الفصل التاسع عشر

ولعلَّه كان سيَعبر على حجرة أرلانجر في غير اكتراثٍ، لو لم يكن أرلانجر قد وقف بالباب مفتوحًا وأشار إليه. وكانت إشارته إشارةً قصيرةً وحيدةً بإصبع السبَّابة. كان أرلانجر قد تهيَّأ للانصراف تمامًا، وكان يرتدى معطفَ فراءٍ أسود له ياقةٌ صغيرةٌ مُزرَّرةٌ إلى أعلى. وكان هناك خادم يقدم إليه في تلك اللحظة القفاز ويُمسك في يده القبَّعة المصنوعة من الفراء. وقال أرلانجر: كان ينبغي عليك أن تأتي إليَّ منذ مدة.

وأراد أن يعتذر، فأظهر له أرلانجر بأغمضةٍ مُتعبةٍ من عينَيه أنه مُتنازلٌ عن هذا الاعتذار. وقال أرلانجر: الموضوع هو الآتي. كانت هناك في الخمَّارة بنت تعمل بالخدمة اسمها فريدا. وأنا لا أعرف عنها سوى اسمها، أما هي فأنا لا أعرفها. وأنا لا أهتمُّ بمَعرفتها. وكانت فريدة هذه تُقدِّم إلى كلم من حينٍ لآخر البيرة. ويبدو أن هناك الآن بنتًا أخرى. ولكن هذا التغيير لا أهمية له بطبيعة الحال، بالنسبة للجميع على ما يبدُو وبالنِّسبة لكلم بكل تأكيد. وكلما كبر عمل المرء، وعمل كلم بطبيعة الحال أكبر الأعمال، كلما قلَّ ما يبقى لديه من القوة لمقاومة العالم الخارجي، ولهذا فإنَّ كل تغييرٍ تافهٍ في أكثر الأمور تفاهةً يُسبِّب للمرء إزعاجًا شديدًا. إن أقل تغيير على منضدة الكتابة، كإزالة بقعة قذارة كانت عليها منذ الأزل على سبيل المثال، يُسبِّب للإنسان إزعاجًا، وكذلك تعيين خادمةٍ جديدةٍ في الحانة. على أن هذه الأشياء كلها وإن كانت تسبب لكل إنسانٍ في كل عمل من الأعمال إزعاجًا، لا تُزعج كلم، إنَّ هذا شيء من قبيل المحال. ومع ذلك فإننا مُلزَمون بالسهر على راحة كلم بحيث نزيل كل المنغصات التي لا تعتبر بالنسبة إليه من المنغِّصات — ويبدو أنه ليس هناك من الأمور ما يُمكن أن يُعتبر من المنغصات بالنسبة لكلم — إذا ما بدت لنا على هيئةٍ توحي بأنها يمكن أن تسبب إزعاجًا. ونحن لا نزيل المنغِّصات من أجله ولكن من أجلنا نحن، من أجل ضميرنا وراحتنا. ولهذا فلا بد أن تعود فريدا إلى هذه الخمارة على الفور، ولكن ربما سبَّبت عودتها إزعاجًا. وفي الحالة سنُبعدها من جديد. أما الآن فينبغي أن تعود إلى الخمارة مؤقتًا.

وأنت، على ما علمت، تعيش معها فاجعَلها تعود على الفور. ولا يُمكن أن نُقيم وزنًا في مثل هذا الأمر للمشاعر الشخصية، وهذا شيءٌ بديهي، ولهذا فأنا لا أقبل الدخول في أدنى مناقشةٍ للموضوع، إنني أفعل أكثر مما تستدعيه الصورة عندما أذكر لك أنك إذا أثبتَّ جدارتك في هذا الموضوع المهين فقد تُفيد من ذلك في معاشك. هذا هو كل ما أردت أن أقوله لك.

وأومأ إلى ك برأسه مودِّعًا، ولبس القبعة المصنوعة من الفراء التي قدمها إليه الخادم، وسار في الممر المنحدر بسرعة، وهو يعرج، ومن خلفه الخادم.

كانت هناك أحيانًا أوامر تصدُر ويَسهُل تنفيذها جدًّا، ولكن هذه السهولة لم تكن تُفرح ك. لا لأن الأمر في هذه الحالة كان يتَّصل بفريدا فحسب، ولا لأنه كان أمرا بدا ﻟ ك كأنه استهزاء، ولكن لأنَّ ك رأى فيه عدم جدوى الجهود التي يبذلها كلها. لقد كانت الأوامر التي في صالحه والأوامر التي في غير صالحه تمرُّ من فوقه، وحتى الأوامر التي في صالحه كانت تضمُّ نواة أخيرة في غير صالحه. ومهما يكن من أمر فقد كانت الأوامر كلها تمرُّ من فوق رأسه ولقد كانت درجته وضيعة لا تسمح له بأن ينفذ فيها وأن يُسكتها أو يجد لصوته آذانًا تسمعه. إذا ما لوَّح لك أرلانجر أن تذهب فماذا تفعل؟ وإذا لم يُلوِّح لك بأن تذهب فماذا يُمكنك أن تقول له؟ والحق أن ك ظلَّ يشعر بأن تعبه قد أضر به اليوم أكثر مما أضرَّ به اضطراب الأحوال — ولكن لم يستطع هو، الذي كان يعتقد أنه يُمكنه أن يعتمد على جسمه والذي ما كان ليأتي إلى هنا لولا هذا الاعتقاد، أن يحتمل عدة ليال من النوم القلق، وليلة بلا نومٍ مُطلقًا، ولماذا أحسَّ هنا بالذات بتعبٍ استحال عليه أن يتحكَّم فيه هنا حيث لا يشعر أحد بالتعب، أو على الأحرى حيث يشعر الجميع بالتعب والتعب المُستمر دون أن يفسد هذا التعب أعمالهم، بل إنَّ التعب ليبدو وكأنه ينشطها، كان معنى هذا أنَّ ذلك التعب من نوعٍ آخر غير تعب ك. لقد كان ذلك التعب تعبًا وسط عملٍ سعيد، لقد كان شيئًا يبدو في الظاهر تعبًا وهو في الحقيقة راحةٌ لا سبيل إلى تبديدها، وسلامٌ لا سبيل إلى تحطيمه. فإذا ما أحسَّ أحدهم ظُهرًا بشيءٍ من التعب، فقد كان ذلك جزءًا من المسار الطبيعي لليوم. ولقد خطر ببال ك أن الوقت بالنسبة للسادة هنا دائمًا ظهرًا.

