء الحاسم، طالَما كان يريمياس في الخدمة وكانت الخدمة تردُّه؛ لأنني كنت أعرف واجبي باعتباري زوجتك في المستقبل، وإذا بك تطرُد المساعدَينِ وتفخر بما فعلت وكأنك فعلت شيئًا من أجلي. وهذا صحيح من ناحيةٍ بعينها. ولقد تحقق لك ما أردت مع أرتور، ولكن إلى حينٍ فقط، فهو رقيق، وهو لا ينفعل بعاطفةٍ جريئة كعاطفة يريمياس، ولقد أوشكت في الليلة التي تعرفها أن تفتكَ به باللكمة التي سددتها إليه — ولقد كانت هذه اللكمة أيضًا ضد سعادتنا — فهرب إلى القصر ليشكو، وعندما يعود عما قريب … المهم أنه الآن ليس هنا. ولكن يريمياس بقي. وهو في الخدمة يخشى تقطيبة السيد، أما في خارج الخدمة، فهو لا يخشى شيئًا. فأتى وأخذني. ولم أستطع أن أتمالك نفسي بعد أن هجرتني أنت وتسلَّط عليَّ هو، الصديق القديم. وأنا لم أفتح باب المدرسة، فقد حطم هو النافذة وأخرجني منها. وهربنا إلى هنا. وصاحب الحان يُقدِّره قدره، وليس هناك شيءٌ أحب إلى نفوس النُّزَلاء من أن يكون لهم خادمٌ مثله، وهكذا استقبلنا صاحب الحان، ويريمياس لا يُقيم في حجرتي، إن لنا هنا حجرة مشتركة.

وقال ك: ورغم هذا كله، فأنا لست آسفًا على طرد المساعدَينِ من الخدمة. وإذا كانت علاقتنا على النحو الذي وصفته أنت، وكان إخلاصك رهنًا بالتزام المساعدَين بقَيد الخدمة فقد كان من الخير أن أنهي كل شيء. فلم يكن من المُمكن أن تكون السعادة الزوجية بين حيوانين مُتوحِّشين لا يحنيان الرأس إلا تحت المقرعة. وهنا فإنني شاكر فضل هذه العائلة التي أسهمت دون ما قصدٍ منها في التفريق بيننا.

وصمت الاثنان وظلَّا يسيران جيئةً وذهابًا الواحد بجوار الآخر، دون أن يكون في إمكان أحد أن يعرف أيهما بدأ الآن. وبدا على فريدا قريبًا من ك أنها اغتاظت لأنه لم يتأبط ذراعها. وأردف ك: وبهذا يكون كل شيءٍ قد انتهى إلى نهايته، ويمكننا أن نتوادع، ويمكنك أن تذهبي إلى سيِّدك يريمياس الذي ربما قد أصيب بالبرد من حديقة المدرسة والذي تركته، إذا أخذنا هذا في الاعتبار، مدةً طويلةً جدًّا وحده، أما أنا فيمكنني أن أعود إلى المدرسة وحدي، أو أن أذهب إلى أيِّ مكانٍ آخر يرضى الناس فيه بقبولي، فلن يكون لي بدونك في المدرسة ما أفعله. وإذا كنت أنا رغم ذلك أتردد، فما ذلك إلا لأنني أجد سببًا قويًّا يدعوني إلى الشك قليلًا فيما حكيتِه لي. إنَّ انطباعي عن يريمياس هو العكس بالضبط. إنه طالما كان في الخدمة كان يُلاحقك ولا أظن أن الخدمة كانت لتمنعه إلى النهاية من الانقضاض عليك مرة. أما الآن وقد أصبح يعتبر الخدمة منتهية فهو يتصرَّف على نحوٍ آخر. وسامحيني إذا كنتُ أفسر ذلك كما يلي: منذ انتهتْ خطبتك لسيِّده تلاشى ما كان لك بالنسبة له من قبل من إغراء. ومن الممكن أن تكوني صديقة منذ الطفولة ولكنه — وأنا لم أعرفه إلا من الحديث القصير الذي جرى بيننا هذه الليلة — لا يُقيم، في تقديري، لمثل هذه المشاعر وزنًا كبيرًا. وأنا لا أعرف لماذا يلُوح لكِ كشخصٍ عاطفي، إن خلقه ليلُوح لي أقرب إلى الفتور منه إلى أي شيءٍ آخر. ولقد تلقى، فيما يختصُّ بي، تكليفًا من جالاتر بمهمةٍ لم أستحسنها استحسانًا كبيرًا، وهو بذَل جهدًا كبيرًا في أداء هذه المهمة، ويفعل ذلك بنوعٍ معيَّن من شغف الخدم — وأنا أعترف له بذلك — وما هذا الشغف هنا بالشيء النادر، وهو في معرض هذا الشغف يُحطم علاقتنا معًا. ولعله جرب طرقًا أخرى، ومن بينها اشتياقه الشهواني الذي سعى به إلى اجتذابك، ومن بينها كذلك — وهنا ساعدَته صاحبة الحان — اختلاقه خرافة خيانتي، لقد نجحت مؤامرته بالنسبة إليك، ولعلَّ ذكرى من ذكريات كلم التي تحيط بك قد أعانته — وإذا كان قد فقد الوظيفة، فلعله لم يفقدها إلا في الوقت الذي لم يكن فيه بحاجةٍ إليها، وها هو ذا يجني ثمار عمله ويجرُّك من نافذة المدرسة، وبهذا يكون عمله قد انتهى، ولقد استبدَّ به التعب بعد أن تجرَّد من الشغف بالخدمة، ولعله كان يودُّ أن يذهب إلى حيث ذهب أرتور الذي لم يذهب حيث ذهب ليشكو بل لينال المديح ويتلقَّى تكليفًا بالمهام الجديدة، ولكن لا بد أن يبقى واحد هنا ليتابع تطور الأمور. وإن الاهتمام بشأنك لواجبٌ ثقيل يُسبِّب له الإزعاج. أما إنه يحبك، فهذا ما لا تبدو عليه علامات، لقد اعترف لي هو بذلك، فأنت بالنسبة إليه محترمة لأنك عشيقة كلم، ولا شكَّ أنه يجد متعةً في القبوع في حُجرتك والإحساس بأنه صورةٌ مصغرةٌ من كلم، ولكن هذا هو كل ما في الأمر، أنت الآن لا أهمية لك بالنسبة إليه، وليس وضعه إياك هنا إلا بندًا إضافيًّا زيد على مهمَّته الأصلية. ولقد بقي هو كذلك حتى لا يتسرَّب القلق إلى نفسك، ولكنه لا يبقى هنا إلا بصفةٍ مؤقتة، وإلى أن يتلقى أخبارًا جديدة من القصر ويكون قد فرغ بمعونتك من علاج ما ألمَّ به من برد.

فقالت فريدا وهي تخبط يدَيها الصغيرتين المطبقتين معًا: أرأيت كيف تسبُّه؟

فقال ك: أسبُّه؟ لا، أنا لا أريد أن أسبه. ولكن قد أكون ظالمًا له، هذا مُمكن بطبيعة الحال. وليس ما قلته عنه بالشيء السطحي المكشوف لكل عين. ومن الممكن تأويله على نحوٍ آخر. أما أني أسبه؟ لا يمكن أن يهدف السبُّ إلا إلى مكافحة حبك له. ولو كانت هناك حاجة، ولو كان السب وسيلةً ملائمة لما تردَّدت، ولا يجوز لأحدٍ أن يُدينَني لهذا السبب. إنه، اعتمادًا على مَن يُسند إليه المهام، في وضعٍ متفوق عليَّ بينما أنا وحدي ولا سند لي إلا ذاتي، ولهذا فإن لي أن ألجأ قليلًا إلى السب. وما يمكن أن يكون السب على أية حال إلا وسيلة بريئة وعاجزة من وسائل الدفاع. فدعي يدَيك مرتاحتين.

