الفصل العشرون
فلمَّا استيقظ ك ظنَّ في بداية الأمر أنه لم يَكد ينام، كانت الحُجرة على حالها لم تتغيَّر، خاليةً، دافئةً، وكانت الحيطان مُظلمة، وكان المصباح المتدلي فوق صنابير البيرة قد انطفأ، وكان الليل مُخيمًا أمام النوافذ. فلمَّا تمطَّى، وقعت المخدة وقرقع اللوح والبراميل، أتَت بيبي من فورها، وعلم أن الوقت مساءً وأنه قد نام ما يزيد على اثنتَي عشرة ساعة. وكانت صاحبة الحان قد سألت عنه عدة مرات، وكذلك جيرشتيكر — الذي كان ينتظر هنا ويشرَب البيرة في الظلام عندما كان ك يتكلَّم مع صاحبة الحانة، ولم يجرُؤ آنذاك على إزعاج ك فقد أتى مرةً إلى هنا ليرى ك، وكذلك أتَت فريدا، على حد قول بيبي، ووقفت عنده لحظة ولكنها توشك ألا تكون قد أتت من أجل ك بل أتت لتعدَّ بعض الأشياء في قاعة الشراب؛ إذ إنها ستَستأنف عملها القديم عندما يحلُّ المساء. وسألت بيبي وهي تحضر قهوةً وفطيرًا: يبدو أنها لم تعُد تحبك؟
ولكنها لم تسأل في هذه المرة بطريقتها الشريرة السابقة، بل سألت حزينةً وكأنها قد عرفت في هذه الأثناء أنَّ ما في الدنيا من شرٍّ يضيع أمامه ما لديها من شرٍّ ويسخف. لقد كانت تتكلم إلى ك وكأنها تُحدث رفيقًا لها في الآلام، فلما تذوق ك القهوة وظنَّت هي أنه يُريدها أكثر حلاوةً، أسرعت وأحضرت له السكرية ملآنة، ويبدو أن حزنها حال بينها وبين أن تتزيَّن أكثر من المرة الماضية. وكانت تضع في شَعرها الكثير من اللفائف والأربطة وقد أزالت من جبينها وفوديها كل شَعرٍ زائد، وعقدت حول رقبتها سلسلةً صغيرةً كانت تتدلى في فتحة بلوزتها الواسعة. فلمَّا مدَّ ك يده، وقد نعم بنومٍ مريحٍ ونال قهوةً طيبةً، إلى إحدى الأربطة سرًّا وحاول أن يفتحها، قالت بيبي مُتعبةً: دعني!
ثم جلست بجوارِه على برميل. ولم يكن ﺑ ك حاجةً إلى سؤالها عما بها، فقد بدأت على التوِّ تروي حكايتها موجهةً بصرها جامدًا إلى إبريق القهوة وكأنما كانت تحتاج إلى تلهيةٍ حتى وهي تروي، وكأنها كانت، حتى وهي تَشتغل بمِحنتها، لا تستطيع أن تَندمِج فيها كليةً لأنها تتجاوز ما لديها من قوة. وعلم ك أول ما علم أنه في الحقيقة يَحمل الذنب في المِحنة التي تتعرَّض بيبي لها، وأن بيبي ليسَت غاضبةً عليه. ولقد أومأت برأسها في همَّةٍ أثناء الرواية حتى لا تفسح مجالًا لاعتراضٍ من جانب ك. فهو قد أخذ فريدا في البداية من الخمَّارة ومكَّن بهذا لبيبي من أن تسلك مدارج الترقي، وليس هناك، سبيل لتصور الموضوع على نحوٍ آخر، فما هذا الذي يمكن أن يكون قد دفع بفريدا إلى التخلِّي عن مركزها؟ لقد كانت تجلس هناك في الخمارة كالعنكبوت في شبكتها، وكانت تمدُّ خيوطها إلى كل ناحية، وكانت هي وحدها التي تعرفها، ولم يكن من المُمكن بحالٍ من الأحوال زحزحة فريدا عن مكانها لم يكن هناك غير شيء واحد يُمكنه أن يتسبَّب في عزلها، ألا وهو حب رجلٍ وضيع. وما شأن بيبي؟ هل كانت في ذلك الوقت تُفكِّر في الوصول إلى هذا المركز؟ لقد كانت خادمةً تعمل في تنظيف وتنظيم الحجرات؛ أي كانت تشغل وظيفة تافهة ضعيفة المستقبل، ولكن بيبي كانت تحلم كما تعلم كل فتاة بالمستقبل العظيم، فليس هناك إنسان يُمكنه أن يمنع نفسه من الحلم، ولكنها لم تكن تُفكِّر جديًّا في إمكانية الترقي ورضيت بما حقَّقته. وفجأة اختفَت فريدا من الخمارة. اختفَت فجأةً، ولم يكن لدى صاحب الحان بديلة جاهزة لها. فأخذ يبحث حواليه ووقع بصره على بيبي التي كانت بطبيعة الحال قد دفعت بنفسها إلى الأمام. وكانت في ذلك الوقت تحبُّ ك كما لم يُحببه إنسان. كانت بيبي قد ظلَّت الشهور الطوال في حجرتها السفلية المظلمة الضئيلة وكانت تعدُّ نفسها لتمضية