الفصل الثاني
عندما أوشكا على بلوغ الحان — وإنَّما تبيَّن ك ذلك من انحناء الطريق — كانت الدنيا، لدهشته، قد أظلمت كلَّ الظلمة. فهل غاب مدةً طويلة إلى هذا الحد؟ إنه لم يغبْ على قدر حسابه سوى ساعةٍ أو ساعتين، ولقد خرج من الحان في الصباح، ولم يشعر بحاجةٍ إلى الطعام، ولقد كان ضوء النهار يغمر الدنيا متسقًا منذ وقت قصير، وإذا به يستحيل إلى ظلمة حالكة. وقال ك في نفسه: أيام قصيرة! أيام قصيرة!
وانزلق من فوق الزحافة واتجه إلى الحان.
وكان صاحب الحان يقف على أعلى السلم الأمامي الصغير، واستحسن ك هذا أشد الاستحسان — وكان صاحب الحان يحمل مصباحًا يرفعه إلى أعلى ويضيء له السبيل. وتذكَّر ك الحوذي على نحو عابر، فوقف، وإذا صوت سعال يتناهى إليه من الظلام: إنه الحوذي. هه، إنه سيراه بطبيعة الحال فيما بعد. فلما وصل إلى صاحب الحان الذي حيَّاه بتواضع، تبيَّن أن هناك رجلين يقف كل منهما على أحد جانبي الباب. فتناول المصباح من يد صاحب الحان وأضاء الاثنين، فإذا هما الرجلان اللذان قابلهما من قبلُ وناداهما البعض: أرتور ويريمياس. إنهما يُحييان الآن تحيةً عسكرية. وتذكَّرَ أيام الجندية، هذه الأيام السعيدة، وضحك، ثم سأل وهو ينظر من هذا إلى ذاك: مَن أنتما؟
فأجابا: مساعداك.
وأكَّد صاحب الحان كلامهما قائلًا: إنهما مساعداك.
وسأل ك: كيف هذا؟ أنتما مساعداي القديمان اللذان استدعيتهما ليَلحقا بي، واللذان أنتظر وصولهما؟
فأكَّدا ذلك. وقال ك بعد هنيهة: حسنٌ. حسنٌ أنكما وصلتما.
ثم قال ك بعد هنيهة أخرى: لقد تأخُّرتما تأخرًا شديدًا، أنتما مهملان.
وقال أحدهما: لقد كان الطريق طويلًا.
وقال ك مكررًا الكلام نفسه: كان الطريق طويلًا … ولكنَّني قابلتكما وأنتما قادمان من القصر. وقالا دون إضافة تفسير أو تبرير: نعم.
وسأل ك: وأين الأجهزة؟
فقالا: ليس معنا أجهزة.
فقال ك: أين الأجهزة التي ائتمنتكما عليها؟
فعادا يقولان: ليس معنا أجهزة.
فقال ك: آه، هل أنتما كسائر البشر. أتفهمان شيئًا في المساحة؟
فقالا: لا.
فقال ك: إذا كنتما مساعديَّ القديمَين فلا بد أنكما تفهمان في المساحة. ودفعهما أمامه إلى داخل البيت.
ثم جلس الثلاثة أقرب إلى الصامتين في قاعة الحان يحتسون البيرة إلى منضدة صغيرة، كان ك في الوسط، وكان المُساعدان عن يمينه وشماله. وكانت هناك منضدة أخرى يجلس إليها بعض الفلاحين مثل الليلة الماضية. وقال ك وهو يُقارن وجهَيهما كما فعل من قبل مرارًا: إن أمري معكما لصعبٌ. كيف يمكنني أن أفرِّق بينكما؟ إنكما لا تختلفان إلا في الاسم، وإنكما فيما عدا هذا متشابهان!
وتعثَّر برغمه، ثم عاد يقول: متشابهان كما تتشابه الحيَّات.
وابتسما وقالا مدافعين عن أنفسهما: ولكن الناس يُفرِّقون بيننا عادةً على نحو طيب.
وقال ك: أعتقد هذا. ولقد كنت شاهدًا على ذلك، ولكنني أرى بعيني وأنا لا أستطيع بهما أن أفرِّق بينكما. ولهذا فأنا سأعاملكما كأنكما رجلٌ واحد وسأدعوكما أرتور، فهذا اسم أحدكما، أليس كذلك؟
وسأل أحدهما: ربما اسمك أنت؟
فقال هذا: لا. أنا اسمي يريمياس.
فقال ك: هذا ما لا يهمني. سأدعوكما معًا أرتور. فإذا أرسلت أرتور إلى مكان ما، فعليكما بالذهاب معًا، وإذا كلَّفتُ أرتور بعملٍ، فعليكما الاشتراك فيه معًا، وفي هذا ضرر كبير عليَّ، لأنني لن أستطيع أن أستخدمكما في عملينِ مختلفين، ولكن فيه خير لي؛ لأنكما ستحملان معًا مسئولية ما أكلفكما به من عمل. ولا يهمني كيف تقسمان العمل بينكما، وما ينبغي على أيِّ منكما أن يلقي التبعة على الآخر، فأنتما في نظري رجل واحد.
وفكَّرا في هذا ثم قالا: سيكون هذا ثقيلًا علينا.
فقال ك: لا يُمكن إلا أن يكون كذلك. سيكون هذا بطبيعة الحال ثقيلًا عليكما. ولكن الأمر سيبقى كما قلت.
وكان ك قد لاحظ هنيهة أن أحد الفلاحين يحوم حول المنضدة، وأخيرًا أجمع هذا أمره على شيء واتجه إلى أحد المساعدَين وهمَّ أن يهمس إليه بشيء. فقال ك: معذرة.
ثم ضرب على المنضدة بيده وهبَّ واقفًا وأردف يقول: هذان مُساعداي، ونحن الآن مشغولون بمناقشة. وليس لأحد الحق في إزعاجنا.
فقال الفلاح خائفًا: متأسِّف. آه. متأسف.
وعاد القهقرى إلى جماعته.
وقال ك وقد عاد إلى الجلوس: هناك شيء ينبغي عليكما أن تراعياه قبل كل ما عداه، وهو أنه ليس لكما أن تتكلَّما مع أحد دون تصريح منِّي. فأنا هنا غريب، وإذا كنتما مساعديَّ القديمَين فأنتما كذلك غريبان. ولهذا ينبغي علينا نحن الغرباء الثلاثة أن نتضامن. هيا نتعاهد على ذلك!