وتناول ك يد فريدا في يده، وحاولت فريدا أن تسحب يدها منه، ولكنها فعلت ذلك مبتسمةً ودونما جهد. وقال ك: أما أنا فلا ينبغي لي أن أسبه؟ ذلك أنك لا تحبينه، بل أنت تظنِّين أنك تحبينه، وستكونين لي شاكرةً إذا أنا خلَّصتك من هذا الانخداع. إن أيَّ إنسان يريد أن يأخذك مني، دون لجوءٍ إلى القوة، بل إلى التدبير الدقيق غاية الدقة، لا يمكن أن يحقق ذلك إلا عن طريق هذين المساعدين. إنهما شابان يظهران بمظهرٍ طيبٍ صبيانيٍّ مَرِح مجرَّد من المسئولية يأتيان من فوق، نفثهما القصر إلى هنا، ومعهما شيء من ذكريات الطفولة، هذه كلها أشياء لطيفة وبخاصةٍ عندما أكون على العكس تمامًا، أجري بلا انقطاعٍ وراء أعمال لا تفهمينها كل الفهم، وتغتاظين منها، فهي تجمعني بأناسٍ يُلوِّحون لك أحقَّاء بالكراهية وينقلون إليَّ على الرغم من براءتي الكاملة شيئًا مما يُثير فيك الكراهية. وإن كل هذا لا يزيد عن أن يكون استغلالًا قبيحًا — وإن كان ذكيًّا جدًّا — لعيوب علاقتنا. وكل علاقةٍ بين الناس تعتورها عيوب، وبخاصةٍ علاقتنا، فقد أتى كل واحدٍ منا من عالمٍ يختلف عن عالم الآخر تمام الاختلاف، ولقد اتخذت حياة كل واحدٍ منا، منذ تعارفنا، طريقًا جديدة كل الجدة، إننا نحسُّ بالاضطراب فكل شيءٍ جديد علينا. وأنا لا أتحدث عن نفسي، فليس لمثل هذا الحديث أهمية، ولقد حظيت في الحقيقة وواقع الأمر بنعمةٍ دائمة منذ أن وجهت عينيك ناحيتي، وليس من الصعب على الإنسان أن يتعود على نيل النعم. أما أنت، بغضِّ النظر عن كل شيء، فقد انتُزعت من كلم انتزاعًا، وأنا لا أستطيع أن أحدد معنى هذا الانتزاع، ولكني أحسست تدريجيًّا بهذا المعنى، إنَّ الإنسان ليترنح وإن الإنسان ليضطرب، لقد كنت على الدوام مستعدًّا لأخذك، ولكني لم أكن دائمًا حاضرًا، وحتى إذا كنت حاضرًا، فإن أحلامك — وأحيانًا أشياء حية مثل صاحبة الحان — كانت تتملَّكك. لقد مرت باختصارٍ أوقات، كنت فيها تبعدين عني بنظرك، وتشتاقين إلى أمور لم تتحدَّد على نحوٍ كامل، أيتها البنت المسكينة! ألم يكن الأمر يحتاج في مثل هذه الفترات إلا إلى أن يوضع في اتجاه نظرتك الأشخاص الملائمون فإذا بك تَضيعين، وإذا بك تخرين صرعى الانخداع ظانَّةً أن هذه الأشياء — وهي التي لا تعدو أن تكون لحظات، خيالات، ذكريات قديمة، حياة قديمة مضَت ولا تزال تمضي وتمضي — هي حياتك الحالية الواقعية لا تزال. هذا خطأٌ يا فريدا! هذه هي الصعوبة الأخيرة والدنيئة — إذا صحَّ تقديرها — التي تُواجه اتحادنا النهائي. فعودي إلى نفسك! تمالَكي نفسك! حتى إذا كنت قد فكَّرت أن المساعدَينِ أُرسلا من عند كلم — وليس هذا صحيحًا فقد أتيا من عند جالاتر — وحتى إذا كانا قد استطاعا أن يَسحراك بهذا الخداع لدرجة أنكِ ظننتِ أنكِ ترَين في قذارتهما وفُحشهما آثارًا من آثار كلم، كما يظنُّ الإنسان أنه يرى جوهرةً في وسط الروث؛ لأنه كان قد فقَدَها، بينما هو في الحقيقة لا يستطيع أن يجد في الروَث شيئًا حتى لو كانت الجوهرة فيه — فما هذان الشابان إلا من نوع خدم الحظيرة لا يَفترقان عنهم إلا في أنهما يَفتقِران إلى صحَّتهم القوية، وفي أن قليلًا من الهواء الرطب يُسبِّب لهما المرض ويُلقي بهما في سرير، سرير يعرفان بشطارة الخدم كيف يختارانه.

وكانت فريدا قد أسنَدَت رأسها على كتف ك وسار الاثنان جيئةً وذهابًا وقد عقَدا ذراعَيهما. وقالت فريدا ببُطءٍ وهدوء يوشك أن يكون ارتياحًا، وكأنَّما كانت تعرف أنها مُنحَت فترة راحةٍ قصيرة ركنت فيها إلى كتف ك وأرادت أن تنعَم بها في النهاية: لو أنَّنا هاجرنا في تلك الليلة التي تعرفها لكُنَّا اليوم آمِنين، ولكنَّا دائمًا معًا، ولكانت يدُك قريبةً جدًّا مني أستطيع أن أُمسكها. فما أشدَّ حاجتي إلى قربك! وكم أحسُّ، منذ عرفتك، بالهجران إذا لم تَكُن معي! إنَّ قربك، على ما أظن، الحلم الوحيد الذي أحلمُه، ولست أعرف حلمًا غيره.

وجاء صوت رجلٍ يُنادي من الممرِّ الجانبي. كان المُنادي هو يريمياس. وكان يقف هناك على الدرجة السُّفلى من السلم، ولم يكن يرتدي سوى القميص، وقد التفَّ بملاءة فريدا. وكان يقف هناك أشعث الشَّعر مُتناثر اللحية وكأنما اجتاحَتها الأمطار، يفتح عينَيه بصعوبةٍ وتوسُّلٍ ولوم، وقد احمرَّت وجنتاه وإن بدتا كأنهما تتكوَّنان من لحمٍ مُترهِّل شديد الترهُّل وارتعدت ساقاه العاريتان من البرد ارتعادًا اهتزت له شراريب الملاءة الطوال، فلاح وهو على هذه الحال كمريضٍ هرب من المستشفى، لا يستطيع مَن ينظر إليه أن يُفكِّر في شيءٍ آخر سوى إعادته إلى السرير. وهذا هو بالضبط ما دار بخلد فريدا، فتملَّصت من ك وأسرعت إلى يريمياس. ويبدو أن قربها، وطريقتها الحنونة في إحكام لفة الملاءة حوله، والسرعة التي حاولت أن تردَّه إلى الحُجرة، قد منحَته شيئًا من القوة، وبدا عليه كأنه تعرَّف على ك في تلك اللحظة. وقال يريمياس: آه، السيد موظَّف المساحة!

وداعب وجنة فريدا مُطيِّبًا خاطرها فما كانت تُريد مزيدًا من الحديث، وأردف: لا تُؤاخذني على هذا الإزعاج! ولكن صحَّتي ليست على ما يرام، وهذا سببٌ كافٍ لعدم المؤاخذة. أظنُّ أنني أهذي من الحُمة، ولا بد أن أشرب شيئًا ساخنًا وأعرق. يا للسور اللعين عند حديقة المدرسة! سأظل طول حياتي أذكره. ثم كان عليَّ أن أجري هنا وهناك في الليل بعد أن أُصبت بالبرد. إن الإنسان يُضحِّي، دون أن يشعر، بصحَّته من أجل أشياءَ لا تُساوي التضحية في الحقيقة. أما أنت، يا سيادة موظَّف المساحة فما ينبغي أن تنزعج بسببي. ادخُل عندنا في الحُجرة فعد مريضًا وقلْ في أثناء ذلك لفريدا ما تُريد أن تقوله لها. ومن الطبيعي أن يكون لدى اثنَين يفترقان بعد أُلفة كلامٍ كثير في اللحظات الأخيرة، لن يفهمه شخصٌ ثالث خاصةً إن كان راقدًا في السرير ينتظر المشروب الساخن الذي وُعد به. فتعالَ، ادخل الحجرة، وسألزم الهدوء تمامًا.

وقالت فريدا وهي تجذبه من ذراعه: كفى! كفى! إنه يهذي ولا يعرف ماذا يقول. أما أنت يا ك فلا تذهب معه، أرجوك! هذه حُجرتي وحجرة يريمياس، أو هي بالأحرى حُجرتي، وأنا أمنعك من الدخول. إنك تلاحقني، يا ك، لماذا تُلاحقني؟ إنني لن أعود إليك أبدًا، أبدًا، إنني أرتعد عندما أفكِّر في هذا الاحتمال. اذهب إلى فتاتَيك، إنهما تجلسان وليس عليهما من الثياب سوى القميص، على المقعد إلى المدفأة بجوارك، كما علمت، وإذا ما أتى أحدٌ يُناديك، صرَختا في وجهه! إنك هناك في بيتك! أو هل تراك لا تحسُّ ما يجذبك إلى هناك؟! لقد حاولت أن أحجزك عنهما، فلم أنجح إلا قليلًا، ولكني حجزتك على أيَّة حال، ولقد انتهى كل شيء، وأنت حر. إن حياةً جميلةً تنتظرك، وربما سيكون عليك أن تُنازل الخدم من أجل إحداهما، أما الثانية فليس هناك كائنٌ في السماء أو على الأرض يحسدك عليها! والبركة معقودة على الرباط مقدمًا. لا تعارض! وليس هناك شكٌّ في أنك تستطيع أن تَنقُض كل شيء، ولكنك في الحقيقة لا تصلُ في النهاية إلى نقض أيِّ شيء! تصوَّر يا يريمياس أنه نقض كل شيء.