السنوات، بل وعلى أسوأ الفروض. حياتها كلها، لا يلتفت إليها مُلتفِت. وظهر ك فجأة. ك البطل محرِّر البنات، وشقَّ لها طريقًا إلى أعلى. حقيقة أنه لم يكن يعرف عنها شيئًا، ولم يكن قد فعل ما فعل من أجلها، ولكن هذا لم يُبدِّد امتنانها له، ولقد أمضت في الليلة السابقة على تعيينها — ولم يكن التعيين قد تأكَّد بعدُ ولكنه كان محتملًا جدًّا — الساعات ترجو أن تهمس في أذنه بالشكر. ولقد رفع من عمله في نظرها أنه اختار فريدا بالذات لتكون الحِمل الذي يضعه فوق ظهره، لقد كان في هذا التصرُّف شيء من الأثرة لا سبيل إلى فهمه، إنه في سبيل بيبي، يتخذ فريدا عشيقةً له، فريدا البنت القبيحة المنظَر، المسنَّة، النحيفة، ذات الشَّعر القصير المُضطرب، البنت الخبيثة التي تخفي دائمًا أسرارًا … وإنها لخبيثةٌ خبثًا يتَّفق مع منظرها! وإذا كان قبحها واضحًا في وجهِها وجسمها وضوحًا لا إسرار فيه، فلا بدَّ أن تتَّخذ على الأقل أسرارًا أخرى لا يستطيع أحد أن يكشف أمرها، من هذا علاقتها المُدعاة بكلم. ولقد خطرت ببال بيبي في ذلك الوقت مثل هذه الأفكار: هل من المُمكن أن يكون كلم عاشقًا لفريدا؟ ألا يخدع نفسه؟ أو ألا يخدع فريدا؟ وهل سيؤدي هذا كله إلى ارتقاء بيبي فقط؟ وهل سيتبين ك الخطأ؟ وهل سيُقرر ألا يغفره؟ وألا يعود إلى رؤية فريدا؟ ألا يعود إلى رؤية بيبي وحدها؟ ولم يكن هذا خيالًا مجنونًا تورَّطَت فيه بيبي، فقد كان في مقدورها أن تقف من فريدا موقف الندِّ للندِّ، وهذا شيء لا يستطيع أحد إنكاره. ولكن فريدا بهرَت بصر ك أولًا وقبل كل شيءٍ آخر بمركزها وبالبريق الذي عرفت كيف تُضفيه على هذا المركز. وتمنَّت بيبي في أحلامٍ استرسلت إليها أن يأتي إليها، وبعد أن تكون قد نالت المركز، فيتوجَّه إليها بالرجاء، وسيكون عليها في هذا الوقت أن تختار بين أمرَين إما أن ترفع ك وتَفقِد المركز أو أن تصدَّ ك وترتفع هي. ولقد رتبت أمرها على أن تتخلَّى عن كل شيء وتنزل إليه وأن تُعلمه الحب الحقيقي الذي لا يُمكنه أن يعرفه عند فريدا، الحب الحقيقي الذي لا يرتبط بأيِّ مركز من مراكز التشريف في الدنيا. ولكن الأمور تطوَّرت على نحوٍ آخر، ومَن الذي يحمل ذنب ذلك؟ ك أولًا وقبل كل شيءٍ آخر، ثم بعد ذلك خُبث فريدا. ك أولًا فماذا يريد؟ وما أغربه من إنسان؟ إلامَ يطمح؟ ما هي هذه الأشياء الهامة التي تشغله والتي تُنسيه الأقرب والأحسن والأجمل؟ إنَّ بيبي هي الضحية، وكل شيءٍ قد أصابه السخف، وكل شيءٍ قد أصابه الضياع. ولو استطاع أحد أن يُشعِل النار في حان السادة ويحرقها عن آخرها كما يحرق الإنسان ورقة في مدفأةٍ، لكان اليوم هو الرجل الذي تختارُه بيبي وتصطفيه. نعم، لقد دخلت بيبي في الخمارة منذ أربعة أيام قبل الغداء بقليل. وليس العمل في الخمَّارة بالعمل السهل إنه عملٌ يوشك أن يكون مهلكًا، ولكن ما يُمكن أن يبلغه الإنسان هنا ليس بالشيء الصغير، ولم تكن بيبي فيما مضى تعيش اليوم ولا تفكر في الغد، وهي إذا لم تكن قد تجرَّأت جرأةً مفرطةً للاستحواذ على هذا المركز فقد أكثرت من الملاحظة وعلمت أمر هذا المركز، فلم تكن إذ شغلت المركز تَفتقِر إلى الاستعداد له. وما يُمكن أن يشغل الإنسان مثل هذا المنصب دون أن يكون مُستعدًّا له وإلا فقده في الساعات الأولى وخاصةً إذا ما تصرف الإنسان هنا على طريقة خادمات الحجرات. وخادمة الحجرات نفسها بمضيِّ الزمن ضائعةً منسية. إن عملها هناك، أو على الأقل عملها في الممر، يُشبه العمل في باطن المنجم. إنها تظل الأيام العديدة لا تَرى — باستثناء بعض أصحاب الحاجات الذين يتكورون على أنفسهم ولا يجرءون على رفع أبصارهم — إنسانًا، سوى