وكان ممَّا يتطابق مع هذا الخاطر تمام التطابق أن الحياة انتشرت في جوانب الممر كلها الآن، في الساعة الخامسة. وكان صخب الأصوات في الحُجرات يتَّسم بسمةٍ مرحةٍ إلى أقصى حد. وكان هذا الصخب يلوح أحيانًا كتهليل الأطفال الذين يستعدُّون للقيام برحلةٍ، ويلوح أحيانًا أخرى كانطلاق الدجاج في الحظيرة صباحًا، كان كالفرحة التي تتفق تمام الاتفاق مع النهار الطالع، بل لقد كان هناك رجلٌ في مكانٍ ما يقلد صياح الديكة. حقيقة أن الممر كان لا يزال خاليًا، ولكن الأبواب كانت تتحرك كان هناك من حينٍ لآخر باب ينفرج ثم ينقفل بسرعة، وكان الممر يمتلئ بصوت انفراج الأبواب وانقفالها، وكان ك يرى في الفتحة التي تفصل بين الجدران والسقف رءوسًا صباحيةً مُضطربة الشَّعر تظهر ثم تتوارى وأقبلت من بعيدٍ عربة صغيرة محملة بالملفات يدفعها ببطءٍ أحد الخدم. وكان هناك خادمٌ آخر يسير بجوارها ويَحمل قائمةً في يده ويبدو أنه كان يقارن أرقام الحجرات وأرقام الملفات. وكانت العربة تقف عند غالبية الأبواب، وكانت الأبواب في المعتاد تَنفتِح عند ذاك، وكانت الملفات الخاصة بها تدفع إلى داخلها، ولم يكن يخص بعض الحجرات في بعض الأحيان سوى ورقةٍ صغيرة، وكان حديثًا قصيرًا يتَّصل في هذه الحالات بين الحجرة والممر، لعله توبيخٌ للخادم. فإذا لم ينفتح الباب كوَّم الخادم الملفات على العتبة بدقةٍ وعناية. وكان ك في هذه الحالات يظنُّ أن حركة الأبواب المُحيطة لم تتوقَّف، على الرغم من أن توزيع الملفات عليها قد تمَّ، بل ازدادت. ربما كان الآخَرون ينظرون في شغف إلى الملفات المحكومة على العتبة دون ما سببٍ مفهومٍ، ولا مفهوم كيف أن الإنسان لا يحتاج لتناول الملفات إلا إلى فتح الباب، وهو مع ذلك لا يفعل. ربما كان من المُمكن أن توزع الملفات التي لا يتناولها أحد على السادة الآخرين الذين كرَّروا النظر الآن ليتأكدوا من أن الملفات ما زالت في مكانها ومن أن لهم أن يأمُلوا في الحصول عليها. هذا إلى أن هذه الملفات المكومة كانت غالبها حزمًا كبيرةً. وفكر ك في أن سبب ترك هذه الملفات على العتبة مؤقتًا هو نوع من التحذلق أو الشر أو الفخار الذي له ما يُبرِّره والذي يشجع الزملاء ويزيدهم نشاطًا. واستند ك في هذا الرأي إلى أنَّ الحزمة كانت في بعض الأحيان — عندما يبعد عنها ببصره — بعد أن تظلَّ في مكانها أمام الأعين طويلًا، تجذب فجأة وبسرعةٍ إلى الحجرة، ثم يظلُّ الباب. كما كان جامدًا لا يتحرك، وكانت الأبواب المحيطة تهدأ هي الأخرى إما لأن الشيء الذي كان يُثيرها قد زال، ولكن الأبواب كانت بعد الهدوء تعود من جديد إلى الحركة تدريجيًّا.