وتفاهَما بتبادل الابتسام والإيماء بالرأس. وأردفت فريدا: ولكن لنَفرض جدلًا أنه نقض كل شيء فما هي النتيجة؟ وماذا يعنيني هذا؟ إنَّ أحوال أولئك الناس وكيف تسير من شأنهم هم وما هي من شأني. ليس من شأني إلا أن أرعاك وأُعنَى بك حتى تستردَّ صحتك كما كانت قبل أن يُعذِّبك ك بسببي.

وسأل يريمياس: إذن فأنتَ لن تأتي معي يا سيادة موظَّف المساحة؟

وجرَّته فريدا نهائيًّا دون أن تَلتفِت إلى ك مرةً أخرى. ورأى ك إلى أسفل بابًا صغيرًا أكثر انخفاضًا من أبواب الممر الأخرى، ولم يكن يرمياس وحدَه الذي اضطرَّ للانحناء حتى يستطيع الدخول بل فريدا كذلك، ويبدو أن الحجرة في الداخل كنت مضاءةً وكانت دافئةً. وتناهى إلى السمع شيءٌ من الهمس لعله إلحاحٌ رقيق من فريدا على يريمياس أن يأوي إلى الفراش. ثم أُغلق الباب.

عند ذاك تبيَّن ك مدى السكون الذي خيَّم على الممر، والذي لم يقتصر على هذا الجزء من الممر الذي كانت فيه فريدا والذي يبدو أن حجرات الخدمة كانت متخذةً به، بل شمل كذلك الممر الطويل والحجرات التي كان الصخب يسيطر عليها، ومعنى هذا أن السادة قد ناموا أخيرًا. وكذلك كان ك شديد التعب، ولعله لم يستطع بسبب هذا التعب أن يدافع عن نفسه ضد يريمياس كما ينبغي. ولعله كان قد تصرف أكثر حكمة، لو أنه اتبع يريمياس الذي كان على ما يبدو يبالغ في البرد الذي أصيب به — ولم تكن مسكنتُه ترجع إلى بردٍ ألمَّ به، بل كانت وراثيةً فيه ولم يكن هناك مشروب ساخن يستطيع أن يُخلصه منها — ليته اتبع يريمياس وفعل مثله، فكشف في مبالغةٍ عن تعبه الذي كان في الحقيقة تعبًا شديدًا، وخرَّ على أرض الممر ونعس قليلًا، ولا شك أن ذلك كان سيُتيح له شيئًا من الراحة ولعله كان سيتيح له كذلك شيئًا من الرعاية! ولكنه لم يكن سينتهي إلى نهايةٍ موفقة كتلك التي سينتهي إليها يريمياس. ولا شكَّ في أن يريمياس كان سينتصر في كل منافسةٍ حول إثارة الشفقة، سينتصر ربما بحقٍّ، سينتصر لا في هذه المعركة فحسب، بل في كل المعارك الأخرى على ما يبدو. وكان ك يحسُّ بتعبٍ شديد، حتى إنه فكَّر في أن يدخل واحدة من هذه الحجرات — ولا شكَّ أن بعضها كان خاليًا — وينام في سريرٍ جميل حتى يستريح تمامًا. وكان يرى أنه لو نجح في هذا لكان له فيه تعويض عن أمورٍ كثيرة. وكذلك كان لديه. شرابٌ يُعين على النوم، فقد تركت فريدا على الصينية التي خلَّفتها على الأرض قنينةً صغيرة من خمر الروم … ولم يتردَّد ك في تحمُّل مشقَّة العودة إلى حيث كانت القنينة، وأفرغها في جوفه عن آخرها.

فلمَّا شرب أحس ك أنه قد أصبح على الأقل من القوة بحيث يستطيع أن يُواجه أرلانجر. وأخذ يبحث عن باب حُجرة أرلانجر، ولكنه لم يستطع العثور عليها؛ لأنه لم يَعُد يرى الخادم وجيرشتيكر، ولأن الأبواب كانت كلها مُتشابهة. ولكنه ظن أنه يستطيع أن يتذكر على وجه التقريب الموضع من الممر الذي كان فيه الباب، وقرر أن يفتح بابًا كان يبدو في رأيه على الأرجح الباب المطلوب. ولم تكن المحاولة محفوفةً بالكثير المفرط من المخاطر، فإذا كانت الحجرة حجرة أرلانجر، فسيستقبله هذا، وإذا لم تكن حُجرته، فسيكون بطبيعة الحال من الممكن أن يعتذر وأن يعود أدراجه، وإذا كان النزيل نائمًا، وهو أقرب الاحتمالات. فإنه لن يلحظ دخول ك. وأسوأ احتمال هو أن تكون الحجرة خالية؛ لأنَّ ك لن يكون في مقدوره أن يقاوم إغراء الفراش، وسيستلقي فيه لينام إلى ما لا نهاية. ونظر ك مرةً أخرى إلى يمين الممر ويسارِه علَّه يجد شخصًا آتيًا يبين له المكان الذي يسعى إليه ويُوفِّر عليه المغامرة، ولكن الممر الطويل كان ساكنًا خاليًا. أرهف ك السمع عند الباب، فلم يجد هناك ما يدلُّ على أن في الحجرة أحدًا. وقرع الباب برقة لا يُمكن أن يستيقظ لها إنسان مستغرق في النوم، ولما لم يتحرك ساكن فتح الباب بحذرٍ بالغٍ. وإذا بصرخةٍ خفيفةٍ تتلقَّاه.

كانت الحجرة صغيرة، يشغل سريرٌ عريض أكثر من نصفها، وكان هناك مصباحٌ كهربائي موقدٌ على المنضدة الصغيرة المجاورة للسرير، وإلى جانب الموقد حقيبةٌ سفريةٌ صغيرة. وكان هناك في السرير شخصٌ يختفي تمامًا تحت الغطاء، يتحرَّك حركاتٍ قلقة، ويَهمس من بين الملاءة والغطاء: مَن هذا؟

ولم يستطع ك أن يتصرَّف بكل بساطة، وتطلَّع مُغضبًا إلى السرير الفاخر الذي لم يكن للأسف خاليًا، وتذكر السؤال وذِكر اسمه. ويبدو أنه أحدث أثرًا طيبًا؛ فقد أبعد الرجل الراقد في السرير الغطاء قليلًا عن وجهه، وإن ظل خائفًا مستعدًّا لإعادة الغطاء حيث كان إذا لم تكن الأحوال على ما يرام. وإذا به يُبعد الغطاء عن جسمه فجأةً ويقعد. لم يكن الرجل بالتأكيد أرلانجر. لقد كان رجلًا قصيرًا حسن المنظر، يجمع وجهه النقيضين؛ فقد كانت وجنتاه مكوَّرتين كوجنات الأطفال وعيناه فرحتين كعيون الأطفال، ولكن جبهته العريضة وأنفه المدبب، وفمه الضيق الذي لم تكن شفتاه تتلاقيان، والذقن المتلاشية كانت كلها سمات لا تتصل بالطفولة بسبب، بل توحي بالتفكير والتأمل. لقد كان الرضا، الرضا الذاتي، هو الذي حفظ له نصيبًا كبيرًا من الطفولة الصحيحة. وسأل: هل تعرف فريدريش؟

وردَّ ك بالنفي. فقال السيد مبتسمًا: ولكنه يعرفك.

وهزَّ ك رأسه. لم يكن مَن يعرفه من الناس إلا قليل، بل لقد كانت تلك عقبةً من العقبات الرئيسية في طريقه. وقال السيد: أنا سكرتيرُه. واسمي بورجل.

وقال ك وهو يمدُّ يدَه إلى مقبض الباب: معذرةً، لقد خلطتُ بين بابك وبابٍ آخر. فأنا مدعوٌّ لمقابلة السكرتير أرلانجر.