خادمتَين أو ثلاثٍ من الزميلات اللاتي يُعانين من المِحنة ذاتها. ليس للخادمة أن تُغادر حجرتها صباحًا؛ لأنَّ السكرتيرين يريدون في هذا الوقت أن يكونوا وحدهم والصبيان هم الذين يأتون إليهم بالطعام من المطبخ، فليس للخادمات شأنٌ بالطعام، وليس للخادمة أن تظهر في الممرِّ في وقتِ تناول الطعام. وليس للخادمة أن ترتب الحجرة إلا أثناء قيام السادة بالعمل وعليها أن ترتب بطبيعة الحال الحجرات التي تصادف أن غادرها السادة، وعليها أن تُؤدي عملها في سكونٍ تام حتى لا تزعج السادة وهم يعملون ولكن كيف يمكن ترتيب الحجرة في سكونٍ تامٍّ. إذا كان السادة يقيمون في الحجرة الأيام المُتتالية وكان الخدم الرجال، هؤلاء الرعاع الأقذار يعيثُون فيها فسادًا، وإذا بالحُجرة عندما تدخل الخادمة لترتيبها في حالةٍ من القَذارة لا يمكن حتى للفيضان تنظيفها. والحقيقة أنَّ السادة سادةٌ عظام، ولكن على الخادمة أن تقهر قرفها حتى تتمكَّن من ترتيب الحجرة. وليس عمل الخادمة عملًا كثيرًا مفرط الكثرة ولكنه دقيق. وهي لا تسمع مطلقًا كلمةً طيبة، بل تسمع دائمًا اللوم والتوبيخ، وخاصةً هذا اللوم الضائع الفظيع: إنَّ بعض الملفات ضاعت أثناء قيامها بتنظيف الحُجرة. وليس هناك في الحقيقة شيء يضيع، فالخادِمة تُسلِّم أصغر قطعة من الورق تجدُها إلى صاحب الحان، وإذا كانت الملفات تضيع، وهذا ما يحدث فإنَّ الخادمات لسنَ من اللاتي يُضيعنها. وتأتي اللجان للتحقيق، وتضطرُّ الخادمات إلى مغادَرة حُجرتهن، وتَقلب اللجنة السُّرر رأسًا على عقب. وليس لدى الخادمات من المُمتلكات سوى أشياءَ قليلة يحتويها سبَت ولكن اللجنة تستمر في البحث ساعاتٍ وساعات. وهي بطبيعة الحال لا تعثر على ملفات، فكيف يمكن أن تأتي إلى هنا؟ وماذا تعمل الخادمات بالملفات؟ ومع ذلك فالنتيجة شتائم وتهديدات ينقلها صاحب الحان إلى الخادمات عن اللجنة التي خاب رجاؤها. والخادمة لا تعرف الراحة لا بالليل ولا بالنهار، بل تُعاني من الصخب آناء الليل، وأطراف النهار. والخادمات يتمنَّين لو سُمح لهن بالمبيت خارج الحان، ولكن المبيت بالحان مفروضٌ عليهن؛ لأنَّ عليهن إجابة الطلبات إذا ما طلب السادة أشياء بسيطة من المطبخ، وبخاصةٍ في الليل. فجأة يأتي مَن يدقُّ بلكمته على باب حجرة الخادمات، ويُملي الطلب على الخادمة، فتجري الخادمة إلى المطبخ، وتهزُّ صبيَّ الطباخ في المطبخ ليصحو، وتضع الصينية بالطلب أمام باب حُجرة الخادمات، فيأتي الخدم الرجال ويحملونها، ما أسوأ هذا كله! ولكن هذا ليس أقبح ما في الأمر. إن أسوأ ما في الأمر هو عدم حضور مَن يطلب شيئًا. إنه شروع بعضهم في التلصُّص أمام الباب. بالليل البهيم حيث يحبُّ الجميع أن يناموا ويكون غالبيتهم مُستغرقين في النوم فعلًا. عند ذاك تنزل الخادمات من السُّرر — فالسُّرر متَّخذة الواحد فوق الآخر لضيق المكان وليسَت حُجرة الخادمات في حقيقتها سوى دولاب كبير له ثلاثة رفوف — وتتنصَّتن على الباب، وتركعن عنده، تعانق الواحدة الأخرى من فرط الخوف، وصوت المتلصِّص بالباب لا يفتأ يأتي إلى السمع ولو أنه دخل لسعدت الخادمات بدخوله، ولكن هذا لا يحدث، فالمتلصِّص لا يدخل إليهنَّ. وينبغي أن يقول الإنسان أن هذا التلصُّص لا ينطوي على خطرٍ محدق، فربما لم يكن المُتلصِّص سوى شخصٍ يروح ويجيء أمام الباب ويُفكِّر هل يطلب شيئًا، ولا يستطيع أن يتَّخذ قرارًا. ربما كان الأمر كذلك، وربما لم يكن كذلك. والحقيقة أن الخادمات لا يعرفن السادة قط، فهن لم يرونهم إلا لمامًا. ومهما يكن من أمرٍ فإنَّ الخادمات يَذُبن في الحُجرة من فرط الخوف، وإذا ما ساد السكون في الخارج. فإنهن يَستنِدن إلى الحائط؛ لأنَّ قوتهن لا تمكنهن من العودة إلى السُّرر. هذه الحياة تَنتظِر بيبي مرةً أخرى، فعليها أن تعود الليلة إلى حُجرة الخادمات وتتَّخذ فيها مكانها. ولماذا؟ بسبب ك، ولكن بعد جهودٍ هائلة. ذلك أنَّ الخادمات، حتى اللاتي يَهتمِمنَ بأنفسهن، عادةً غاية الاهتمام، يهملن أنفسهن هنا في هذا العمل. فلماذا يتزين؟ ليس هناك إنسانٌ يراهن، في أفضل الأحوال إلا العاملون في المطبخ، فمَن كان هذا يرضيها فلتتزيَّن. إن الخادمات دائمًا في الحجرة الصغيرة أو في حجرات السادة التي يعتبر دخولها بملابس نظيفة من الحماقة والتبذير. وإن الخادمات يَعِشن دائمًا في الضوء الصناعي والهواء العطن — لأن التدفئة لا تنقطع — وهنَّ دائمًا مُتعَبات. أما فترة الراحة التي يحصلن عليها، وهي ساعاتٍ قليلة في عصر أحد الأيام أسبوعيًّا، فهن يُفضِّلن قضاءها في مكانٍ مقفول بالمطبخ: حيث ينمن في سكونٍ وبلا خوف فلماذا تتزيَّن الخادمة إذن؟ إنها لا تكاد ترتدي شيئًا. ولقد نقلوا بيبي إلى الخمارة حيث يتطلب العمل منها، إن أرادت أن تنجح فيه، العكس على خط مستقيم. فخادمة الخمَّارة تحت أعين الناس دائمًا ومن بين الناس مَن اشتدَّت رقَّتهم وعظم انتباههم. وعليها أن تظهر دائمًا بأحسن مظهر ما استطاعت إلى ذلك سبيلًا. لقد كان ذلك تحولًا في حياتها. ويُمكن لبيبي أن تقول عن نفسها إنها لم تُقصِّر في شيءٍ. فلم تعلق بالًا على مُستقبلها في العمل. لقد كانت تعرف أن لديها الإمكانيات اللازمة لهذه المِهنة، بل كانت متأكدة من ذلك تمامًا، وما زالت إلى الآن مقتنعةً بهذا، ولا يوجد إنسان يستطيع أن يزعزع اقتناعها هذا حتى اليوم. يوم هزيمتها. ولقد وجدت صعوبات في فرض نفسها في الفترة الأولى لأنها كانت بنتًا فقيرة بلا ثياب وبلا حليٍّ، ولأنَّ السادة ليس لديهم من الصبر ما يجعلهم ينتظرون ليروا كيف تتطور هذه البنت الجديدة، بل هم يريدون خادمةً للخمارة بمعنى الكلمة على الفور ودون مرحلة انتقال وإلا نفروا منها وقد يظن الإنسان أن مُتطلباتهم ليست عالية لأنَّ فريدا كانت تفي بها. ولكن هذا ليس صحيحًا. ولقد فكَّرت بيبي في هذا مليًّا، واتصلت بفريدا مرارًا بل ونامت معها فترة طويلة. وليس من السهل سبر أغوار فريدا. ومَن لا يتنبَّه — وأين هم السادة الذين يتنبهون؟ يقع في غوايتها. وليس هناك إنسان يعرف قُبحَ منظر فريدا أدقَّ من فريدا ذاتها، إن الإنسان عندما يراها لأول مرةٍ وهي تحلُّ شَعرها، يضرب يديه معًا من الأسى. إن بنتًا كهذه لا يصحُّ أن تعمل، إذا كانت الأمور تسير في طريق العدل والصواب، حتى خادمة حجرات. وهي تعرف ذلك، كثيرًا ما باتت الليل تبكي، وتضمُّ نفسها على بيبي وتلفُّ شَعر بيبي حول رأسها هي، ولكنَّها عندما تعمل في الخمارة، لا تحسُّ بشيءٍ من شكوكها، وتعتبر نفسها أجمل المخلوقات، وتعرف كيف تفرض ذلك على كل إنسان، إنها تعرف الناس، وهذا هو فنها الحقيقي. وهي تكتب وتغشُّ بسرعة حتى لا يكون لدى الناس من الوقت ما يَكفي للنظر إليها بدقة. ومن الطبيعي أن هذا لا يكفي على مرِّ الزمن؛ فالناس لهم عيون، والعيون ستكون في النهاية صاحبة الحق ولكن فريدا لديها وسيلة جاهزة تستعملها إذا ما تبيَّنت خطرًا من هذا النوع، إنها في هذه الحالة تستعمل، على سبيل المثال كما حدث في الفترة الأخيرة، علاقتها بكلم. نعم علاقتها بكلم! إذا لم تكن تصدق أن لها علاقةً بكلم فألتمس لك طريقة تتأكَّد بها! اذهب إن استطعت إلى كلم واسأله! ما أكثر خبثها! وإذا لم تجرُؤ على الذهاب إلى كلم لسؤاله عن شيءٍ من هذا القبيل — فلن تستطيع الوصول إليه إذا كان لديك أسئلة أهم بكثير لأنَّ كلم بعيد عنك كل البُعد … عنك وعن أمثالك فقط؛ لأن فريدا تذهب إليه عندما تشاء — فيُمكنك والأمر كذلك أن تتقصَّى، أو عليك أن تنتظر! وليس من المتصوَّر أن يَحتمِل كلم إشاعة مزيفة مثل هذه طويلًا. ومن المؤكَّد أنه يُتابع ما يُحكى عنه في الخمَّارة وفي حُجرات النزلاء، ويُعلِّق على ذلك أهميةً كبيرةً، فإذا كان ما يُحكى عنه خطأً صحَّحه على الفور.