وتأمَّل ك هذا كله وقد تملَّكه فضول وتملكه علاوةً عليه اهتمامٌ واندماج. كان يحس بشيء كالارتياح وسط هذا النشاط، وكان ينظر هنا وهناك ويتابع — عن بُعدٍ مناسبٍ — الخدم الذين كانوا يلتفون حولهم وينظرون إليه في أحيانٍ كثيرةٍ نظرةً عنيفةً وقد خفضوا رءوسهم ومطُّوا شفاههم، وكان يتطلع هكذا إلى قيامهم بتوزيع الملفات. وكانت عملية التوزيع تواجه المزيد من الصعوبات، إما لأن القائمة تضم بعض الأخطاء وإما لأن الخادم لا يستطيع أن يميز بسهولة بين الملفات وإما أن السادة يعترضون اعتراضاتٍ أخرى. ومهما يكن من أمرٍ فقد حدث اعتراض على توزيع بعض الملفات، واضطرت العربة الصغيرة إلى الرجوع، وجرت مفاوضات من خلال فتحة الباب بشأن إعادة الملفات. وكانت المفاوضات ذاتها تواجه صعوباتٍ كبيرةً، وكان يحدث في حالاتٍ كثيرة — إذا كان الأمر أمر إعادة الملفات — أن تنقفل أبواب كانت من قبل تتحرك أنشط حركة، تنقفل بشدةٍ عنيفةٍ وكأنها لا تريد أن تعرف شيئًا عن الموضوع. ثم كانت الصعوبات الحقيقية تبدأ، كان الذي يعتقد أنه صاحب الحق في الملفات فارغ الصبر إلى أقصى حد، وكان يحدث في حجرته صخبًا عظيمًا، ويصفق، ويخبط الأرض برجليه، ويصيح من خلال فتحة الباب مكررًا المرة تلو المرة رقمًا معينًا من أرقام الملفات. وكثيرًا ما كان الخادمان يتركان العربة وحدها، فينشغل أحدهما بتهدئة الثائر الذي فرغ صبره، ويجتهد الآخر في استعادة الملف من وراء الباب المقفل. وكانت مهمة الاثنين صعبة. أما الثائر فكان يزداد ثورة نتيجة لمحاولات تهدئته، ولم يعد يستطيع أن يسمع كلمات الخادم الفارغة، فلم يكن يريد عزاءً بل كان يريد الملفات، ولقد أفرغ أحد هؤلاء السادة على رأس الخادم ذات مرة طست الغسيل من خلال فتحةٍ عالية. أما الخادم الآخر، ويبدو أنه كان أعلى رتبة فقد كان يواجه صعوبة أكبر بكثير. كان، إذا رضي السيد المقصود بالدخول في مفاوضات معه، يقوم بباحثات موضوعية، يرجع فيها الخادم إلى قائمته، ويرجع فيها السيد إلى مذكراته وإلى الملفات ذاتها التي يرجوه الخادم إعادتها، والتي يظل ممسكًا بها في يده قابضًا عليها بحيث لا تبقى منها قطعة صغيرة تقع عليها أعين الخادم المتعطشة للرؤية. وكان الخادم مضطرًّا للعدْو وراء العربة الصغيرة بحثًا عن براهن جديدة، وكانت العربة الصغيرة تسير من تلقاء ذاتها مسافة في هذا الممر المنحدر، وكان مضطرًّا كذلك إلى العدْو إلى السيد المطالب بالملفات وإبلاغه اعتراضات السيد الذي وصلت الملفات إليه والحصول منه على اعتراضاتٍ لمواجهتها. وكانت تلك المفاوضات تدوم طويلًا جدًّا، وكانت في بعض الحالات تنتهي بالاتفاق، فكان السيد يعيد مثلًا جزءًا من الملفات أو يتلقى كتعويض ملفاتٍ أخرى، لأن الخطأ كان يتمثل في إبدال الملفات؛ وكان يحدث أحيانًا أن يتنازل البعض بدون مشاكل عن الملفات التي طالب بها، إما لأن براهين الخادم قد أفقدته الحيلة، وإما لأنه تعب من كثرة التفاوض، وكان في هذه الحالة لا يعيد الملفات إلى الخادم، بل يلقي بها، عن تصميمٍ مفاجئٍ، بعيدًا في الممر، مما كان يؤدى إلى تفكك الأربطة وتطاير الأوراق وكان الخادم عند ذلك يتعب كثيرًا في إعادة الملف إلى حالته. ولكن هذه الأمور كلها تعتبر بسيطةً نسبيًّا إذا قيست بامتناع السيد كليةً من الرد على الخادم وهو يرجوه المرة بعد المرة أن يعيد إليه الملفات، كان الخادم يقف أمام الباب المغلق ويرجوه ويتوسل ويتلو القائمة ويشير إلى اللوائح دون أن يصل إلى نتيجة، ودون أن يسمع صوتًا من الحجرة، ولم يكن للخادم، على ما يبدو الحق في دخول الحجرة بدون إذن. وكان هذا الخادم الممتاز يفقد في بعض الأحيان سيطرته على نفسه ويذهب إلى عربته الصغيرة ويجلس على الملفات، ويجفف العرق المتصبب على جبينه، ويظل برهةً لا يفعل شيئًا سوى هز القدمين في يأسٍ. وكان الاهتمام بالموضوع عظيمًا في المنطقة المحيطة، وكان التهامس كثيرًا في كل مكان، ولم يكد يكون هناك باب هادئ. وكانت هناك وجوه ملفوفة بأقمشة كثيرة لفًّا يوشك أن يكون كاملًا تظهر أعلى حافة الحائط وتتابع على نحوٍ عجيبٍ دون أن تهدأ لحظة، كل ما يجري. ولاحظ ك وسط هذا الاضطراب أن باب بورجل ظل طوال الوقت مغلقًا وأن الخادمين قد مرَّا على هذه المنطقة وفرغا منها دون أن يخصا بورجل بشيءٍ من الملفات. لعله كان لا يزال نائمًا. ولو صح أنه كان نائمًا في وسط هذا الصخب، فمعنى هذا أنه سليمٌ تمام السلامة. ولكن لماذا لم توضع له ملفات؟ إن الخادمين لم يتركا إلا القليل من الحجرات دون ملفات ويبدو أنها كانت حجرات خالية. أما حجرة أرلانجر فقد شغلها ضيفٌ جديدٌ شديد القلق ولا بد أنه أرلانجر قد طرده بالليل طردًا، والحقيقة أن هذا لا يتفق مع شخصية أرلانجر الفاترة العائمة إلا أقل الاتفاق، ولكن انتظاره ك على العتبة كان يوحي بأن هذا هو ما حدث.