فقال بورجل: يا للأسف! لا أقول يا لَلأسف لأنك مدعوٌّ لمقابلة شخصٍ آخر، ولكن لأنك خلطت بين الأبواب. فأنا إذا أوقظت لا أنعس بعد ذلك مرةً أخرى بكل تأكيد. ولكن لا ينبغي أن تحزن لذلك إلى هذا الحد. هذه مِحنتي أنا. ثم لماذا لم تصنَع الأبواب على نحوٍ يجعل من المُمكن إغلاقها، هه؟ إن هذا شيءٌ مقصود له بطبيعة الحال ما يُبرِّره، فهناك حكمةٌ قديمة تقول إن أبواب السكرتيرِين لا بدَّ أن تظل مفتوحة. ولكن ليس هناك ما يدعو للأخذ بهذه الحكمة حرفيًّا.

وتطلَّع بورجل إلى ك في تساؤلٍ وفرح، وكان يبدو — على العكس توحي به شكواه — مرتاحًا راضيًا، ولا يُمكن أن يكون بورجل قد أحسَّ في حياته بتعبٍ كالتعب الذي يحسُّ به ك الآن. وسأل: وإلى أين تريد الذهاب الآن؟ إنَّ الساعة تشير إلى الرابعة. وسيكون عليك أن توقظ مَن تذهب إليه، وليس كل إنسان معتادًا على الإزعاج مثلي، وليس في مقدور كل إنسانٍ أن يصبر على الإزعاج صبري عليه، فإن السكرتيرين أمةٌ عصبية. فابقَ هنا هنيهة. والجميع يبدءون هنا في الاستيقاظ نحو الخامسة، وفي هذا الوقت يمكنك أن تُلبي الدعوة على أفضل نحو. فدع مقبض الباب واجلس حيث تريد والحقيقة أن المكان هنا ضيِّق والأفضل أن تجلس على حافة السرير. هل تدهش لأنني ليس لدي كرسي وليس لديَّ منضدةٌ هنا؟ لقد كان لي أن أختار بين تأثيثٍ كاملٍ للحُجرة يكون فيه السرير ضيقًا كحال سراير الفندق، وبين هذا السرير الكبير على ألا يكون معه سوى حوض الاغتسال. واخترت السرير الكبير؛ فالسرير هو الشيء الرئيسي في حجرة النوم. آه! إن مَن يستطيع أن يتمطى وأن ينام جيدًا، لينعم بهذا السرير فهو متعةٌ لذيذة! حتى أنا الذي أحسُّ دائمًا بالتعب دون أن أستطيع النوم، أرتاح لهذا السرير، وأقضي غالبية النهار فأنجز المكاتبات وأستجوب وأنا فيه أصحاب الحاجات. والأمر يسير على نحوٍ طيبٍ جدًّا. والحقيقة أن أصحاب الحاجات لا يجدُون مكانًا للجلوس، ولكنهم يجدون ما يُعوِّضهم عن هذا، فإنه من الأفضل بالنسبة إليهم أن يظلُّوا واقفين بينما يرتاح الموظف الذي يستجوبهم، على أن يجلسوا مرتاحين بينما الموظف يصرخ فيهم. إذن فليس لديَّ إلا هذا المكان على حافة السرير أقدمه إليك، وهو مكان غير رسمي خصَّصته للأحاديث الليلية دونما سواها. ولكنَّك ساكنٌ ساكت يا حضرة موظف المساحة؟

فقال ك الذي ما كاد يتلقى الدعوة حتى جلس في الحال بخشونةٍ وبدون احترام على السرير واستند إلى عموده: أنا أحسُّ بتعبٍ شديد.

وقال بورجل ضاحكًا: هذا شيءٌ طبيعي. فكل إنسانٍ هنا تعبان. وأنا على سبيل المثال لم أقم لا الأمس ولا اليوم بعملٍ، ومع ذلك فإنه من المحال أن أستطيع النوم الآن، أما إذا تحقَّق أبعد الأشياء عن التصديق ونعست بينما أنت هنا، فأرجوك أن تلزم السكون وألَّا تفتح الباب. ولكن لا تخف، فأنا بكل تأكيد من أنعس الناس، وحتى إذا نعست فلن يدوم نعاسي على أفضل الفروض إلا لدقائق قليلة. والذي يحدث معي هو أنني، على ما يبدو لأنني معتادٌ أشدَّ الاعتياد على حركة الجمهور، أنام بسهولةٍ فائقة عندما يكون عندي بعض الناس.

وفرح ك بهذا الكلام وقال: نعم، يا حضرة السكرتير، أرجوك، وسأنام أنا كذلك قليلًا إذا سمحت لي.

وعاد بورجل يضحك ويقول: لا، لا، أنا لا أستطيع أن أنام إذا دُعيت إلى ذلك، ولكن فرصة النوم تأتي من تلقاء ذاتها أثناء الحديث، والحديث هو أنجع وسيلة لإنعاسي! نعم، إن الأعصاب تعاني الكثير في عملنا. وأنا على سبيل المثال، سكرتير اتصال. وأنت لا تعرف ما هذا، هه؟ إنني أمثِّل أقوى اتصال …

وهنا فرَك يديه بسرعة في نشوةٍ من الفرح غير مقصودة، وأكمل: … بين فريدريش والقرية، إنني أمثِّل الاتصال بين سكرتيرييه في القصر وسكرتيرييه في القرية، وأنا أقيم غالبًا في القرية، ولكني لا أقيم فيها بصفةٍ دائمة، وعليَّ أن أكون في كل لحظةٍ مُستعدًّا للسفر إلى القصر، وأنت ترى حقيبة السفر. إنها حياةٌ قلقة لا تلائم كل إنسان. على أنني لا أستطيع الاستغناء عن هذا النوع من العمل، وقد أصبحت أجد كل نوعٍ آخر مجردًا من الطعم. وكيف حال المساحة؟

فقال ك: إنني لا أقوم بعمل يتصل بالمساحة؛ لأنهم لم يكلفوني بعملٍ من حيث أنا موظف مساحة. ولم يكن ك مركزًا أفكاره على الموضوع، بل كان يتوق إلى شيءٍ واحد وهو أن ينعس بورجل، وهو لم يَقُل هذا عندما تكلَّم عن إحساسٍ بواجبٍ ما حيال نفسه، فقد كان يعتقد في قرارة نفسه أنه يعرف أن لحظة نعاس بورجل ما زالت بعيدة لا يستطيع إنسان التنبؤ به. وقال بورجل وقد هز رأسه بشدةٍ وأخرج كراسة المذكرات من تحت الغطاء ليسجل فيها شيئًا: هذا شيءٌ عجيب! أنت موظَّف مساحة وأنت لا تقوم بعملٍ يتصل بالمساحة!

وهز ك رأسه بطريقةٍ آلية، وكان قد بسط ذراعه اليسرى على شبَّاك السرير وركن رأسه عليها، وحاول مُحاولاتٍ مختلفة أن يجد وضعًا مريحًا، وكان هذا الوضع هو أكثرها راحة، وكان يُتيح له في الوقت نفسه أن ينتبه إلى كلام بورجل على نحوٍ أفضل. واستأنف بورجل كلامه: أنا على استعدادٍ لمتابعة هذا الموضوع. ومن المؤكد أن الأحوال عندنا ليسَت بالتي تسمح بعدم الإفادة من المتخصِّصين. هذا إلى أنَّ هذا الوضع فيه جرحٌ لكرامتك. ألا تعاني منه؟

وقال ك: إنني أعاني منه.

قالها ك ببطءٍ وهو يبتسم بينه وبين نفسه لأنه لم يكن في تلك اللحظة بالذات يعاني منه أقل معاناة. هذا إلى أن عرض بورجل لم يُحدث به أي أثر، لقد كان عرضًا على طريقة الهواة. أنه دون علمٍ بالظروف التي تمَّ في ظلها استدعاء ك إلى العمل، ودون علمٍ بالصعوبات التي تعرض لها هذا الاستدعاء في القصر وفي مجلس القرية، ودون علم بالاضطرابات التي حدثت أثناء إقامة ك هنا أو التي أوشكت أن تحدث، دون علمٍ بهذا كله، ودون أن يظهر عليه أنه — وهذا شيءٌ مقبول من السكرتيرين — أحسَّ على الأقل بما يُشبه العلم بالموضوع، يعرض أن يصلح الأمر في القصر بجرة قلمٍ مُستعينًا بكراسة المذكرات الصغيرة! وقال بورجل: يبدو أنك تعرَّضت لضربٍ من خيبة الأمل.

وأثبت بورجل بهذا مرةً أخرى أن لديه شيئًا من المعرفة بالناس تلحُّ على ك من حينٍ لآخر منذ أن دخل الحجرة ألا يقلل من شأن بورجل، ولكن الحالة التي كان عليها لم تكن تسمح له بأن يحكم الحكم العادل إلا على التعب فقط. وعاد بورجل يقول: لا.