ولكنه لا يُصحِّح الخطأ في حالتنا هذه. إذن فليس هناك ما ينبغي تصحيحه، والأمر هو الحقيقة الخالصة! أما ما يراه الناس فهو لا يتعدَّى حمل فريدا البيرة إلى حجرة كلم وخروجها بالثمن. وأما ما لا يراه الناس فتحكيه فريدا، وينبغي تصديقها. ثم هي لا تحكيه، لأنَّها لا يُمكن أن تكشف مثل هذه الأسرار. لا! إن الأسرار تتكشَّف وحدها من حولها! وعندما تتكشَّف، فإن فريدا لا تتردَّد في نفسها في الحديث عنها، ولكن على نحوٍ مُتواضِع، دون أن تجزم بشيءٍ، بل هي تَعتمِد في حديثها على ما قد ذاع بالفعل. ولكنها لا تذكر كل شيء، فهي لا تذْكر على سبيل المثال أن كلم أصبح يشرب، منذ عُيِّنت هي على المشاريب في الخمارة. من البيرة أقل ممَّا كان يشرب، لا أقلَّ كثيرًا، ولكن أقل بشكلٍ واضح والناس يختلفُون في تعليل ذلك، ولقد مرَّ على كلم وقت كانت البيرة لا تسيغ له كثيرًا، أو لعلَّ فريدا تُلهيه عن شرب البيرة. ومهما يكن مِن أمرٍ، فإنَّ فريدا، على الرغم ممَّا في الأمر من غرابة، عشيقة كلم، وليس من شكٍّ في أنَّ الآخرين عليهم أن يعجبوا بما يرضى به كلم. وهكذا أصبحت فريدا، دون أن يتدبَّر الناس الأمر، بنتًا رائعة الجمال، وخادمة خلقت للخمارة، بل قد تكون مفرطة الجمال، مفرطة القدرة فلا تكاد الخمارة ترضيها. وهذا هو الواقع — فإن الناس يعجبون بها لأنها لا تزال في الخمارة. والعمل خادمة في خمارة شيء عظيم، ولهذا فإن علاقتها بكلم تلوح قابلة للتصديق، ولكن إذا أصبحت خادمة الخمَّارة عشيقةً لكلم فلماذا يدعُها، يدعها هذا الوقت الطويل، في الخمارة؟ لماذا لا يأخُذ بيدها إلى أعلى؟ وفي استطاعة الإنسان أن يقول للناس ألف مرة إنه ليس في هذا تناقض، وإن كلم لديه أسباب معيَّنة للتصرف على هذا النحو، أو أن ترقية فريدا ستحدُث فجأةً ربما في أقرب وقت، ولكن هذا الكلام لا يؤثر عليهم كثيرًا. إنَّ الناس يتصوَّرون الأمر على ما يبدو معرفةً أفضل، تعبوا تعبًا حال بينهم وبين الشك، وقالوا في أنفسهم، كوني إن شئتِ عشيقة كلم، ولكن إذا كنت قد أصبحت بالفعل عشيقة فدعينا نتبيَّن ذلك مَن ترقيك إلى أعلى! ولكنهم لم يتبيَّنوا شيئًا، وبقيَت فريدا في الخمارة كما كانت، وكانت بينها وبين نفسها مسرورةً لأنَّ الأحوال بقيت على هذا النحو. على أنها فقدت جانبًا من هيبتِها في أعين الناس، ولا بدَّ أنها لاحظت ذلك، فهي تُلاحظ في المعتاد الأشياء حتى قبل أن تحدث. ولو أن بنتًا جميلة لطيفة عملت في الخمارة، ألفت شئونها، فلن يكون بها حاجة إلى الالتجاء إلى الأفانين للاستمرار في العمل، فهي باقية في مكانها ما دامت جميلة، إلا أن يطرأ طارئٌ مفاجئٌ مؤسِف. أما إذا كانت البنت على شاكلة فريدا فإنها تظل دائمًا قلقةً على وظيفتها، وهي بطبيعة الحال — وهذا شيء بديهي — لا تظهر قلقها، بل على العكس تتظاهر بأنها تشكو من العمل وتلعنُه. أما بينها وبين نفسها، فهي تراقب الجو العام دون ما توقف. وهكذا تبيَّنت أن الناس لا يكلفون بها، وأن ظهور فريدا لم يَعُد يدفعهم حتى إلى رفع عيونهم، حتى الخدم كانوا لا يهتمُّون بها، وكانوا يتعلَّقون — وهذا شيء بديهي بأولجا وبمثيلاتها، ولاحظت فريدا أن الاحتياج إليها أخذ يفتر فتورًا مُتزايدًا، ولم يكن في مقدورها