وكان ك بعد كل هذه الملاحظات الجانبية لا يفتأ يعود ببصره إلى الخادم. ولم يكن ما قيل ﻟ ك عن الخدم عامة وعن كسلهم وحياتهم الناعمة وعجرفتهم ينطبق على هذا الخادم مطلقًا، ولا بد أن هناك حالات استثنائية أو لا بد — وهو الأرجح — أن هناك بين الخدم مجموعاتٍ مختلفة، فقد كان هناك، كما لاحظ ك تقسيمات كثيرة لم يكن يعلم عنها حتى هذا الوقت شيئًا. وقد سر ك خاصة بما اتصف به الخادم من العناد. فلم يكن هذا الخادم يتراجع في صراعه مع الحجرات، فهو لم يكن يرى مَن فيها إلا نادرًا حقيقة أنه كان ينهار — وأين ذلك الذي لا ينهار في مثل ظروفه؟ — ولكنه كان لا يلبث أن يستعيد قواه، فينزلق من فوق العربة الصغيرة ويذهب زامًّا أسنانه لمناطحة الباب الذي جاء دور غزوه. ولقد صده بعضهم مرتين أو ثلاث مرات، بأبسط الوسائل، بالصمت الشيطاني، لكنه لم ينهزم. كان عندما يرى أنه لا يستطيع أن يبلغ مأربه بالهجوم الصريح، يحاول بطريقةٍ أخرى، مثلًا عن طريق الحيلة، على قدر ما فهم ك. فكان يتظاهر بأنه يبتعد عن الباب، ويتركه حتى يفرغ ما لديه من صمت — إن صح التعبير — ويتجه إلى أبوابٍ أخرى، ثم يعود بعد برهةٍ وينادي الخادم الآخر، ويفعل هذا كله بشكلٍ ملفتٍ للنظر وبصوتٍ عالٍ، ويشرع في تكويم الملفات على عتبة الباب المغلق وكأنما قد غيَّر رأيه، وكأنما لم يكن على حقٍّ في أخذ شيءٍ من هذا السيد، بل كان ينبغي عليه أن يضيف إليه المزيد. وكان عند ذاك يستأنف السير، ولكنه يظل مثبِّتًا نظره على هذا الباب حتى إذا فتح السيد الباب في حذرٍ وتؤدةٍ، على النحو المألوف، ليسحب الملفات إلى داخل الحجرة اندفع الخادم إلى هناك قافزًا ودس قدمه بين الباب وإطاره وأرغم السيد على الأقل أن يتفاوض معه وجهًا لوجه، وهو ما كان يؤدي في المعتاد إلى نتيجةٍ لا بأس بها. وإذا لم تنجح هذه الوسيلة، أو إذا تصور أن هذه الوسيلة ليست هي الوسيلة المناسبة لبابٍ معين، فكان يجرب وسيلةً أخرى. كان ينتقل مثلًا إلى السيد الذي يطالب بالملفات. ويبعد الخادم الآخر الذي لا يفتأ يعمل على نحوٍ آلي ولا يزيد على أن يكون مساعدًا عديم القيمة ويبدأ هو نفسه في إقناع السيد هامسًا متسترًا داسًّا رأسه إلى داخل الحجرة، ولعله يعِده بأشياءَ ويؤكد له أنه في التوزيع التالي سيعاقب السيد الآخر عقابًا مناسبًا، وكان على الأقل يشير إلى باب الغريب مرارًا ويضحك على قدر ما كان تعبه يسمح له. وكانت هناك حالات، حالة واحدة أو حالتان، تخلَّى فيها عن كل محاولة وكان رأي ك أن هذا التخلي ظاهري فقط أو أنه يعتمد على أسبابٍ صحيحة، لأن الخادم يسير هادئًا في طريقه، ولا يلتفت حواليه، راضيًا بالضجة التي يحدثها السيد المجاور، ولا يبين أنه يعاني من الضجة إلا من حينٍ لآخر بإغماضة عينيه فترةً طويلة. وكان السيد نفسه يهدأ تدريجيًّا وكان صياحه عند ذاك يشبه بكاء الأطفال عندما يستحيل إلى بكاءٍ متقطع ثم إلى شهقاتٍ متفرقةٍ تتباعد تدريجيًّا حتى تخفت. ولكنه كان حتى بعد أن يهدأ تمام الهدوء يعود فيصدر صرخةً واحدةً أو يفتح الباب بسرعة ويقفله عنوةً. ومهما يكن من أمرٍ فقد كان واضحًا أن الخادم تصرف هنا تصرفًا يلوح صحيحًا تمام الصحة وبقي في النهاية سيد واحد لم يهدأ، بل صمت طويلًا، ولكنه لم يصمت إلا ليسترد قواه. ثم ليستأنف الجولة دون أن يضعف أو يلين. ولم يكن سبب صراخه وشكواه واضحًا، ولعله لم يكن يتصل بتوزيع الملفات. وفرغ الخادم في هذه الأثناء من عمله، ولم يبقَ في العربة الصغيرة سوى ملفٍ واحدٍ، أو على الأحرى ورقة صغيرة، هي صفحة من كراسة، بقيت نتيجة إهمال المساعد، ولم يعرف الخادم إلى مَن يحملها. وفكر ك: ربما كانت هذه الورقة ملفي أنا! ولقد تحدث البيه رئيس مجلس القرية عن هذه الحالة الصغيرة المفرطة في الصغر. وحاول ك على الرغم من أنه كان في قرارة نفسه يجد فكرته مضحكةً سخيفة، أن يقترب من الخادم الذي كان يتفحص الورقة مهتمًّا. ولم يكن هذا بالعمل السهل، فلم يكن الخادم يحتمل ميل ك إليه، وكان حتى أثناء قيامه بأشق الأعمال يجد وقتًا لينظر إلى ك نظرةً غاضبةً أو متوترة يحرك لها رأسه حركةً عصبيةً. أما الآن وقد فرغ من التوزيع فقد بدا عليه كأنه نسي ك قليلًا، هذا إلى أنه قد أصبح أشد بلادة، وهذا شيء بديهي بعد أن أخذ منه الإعياء كل مأخذ، كذلك لم يتعب نفسه كثيرًا في الورقة، ولعله لم يقرأ الورقة مطلقًا، بل تظاهر بذلك، وعلى الرغم من أنه لو قدم الورقة لأي واحدٍ من السادة هنا لأثلج صدره، فقد قر رأيه، وقد سئم التوزيع على شيءٍ آخر، فرفع إصبع السبابة إلى شفتيه وأشار إلى مرافقه أن يصمت ومزق — ولم يكن ك قد وصل إليه بعد — الورقة إلى قطع صغيرة دسها في جيبه. وكان هذا، على ما يبدو، هو أول خروجٍ على النظام يلاحظه ك هنا في عمل المكاتب. على أنه كان من المحتمل أن ك لم يفهم الأمر على الوجه الصحيح. وحتى لو كان هذا خروجًا على النظام فلم يكن بدٌّ من غفرانه، فلم يكن الخادم يستطيع في الظروف السائدة هنا أن يعمل على نحوٍ لا يعتوره عيب وكان لا بد للغضب المتراكم والقلق المتجمع أن ينفجرا وإذا لم يتخذ انفجارهما هيئةً أخرى سوى تمزيق الورقة