وكأنَّما كان بذلك يجيب على فكرةٍ خطرت ببال ك وكان يُريد أن يوفر على ك جهد الكلام إشفاقًا به. وأردف: … لا ينبغي أن تدع خيبة الأمل تفزعك. ويبدو أن بعض الأمور قد وُضعَت هنا بقصد الإفزاع، وإذا وصل الإنسان هنا لأول مرةٍ فإنَّ العوائق تلُوح له منيعةً لا سبيل إلى التغلُّب عليها بحالٍ من الأحوال. وأنا لا أريد أن أبحث مدى صحَّة هذا التصور، وربما كان الظاهر مُطابقًا للواقع، وأنا في مكاني هذا أفتقر إلى البُعد اللازم لتبيان هذا الأمر، ولكن عليك أن تلاحظ أن فرصًا تسنح أحيانًا لا تكاد تتفق مع الوضع العام، فرصًا يصل الإنسان فيها بكلمة، بنظرة، بإشارة ثقةٍ إلى أشياءَ لا يصل إليها بجهودٍ مُضنية يبذلها طوال حياته. هذه هي الحال بكل تأكيد. والحقيقة أنَّ هذه الفرص تتَّفق مع الوضع العام من حيث هي فرص لم تُستغلَّ مطلقًا. وإنني أتساءل دائمًا عن السبب في عدم استغلالها.

ولم يكن ك يعرف هذا السبب. والحقيقة أنه كان يحسُّ بأن الموضوع الذي يتحدَّث بورجل عنه يمسُّه جدًّا على ما يبدو، ولكنه كان ينفر نفورًا شديدًا من الموضوعات التي تمسُّه، وحرك رأسه إلى جانبٍ وكأنه يفسح المكان لأسئلة بورجل أن تعبر عليه عبورًا دون أن تمسَّه في قليلٍ أو كثير. واستأنف بورجل الحديث وهو يمطُّ ذراعَيه ويتثاءب على نحوٍ يناقض ما في كلامه من جدٍّ ويُثير في النفس الاضطراب: إنَّ السكرتيرين يشكون دائمًا من أنهم يضطرُّون إلى أجراء غالبية الاستجوابات بالقرية ليلًا. ولكن لماذا يشكُون من ذلك؟ هل لأنها تجهدهم؟ هل لأنهم يُفضِّلون استخدام الليل للنوم؟ لأنهم لا يشكون من هذا بكلِّ تأكيد. وهناك بطبيعة الحال بين السكرتيرين، كما هي الحال مع غيرهم، مَن اشتدَّ اجتهادهم وبينهم مَن قلَّ اجتهادهم. ولكن لا أحد منهم يشتكي من الإجهاد المُفرط، وخاصةً ليس بينهم مَن يشكو علنًا. فليس هذا طبعنا. ونحن في هذه الناحية لا نعرف فرقًا بين وقت العمل والوقت العادي. إنَّ هذه الفروق غريبةً عنا. فما سبب نفور السكرتيرين من الاستجوابات الليلية؟ هل الإشفاق على مَن يقومون باستجوابهم؟ لا، لا، ليس هذا هو السبب. إنَّ السكرتيرين لا يعرفون الشفقة مع مَن يستجوبونهم، ولكنهم لا يعرفون كذلك الشفقة مع أنفسهم، وليس هناك فرقٌ بين الضربَين من التعسف. وليس هذا التعسف إلا الاتباع العنيف والتنفيذ الصارم للخدمة، ولهذا فإن هذا التعسف هو في الحقيقة أعظم شفقةٍ يرجوها أصحاب الحاجات. وهذا شيءٌ معترَفٌ به تمامًا، ولكن المتسرع في الحكم لا يلاحظه بطبيعة الحال. فالاستجوابات الليلية هي على سبيل المثال في هذه الحالة الاستجوابات التي تلقى ترحيب المستجوبين، وليسَت هناك شكاوى أساسية من الاستجوابات الليلية. فما هو إذن السبب في نفور السكرتيرين منها؟

ولم يكن هذا معروفًا ﻟ ك. لقد كان يعرف القليل، ولم يكن يستطيع أن يتبيَّن ما إذا كان بورجل يطلب منه الإجابة جادًّا أو يتظاهر بطلبها. كان ك يُفكر: لو تركتني أنام في سريرك فإنَّني سأُحضره لك على كل أسئلتك غدًا ظهرًا أو مساءً على أفضل نحو. ولكن بورجل لم يكن يبدُو عليه أنه ينتبه إليه لفرط انشغاله بالسؤال الذي وجَّهه هو إلى نفسه. وأردف بورجل: إنَّ السكرتيرين، على قدر ما أعرف وعلى قدر ما علمتني الخبرة، يُوجهون النقد التالي للاستجوابات الليلية: إن الليل لا يُناسب المفاوضات مع أصحاب الحاجات لأنه من الصعب أو من المُستحيل الاحتفاظ الكامل للمفاوضات بالصفة الرسمية. وليس السبب هو المظاهر والشكليات، فهذه من الممكن مراعاتها بطبيعة الحال على نحوٍ صارمٍ بالليل وبالنهار على السواء. ليس هذا إذن هو السبب الذي يؤثر على التقدير الرسمي للأمور بالليل. إنَّ السبب هو أن الإنسان يَميل بالليل إلى النظر إلى الأشياء من ناحيةٍ أكثر خصوصية، فإذا ادعاءات أصحاب الحاجات تتَّخذ من الأهمية أكثر ممَّا لها، فتختلط بالأحكام اعتباراتٍ لا تتصل بالموضوع بل تتَّصل بوضع أصحاب الحاجات وآلامهم وهمومهم … إن الحاجز الضروري الفاصل بين أصحاب الحاجات والموظَّفين، وإن ظل في الظاهر قائمًا لا عيب فيه، يضعف، ويتحول الوضع من أسئلةٍ وأجوبة — وهو ما يَنبغي أن يكون — إلى ما يبدو على هيئة تبادُلٍ غريب غير لائقٍ مُطلقًا بين الأشخاص. وهذا هو على الأقل ما يقوله السكرتيرُون، وهم أناسٌ أوتوا بسبب الوظيفة إحساسًا فائقًا خارقًا للمألوف بالنِّسبة لهذه الأمور. ولكنهم — وكثيرًا ما نوقش هذا الموضوع في جلساتنا الخاصة — لا يتبيَّنون أثناء الاستجوابات الليلية من هذه المؤثرات غير المواتية إلا القليل. بل على العكس، إنهم يجتهدون منذ البداية في العمل على مجابهتها ويعتقدُون أنهم حققوا الكثير. أما إذا ما تناول الإنسان المَحاضر التي سجَّلوها واطلع عليها فإنه كثيرًا ما يدهش لما يبدو فيها من نواحي الضعف لديهم. وهذه أخطاء — وما هي في الحقيقة إلا مكاسب يَحصُل عليها المستجوبون بدون وجه حق — لا يمكن تصحيحها على الأقل طبقًا للوائحنا بالطريق المُباشر المعهود. والمؤكد أنها تصحُّ في وقتٍ ما بواسطة ديوان من دواوين المراقبة، ولكن هذا التصحيح لا يُفيد إلا القانون ولا يمكن أن يضرَّ بمَن يشملُهم الاستجواب بحالٍ من الأحوال. أليسَت لشكاوى السكرتيرين والحال هذه ما يبررها؟