ومَدا يدَيهما في تهافت ولهفة إلى ك. وقال ك: ليُرجع كلٌّ منكما يديه! ولكن أمري قائم. وسأذهب الآن للنوم، وأنصحكما كذلك بالذهاب للنوم. لقد ضيعنا اليوم بلا عمل، وينبغي علينا أن نبدأ غدًا مبكرين. وعليكما أن تُجهزا زحافة للانتقال إلى القصر، وأن تكونا مستعدَّين بها في الساعة السادسة صباحًا أمام البيت.
وقال أحدهما: حسنٌ.
ولكن الآخر قاطعه: إنك تقول حسنًا، مع أنك تعلم أن هذا مستحيل.
فقال ك: سكوت! إنكما تريدان البدء في الشجار.
ولكن أولهما عاد يقول: إنه على حق! من المستحيل أن يدخل غريب القصر بلا تصريح.
– وأين يطلب الإنسان التصريح؟
– أنا لا أعرف، ولكني أعتقد أن الإنسان يطلبه من مدير القصر.
– إذن فلنطلب التصريح تليفونيًّا، اتصلا فورًا بمدير القصر.
فجريا إلى التليفون وأجريا الاتصال — وكم كانا يتزاحمان على التليفون! كانا يبدوان مُطيعين طاعة مضحكة — وسألا هل يصح أن يأتي ك معهما في الغد إلى القصر. وجاءت الكلمة «لا» وسمعها ك وهو عند المائدة. ولكن الإجابة كانت مفصلة: «لا غدًا ولا في أي يوم آخر.»
فقال ك: سأتَّصل أنا تليفونيًّا.
وهبَّ واقفًا. وبينما كان ك ومساعداه — باستثناء حادثة الفلاح — لا يلفتون نظر الموجودين إلا قليلًا، أثارت ملاحظته الأخيرة اهتمام الجميع. وإذا هم يهبُّون واقفين مع ك، وعلى الرغم من أن صاحب الحان حاول أن يردهم، فقد تجمعوا عند التليفون على هيئة نصف دائرة. وكان الرأي الغالب بينهم أن ك لن يتلقى إجابة. واضطر ك إلى أن يرجوهم التزام الهدوء مبينًا أنه لم يطلب سماع آرائهم.
وجاء من سماعة التليفون أزيز لم يعهده ك من قبل عند استعمال التليفون، وكان هذا الأزيز، يلوح كأنما كانت تحدثه أصوات أطفال لا حصر لهم، ولم يكن هذا الأزيز أزيزًا بمعنى الكلمة بل كان غناءً تؤديه أصوات بعيدة، متناهية البعد، ينطلق من بينها، على نحو مستحيل؛ وعلى خط مستقيم صوت واحد مرتفع وقوي يصفع الأذن، وكأنه يريد أن يندس إلى أعمق من السمع المسكين. وأنصت ك دون أن يتصل، وأسند ذراعه على منضدة التليفون، واستغرق في الإنصات.
ولا يعلم ك كم من الوقت مر عليه وهو يرهف السمع، ولكنه ظل هكذا حتى شدَّه صاحب الحان من سترته قائلًا إن رسولًا أتى إليه. وصاح ك غير مُتمالك نفسه: ابعد!
ولعلَّه صاح بهذا في التليفون؛ لأنَّ شخصًا ما كان على الطرف الآخر. وجرى هذا الحوار.
– هنا أوزفالد. مَن هناك؟
كان الصوت قاسيًا، مُتعجرِّفًا، فيه عيب صغير من عيوب النطق، على نحو ما بدا ﻟ ك، حاول أن يُعالجه بمزيد من القسوة. وتردَّد ك في ذِكر اسمه، فلم يكن يستطيع حيال التليفون أن يدافع عن نفسه، وربما صرخ فيه الآخر صرخة مُهلكة وربما ألقى السماعة، فسدَّ ك على نفسه سبيلًا لعله لا يَفتقِر إلى الأهمية. وأدى تردد ك إلى غضب الرجل فعاد يقول: مَن هناك؟
ثم أضاف: كم أتمنى ألا تكثر الاتصالات التليفونية من هناك، فقد كانت هناك مكالمة منذ لحظة.
ولم يُعلق ك على هذه الملاحظة بشيء، وقدَّم نفسه بتصميم مفاجئ: هنا مساعد السيد موظَّف المساحة.
– أي مساعد؟ أي سيد؟ أي موظَّف مساحة؟
وخطر ببال ك مكالمة الأمس، فقال بإيجاز: اسأل فريتس.
ودهش ك لأن عبارته أدَّت إلى نتيجة. ودهش أكثر للوحدة التي تنتظم العمل هناك، فقد جاءت الإجابة: لقد فهمت! إنه موضوع موظَّف المساحة الذي لا ينتهي إلى نهاية أبدًا! نعم! نعم! ثم ماذا؟ وأي مساعد أنت؟
فقال ك: يوزف.
وكانت همهمة الفلاحين خلف ظهره تُسبِّب له شيئًا من الاضطراب، ويظهر أنهم لم يكونوا مُوافقين على تقديمه نفسه تقديمًا غير صحيح. ولكن ك لم يكن لدَيه وقت للاهتمام بهم؛ لأن المكالمة شغلته تمامًا. وعاد الصوت يسأل من جديد: يوزف؟ إن المساعدين هما …
وصمت قليلًا، ويبدو أنه كان يسأل آخر عن اسمَي المساعدَين.
– أرتور ويريمياس.
فقال ك: هذان هما المساعدان الجديدان.
– بل هما القديمان.
– إنهما القديمان. أما أنا، فالمساعد القديم، وقد لحقت اليوم بالسيد موظَّف المساحة.
وهنا صرخ الصوت: لا.
فسأل ك هادئًا كما كان: فمَن أنا إذن؟
ومرت فترة سكوت قال بعدها الصوت بعيب النُّطق نفسه، وإن أصبح أكثر عمقًا، وأجدر بالاحترام: أنت المساعد القديم!
وأنصت ك إلى نبرة الصوت وأوشك ألا يعي السؤال الذي تناهى إلى سمعه: ماذا تريد؟
ولكم ودَّ لو وضع السماعة. فلم يعد يرجو شيئًا من وراء هذه المكالمة. ولكنه سأل بسرعة سؤال المضطر: متى يمكن لسيدي أن يأتي إلى القصر؟
وجاءت الإجابة: لن يكون له هذا أبدًا.
وقال ك: حسنٌ.
وأعاد السماعة إلى مكانها.