أن تستمر في اختراع حكايات جديدة، فلكلِّ شيء حدود، وهكذا قررت فريدا الطيبة أن تفعل شيئًا جديدًا. وأين هو الإنسان الذي كان يستطيع أن يكشف مكنونها! أما بيبي فقد أحسَّت بما تُدبِّره فريدا، وإن لم تتمكن من كشف مكنونه. لقد قررت فريدا أن تحدث فضيحة، هي: عشيقة كلم ترتمي في أحضان أيِّ إنسان، ترتمي في أحضان أوضع إنسان. لسوف يُثير هذا الدهشة، ولسوف يتحدَّث الناس عنه طويلًا، ثم يتذكرون في النهاية معنى أن تكون فريدا عشيقة كلم، وأن تنبذ هذا الشرف العظيم في نشوة حبٍّ جديد. وكانت الصعوبة الوحيدة تتلخَّص في العثور على الرجل المناسب لهذه اللعبة الماكرة. فلا ينبغي أن يكون هذا الرجل واحدًا ممَّن تعرفهم فريدا، ولا واحدًا من الخدم لأنها لو حاولت أن تتَّخذ لذلك واحدًا من الخدم، فإنه على الأرجح سينظر إليها بعينَين واسعتين مدهوشتين وينصرف إلى حال سبيله، وهو لو رضيَ فلن يستطيع أن يتصنَّع ما يكفي من الجد، ولن يكون من المُمكن، مهما أوتي الإنسان من الفصاحة، أن يشيع بين الناس أنه تهجم على فريدا. وأنها لم تستطع أن تُدافع عن نفسها، وأنها خضعت له في ساعةٍ فقدت فيها وعيها. وحتى إذا وجدت شخصًا وضيعًا غاية الوضاعة، فلا بد أن يكون شخصًا يُمكنه أن يوحي على نحوٍ مقنعٍ، أنه على الرغم من بلادته وغلظته لا يشتاق إلى شيء شوقه إلى فريدا وإلى — آه، يا للعجب! — الزواج بها. وينبغي أن يكون هذا الرجل الوضيع — ولا بد أن يكون على قدر الإمكان أكثر وضاعةً من الخدم، أكثر وضاعة منهم جدًّا — على نحوٍ لا تَنفِر منه كل البنات، بل قد تجد فيه بنتٌ صحيحة العقل شيئًا جذابًّا. فأين تجد رجلًا كهذا؟ ولو أن بنتًا غير فريدا بحثت عن هذا الرجل، لما وجدته في حياتها. أما فريدا فقد ساق إليها الحظ موظَّف مساحة إلى الخمَّارة ربما في نفس الليلة التي فكَّرت فيها في هذه الخطة. موظف المساحة! نعم، نعم، ففيمَ يُفكر ك؟ ما هي الأشياء الهامة الخاصَّة التي تجول بخاطره؟ هل سيصل إلى شيءٍ هام خاصٍّ؟ إلى مركزٍ طيب؟ إلى مجد؟ هل يُريد هو شيئًا من هذا القبيل؟ لو كان الأمر كذلك، لكان قد تصرَّف منذ البداية على نحوٍ آخر، وهو في الحقيقة لا شيء، ولكم يتحسَّر الإنسان عندما ينظر إلى حاله! إنه موظَّف مساحة، وربما كان هذا شيئًا؟ ربما كان هذا يعني أنه قد تعلَّم شيئًا، ولكن إذا لم يكن الإنسان يستطيع أن يفعل شيئًا بما تعلَّم، فإن ما تعلَّمه يكون لا شيء. وهو مع ذلك يطالب بحقوق دون أن يكون معتمدًا على أدنى سند، وهو في الحقيقة لا يطالب بحقوق بمعنى الكلمة، ولكن المُثير في الأمر هو أن الإنسان يلاحظ أنه يطالب بحقوق ألا يعلم أن الخادمة الوضيعة تُفرط في الكرم حياله، إذا تكلمت معه طويلًا؟ وإذا هو بمطالبه العالية هذه يَندفع في الليلة الأولى إلى داخل مصيدةٍ بشعة. ألا يخجل؟ ما هذا الذي أعجبه في فريدا؟ إنه الآن يستطيع أن يقول الحقيقة. أيمكن أن تكون هذه المخلوقة الصفراء العجفاء قد أعجبته؟ آه، لا، إنه لم يتطلَّع إليها، كل ما في الأمر أنها قالت له إنها عشيقة كلم، فأحدث ذلك فيه أثرًا لأنه كان جديدًا عليه … وكان أن ضاع! أما هي فقد أصبح عليها أن تترك الحان، فلم يَعُد لها بطبيعة الحال مكان في حان السادة. ولقد رأتها بيبي في الصباح السابق على خروجها من الحانة، وكان مَن يعملون بالحانة قد تجمَّعوا تواقين إلى النظر إليها. كان نفوذها لا يزال عظيمًا لدرجة أنهم أسفوا عليها، لقد أسف عليها الجميع، ومن بينهم أعداؤها. لقد نجَح تدبيرُها إلى هذا الحد. لقد صعب على الجميع أن يفهموا لماذا ألقت بنفسها إلى مثل هذا الرجل؟ لقد تصوَّروا أن نازلةً ألمَّت بها. وكانت خادمات المطبخ الصغيرات، اللاتي يُعجبن بخادمة الخمَّارة أيما إعجاب، في حالةٍ يُرثى لها. حتى بيبي كانت مُتأثرة، ولم تكن تستطيع أن تُسيطِر على نفسها، على الرغم من أنَّ اهتمامها كان مركَّزًا على شيءٍ آخر. ولكنها لاحظت أن ما كان بفريدا من حزنٍ قليل قِلة مُلفتة للنظر. لقد كان ذلك الذي حدَث لها مُصيبة بشعة، ولقد تصنَّعت هي أيضًا التعاسة، ولكن تصنُّعها لم يكن كافيًا، فلم تنخدع بيبي بتمثيلها. فعلامَ كانت تَعتمِد؟ يا ترى على سعادة الحب الجديد؟ لقد كان هذا الاحتمال مُستبعَدًا، فعلامَ إذن؟ وما هذا الذي أعطاها القوة على أن تصطنع كالمعتاد الود البارد حتى حيال بيبي التي كانت في ذلك الوقت تعتبر خليفة فريدا؟ ولم يكن لدى بيبي في ذلك وقتًا كافيًا للتفكير في هذا؛ فقد كانت مشغولةً جدًّا بالاستعداد للوظيفة إليه. قطعة الجديدة. وكان المفروض أن تبدأ العمل فيها بعد ساعاتٍ قليلة، ولم تكن قد اتخذت تسريحة جميلة، ولا لبست ثوبًا أنيقًا، ولا ارتدَت قميصًا رقيقًا ولا حذاءً صالحًا. وكان من الضروري تدبير كل هذه الأشياء في غضون ساعاتٍ قليلة. وإذا لم يكن تدبير هذه الأشياء في الإمكان، فالأفضل أن يتنازَل الإنسان عن الوظيفة، لأنه سيفقدها بكلِّ تأكيد في نصف الساعة الأول. ولقد تمكَّنت بيبي من تدبير هذه الأشياء جزئيًّا. أما تصفيف الشَّعر فلها فيه موهبة خاصة، حتى إن صاحبة الحان ذاتها استدعتها ذات مرة إليها لتُصفِّف لها شَعرها، ولقد تمكَّنت بيبي من تصفيف شَعرها تصفيفًا حسنًا لأنها تُحسن العمل بيدها، ولأن شَعرها الغزير يتشكَّل كما تريد. كذلك وجدت مَن يُعينها على تدبير الثوب. فقد أخلصت زميلتاها لها، وكانتا تريان في اختيار بنت من مجموعتهن لتُصبح خادمة الخمارة شرفًا لهما، وكانتا تعتقدان أن بيبي ستمنعهما فيما بعدُ عندما تصل إلى السلطة. وكان لدى إحدى البنتَين منذ وقتٍ طويلٍ من القماش الغالي، كانت كنزها، وكانت تعرضها على الأُخريات فيُعجبن بها، وكانت بطبيعة الحال تحلم بأن تستعملها ذات يومٍ في صناعة ثوبٍ رائع. وما كان أحسن تدبيرها، فلمَّا احتاجته بيبي الآن ضحَّت به من أجلها. وساعدت البنتان بيبي عن طِيب خاطر في حياكة الثوب، ولو كانتا تحيكان لنفسهما، ما أظهرتا مَزيدا من الهمة. بل لقد كان العمل في الثوب عملًا مفرحًا سعيدًا. كانت كل واحدةٍ تجلس في سريرها الواحدة فوق الأخرى، وكانتا تَخيطان وتُغنِّيان وتقدمان الواحدة إلى الأخرى الأجزاء الجاهزة وتتبادَلان الكلفة. إن بيبي عندما تفكر في هذا، ينقبض قلبها؛ لأن هذا الجهد راح هباءً، ولأنها تعود إلى صديقتَيها خاوية اليدَين. يا لها من محنة! ويا له من دينٍ تحمَّلت به عن حمق! والذنب ذنب ك قبل غيره. ولقد أعجب الجميع بالثوب، ولاح هذا الإعجاب به كأنه ضمان للنجاح، وكان العثور في الثوب بعد أن تمَّ على مكانٍ لا يزال يحتاج إلى شريط يُحلِّيه من الصعوبة بمكان. ثم ألم يكن الثوب جميلًا بالفعل؟ لقد أصابه الآن بعض الخلل واتَّسخ، فليس لدى بيبي ثوب آخر، ولهذا كانت مُضطرةً إلى ارتدائه ليلًا ونهارًا، ولكنَّ الناظر إليه لا يزال يرى كم هو جميل، وما كان يُمكن حتى لأخت برناباس اللعينة أن تصنع أفضل منه. إنه ثوب يُمكِن تضييقه وتوسيعه من أعلى ومن أسفل حسب الرغبة، فيظهر بأشكالٍ مختلفة وهو الثوب الواحد — وهذه ميزة خاصَّة وهي من اختراع بيبي. وليسَت حياكة ثوب بيبي بالأمر الصعب بطبيعة الحال، وبيبي لا تتفاخَر بذلك، وإن البنت إذا كانت صغيرة السنِّ صحيحة البدن فكل شيء تلبسُه يُناسبها ويبدو جميلًا أما تدبير الملابس الداخلية والحذاء فكان أمرًا أكثر صعوبةً، وكان هو في