كان ك قد أمضى هنيهة فيما يشبه النعاس، وها هو ذا ينزعج من جديد. لماذا هذا كلُّه؟ لماذا هذا كله؟ كان هذا هو السؤال الذي يتردد في خاطره وهو يتأمَّل بجفونٍ مُسبَلة بورجل لا من حيث هو موظَّف يُناقش معه مسائل صعبة، ولكن من حيث إنه شيء يعوقه عن النوم ولا يفهم من كنهِه غير هذا. أما بورجل فقد ابتسم وهو مندمجٌ أشد الاندماج في أفكاره، وكأنما عبَّر بابتسامةٍ عن نجاحه في تضليل ك بعض الشيء. ولكنه كان مُستعدًّا للعودة به إلى الصراط المستقيم. فقال: ولا يُمكن أن نقول أن هذه الشكاوى لها ما يُبرِّرها تمامًا. والحقيقة أنَّ الاستجوابات الليلية غير منصوصٍ عليها في أي موضع؛ أي إنَّ الإنسان لا يخرق قانونًا إذا هو حاول تجنُّبها، ولكن الاستجوابات الليلية أصبحت ضرورةً لا سبيل إلى تجاوزها نتيجةً للظروف ولأمورٍ مختلفةٍ منها: كثرة العمل مُفرطة، وانشغال الموظَّفين في القصر، وصعوبة الوصول إليهم، واللائحة الناصَّة على أنَّ استجواب أصحاب الحاجات لا ينبغي أن يُجرى إلا بعد الفراغ تمامًا من بحث الموضوع من كل نواحيه. وإذا كانت قد أصبحَت ضرورة، فإنني أقول إنَّ هذا نتيجة على الأقل غير مباشرة للوائح، ولهذا فإنَّ العيب في الاستجوابات الليلية هو — وأنا أبالغ بطبيعة الحال شيئًا ما، ولكني أسمح لنفسي بالتعبير على سبيل المبالغة — هو عيب اللوائح ذاتها. على أننا ينبغي أن نعرف للسكرتيرين أنهم يُحاولون على قدر استطاعتهم أن يحموا أنفسهم في نطاق اللوائح من الاستجوابات الليلية ومن عيوبها التي قد لا تكون إلا عيوبًا ظاهرية. وهم بالفعل يتصرَّفون على هذا النحو، وعلى أوسع نطاق. فهم لا يَقبلون للاستجوابات إلا الموضوعات التي يعلمون عنها أنها لا تحتمل من أية ناحية أدنى خوف، هم يَختبرُون أنفسهم قبل الاستجوابات اختبارًا دقيقًا ويرفُضون — إذا كانت نتيجة الاختبار تدعو إلى ذلك — الاستجوابات في آخر لحظة، وهم يُقوُّون أنفسهم باستدعائهم الشخص المطلوب استجوابه عشر مراتٍ قبل أن يقوموا فعلًا باستجوابه، وهم يُوكلون عنهم زملاءهم الذين لا يكون الموضوع من اختصاصهم والذين يكون في مقدورهم لهذا السبب معالجته بسهولةٍ أكبر، وهم يجعلون الاستجواب في بداية أو في نهاية الليل ويتجنَّبون الساعات الوسطى، وما إلى ذلك من الإجراءات الكثيرة، فإنَّ السكرتيرين لا يَستسلمُون بسهولة، وإن مقاومتهم لشديدة كما أنَّ إصابتهم يسيرة.

ونام ك، ولم يكن نومه نومًا بمعنى الكلمة، ولعله كان يسمع كلمات بروجل أسهل ممَّا كان يسمعها خلال يقظته الواهنة السابقة، كان يسمعها كلمةً كلمة ترنُّ في أذنه، ولكن الوعي المؤرِّق كان قد اختفى، وأصبح ك يحسُّ أنه حرٌّ فلم يعُد بورجل يُمسكه، وإن كان من حينٍ آخر يُحرك يدَيه ليتحسَّسه، فلم يكن ك في أعماق النوم، وإن كان قد انغمس فيه. ولم يكن لأحدٍ أن يسلبه النوم. وكان يحسُّ كأنه قد حقَّق بذلك انتصارًا عظيمًا، وكأن جماعة أتت للاحتفال به، وكأنه هو أو كان أحدًا غيره يرفع كأس الشمبانيا تمجيدًا لهذا الانتصار. كان على الجماعة أن تعرف الموضوع، ولهذا تكرر الكفاح وتكرَّر النصر مرةً أخرى، أو لعلهما لم يتكرَّرا بل جريا الآن لأول مرة، وكان الاحتفال بهما قد تمَّ من قبل، ولكنه لم يكن يَنصرِف عنه لأن النهاية كانت لحسن الحظ مؤكَّدة. كان هناك سكرتير عارٍ يشبه تمثال إلهٍ إغريقي أكبر الشبه يضيق عليه الخناق في المعركة أمام ك. كان هذا شيئًا هزليًّا جدًّا، وابتسم ك ابتسامةً رقيقةً في نومه للسكرتير وهو يتعرَّض للفزع في موقفِه المتكبِّر نتيجةً لتقدم ك، ثم وهو يضطرُّ إلى استعمال ذراعه الممدودة ويده المقبوضة بسرعةٍ ليستر عُريه فلا يُفلح لشدة بطئه. ولم تستمر المعركة طويلًا، فقد كان ك يتقدم خطوةً خطوة إلى الأمام وكانت خطاه واسعة. فهل كانت تلك معركةً فعلًا؟ لم يكن هناك عائق بمعنى الكلمة، إلا صيحات كالصفير يُطلقها السكرتير من حينٍ لآخر. لقد كان هذا الإله الإغريقي يصرخ كالبنت من أثر الدغدغة، ثم انصرف في النهاية، وأصبح ك بمُفرده في مكانٍ كبير، والتفَّ حواليه متهيئًا للقتال يبحث عن غريمه، فلم يكن هناك أحدٌ وكانت الجماعة قد انقضت هي الأخرى، ولم يكن هناك سوى كأس الشمبانيا المحطمة على الأرض، فداسها ك حتى أتم تحطيمها. ولكن الحطام وخزه فصحا، وثَقُل عليه الصحو كما يثقل على الصغار عندما يوقظون. وعلى الرغم من ذلك، فقد خطرت بباله، وهو يرى صدر بورجل العاري فكرةً من الحلم: ها هو ذا إله الإغريق! انتزعه من الفراش!

وقال بورجل وقد رفع رأسه، وهو مستغرقٌ في التفكير، إلى السقف وكأنه إذ يتذكر يبحث عن أمثلةٍ فلا يجدها: ومع ذلك فهناك على الرغم من كل القواعد المنصوص عليها في اللوائح إمكانية استغلال أصحاب الحاجات لضعف السكرتيرين ليلًا — على فرض أن هذا الضعف ضعف حقيقةً — لصالحهم. هذه في الواقع إمكانيةٌ نادرةٌ جدًّا، أو على الأصح إمكانية لا تكاد تطرأ بحالٍ من الأحوال. وهذه الإمكانية تتلخَّص في أن يأتي صاحب الحجة في جوف الليل دون استدعاء وقد تدهش لأنَّ ذلك، على الرغم من أنه يبدو ممكنًا، لا يفترض فيه أن يحدث إلا نادرًا جدًّا.

ولا غرو فأنت لا تعرف الأحوال لدَينا، ولكن لا بدَّ أنك لاحظت أن النظام الحكومي لدينا محكمٌ لا تَعتوِرُه ثغرات. وهذا الإحكام يعني أن كل من لديه حاجة أو من لديه أسباب تستدعي أن يُستجوب، يتلقَّى حالًا ودون تردُّد — وغالبًا دون أن يكون قد رتب موضوعه بدعوةٍ للحضور إلى الديوان. وهو لا يَستجوِب في هذه المرة؛ لأن الموضوع لا يكون في المعتاد قد نضج بعد للاستجواب، ولكنه يكون قد تلقَّى الدعوة، ولا يُمكن القول بأنه عندما يحضر أنه حضر بلا دعوة، كل ما يُمكن أن يحدث هو أنه يأتي في وقتٍ ليس بوقت، وهنا يلفتُون نظره إلى تاريخ الدعوة وساعتها، فإذا أتى في الوقت الصحيح، فإنهم في المعتاد يصرفونه دون ما صعوبة. فإنَّ الدعوة التي يحملها صاحب الحاجة والتأشيرة المُثبتة في الملفات تمثل في يدي السكرتيرين أسلحة وقائية قوية وإن لم تكن كافية في كل الأحوال ولا ينطبق هذا الكلام إلا على السكرتير المُختص بالموضوع.

ولكلِّ إنسان الحرية في أن يفاجئ مَن يريد بالليل. ولكن لا يكاد يكون هناك إنسان يفعل هذا؛ لأنه يوشك أن يكون عديم الجدوى والمغزى ولو أن الإنسان فعل ذلك، فإن أول نتيجة ستترتَّب على فعله ستكون إغضاب السكرتير المختص، فنحن جماعة السكرتيرين، وإن لم نعرف فيما بينَنا الغيرة حيال العمل لأنَّ كل واحدٍ منا يحمل — حقيقةً ودون ما إسرافٍ في التقدير — عبثًا مُسرفًا في الضخامة، لا نقبل بحالٍ من الأحوال أي إزعاجٍ من جانب أصحاب الحاجات. وكثيرًا ما خسر أصحاب الحاجات قضاياهم لأنهم ظنُّوا أنهم لا يُحرزون تقدمًا في القسم المختص فحاولوا أن يتسلَّلوا إلى القسم غير المختص. هذا إلى أن مثل هذه المحاولات لا بدَّ أن تفشل لأنَّ السكرتير غير المختص — حتى إذا أمكن التأثير عليه بالليل وكان ينوي نيةً خالصةً أن يقدم المساعدة — لن يستطيع، نتيجةً لعدم تخصُّصه، أن يقدم العون أكثر ممَّا يستطيع أيِّ محامٍ، بل إن ما يقدمه من مساعدةٍ يقل في الحقيقة كثيرًا لأنه يَفتقِر — حتى إذا كان في مقدوره فعل شيءٍ اعتمادًا على أنه يعرف الطرق السرية للقانون أحسن ممَّا يعرفها السادة المحامون — يفتقر حتى بالنسبة للأشياء التي تدخل في اختصاصه إلى الوقت، فليس لديه لحظةً واحدة يضيعها في مثل هذا المسعى. فأين هذا الذي يبدِّد لياليه، والحال على هذا النحو، في الارتماء على سكرتيرين غير مُختصين؟! هذا إلى أن أصحاب الحاجات يكونون مشغولين جدًّا إذا هم أرادوا. إلى جانب قيامهم بأعمال مهنهم، أن يلبوا الدعوات والإشارات التي تصدُر عن الأقسام المختصَّة، «مشغولين جدًّا» من وجهة نظر أصحاب الحاجات بطبيعة الحال، ومن البديهي أنَّ وجهة النظر هذه لا تطابق نظر السكرتيرين.