وكان الفلاحون من خلفه قد اقتربوا منه اقترابًا شديدًا. وكان المساعدان مشغوليْن، وهما ينظران إلى ك نظرات جانبية، بحجز الفلاحين عنه. ويبدو أنها كانت مجرَّد ملهاة، فقد تراجع الفلاحون شيئًا فشيئًا، راضين بنتيجة المكالمة. وإذا رجل يشق مجموعة الفلاحين من الخلف بخطوات سريعة وينحني أمام ك ويقدم إليه رسالة. وأمسك ك بالرسالة في يده وتطلع إلى الرجل الذي لاح له في تلك اللحظة أكثر أهمية. وكان هناك شَبَهٌ كبير بينه وبين المساعدَين. كان رشيقًا مثلهما، ضيق الثياب مثلهما، مرنًا سريعًا مثلهما، ومع ذلك فكان يختلف عنهما اختلافًا بيِّنًا. وكم ود ك لو كان هذا الرجل مساعدًا له. ولقد ذكَّره قليلًا بالمرأة ذات الرضيع التي رآها عند المعلم الدباغ. فقد كان يلبس ثوبًا أبيض أو يكاد لونه يكون كذلك، ولم يكن الثوب مصنوعًا من الحرير، بل كان ثوبًا شتويًّا كالثياب الأخرى، ولكنه كان يتَّسم بما يتَّسم به الثور الحرير من رقة ومهابة. وكان وجهُه مشرقًا وصريحًا، وكانت عيناه واسعتَين. وكانت ابتسامته تُوحي بالأمل على نحو غير مألوف. ولقد مسح بيده على وجهه وكأنما أراد أن يطرد هذه الابتسامة، ولكنه لم يوفَّق في ذلك، وسأله ك: مَن أنت؟
فقال: أنا اسمي برناباس. وأنا أعمل ساعيًا.
كانت شفتاه تنفتحان وتنقفلان أثناء الكلام في رجولة ولكن في رقة أيضًا. وسأله ك: أيُعجبك هذا؟
وأشار ك إلى الفلاحين ولم يكن اهتمامه بهم قد قلَّ، وكانوا يرفعون نحوه وجوهَهم المعذبة … لقد بدت جماجمهم كأنما كُبست من أعلى فتفرطَحَت، وكأنما تكوَّنت قسمات وجوههم وسط آلام الضرب، وهكذا شفاههم الغليظة وأفواههم المفغورة، وكانوا ينظرون، ولكنهم كانوا في الوقت نفسه لا يبصرون، ذلك أن نظرتهم كانت أحيانًا تتوه، وتتركز، قبل أن تعود، على أي شيء لا أهمية له. ثم أشار ك بعد ذلك إلى مساعدَيه اللذَين كانا يتعانقان ويبتسمان وقد ألصق الواحد منهما خده بخد صاحبه، ولم يكن الإنسان يعرف هل كانا يَبتسمان في تواضُعٍ أو في تهكم. أشار ك إلى كل هذا، وكأنما كان يقدم إليه حاشية فرضتها عليه ظروف خاصة، وتوقع — كانت في توقُّعه ثقة حرص عليها كل الحرص — أن يُميِّز بينه وبينهم. ولكن برناباس لم يتلقَّف السؤال في براءة كاملة بطبيعة الحال — وكان ذلك ظاهرًا، وترك السؤال يمر عليه عابرًا، كما يفعل الخادم المهذب حيال كلمة من سيده لا تكون موجَّهة إليه إلا في ظاهرها، ولم يزد عن أن نظر حوالَيه اتباعًا للسؤال، وحيَّا بيده بعض المعارف من بين الفلاحين وتبادَلَ كلمات مع المساعدَين، وجرى هذا كله في حريةٍ واستقلال، دون أن يختلط بهم. وعاد ك إلى الخطاب في يده في خيبة — ولكن بدون خجل — وفتَحَه. كان الخطاب ينصُّ على ما يلي:
«أيها السيد المحترم.
إنك، كما تعلم، قد قُبِلت للعمل في الخدمة الأميرية. ورئيسك المباشر هو رئيس مجلس القرية، وهو الذي سيُبلغك بكل تفاصيل عملك وشروط الأجر، وأنت مسئول أمامه. ومع ذلك فلن أبعد عيني عنك، وسيقوم برناباس، الذي يحمل إليك هذا الخطاب، بسؤالك من حين لآخر عن رغباتك، وسيتولَّى نقلها إليَّ. ولسوف تجدُني دائمًا مستعدًّا، على قدر الإمكان، للقيام بما يُرضِي. فأنا أحرص على أن يكون عمالي راضين.»
ولم يكن التوقيع واضحًا، ولكن الاسم كان مطبوعًا بجواره: رئيس الإدارة العاشرة.
وقال ك لبرناباس الذي انحنى أمامه: انتظر.
ونادى على صاحب الحان وطلب منه أن يقتاده إلى الحجرة؛ لأنه كان يريد أن ينفرد بالخطاب فترة من الوقت. وتذكَّر في هذه الأثناء أن برناباس، على الرغم من الميل الشديد الذي يميله إليه، لا يختلف عن أن يكون ساعيًا، وأمر له بشيء من البيرة. وانتبه إلى كيفية تقبُّله إيَّاها. ولقد ظهر أنه تقبَّلها مُرحِّبًا، وشرع على التو يشرب منها. ثم ذهب ك مع صاحب الحان. ولم يكن هذا قد استطاع أن يُدبِّر ﻟ ك في المبنى الصغير سوى حجرة صغيرة على السطح، وحتى تدبير هذه الحجرة كان محفوفًا بالصعاب؛ لأنه اضطر إلى تدبير مكان آخر لخادمتين كانتا تنامان فيها. والحقيقة أن ما حدث لم يزد عن إخراج البنتين من الحجرة، فقد ظلت الحجرة على حالها لم يتناولها تغيير، ولم يكن السرير الوحيد مكسوًّا بملاءة، بل كانت عليه بضع مخدات، وغطاء، تُركت كما كانت في الليلة الماضية. وكانت هناك على الجدران بعض صور القدِّيسين، وبعض الصور الفوتوغرافية لجنود. إنهم لم يفعلوا شيئًا بالحُجرة، حتى مجرَّد التهوية، والظاهر أنهم يرجون ألا يُقيم الضيف الجديد طويلًا، ولهذا لم يفعلوا شيئًا للتمسك به. ولكن ك كان راضيًا بكل شيء، فلفَّ نفسه بالغطاء، وجلس إلى المنضدة، وبدأ يقرأ الخطاب مرة أخرى على ضوء شمعة.