الصغيرة، فما أقربه إلى البراءة وكان صوت السيد الذي لم يكن هناك سبيل إلى تهدئته لا يزال يُدوِّي في الممر، ويبدو أن الزملاء الذين لم يكونوا في الأمور الأخرى يتصرفون بعضهم حيال البعض تصرفًا يتسم بالودِّ الشديد، كانوا متَّفقين كل الاتفاق فيما يختصُّ بالصخب. ولاح الأمر كأنما كان هذا السيد قد تولى مهمَّة إحداث الصخب من أجل الجميع الذين كانوا يُشجِّعونه بصيحاتٍ وإيماءاتٍ ليظل على صخبه. ولم يكن الخادم يهتمُّ الآن لذلك فقد فرغ من عمله، وأشار إلى مقبض العربة الصغيرة حتى يُمسك به الخادم الآخر وانصرَفا كما أتيا، قد ازداد رضاءً وسرعةً حتى إن العربة كانت تتراقص أمامهما على أنهما انتقصا مرةً واحدةً ونظرا خلفهما عندما تبين السيد الصارخ الصاخب على ما يبدو — وكان ك يروح ويجيء أمام بابه لأنه كان يود أن يفهم ما كان السيد يريد — إنه لا يبلغ بالصراخ ما يريد أن يبلغه واكتشف زرَّ جرس كهربائي وفرح بأنه سيحمل عنه العبء فبدأ يدق الجرس بلا انقطاعٍ بدلًا من الاسترسال في الصراخ. ثم ثارت همهمةٌ عظيمةٌ في الحجرات الأخرى، ويبدو أنها كانت تعني التأييد والموافقة ويبدو أن السيد كان يفعل شيئًا كان الجميع يتمنَّون لو فعلوه منذ وقتٍ طويل وانصرفوا عنه لسببٍ غير معروف. هل كان السيد يريد بدق الجرس أن يستدعي الخدم؟ أو أن يستدعي فريدا؟ إذن فعليه أن يدق طويلًا. إن فريدا مشغولةٌ بلفِّ يريمياس في فوطٍ مبلَّلة، وحتى إذا كان قد تماثَل للشفاء، فلن يكون لديها وقتٌ لأنها ستكون راقدةً بين ذراعيه ولكن دق الجرس أحدث في الحال أثرًا. فقد أتى صاحب حان السادة بنفسه مُسرعًا يلبس حلةً سوداء مُزرَّرة كالمعتاد، ويبدو أنه نسي وقاره لأنه كان يعدو، وقد بسط ذراعيه كأنما استُدعي لمصيبةٍ هائلةٍ نزلت فعليه أن يمسكها وأن يضمها إلى صدره حتى تختنق، وكان كلما اضطرب دقَّ الجرس يُلوِّح كأنه ينتفض إلى أعلى ويزيد من عدوه. وعلى مسافةٍ غير قصيرةٍ من خلفه ظهرت زوجته، وكانت تجري هي الأخرى باسطةً ذراعَيها، ولكن خطواتها كانت قصيرةً رقيقةً وجال بفِكر ك أنها ستَصل مُتأخِّرةً تأخرًا مفرطًا بعد أن يكون صاحب الحان قد فرغ من إجراء اللازم. والتصق ك بالحائط حتى يُفسح لصاحب الحانة الطريق. ولكن صاحب الحانة وقف أمامه بالضبط وكأنما كان هو الهدف الذي سعى إليه، وما لبثت صاحبة الحانة أن وصلت هي الأخرى وأخذ الاثنان يكيلان ﻟ ك اللوم والتوبيخ فلم يفهم ك من ذلك شيئًا وقد أُخذ على غرةٍ، خاصةً وأن جرس السيد كان يندسُّ وسط اللوم والتوبيخ، بل إنَّ أجراسًا أخرى بدأت تدق، لا عن حاجةٍ ولكن للعبث وتعبيرًا عن فيضٍ من الفرح. وكان ك موافقًا كل الموافقة، من أجل الوصول إلى فهم ذنبه فهمًا دقيقًا، على أن يأخذه صاحب الحانة تحت إبطه ويخرج به بعيدًا عن هذا الصخب الذي كان يتزايد، فقد انفتحت الأبواب على سعتها من خلفهما — ولم يلتفت ك وراءه لأن صاحب الحان من ناحيةٍ وصاحبة الحان من الناحية الأخرى كانا يُكلمانه — ودبَّت الحركة في الممر واشتدَّ النشاط فيه وانتشرت الاتصالات، فأصبح كالحارة الصغيرة الضيقة التي تعج بالنشاط، وكانت الأبواب التي أمامه تنتظر بشوقٍ ظاهر أن يعبُر ك عليها حتى يفتحها السادة، وبين هذا وذاك كانت الأجراس تدقُّ كأنها تحتفل بنصرٍ. وأخيرًا — وكانوا قد وصلوا إلى الفناء الهادئ الأبيض الذي تنتظر فيه الزحافات — علم ك تدريجيًّا بالخبر. لم يكن صاحب الحان ولا صاحبة الحان يفهمان كيف جرؤ ك على فعل شيءٍ من هذا القبيل. وكان ك لا يفتأ يسأل عما فعل. ولكنه ظلَّ وقتًا طويلًا لا يسمع جوابًا لأن الذنب كان يلوح للاثنين واضحًا بديهيًّا ولم يكونا يتصوَّران بحالٍ من الأحوال حسن نيته. وعلم ك بكل شيء بسيط شديد. لقد كان في وقوفه بالممر مخطئًا، فلم يكن له بصفةٍ عامة أن يدخل مكانًا سوى الخمارة، وهذا على سبيل التفضُّل والامتنان، وكان احتمال منعه من ذلك قائمًا في كل وقت. فإذا كان أحد السادة قد استدعاه للحضور، فعليه بطبيعة الحال أن يظهر في مكان الدعوة ولكن عليه أن يعي دائمًا — فله على الأقل ما أوتي كل إنسان من بداهة يعي بها مثل هذه الأمور — أنه يظهر في مكانٍ لا ينتمي إليه، استدعاه إليه، كارهًا غاية الكُره، سيد من السادة لأمرٍ رسميٍّ، فكان للاستدعاء عذره. ولهذا كان ينبغي عليه أن يُعجِّل بالحضور، فيمثل للاستجواب ثم يختفي إن استطاع بسرعةٍ أكبر. ألم يخالجه في الممر شعورٌ عنيف بعدم الانتماء؟ وإذا كان قد أحسَّ بهذا فكيف أمكنه أن يروح ويجيء هناك كحيوان في المرعى؟ ألم يُستدعَ لاستجواب ليليٍّ؟ ألم يعلم بسبب الأخذ بنظام الاستجوابات الليلية؟ لم يُؤخذ بالاستجوابات الليلية — وهنا سمع ك تفسيرًا جديدًا لمغزاها — إلا لسببٍ واحدٍ، هو استجواب أصحاب المصالح، الذين لا يحتمل السادة منظرَهم بالنهار، بسرعةٍ، في الليل، في نورٍ اصطناعي، حيث يستطيع السيد بعدَ الاستجواب أن ينام وينسى كل ما عرض له من قُبحٍ وبشاعةٍ. أما مسلك ك فلم يكن به أثر من أصول الحيطة والحذر. إنَّ الأشباح نفسها تختفي عندما يَقترب الصباح، أما ك فقد بقي، داسًّا يديه في جيبيه، وكأنما كان يتوقع — نظرًا لأنه لم يَبتعِد — أن يبتعد الممر بكلِّ حجراته وسادته. ولو كانت هناك أقل إمكانية، لاختفى الممر بحجراته وساداته بكل تأكيد، وعلى ك أن يُوقن من ذلك، لأن السادة حسَّاسون حساسيةً لا حدود لها. فليس من بينهم مَن يُمكن أن يطرد ك أو أن يقول له أكثر الأشياء بداهةً وهو أن عليه أن يَنصرف. ليس من بينهم مَن يمكن أن يتصرَّف على هذا النحو، على الرغم من أنهم يرتعدُون لوجود ك ولإفساده عليهم الصباح، والصباح أحب فترةٍ إليهم وهم يفضلون، بدلًا من اتخاذ إجراءٍ حيال ك. أن يُعانوا ويتحمَّلوا، والأمل يداعبهم في أن يتبين ك تدريجيًّا هذا الشيء الواضح غاية الوضوح، وأن يُعاني من ذلك معاناةً مثل مُعاناة السادة حتى يستحيل عليه احتمال وقوفه هنا على نحوٍ فظيعٍ يراه الجميع في الممر صباحًا. ولكن أملهم كان بلا جدوى. إنهم لا يعرفون، أو لا يُريدون أن يعرفوا، في غمرة رقتهم وتواضعهم، إنَّ هناك قلوبًا جامدةً، قاسيةً، لا تلين لأي اعتبار. ألا تبحث العثة الليلية، هذا الحيوان المسكين، عندما يأتي الصباح عن ركنٍ هادئٍ ترقد فيه مكومةً تودُّ لو توارت، وتحزن لأنها لا تستطيع التواري؟ أما ك فعلى العكس، إنه يقف في الوضع الذي يظهر فيه للأعين واضحًا أشد الوضوح، ولو استطاع أن يمنع بوقوفِه طلوع النهار، لمَا تأخَّر وهو لا يستطيع أن يمنع طلوع النهار، ولكنه يستطيع للأسف أن يُعطِّله ويصعبه. ألم يتطلَّع إلى توزيع الملفات؟ وهذا شيءٌ لا يجوز أن ينظر إليه إلا أصحاب الشأن المُقرَّبون. شيء لم يكن لا لصاحب الحان ولا لصاحبة الحان أن ينظرا إليه وهو يجري في دارهما، شيء لم يسمعا به إلا تلميحًا، كما سمعا به اليوم من الخدم مثلًا. ألم يُلاحظ الصعوبات التي اعترضت توزيع الملفات — وهذا شيء لا سبيل في الحقيقة إلى فهمِه — فكل واحدٍ من السادة يخدم القضية العامة ولا يُفكِّر في فائدته الخاصة، وكان الأحرى به أن يعمل بكل قواه، حتى تتمَّ عملية توزيع الملفات، هذه العملية الهامة الأساسية، بسرعةٍ وبسهولة وبدون أخطاء؟ وألم يخطر ببال ك من بعيدٍ أنَّ السبب الرئيسي وراء كل الصعوبات التي اعترضَت توزيع الملفَّات أن التوزيع الذي تمَّ بينما كانت الأبواب مغلقة أو تكاد، دون أن تكون هناك إمكانية اتصالٍ مباشرٍ بين السادة، الذين كان يُمكنهم التفاهم في لمح البصر في حين ضيعت وساطة الخدم الساعات الطوال؟ وألم يخطر بباله أنَّ هذا الأمر لا يُمكن أن يظلَّ دون شكوى وأن التعذيب الطويل الذي تعرَّض له السادة والخدم سيكون له على الأرجح أثرٌ ضارٌّ على العمل فيما بعد، ولماذا لم يَستطِع السادة أن يتَّصلوا بعضهم بالبعض؟ ألا يزال ك عاجز عن فهم السبب؟ إنَّ شيئًا من هذا القبيل لم يُصادف صاحبة الحان من قبل، وأكَّد صاحب الحان كلامها بالنسبة لنفسه هو كذلك، على كثرة مَن عرفا من الناس المعاندين. إن هناك أشياء لم يكونا يجرؤان على النُّطق بها، أصبح عليهما الآن أن يُوضِّحاها له بصراحةٍ وإلا فإنه لن يفهم ما هو ضروري. إذن مادام عليهما أن يتكلَّما فإنهما يقولان: إن السادة لم يخرجوا من حجراتهم وذلك بسببه، بسببه هو؛ لأنهم في الصباح، ولم يمضِ على استيقاظهم وقتٌ طويل، يكونون شديدي الخجل، شديدي الحساسية، لا يستطيعون احتمال النظرات الغريبة. إنهم يحسون حقًّا، حتى وإن كانوا يرتدون الملابس كاملةً، كأنهم عارُون لا يستطيعون الظهور أمام الأعين. ومن الصعب أن نذكر سبب خجلهم، ولعلهم يخجلون، هؤلاء العمال النشيطون، لأنهم ناموا، ولعلهم يخجلون من النظر للغرباء أكثر مما يخجلُون من الظهور أمامهم. إنهم لا يريدون أن يدعوا ما قد تغلَّبوا عليه عن طريق الاستجوابات الليلية، أعني منظر أصحاب الحاجات، ذلك المنظر الذي لا قِبل لهم على احتماله، ينصبُّ عليهم فجأةً على نحوٍ مباشر وعلى هيئته الطبيعية وقد أصبح الصباح. إنهم لم يَبلُغوا القدرة على احتمال ذلك. وأيُّ إنسانٍ هذا الذي لا يحترم هذا الوضع؟! لا بد أن يكون إنسانًا مثل ك. لا بد أن يكون إنسانًا يَستهتر بكل شيء. بالقانون وبأكثر أنواع التحفُّظ الإنساني بساطةً، وقد تملَّكته بلادة جامدة وخمول جامد، لا يُهمُّه أن يحول دون توزيع الملفات ولا يتأثَّر بإضراره بسُمعة الدار، إنسانًا يفعل ما لم يحدث من قبل، بحيث يضطرُّ السادة الذين أسقط في أيديهم إلى العمل على الدفاع عن أنفسهم، وإلى الالتجاء في تمالك للنفس لا يخطر ببال البشر العاديِّين إلى الجرس وإلى طلب النجدة لتطرد ك الذي لم تفلح وسيلة أخرى في هزِّه، إنهم وهم السادة، يطلبون النجدة. ولقد أسرع صاحب الحان وصاحبة الحان والعمال جميعًا منذ وقتٍ مبكرٍ إلى هنا، وأوشكوا، لو أسعفتهم الجرأة. أن يظهروا أمام السادة في الصباح دون استدعاء، ليُقدموا العون ولينصرفوا على الفور بعد ذلك. لقد انتظروا هنا على أول الممر يرتعدون من الغيظ، ويحتارُون أشد الحيرة لعجزهم، وجاء الجرس — الذي ما كانوا ينتظرونه — بالخلاص. وهكذا انتهى أقبح ما في الأمر. ليتَهُم يستطيعون أن يُلقوا نظرةً على تعبير السادة عن فرحهم بعد أن تمَّ خلاصهم! أما ك، فلم ينتهِ الأمر بالنسبة إليه. إنه سيُسأل بلا شكٍّ عن كل ما أحدثه هنا.