وأومأ ك برأسه مُبتسمًا، فقد كان في تلك اللحظة يَعتقِد أنه يفهم كل شيء فهمًا دقيقًا، لا لأنه يهتمُّ به، ولكن لأنه كان مُقتنعًا بأنه سيَستغرق في اللحظات التالية في نومٍ عميق لا يقضُّه حلمٌ أو إزعاج. سيَستغرِق بين السكرتيرين المختصين والسكرتيرين غير المختصِّين وأمام جماعة أصحاب الأعمال المشغولين غاية الشغل في سباتٍ عميق وسيُفلِت من كل شيءٍ على هذا النحو. ولقد ألف الآن صوت بورجل الهادئ الخفيض الراضي عن نفسه الساعي في غير جدوى إلى النوم، لدرجة أنه لم يَعُد يُزعجه بل أصبح يجرُّه إلى النعاس. وقال ك في نفسه: جَعجِعي أيتها الطاحونة جَعجِعي، فأنت لا تُجعجعين إلا من أجلي!

وقال بورجل وهو يَعبث بإصبعين في شفتِه السُّفلى ويفتح عينيه على سعتها ويمدُّ رقبته إلى الأمام وكأنه يصل بعد تجوالٍ شاقٍّ إلى هدفٍ خلاب: وأين إذن هذه الإمكانية النادِرة التي لا يكاد يكون لها وجود، والتي أشرت إليها؟ إنَّ السرَّ يَكمُن في اللوائح الخاصة بالاختصاص. فليس الأمر، ولا يُمكن أن يكون في حالة جهاز إداري كبير حي، على ما قد يخطر بالبال من أن كل قضيةٍ تُوكل إلى سكرتيرٍ مختصٍّ بعينه. وإنَّما الحقيقة هي أن الاختصاص الأساسي يكون لسكرتيرٍ بعينه بينما يختصُّ آخرون كثيرون بأجزاءٍ معينة وإن كان اختصاصهم بها اختصاصًا صغيرًا. فأين هذا الشخص الذي، حتى إذا كان أعظم العاملين، يستطيع وحده أن يجمع على مكتبه كل جوانب واقعة ما ولو كانت هي أصغر واقعة؟ إنَّ ما قلته حتى عن الاختصاص الرئيسي مُبالَغٌ فيه. وألا يتضمَّن أصغر اختصاص في طياته كل الاختصاص؟ وأليسَت العاطفة التي يتناول بها الإنسان القضية هي التي تَحسِم أمرها؟ وأليست العاطفة هي دائمًا هي وبكل قوتها؟ ومن المُمكن أن يكون هناك بين السكرتيرين اختلافات في كل الأمور، والحقيقة أن هناك اختلافات لا يحصرها العد، أما العاطفة فلا يختلف فيها اثنان. ليس بين السكرتيرين من يستطيع أن يَضبط نفسه إذا ما طُولبَ بمُعالجة قضية لا يختص بها إلا أقل الاختصاص. ولكن ينبغي أن تكون هناك من الناحية الظاهرية إمكانيةٍ مُنظَّمة للتفاوض، وهنا يبرز أمام أصحاب الحاجات سكرتير معين يكون عليهم من الناحية الرسمية أن يتعامَلوا معه. وليس من الضروري أن يكون هذا السكرتير هو صاحب الاختصاص الرئيسي بالنسبة للقضية، إنما الذي في هذا هو الجهاز الإداري وحاجاته الطارئة الخاصة. ولك الآن، يا حضرة موظف المساحة، أن تتصور إمكانية مباغتة أحد أصحاب الحاجات في الليل البَهيم نتيجةً لظروفٍ ما وعلى الرغم من العوائق التي وصفتها لك والتي تتَّسم عامةً بأنها عوائق كافيةً تمامًا إمكانية مباغتة أحد أصحاب الحاجات لسكرتير يكون لديه اختصاصٌ ما بالقضية المقصودة. يبدو أنك لم تُفكِّر في إمكانيةٍ من هذا النوع؟ وأنا أصدقك عن طيب خاطر. ثم إنه ليس من الضروري أن تُفكِّر فيها فإنها إمكانيةٌ لا تطرأ مُطلقًا. لا بدَّ أن يكون صاحب الحاجة الذي يُوفق إلى هذه الإمكانية حبةً تشكلت وتحددت على نحوٍ عجيب، حبةً صغيرةً وماكرة، حتى يستطيع أن ينفذ من هذا الغربال العظيم الذي لا يفوقه غربالٌ آخر؟ إذن فأنت تعتقد أن هذه الإمكانية لا تطرأ مطلقًا؟ نعم، أنت على حق، إنها لا تطرأ. ولكن أين هذا الذي يضمن هذه الاستحالة؟ قد تطرأ هذه الإمكانية ذات ليلة — ولكنني لا أعرف سكرتيرًا واحدًا حدث له هذا، على أن هذا لا يؤكد إلا القليل فإن مَن أعرفهم محدودون بالقياس إلى العدد الكبير من السكرتيرين الذين يمكن أن يجري عليهم مثل هذا، ثم إنه ليس من المؤكَّد أن يعترف سكرتير حدث له هذا، لأن المسألة مسألة شخصية جدًّا ولأنها تمسُّ الحياء الديواني إذا صحَّت هذه العبارة. ومهما يكن من أمرٍ فإن خبرتي تؤكد أن هذه الإمكانية نادرة ولا وجود لها إلا فيما تتناقَله الشائعات، ولا برهان عليها، ولهذا فإنه من السرف الخوف منها. وإذا طرأت في الواقع، فإن الإنسان يستطيع — وهو شيءٌ يمكن للإنسان أن يصدقه — أن يدرأ أذاها بأن يثبت لها، وهذا شيءٌ يسير ليس له مكانٌ في الدنيا. ومهما يكن من أمرٍ فإن الإنسان يتصرف تصرفًا مَرضيًّا إذا ما توارى تحت الغطاء خوفًا منها ولم يجرؤ على النظر من تحتها، وإذا حدث أن اتخذت الاستحالة الكاملة النجاة شكلًا. فهل معنى ذلك أن كل شيءٍ ضاع بلا رجعة؟ على العكس. أما أن كل شيءٍ يضيع فأمرٌ أكثر استحالة من أشدِّ الأمور استحالة. ولكن عندما يكون صاحب الحاجة في الحجرة فإن الوضع يكون في غاية السوء. إن القلب ليحسُّ نتيجةً لهذا بالضيق. إلى متى تستطيع أن تقاوم؟ هذا هو السؤال الذي يوجهه الإنسان إلى نفسه. ولكن كل واحد يَعرف أن المقاومة لن تكون مقاومة. وينبغي عليك أن تتصوَّر الوضع كما ينبغي. إن صاحب الحاجة الذي لم تره من قبل والذي كنت دائمًا تتوقَّعه. تتوقَّعه بشغفٍ حقيقي وتعتبره بالعقل شخصًا لا سبيل إلى لقياه يجلس هناك. إنه يدعُوك بوجوده الصامت إلى أن تنفذ إلى حياته المسكينة وأن تتقلَّب فيها كأنها مِلكٌ لك وأن تشترك في معاناة مَطالبها التي لا جدوى منها. إنَّ هذه الدعوة في الليل الساكن خلابة ساحرة. والإنسان قد يُلبِّيها، فلا يعود موظفًا رسميًّا. إنه وضعٌ لا يلبث أن يتبين الإنسان فيه أن رفض الرجاء من المحال. أو بعبارةٍ أدق إن الإنسان يحس بالحيرة، أو بعبارةٍ أكثر دقة إنَّ الإنسان يحسُّ بالحيرة لأن العجز الذي يلازم الإنسان هو وينتظر رجاء صاحب الحاجة ويعلم أنه — إذا ما نط صاحب الحاجة برجائه — سيُلبِّيه، حتى إذا كان التنظيم الإداري الرسمي، على ما يعلم، سيَضرب به عرض الحائط هو أسوأ ما يُقابله في حياته. والسبب هو قبل كل شيءٍ آخر — وبغضِّ النظر عن كل شيءٍ — ارتقاءٌ يفوق المفاهيم كلَّها، ارتقاءً يتشبث به الإنسان عنوةً لحظةً من اللحظات. ونحن لم نُخوِّل، حسب مركزنا، صلاحية تلبية رجاءات من نوع الرجاءات التي نعنيها هنا، ولكن قرب صاحب الحاجة منا في الليل يؤدي إلى نشأة مقومات حكومية لدَينا إذا صحَّ هذا التعبير، وإلى التزامنا بأشياءَ خارجة على حدود صلاحيتنا، بل وإلى تنفيذها. إنَّ صاحب الحاجة يَغصبنا في الليل كما يغصبُنا قاطع الطريق في الغابة على إعطائه أشياء لا نستطيع في الأحوال العادية أن نمنحَه إياها. والأمر الآن على هذا النحو: صاحب الحاجة موجود يُقوِّينا ويغصبنا ويُحفزنا، والموضوع يسير طريقه، بينما تجددت الأشياء كلها من الوعي فالأم تسير الحال بعد ذلك عندما يتغيَّر الوضع، عندما يتركنا صاحب الحاجة راضيًا غير عابئٍ بنا، ونقف هنا وحدنا عاجزين في مواجهة تهمة إساءة استخدام السلطة؟! إن هذا شيءٌ لا يتصوَّره الإنسان! ومع ذلك فنحن بالفعل سعداء. وهكذا يمكن أن تكون السعادة انتحارية. ونحن نستطيع أن نبذل الجهود من أجل إخفاء الوضع الحقيقي على صاحب الحاجة. ويكاد لا يكون هناك إنسان يستطيع أن يتبيَّن شيئًا من وضعه الحقيقي وحده. إن صاحب الحاجة، على ما تظن، قد اندفع لأسبابٍ مباغتةٍ تافهة — واهنًا يائسًا جريئًا بليدًا نتيجةً للتعب المفرط والخيبة — إلى داخل حجرةٍ أخرى غير تلك التي كان يُريدها، فهو يجلس جاهلًا مشغولًا بأفكاره، إذا كان مشغولًا بشيءٍ على الإطلاق، مشغولًا بضلاله أو بتعبه. فهل يُمكن أن يتركه الإنسان على هذه الحال؟ لا، لا يُمكن إنَّ الإنسان وهو يثرثر السعداء يشرح له كل شيء. والإنسان لا يصون نفسه في كثيرٍ أو قليل إذ هو يشرح لصاحب الحاجة تفصيليًّا ما حدث وأسبابه، وكيف أن المصادفة نادرة ندرة خارقةً للمألوف، عظيمةً عظمة فريدة، ويشرح له كيف أنه قد اندفع إلى هذه الفرصة عاجزًا كل العجز، الذي لا يستطيعه إلا أصحاب الحاجات، وكيف أنه يستطيع — يا سيادة موظف المساحة — إنَّ أراد أن يتحكَّم في كل شيء، وألا يكون عليه أن يقدم لقاء ذلك شيئًا آخر سوى رجاءٍ على نحوٍ ما قد جهزت تلبيته لعلاقاته … يشرح له هذا كله، تلك هي الساعة العصيبة التي يُواجهها الموظف. وإذا ما فعل الإنسان هذا، يا حضرة موظف المساحة، فإنَّ الجزء الضروري يكون قد جرى، ويكون على الإنسان أن يرضى ويقنع وينتظر.