لم يكن الخطاب على وتيرة واحدة، كانت به مواضع يدور فيها الحديث إليه، كأنه رجل حرٌّ، له إرادة مُعترف بها، من هذه المواضع مطلع الخطاب، والموضع الذي يتناول رغباته. ثم كانت هناك مواضع يُعاملونه فيها، بصراحة أو مواراة، كأنه عامل صغير لا يكاد يلحظه أحد من مقرِّ هذه الرئاسة، ولسوف يبذل الرئيس الجهد لكيلا يُبعد عينَيه عنه. أما رئيسه فليس سوى رئيس مجلس القرية، بل إنه مسئول أمامه، وربما لم يكن له من زميل في هذا سوى شُرطي القرية. لقد كانت تلك بلا شك متناقضات. وكانت واضحةً للعين. مما يدلُّ على أنها كانت مقصودة. وخطرت ببال ك فكرة جنونية عابرة تُصوِّر له أنه ربما كان السبب هو تردد الإدارة في هذا الأمر. لقد رأى خيارًا يعرض له صريحًا، لقد ترك له أن يتصرَّف في تعليمات الخطاب بما يريد: له أن يُقرر إن شاء أن يُصبح عاملًا في القرية وله امتياز الارتباط بصلة، لا تزيد عن أن تكون صلة ظاهرية، بالقصر، أو أن يصبح عاملًا ظاهريًّا في القرية يُحدد علاقة عمله كلها بناءً على أخبار برناباس. ولم يتردَّد ك في الاختيار، وما كان له أن يتردَّد بعد الخبرات التي أُتيحت له حتى الآن. إنه عندما يكون عاملًا في القرية، بعيدًا قدر المستطاع عن السادة في القصر، فسيستطيع أن يبلغ شيئًا في القصر؛ ذلك أن أهل القرية الذين كانوا يسلكون حياله مسلك الريبة، سيبدءون في الكلام، عندما يصبح هو، لا نقول صديقًا لهم، بل مواطنًا مثلهم لا يختلف عن جيرشتيكر أو لازيمان … ولا بدَّ أن يحدث هذا بسرعة، فكل شيء رهن به … عند ذاك تنفتح له بضربة واحدة، وبكل تأكيد، الطرق، التي كانت ستظلُّ إلى الأبد لا مقفلة فحسب، بل مستترة، إن ظل الأمر رهنًا بالسادة في عليائهم، رهنًا بتفضلهم. حقيقةً إن ثمة خطرًا كان قائمًا وكان مؤكدًا في الخطاب بما فيه الكفاية، وهو أنه سيكون عاملًا. كان الخطاب مليئًا، بعبارات الخدمة، الرئيس، العمل، شروط الأجر، المسئولية، العامل … وحتى ما كان الخطاب يحتويه غير ذلك من أمور أكثر شخصية، كان قائمًا على وجهة النظر هذه. إذا كان ك يريد أن يكون عاملًا، ففي استطاعته أن يكون عاملًا، بكل جدٍّ رهيب، ودون أن يكون له أن ينصرف بنظره إلى أي مُنصرف. وكان ك يعلم أنه لا يتعرض لتهديد بإكراه حقيقي، ولم يكن يخشى الإكراه، وبالذات هنا، ولكنه كان يخشى قوة البيئة المُيَئِّسَةِ، قوة الاعتياد على الخيبة، وقوة المؤثرات غير الظاهرة في كل لحظة، ولكنه كان ينبغي عليه أن يجرؤ على منازلة هذا الخطر. ولم يكن الخطاب يخفي، أن ك، إذا وصل الأمر إلى النضال، سيكون عليه أن يجسر على الابتداء. كان الخطاب يُعبر عن هذا بخفة، وما كان ليلحظه إلا ضمير قلق — ضمير قلق، لا ضمير مُثقَل — يعبر عنه في كلمتين هما «كما تعلم» عند الحديث عن قبوله في الخدمة. كان ك قد تقدَّم للعمل، ولقد علم، على نحو ما جاء بالخطاب، أنه قد قُبِلَ.
وأزاح ك صورة من الحائط وعلَّق الخطاب على مسمار. إنه سيُقيم في هذه الحجرة، ويَنبغي أن يعلق الخطاب هنا.
ثم نزل ك إلى قاعة الحان. كان برناباس يجلس مع المُساعدَين إلى منضدة صغيرة. وقال ك بغير مناسبة، لا لسبب إلا لأنه فرح برؤية برناباس: آه، أنت هنا.
وانتفَض برناباس واقفًا من فوره. وما كاد ك يدخل، حتى نهض الفلاحون ليَقتربوا منه، فقد اعتادوا على أن يلاحقوه دائمًا. وصاح ك: ماذا تريدون مني؟
ولم يغضب الفلاحون، واستداروا عائدين إلى أماكنهم. وقال أحدهم على سبيل الشرح، وهو يبتعد، ببساطة وبابتسامة لا سبيل إلى تأويلها، اتخذها بعض الآخرين: إن الإنسان يسمع دائمًا شيئًا جديدًا.
ولعق شفتَيه وكأنما كان الشيء الجديد طعامًا يؤكل.
ولم يقل ك شيئًا يرمي إلى التصالح؛ فقد كان من الخير أن يلتزموا حياله بقليل من الاحترام. ولكنه ما كاد يجلس إلى برناباس حتى أحسَّ بتنفُّس أحد الفلاحين في قفاه، أتى، على حد قوله، ليأخذ المَلَّاحة، ولكن ك هب واقفًا، من فرط غضبه، فجرى الفلاح بعيدًا دون أن يأخذ الملَّاحة. لقد كان من السهل فعلًا النَّيل من ك، كان يكفي مثلًا، تحريض الفلاحين عليه، ولقد لاح له هذا الإقبال العنيد عليه، أكثر شرًّا من إدبار الآخرين عنه، ثم إن إقبالهم ليس إلا إدبارًا، فلو أن ك ذهب ليجلس إليهم، لَما ظلُّوا جالسين إلى المائدة. ولم يمنع ك من إحداث ضجة، إلا وجود برناباس. ولكنه استدار نحوهم مُهددًا، وكانوا هم كذلك قد استداروا نحوه. فلمَّا رآهم يجلسون هكذا، كلٌّ في مكانه، دون أن يتحادَثوا، ودون أن يكون بينهم رباط ظاهر، فلم يكن يَربطهم بعضهم إلى البعض إلا التحديق فيه، ظن أن ما يجعلهم يُلاحقونه ليس الشر على الإطلاق، ربما كانوا بالفعل يُريدون منه شيئًا، ولم تكن لدَيهم القدرة على التعبير عنه، وربما كانت تلك مجرد صبيانية متأصِّلة في هذا المكان … ألم يكن صاحب الحان يتصرَّف تصرفًا صبيانيًّا وهو يمسك بكلتا يدَيه كوب بيرة كان المفروض أن يحمله إلى بعض الجالسين، ويقف ساكنًا، ينظر إلى ك، ولا يتنبَّه إلى نداء زوجته التي كانت تطل من طاقة المطبخ الصغيرة؟
والتفت ك إلى برناباس وقد ازداد هدوءًا، ولكم ودَّ أن يبعد المساعدَين، ولكنه لم يجد حجة يتذرَّع بها. ولقد كانا على أية حال ينظران صامتَين إلى البيرة أمامهما. وبدأ ك حديثه قائلًا: لقد قرأتُ الخطاب. هل تعرف مضمونه؟
فقال برناباس: لا.