وكانوا قد وصلوا في هذه الأثناء إلى قاعة الشراب، ولم يكن من الواضح تمامًا لماذا اقتاد صاحب الحانة ك إلى هناك على الرغم من غضبه الشديد، لعلَّه قد تبيَّن أن تعب ك يحُول بينه الآن وبين مغادرة الدار وارتمى ك قاعدًا على برميلٍ من البراميل دون أن يطلب إليه أحد أن يقعُد أو أن ينتظر. وأحسَّ في الظلمة بالارتياح. ولم يكن هناك في المكان الكبير سوى مصباحٍ كهربائيٍّ واحدٍ ضعيفٍ يُضيء فوق صنابير البيرة. كذلك كانت الحُلكة مخيمةً على الدنيا في الخارج وكان النشاط المتصل بالخارج يوحي بأن الثلوج مُتراكمة. فإذا كان الإنسان هنا في الدفء فعلَيه أن يشكر وأن يعمل ما في وسعه حتى لا يطرده أحد. وكان صاحب الحان وصاحبة الحان لا يَزالان يقفان أمامه، وكأنما كان خطرًا لم يتحوَّل، أو كأنما كان من الممكن أن يهبَّ فجأة — وهو المستهتر المسرف في الاستهتار — ويحاول العودة إلى الممر. كذلك كان الاثنان مُتعبَينِ من الرعب الذي أصابهما في الليل ومن الاستيقاظ قبل الموعد وبخاصةٍ صاحبة الحان التي كانت ترتدي ثوبًا بُنيًّا من قماشٍ يهفهف كالحرير نصفه السُّفلي واسع، عقدته وأقفلت أزراره على نحوٍ مُضطرِب — من أين أخرجته يا ترى وهي على عجل؟ — وكانت تُسند رأسها التي بدَت ملوية على كتف زوجها، وتمسح عينيها بمنديلٍ رقيق وتُوجِّه بين ذلك نظراتٍ صبيانيةٍ شريرة إلى ك. وأراد ك أن يُهدئ من روع الزوجين فقال إن كلَّ ما حُكي له جديدٌ عليه كل الجدة، وإنه على الرغم من جهله لم يبقَ بالممرِّ طويلًا، فلم يكن لديه ما يفعله هناك، ولم يكن بكلِّ تأكيدٍ يريد أن يعذب أحدًا، وأن كل ما حدث إنما يرجع إلى شيءٍ واحدٍ هو تعبه المُفرط. وشكرهما على أنهما أنهيا المشهد الأليم، وقال إنه يُرحب كل الترحيب بأن يسأل عما فعل، فهذا هو السبيل الوحيد للحيلولة دون تأويل مسلكه تأويلًا خاطئًا. إنَّ الذنب يرجع إلى تعبه لا إلى شيءٍ آخر. وتعبه يرجع إلى أنه لم يألف مشقَّة الاستجوابات بعد. فهو حديث عهدٍ بالمكان. وعندما يجمع شيئًا من الخبرة في هذه الناحية فلن يحدث شيء من هذا القبيل مرةً أخرى. وربما كان يُسرف في الاهتمام بالاستجوابات، ولكن هذا شيء لا يمكن أن يعاب عليه. ولقد تحتَّم عليه أن يجتاز استجوابَين الواحد تلو الآخر، أولهما عند بورجل، وثانيهما عند أرلانجر، وكان الاستجواب الأول هو الذي أعياه أشد الإعياء، فلم يَطُل الاستجواب الثاني في الحقيقة ولم يَزِد عن أن توجه إليه أرلانجر طالبًا منه مكرمةً، ولكن الاستجوابَين كانا أكثر من طاقته، ولعلهما يزيدان على طاقة الآخرين كذلك، على طاقة السيد صاحب الحان مثلًا. والحقيقة أنه لم يخرج من الاستجواب الثاني إلا مُترنحًا، لقد أوشكت حاله أن تكون سكرًا، فقد رأى السيدَين وسمعهما لأول مرة وكان مثلًا عليه فوق هذا وذاك أن يُجيب عليهما. ولقد انتهى الأمر، على قدر ما يُعرف، نهايةً طيبةً، ثمَّ حدثت تلك المصيبة التي لا يكاد يُمكن لإنسانٍ أن يحمله ذنبها بعد كل ما سبقها، ولقد تبيَّن أرلانجر وبورجل وضعه، وليس هناك شكٌّ في أنهما كانا سيتوليان أمره وكانا سيردان عنه كل شيء، ولكن أرلانجر كان مُضطرًّا للانصراف بعد الاستجواب مباشرةً ليذهب على ما يبدو إلى القصر، أما بورجل فيبدو أنه تعب من ذلك الاستجواب — وكيف يمكن أن يكون قد اجتاز الاستجواب دون أن يستبدَّ به الضعف؟ — واستغرق في النوم فلم يشهَد توزيع الملفات. ولو أوتي ك هذه الإمكانية — إمكانية الاستغراق في النوم — لأفاد منها كل الفائدة مسرورًا، ولتنازل راضيًا عن كل النظرات المحرَّمة، خاصةً وأنه لم يكن في الحقيقة قادرًا على أن يرى شيئًا، لو علم أكثر السادة حساسيةً بهذا، لظهرا أمامه دون ما خجل.