ونام ك، مُنقطعًا عن كل شيءٍ حدث. وتدلَّى رأسه، الذي كان في البداية يرتكن على ذراعه اليُسرى فوق شباك السرير، ومال في نومه لا يعتمد على شيء، وأشدَّ ميلًا شيئًا فشيئًا. لم يعد الاستناد على الذراع يكفي، فالتمس ك سندًا جديدًا دون ما قصد، بأن دسَّ يده اليُمنى في اللحاف، فأمسك قدم بورجل التي كانت قد خرجت من تحت اللحاف مُصادفةً. وتطلع إليه بورجل وترك له القدم على الرغم من كرهه لذلك.

ودقَّ بعضهم دقاتٍ شديدةً على الجدار الجانبي. ففزع ك وتطلع إلى الجدار، فإذا هناك مَن يسأل: هل موظَّف المساحة هناك؟

فقال بورجل: نعم.

وخلَّص قدمه من قبضة ك وتمطَّى فجأةً بعنفٍ وعنادٍ كالصبية الصغار وعاد الصوت يقول: إذن فليأتِ إلى هنا وقد طال انتظاره له.

لم يرعَ صاحب الصوت بورجل، ولم يرعَ خاصةً ك، وكم كانت حاجته شديدة إلى أن يرعى الآخَرون حاله. وقال بورجل هامسًا: إنه أرلانجر.

ولم يبدُ عليه أنه فوجئ بأن أرلانجر في الحُجرة المجاورة. وأردف بورجل: اذهب الآن إليه، فقد تملكه الغضب، وعليك أن تحاول تهدئته وهو في المُعتاد ينام نومًا عميقًا، ولكنَّنا تكلمنا بصوتٍ مُرتفع، فإنَّ الإنسان لا يستطيع أن يتحكَّم لا في نفسه ولا في صوته عندما يتكلَّم في موضوعاتٍ بعينها. فاذهب الآن، وانثنِ لأرى أنك لا تستطيع أن تخرُج بنفسك من النوم الذي يَحتويك. اذهب، فماذا تُريد هنا؟ لا، ليس عليك أن تَعتذِر عن نعاسك، لماذا؟ إنَّ القوى البدنية لا تصل إلا إلى حدٍّ معيَّن. ومَن هذا الذي يستطيع أن يضمَن أن يكون هذا الحد العظيم الأهمية؟ لا، لا يستطيع إنسان أن يضمن هذا. هكذا يُصحِّح العالم نفسك أثناء دوَرانه، ويُحافظ على توازنه. وإن هذا لتدبيرٌ ممتاز، ممتازٌ امتيازًا لا يُمكن تصوُّره هو كذلك، وإن كان من وجهة نظرٍ أخرى تدبيرًا مُؤسفًا. اذهب الآن، إنَّني لا أعرف لماذا تطلع إليَّ هكذا! وإذا لم تذهَب فسيأتي أرلانجر ويغضب مني وهذا شيءٌ أحب كل الحب أن أتجنَّبه. اذهب ومَن يعلم ماذا ينتظرك هناك. أما هذا فالفُرَص كثيرة. ولكن هناك إمكانيات يصح أن نقول إنها كبيرةٌ كبرًا مفرطًا لا يسمح بالإفادة منها، وهناك أشياء لا يرجع فشلها إلا إليها هي. نعم إن هذا شيء يُثير العجب! أما الآن فأنا آمُل أن أستطيع النوم قليلًا. إنَّ الساعة الآن الخامسة، وسيبدأ الصخب عما قريب. ليتك تَنصرِف أنت على الأقل!

وظلَّ ك وقتًا طويلًا، وقد خدَّره الإيقاظ المفاجئ من نومٍ عميق، في وقتٍ كان فيه يحتاج إلى النوم حاجةً لا حدود لها، وكان جسمه فيه يُعاني كله الآلام نتيجةً للوضع غير المريح الذي كان يتَّخذه، لا يستطيع أن يُقرِّر النهوض، فوضع يده على جبينِه، ونظر إلى حِجره. حتى العبارات المتوتِّرة التي أخذ بورجل يحثُّه بها على الانصراف لم تستطع أن تحمله على الانصراف. إلى أن دفعه إحساسه بعدم جدوى بقائه في هذه الحُجرة مطلقًا إلى التفكير تدريجيًّا في مغادرة الحجرة. وبدَت له الحجرة خربة على نحوٍ لا سبيل إلى وصفه. ولم يكن يعرف هل كانت الحجرة دائمًا هكذا. أم هل قد صارت إلى هذه الحالة. إنه لن يستطيع أن يبلغ هنا شيئًا حتى ولا العودة إلى النعاس! وكان اقتناعه بهذا هو الدافع الحاسم الذي دفعه إلى مُغادَرة الحجرة، وابتسم لهذا قليلًا، ونهَض واتَّكأ على كل ما أمكنه الاتكاء عليه، على السرير على الحائط، على الباب، وانصرف دون ما تحية وكأنما كان قد ودَّع بورجل منذ وقتٍ طويل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