وكانت نظرته تبدو أكثر تعبيرًا من كلماته. وربما أخطأ هنا بالخير كما أخطأ بالشر مع الفلاحين، عندما تشبَّث بما في وجوده من طيبة. وقال: إنَّ الخطاب يتحدث عنك، ذلك أنه ينبغي عليك من حين لآخر أن تنقل الأخبار بيني وبين الإدارة، ولهذا السبب اعتقدت أنك تعرف فحوى الخطاب.
وقال برناباس: لقد تلقَّيت أمرًا بتوصيل الخطاب، وبالانتظار حتى تتم قراءته، وبالعودة برد شفهي أو تحريري إذا رأيت ضرورة لذلك.
فقال ك: حسنٌ. ليست هناك حاجة إلى الكتابة. أبلغ السيد الرئيس، ما اسمه؟ فأنا لم أستطع قراءة التوقيع.
فقال برناباس: كلم.
– إذن فأبلغ السيد كلم شُكري على قبوله، وكذلك على ودِّه الخاص، الذي أعرف، وأنا شخص لم يثبت جدارته هنا بعد بحال من الأحوال، كيف أقدره قَدرَه. ولسوف أتصرَّف على نحو يطابق مراميه كل المطابقة. وليست لديَّ اليوم رغبات خاصة.
وطلب إليه برناباس، وقد أصغى بدقة، أن يسمح له بأن يعيد عليه الرسالة، أعادها برناباس كلها بنصِّها لم يتبدَّل منه شيء. ثم نهض ليستأذن في الانصراف.
كان ك قد ظلَّ طوال الوقت يتفرَّس في وجهه، وها هو ذا يتفرَّس فيه مرة أخيرة. كان برناباس في مثل طول ك تقريبًا، ومع ذلك فقد لاحت نظرتُه كأنها تهبط من أعلى إلى أسفل، لتصل إلى ك، ولكن فيما يوشك أن يكون تواضعًا؛ فقد كان من المحال أن يُخجل هذا الرجل أيَّ إنسان. حقيقةً أنه كان ساعيًا لا يزيد، ولم يكن يعرف فحوى الخطابات التي يُكلَّف بنقلها، ولكن نظرته، وابتسامته، ومشيته كانت تلوح كرسالة، وإن لم يكن يعرف من أمرها شيئًا. ومدَّ ك إليه يده مُصافحًا، ويبدو أن تلك الحركة فاجأته، فلم يكن يريد إلا أن ينحني.
فلمَّا انصرف — وكان قد استند إلى الباب بكتفِه قبل أن يفتحه وشمل القاعة بنظرة لم يقصد بها شخصًا بعينه — قال ك لمساعدَيه: سأُحضر من الحجرة رسوماتي، ثم نتناقَش في العمل القادم.
وأرادا أن يذهبا معه. فقال: انتظرا.
ولكنَّهما ظلَّا يريدان الذهاب معه. فاضطرَّ ك إلى إعادة الأمر بمزيد من الحدَّة.
لم يكن برناباس في المدخل. ولكنه لم يكن قد انصرف إلا توًّا. ولم يرَه ك أمام البيت، وكان الجليد يتساقط من جديد. وأخذ يُنادي: برناباس.
فلم يتلقَّ إجابةً. هل تراه لم يخرج بعدُ؟ لم يكن هناك احتمال آخر. ومع ذلك فقد صاح ك بكل قوته هاتفًا بالاسم. ودوَّى الاسم خلال الليل المطبق على المكان. وتلقَّى ك من بعيد ردًّا خافتًا. إذن فقد ابتعدا بُعدًا شديدًا. ونادى عليه ك أن يعود، ثم ذهب لمُلاقاته، والتقيا في موضع لم يكن في الإمكان رؤيته من الحان.
وقال ك وهو لا يستطيع التغلُّب على رعشة صوته: يا برناباس. لقد أردتُ أن أقول لك شيئًا آخر. ولقد لاحظت أن هناك سوء تدبيرٍ في اعتمادي على مجرَّد قدومك مصادفةً، عندما أحتاج إلى شيء من القصر. ولو لم ألحَق بك الآن مُصادفةً — وأنت تطير، وكنت أظنُّ أنك ما تزال في الحان — فمَن يعلم كم من الوقت كنتُ سأنتظر حتى تأتيَ مرة أخرى.
فقال برناباس: يُمكنك أن ترجو الرئيس أن أحضر إليك دائمًا في أوقات معيَّنة تُحدِّدها أنت.
فقال ك: ولكن هذا لن يكفي، فربما مرَّ عام دون أن أحتاج إلى إبلاغ شيء إلى القصر، وربما جَدَّ بعد انصرافك بربع ساعة شيءٌ لا سبيل إلى تأجيله.
فقال برناباس: هل أبلغ الرئيس أنه ينبغي أن تقوم بينكما صلة أخرى غيري؟
فقال ك: لا، لا. مطلقًا. وأنا إنما أشرت إلى هذا الأمر إشارتي إلى أمرٍ ثانوي. ومن حُسن الحظ أنني لحقت بك هذه المرة.
فقال برناباس: هل نعود إلى الحان حتى تُكلِّفَني بالمهمة الجديدة؟
وخَطا بالفعل خطوة إلى هناك، فقال ك: يا برناباس، ليست هناك ضرورة لذلك، سأسير معك شيئًا من الطريق.
وسأل برناباس: لماذا لا تُريد الذهاب إلى الحان؟
فقال ك: لأنَّ الناس هناك يزعجونني. ولقد رأيت بنفسك إلحاح الفلاحين.
فقال برناباس: يُمكننا أن نذهب إلى حجرتك.
فقال ك: إنها حجرة الخادمات، حجرة قذرة مكتومة، ولقد أردت أن أسير معك قليلًا حتى لا أبقى فيها …
وأضاف ك ليتغلَّب نهائيًّا على تردُّده: … ولكن ينبغي عيك أن تدَعَني أتعلَّق بذراعك، فأنت تسير أكثر اطمئنانًا.
وتعلَّق ك بذراعه. وكان الظلام حالكًا. ولم يرَ ك وجهه، ولم يرَ هيئته إلا في غير وضوح، وكان قد حاول قبل هنيهة أن يتحسَّس ذراعه.