وكان لإشارة ك إلى الاستجوابَين — وبخاصة إلى استجواب أرلانجر وللاحترام الذي تحدَّث به عن السيدَينِ أثرهما في استمالة صاحب الحان إليه، فلما طلَب ك لوحًا من الخشب ليضعه على البراميل وينام عليه على الأقل إلى أن ينبلج الصباح بدا على صاحب الحان ميلٌ إلى تلبية هذا الرجاء، ولكن صاحبة الحان عارضت معارضةً واضحةً لا لبس فيها، وهزت رأسها مرارًا فوق ثوبها الذي تبيَّنت الآن اضطرابه وحاولت أن تُصلحه هنا وهناك دون جدوى. وأوشك خلاف على نظافة البيت، يبدو أنه كان خلافًا قديمًا، أن يعود إلى الانفجار من جديد، واتصل بين الزوجين حديث اتخذ في نظر ك لتعبه أهميةً هائلةً. ولاح له أنَّ طردَه من هنا سيكون مصيبةً أضخم من كل ما شهده حتى الآن. لا ينبغي أن يصل الأمر إلى ذلك حتى إذا اتَّفق صاحب الحان وصاحبتها على الوقوف في وجهه. وأخذ ينظر إليهما متربصًا وهو مكومٌ على برميل. حتى انتحت صاحبة الحان جانبًا فجأة نتيجة لحساسيتها الفائقة التي لفتَت نظر ك منذ وقتٍ طويلٍ — ويبدو أنها تحدثت مع صاحب الحانة عن أشياءَ أخرى — وصاحت: ما باله يتطلَّع إليَّ هكذا! اطرده!

وانتهز ك الفرصة فقال، وكان موقنًا يقينًا تامًّا يوشك أن يصل إلى حدِّ البلادة من أنه سيبقى: أنا لا أتطلَّع إليك، بل أتطلَّع إلى الثوب.

وسألت صاحبة الحانة ثائرةً: ولماذا تتطلَّع إلى ثوبي؟

فهز ك كتفَيه.

وقالت صاحبة الحان لزوجها: تعالَ! إنه سكران! هذا الصعلوك! دعه هنا يَنام حتى يفيق من سُكره!

ونادَت صاحبة الحان بيبي فظهرت من وسط الظلام مُضطربة الشَّعر، مُتعبةً، تمسك بيدها في إهمالٍ مقشة، وأمرتها بأن تُلقي إلى ك مخدة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