واستجاب برناباس، وابتعدا عن الحان. حقيقةً أن ك أحسَّ أنه لم يكن يستطيع، رغم الجهد الذي بذله، أن يسير بخُطى برناباس، وأحسَّ بأنه يُعرقل حركته الحرة، وأن كل شيء سينتهي، في الظروف العادية، إلى الفشل نتيجة لشيء ثانوي من هذا القبيل، عندما يسيران في الحارات الجانبية، وما هي إلا مثل هذه الحارة التي غاص ك في جليدها صباح اليوم، ولم يكن ليخرج منها إلا أن يحمله برناباس. ولكنه أبعد عنه هذه المخاوف، وخفَّف عنه التزام برناباس الصمت. وإذا كانا سيَسيران صامتين، فإن التقدم سيكون بالنسبة لبرناباس الهدف الوحيد لهما.
وسارا، ولم يكن ك يعرف إلى أين، لم يكن يستطيع أن يتبيَّن شيئًا. لم يعرف حتى هل مرَّا على الكنيسة وتجاوزاها أو لا. ولقد أدَّى الجهد الذي سبَّبه له المشي إلى أنه لم يستطع أن يسيطر على أفكاره. فقد اضطربَت أفكاره بدلًا من أن تبقى مركزة على الهدف. كان الوطن لا يفتأ يخطر بباله، وكانت ذكرياته تغمره. تذكر كنيسة كانت هناك في الميدان الرئيسي، كانت تحوطها من ناحية المقابر القديمة، وكان يحوطها من الناحية الأخرى جدار عالٍ لم يتسلَّقه إلا عددٌ قليل جدًّا من الصبية، ولم يتمكَّن ك من تسلُّقه عندما كان صبيًّا. ولم يكن ما يدفع الصِّبية إليه فضول، فلم تكن في المقابر أسرار، ولقد دخلوا إليها من خلال الباب الحديدي الصغير مرارًا، ولكنهم كانوا يريدون قهر هذا الجدار العالي الزلق. وذات صباح، وكان الميدان الخالي الهادئ يفيض بالنور — متى رآه ك من قبل أو من بعد وضَّاحًا هكذا؟ — تمكن ك من تسلُّقه بسهولة لم يعهدها من قبل. لقد تسلقه في موضع ارتدَّ منه من قبل مرارًا، تسلقه دَفعةً واحدة، وكان يحمل بين أسنانه عَلمًا صغيرًا. وتدحرج الحجر مُتساقطًا، ولكن ك كان قد وصل إلى أعلى. وثبَّت العَلم، ونشَرَته الريح، ونظر إلى أسفل، إلى الجمع المصطفِّ في دائرة، وتجاوز الأكتاف إلى الصلبان المائلة إلى الأرض. لم يكن هناك إلى الآن مَن هو أكبر منه. وتصادف أن مرَّ المدرس، فنظر إلى ك نظرة غاضبة أنزله بها من فوق الجدار العالي. وأصيب ك أثناء القفز، بجرحٍ في ركبته، ولم يصل إلى البيت إلا بشقِّ الأنفس، ولكنه كان قد وقف فوق الجدار. وتصور ك في ذلك الوقت أن الإحساس بهذا النصر سيكون دعامة تستند عليها حياة طويلة، ولم يكن هذا الذي لاح له آنذاك من قبيل السخف، فها هو ذا يعود إليه بعد سنوات طويلة، في ليلة الجليد، وهو يتأبط ذراع برناباس، فيمده بالعون.
وتعلَّق بذراع برناباس على نحو أشد، وكان برناباس يوشك أن يجره، وظلَّ الصمت قائمًا لا يقطعه أيهما بكلام. ولم يعرف ك عن الطريق إلا ما تبيَّنه من حالة الشارع، وهو أنهما لم ينحرفا إلى حارة جانبية. وقرر ألا يجعل صعوبة من صعوبات الطريق، أو خشية من عدم التمكُّن من العودة، تحول بينه وبين الاستمرار في السير. وليس هناك شك في أن قوته ستكفي لكي يستمر برناباس في جرِّه. ثم هل الطريق لا تنتهي إلى نهاية؟ ولقد لاح له القصر بالنهار هدفًا يسيرًا، وليس من شك في أن الساعي يعرف أقصر طريق إليه.
ووقف برناباس. أين كانا؟ هل انقطع الطريق؟ هل سيَستأذن برناباس من ك في الانصراف؟ لن يتمكَّن برناباس من ذلك. فقد كان ك يتشبَّث بذراعه بقوة كانت تُؤلمه هو نفسه. أم هل حدث الشيء الذي لا يُمكن تصديقه؟ هل هما الآن في القصر أو أمام بواباته؟ ولكنهما، على قدر ما كان ك يعرف، لم يصعدا مرتفعًا. أم هل اقتاده برناباس في طريق تصعد على نحو غير ملحوظ؟ وسأل ك بصوت منخفض، وكأنما كان يسأله لنفسه أكثر مما كان يسأل برناباس: أين نحن؟
فقال برناباس على النحو نفسه: في البيت؟
في البيت؟ والآن يا سيدي انتبه حتى لا تنزلق إلى أسفل، فالطريق مُنحدِر.
– منحدر؟
ثم قال برناباس: لم تبقَ سوى خطوات قليلة.
وها هو ذا يقرع بابًا.
وفتحت الباب بنت، ووقفا على عتبة حجرة كبيرة في ظلمة توشك أن تكون حالكة، فلم يكن هناك سوى مصباح بترولي ضئيل فوق مائدة في مؤخِّرة المكان إلى اليسار. وسألته البنت: مَن هذا الذي يأتي معك يا برناباس؟
فقال: موظف المساحة.
وأعادت البنت الإجابة بصوت مرتفع متجهة إلى المائدة. وهنا نهض شخصان متقدمان في السنِّ، رجل وامرأة، وكذلك بنت أخرى. وحيَّا الجميع ك. وقدَّم برناباس الجميع إليه، كان هؤلاء والدَيه، وأختَيه أولجا وأماليا. ولم ينظر ك إليهم، أو يكاد ألا يكون قد نظر إليهم وخلع عنه بعضهم سترته المُبتلة ليُجففها عند المدفأة. وترك ك ذلك يحدث.
إذن فلم يكن الاثنان في بيتهما، لقد كان برناباس وحده في بيته. ولكن لماذا كانا هنا؟ وانتحى ك ببرناباس جانبًا وسأله: لماذا ذهبت إلى البيت؟ أم هل تسكنون في دائرة القصر؟
وأعاد برناباس عبارة: في دائرة القصر؟
قالها وكأنه لا يستطيع فهْم ك. فقال ك: إنك يا برناباس كنت تُريد الذهاب من الحان إلى القصر.
فقال برناباس: لا يا سيدي، لقد كنتُ أريد أن أذهب إلى البيت. وسأذهب إلى القصر في الصباح المبكِّر، فأنا لا أنام هناك مطلقًا.
فقال ك: هكذا. أنت لم تكن تُريد الذهاب إلى القصر، بل كنت تريد الحضور إلى هنا.
ولاحت ابتسامة برناباس ﻟ ك واهنةً، ولاح برناباس نفسه له أكثر تفاهةً. وقال ك: ولماذا لم تَقُل لي هذا؟
فقال برناباس: إنك يا سيدي لم تسألني، لقد كنتَ تُريد أن تُكلِّفني بمهمة، ولم تُرد أن تكلفني بها لا في قاعة الحان ولا في حجرتك، ولهذا فكَّرت في أنك تستطيع أن تُكلفني هنا بالمهمة في بيت أهلي، دون أن يُقلقك مقلق. وسيخلي الجميع المكان عندما تأمر بذلك. ولك، إن راقك المكان، أن تبيت هنا. ألم أحسن التصرُّف؟
ولم يستطع ك الإجابة. لقد حدث خطأ. إذن، خطأ دنيء وضيع. وكان ك قد أسلم نفسه إليه ووثق فيه كل الثِّقة. لقد ترك سترة برناباس الضيقة الحريرية اللامعة تخلب لبَّه، تلك السترة التي أخذ الآن يفك أزرارها، فظهر من تحتها قميص غليظ قذر رمادي كثير الرُّقع فوق صدر عبدٍ قوي صارم البدن. وكان كل شيء حوله لا يُطابق هذا فحسب، بل يفوقه، الأب العجوز المريض الذي يتقدَّم بيدَيه المتحسِّستَين أكثر مما يتقدم بساقيه المتصلبتَين الزاحفتين في بطء — والأم التي تعقد يديها على صدرها ولا تستطيع لبدانتها أن تتقدَّم إلا بخطًى متناهية الضآلة. ومنذ دخل ك تحرَّك الوالدان من ركنَيهما نحوه، ولم يَصلا إليه بعدُ. أما الأختان، وهما شقراوان تشبه الواحدة منهما الأخرى، وتُشبهان برناباس، وإن كانت تقاطيعهما أكثر حدة من تقاطيعه، فكانتا بنتَين طويلتين قويتَين، ولقد وقفتا حول القادمين تنتظران كلمة تحية من ك. ولكنه لم يستطع أن يقول شيئًا. ولقد كان ك يعتقد أن كل شخص في القرية يتسم حياله بالأهمية، ويبدو أنه كان مصيبًا في هذا الاعتقاد، إلا أن هؤلاء الناس بالذات كانوا لا يُهمونه على الإطلاق. ولو كان في حالة يستطيع فيها أن يقطع الطريق وحده عائدًا إلى الحان، لانصرف من فوره. ولم تكن إمكانية الذهاب في الصباح الباكر إلى القصر مع برناباس تُغريه. لقد كان يودُّ أن يَنفذ إلى القصر الآن. في الليل، لا يلتفت إليه أحد، ينفذ إليه وراء برناباس، ولكن ذلك البرناباس الذي كان يبدو له حتى ذلك الحين أقرب الناس هنا إلى نفسه، والذي ظنَّ أنه مُرتبط بالقصر ارتباطًا وثيقًا يزيد زيادة كبيرة على رتبته الظاهرة. أما مرافقة ابن هذه الأسرة، الذي ينتمي إليها كل الانتماء، والذي جلس معها إلى المائدة وتناول الطعام معها، مرافقة هذا الرجل الذي لا يحقُّ له حتى مجرد النوم في القصر — وهذا شيء له دلالته — مُرافقته والتشبث بذراعه في وضح النهار، كان يلوح له محاولة مضحكة لا أمل فيها.
وجلس ك على قاعدة إحدى النوافذ، مُصممًا على أن يقضي عليها الليلة، وعلى ألا يطلب من هذه الأسرة خدمة أخرى غير هذه الخدمة، ولاح له أهل القرية الذين أبعدوه، أو الذين خافوا منه، أقل خطورة؛ لأنَّهم في واقع الأمر كانوا يُحيلونه إلى نفسه، ويُعينونه على جمع قواه. أما هؤلاء الذين يلوحون كأنهم يعينونه، والذين لم يقتادوه إلى القصر، بل اقتاده في حركة تنكُّرية صغيرة إلى أسرتهم، فكانوا يُشتِّتون انتباهه، سواء عمدوا إلى ذلك أو لم يعمدوا، وكانوا يعملون على هدم قواه. ولم يحفل بالنداء الذي وجَّهوه إليه يدعونه إلى مائدة الأسرة، وظل جالسًا على قاعدة النافذة مُطأطئ الرأس.
وهنا نهضت أولجا، أكثر الأختين رقة، وكانت تُبدي شيئًا من خجل البنات، وذهبت إلى ك، ورَجَته أن يأتي إلى المائدة. وقالت إنَّ الخبز وشحم الخنزير جاهزان، أما البيرة فستذهب لإحضارها. وسأل ك: من أين؟
فقالت: من الحان.
ولقيَ كلامها ترحيب ك الشديد. فرجاها ألا تحضر بيرة، بل أن ترافقه إلى الحان؛ لأن لديه أعمالًا مهمَّة هناك يريد أن ينجزها. وتبيَّن أنها لا تريد أن تذهب إلى الحان البعيد الذي ينزل فيه، بل إلى حانٍ آخر قريب، أشد القرب، هو حان السادة. ومع ذلك رجاها ك أن تسمح له بمرافقتها، وهو يفكر في أنه ربما أتيحت له هناك فرصة للمبيت، ومهما تكن، فهي أفضل بكثير من النوم هنا في أحسن سرير. ولم تُجب أولجا على الفور، بل نظرت خلفها إلى المائدة. وكان أخوها قد نهض، وهزَّ رأسه بالموافقة وقال: إذا كانت تلك هي رغبة السيد.
ولقد أوشكت هذه الموافقة على أن تدفع ك إلى أن يتراجع في طلبه، فلم يكن هذا الرجل ليُوافق إلا على أشياء عديمة القيمة: فلما تشاورا في الأمر، وهل سيُسمح ﻟ ك بدخول الحان، وأبدوا جميعًا شكَّهم في ذلك، أصر ك على الذهاب معها، دون أن يبذل جهدًا في اختلاق سبب مفهوم يُبرر به طلبه. كان على هذه الأسرة أن تقبله كما هو، ولم يكن على نحوٍ ما يحسُّ حيالها بالخجل. ولم يكن هناك شيء يُشككه في ذلك إلا أماليا بنظرتها الجادة، المستقيمة، الجامدة التي ربما اتَّسمت بشيء من البلادة.
وعلم ك وهو في الطريق القصر إلى الحان — وكان قد تعلَّق بذراع أولجا وتركها تجرُّه أو تكاد، كما فعل من قبل مع أخيها، فلم يكن يستطيع غير ذلك — أن هذا الحان مخصَّص في الحقيقة للسادة الذين يأتون من القصر لقضاء شيءٍ في القرية، فهم يأكلون هناك، ويبيتون أحيانًا. وكانت أولجا تتكلم مع ك بصوت خفيض، كأنه يعبر عن ودٍّ، وكان ينعم بالسير معها، كما نَعِم من قبل بالسير مع أخيها أو يكاد. وكان ك يصدُّ الإحساس بالارتياح، ولكنه كان موجودًا في نفسه.
كان الحان من الخارج يُشبه أشد الشبه الحان الذي كان ك يُقيم فيه. ويبدو أنه لم يكن هناك على الإطلاق فروق كبيرة في القرية، ولكن ك بدأ يُلاحظ الفروق الصغيرة: كان للسُّلم الأمامي حاجز، وكان هناك مصباح جميل مُثبت فوق الباب. وعندما دخلا هفهف قماش فوق رأسَيهما، وكان هذا القماش راية تحمل الألوان الجرافية. وقابلهما عند المدخل على الفور صاحب الحان، ويبدو أنه كان يقوم بجولةٍ تعمَّد القيام بها، ونظر صاحب الحان بعينَين صغيرتَين مُتفحِّصتَين أو ناعستين إلى ك عابرًا وقال: ليس للسيد موظف المساحة أن يذهب إلا إلى قاعة الشراب.
فقالت أولجا في اهتمام بأمر ك: بكل تأكيد. إنه إنما يُرافقني لا أكثر.
أما ك فقد تنكَّر لجميل أولجا وتملَّص منها وانتحى بصاحب الحان جانبًا. وانتظرت أولجا في هذه الأثناء صابرة عند نهاية المدخل. وقال ك لصاحب الحان: إنَّني أودُّ أن أبيت هنا.
فقال صاحب الحان: هذا للأسف مستحيل. ويبدو أنك لم تعرف بعدُ أن هذا الحان خاص بسادة القصر دون سواهم.
وقال ك: ربما كانت تلك هي الأوامر. ولكن من المُمكن بكل تأكيد أن تدَعَني أنام في ركن بأيِّ مكان.
فقال صاحب الحان: كم كنتُ أودُّ غاية الود أن أحقق لك رغبتك، ولكنها، بغض النظر عن صرامة الأوامر التي تتحدَّث أنت عنها حديث الغريب، مُستحيلة التحقيق لأن السادة حسَّاسون إلى أقصى حد. وأنا أوقن من أنهم عاجزون، على الأقل بغير تمهيد، عن احتمال منظر شخص غريب. فلو أنَّني تركتك تبيت هنا، واكتُشفت بطريقة المصادفة — والمصادفات دائمًا في صفِّ السادة — فلن تكون النتيجة ضياعي أنا فحسب، بل وضياعك أنت كذلك. ولقد يبدو هكذا مضحكًا، ولكنه حقيقة.
كان هذا السيد الرفيع المتزمت، الذي ضغط بإحدى يديه على الحائط، ووضع الأخرى في وسطه، وصلب ساقيه، وانحنى قليلًا إلى ك، وتحدث إليه في ودٍّ، لا يكاد يبدو عليه الانتماء إلى القرية، وإن كان ثوبه الأسمر لا يبدو إلا ثوبًا من النوع الذي يرتديه الفلاحون في المناسبات.
وقال ك: أنا أُصدِّقك تمامًا، وكذلك لا أُقلل من شأن الأوامر وإن كنتُ قد استعملت عبارات تَفتقِر إلى الكياسة. ولكنَّني أريد أن ألفتَ نظرك إلى شيء: إن لي علاقات لها قيمتها في القصر، وستكون لي مُستقبلًا علاقات أعظم قيمة، وهي ستحميك من كل خطر قد ينشأ نتيجة مبيتي هنا، وتضمَن لك أنني قادر على الشكر كاملًا غير ممنون على صنيع صغير تقدمه إليَّ.
فقال صاحب الحان: أنا أعرف.
ثم عاد يقول: أنا أعرف هذا.
وكان من المُمكن أن يلحَّ ك في طلبه، ولكن إجابة صاحب الحان هذه شتت أفكاره، ولهذا سأل فقط: هل يبيت الليلة هنا كثير من السادة؟
فقال صاحب الحان يُغريه على نحو ما: إن الوضع اليوم من هذه الناحية طيب، فلم يبقَ هنا سوى سيدٍّ واحد.
وظلَّ ك عاجزًا عن الإلحاح، وإن ظلَّ يرجو أن يكون صاحب الحان قد قبله للمبيت، ولهذا لم يسأل إلا عن اسم السيد. فقال صاحب الحان مقالة مَن يذكر شيئًا ثانويًّا: كلم.
ونظر خلفه إلى زوجته التي أتَت ترتدي ثيابًا قديمة مهلهلة على نحو غريب، كثيرة الثنيات، والكشكشات، من تلك الثياب، الأنيقة التي تَرتديها نساء المدن. ولقد جاءت تطلب صاحب الحان؛ لأن السيد الرئيس كان يريد شيئًا ما. وقبل أن ينصرف صاحب الحان، التفت مرةً أخرى إلى ك، وكأنما كان القطع في أمر المبيت من شأن ك ولم يعد من شأنه هو. ولم يستطع ك أن يقول شيئًا، خاصةً وأن وجود رئيسه هنا قد أذهله. ولسببٍ ما، لم يستطع أن يُفسِّره لنفسه، أحس ك أنه ليس حرًّا في مواجهة كلم كما كان في مواجهة القصر. ولو اكتشفه كلم هنا لما أدى هذا إلى الرعب على النحو الذي تصوَّره صاحب الحان، بل إلى سخف مؤسِف، ولكان كمن يسبب باستهتاره ضرًّا لإنسان ينبغي عليه أن يقابله بالعرفان والشكر. وأحزنه أشد الحزن أن يرى وهو في مثل هذه الحيرة ما كان يخشاه من نتائج كونه تابعًا عاملًا وأن يتبين أنه غير قادر على التغلُّب عليها وقد بدت هنا واضحة جلية. وهكذا وقف، وعض شفتَيه ولم يقل شيئًا. وعاد صاحب الحان ينظر إلى ك مرة ثانية قبل أن يتوارى في الباب. وتبعه ك بنظره، ولم يتحرَّك من مكانه حتى أتت أولجا وجرَّته بعيدًا. وسألته أولجا: ماذا كنت تريد من صاحب الحان؟
فقال ك: كنتُ أريد المبيت هنا.
فقالت أولجا مندهشةً: ولكنَّك ستبيت عندنا.
فقال ك: نعم، بكل تأكيد.
وترك لها مهمَّة تأويل الكلمات.