الحقيقة بداية الفشل. ولقد ساعدَت الصديقات هنا على قدر ما استطعن، ولكنَّهن لم يستطعن فعل الكثير. فلم تحصل بيبي إلا على ملابس داخلية خَشِنة مرقَّعة، ولم تجد حذاءً له كعب عالٍ، واضطرَّت إلى الاكتفاء بحذاء بيبي كان الأحرى بالإنسان أن يُخفيَه لا أن يظهره. وكان هناك مَن يُواسي بيبي: فلم تكن فريدا تلبس الجميل من الثياب، بل إنها كانت أحيانًا تلبس ملابس رثَّة حتى إن الناس كانوا يُفضلون أن يقدم لهم المشروبات بدلًا منها صبيان المخزن. هذا هو الواقع. ولكن فريدا كانت تسمح لنفسها بذلك لأنها كانت تنعَم بالحظوة والتكريم. وإذا ظهرت سيدة أمام الناس بملابس قذرة مُهمَلة فإنها تستهويهم على نحوٍ أشد، أما إذا فعلت ذلك بنتٌ جديدة مثل بيبي فما تكون العاقبة؟ هذا إلى أنَّ فريدا لم تكن تستطيع أن تهندم نفسها، فهي مجرَّدة من الذوق تمامًا، وإذا أوتي الإنسان بشرةً صفراء فهو لا يستطيع أن يُغيِّرها، ولكن ليس هناك ما يضطرُّه مثل فريدا إلى ارتداء بلوزة مفتوحة فتحةً واسعةً صفراء اللون، حتى إنَّ العين إذا نظرت إليها تضطرب لهذه الصُّفرة المفرطة! وحتى إذا لم يكن هذا هو حالها، فإنها كانت بخيلة بُخلًا يمنعها من الإنفاق على الملبس الجميل. لقد كانت تدَّخر كل ما تكسب، وليس هناك مَن يعرف لماذا. وهي لم تكن تحتاج في العمل إلى المال، بل كانت تُدبر أمرها بالكذب والخبث، ولم تكن بيبي تريد ولم تكن تستطيع أن تتَّخذ فريدا قدوةً لها، ولهذا كان لها أن تتزيَّن حتى تظهر موهبتها كاملة وبخاصَّة في البداية. ولو أنها أوتيت لذلك وسائل أقوى لكانت هي المُنتصِرة برغم مكر فريدا وغباء ك. ولقد كانت البداية طيبةً جدًّا. فقد أتت وهي مُلمَّة بما يتطلبه العمل من نشاطٍ ومعرفة، وما كادت تدخل الخمارة حتى ألفت العمل فيها ولم يَعُد غريبًا عليها، ولم يعتور العمل عيب يجعل كائنًا مَن كان يَفتقِد فريدا في اليوم الأول. أما في اليوم التالي فقد سأل بعض الحاضرين عن فريدا وإلى أين ذهبت. ولم تَرتكب بيبي خطأً واحدًا، وكان صاحب الحان راضيًا، وكان في اليوم الأول لا يُبارح الخمارة من شدة خوفه، فلمَّا ارتاح باله قلَّ حضوره، وأخيرًا ترك كل شيءٍ لبيبي، عندما وجد أن الخزينة مضبوطة بل وإنَّ الوارد زاد في المتوسط عما كان عليه أيام فريدا. وأدخلت بيبي بعض التجديدات. كانت فريدا تُراقب الخدم مراقبةً جزئية، وبخاصةٍ إذا كان هناك مَن ينظر إليها، لا عن كلفٍ بالعمل، ولكن عن بخلٍ، وعن حبٍّ للسيطرة وعن خوف من النزول عن شيءٍ من حقوقها، أما بيبي فقد تركت هذه المهمَّة كلها لصبيان المخزن الذين يصلحون لهذه المهمَّة أفضل منها. وكانت النتيجة أنها وجدت المزيد من الوقت لخدمة حُجرات السادات فكان النزلاء يتلقون ما يطلبون بسرعة. وكانت مع ذلك تتكلَّم مع كل كلمتين على عكس فريدا التي كانت تدَّعي أنها حِكر على ك وكانت تعتبر كل كلمة توجه إليها وكل محاولةٍ للتقرُّب منها إساءةً إلى كلم. ولقد كان ذلك تصرفًا ماكرًا منها؛ لأنها عندما كانت تسمح لشخصٍ بالتقرب إليها كان يعتبر هذا تفضلًا من نوعٍ لم تسمع به أُذُن. أما بيبي فكانت تكره هذه الأفانين، هذا إلى أنَّ هذه الأفانين لا تفيد في البداية. كانت بيبي تُظهر الودَّ لكل إنسان، وكان كل إنسان يظهر لها الود. وكان يبدو على الجميع الفرح بالتغيير الذي طرأ على الخمارة. وكان السادة المُتعبون إذا ما خلوا في النهاية إلى البيرة، يتغيَّرون من حالٍ إلى حال لكلمة من بيبي أو نظرةٍ منها أو هزةٍ من كتفَيها. وهكذا كانت الأيدي تمتد نشيطةً إلى خصائل شَعرها، ممَّا كان يضطرُّها إلى إصلاح تسريحتها عشر مرات في اليوم الواحد … ولم يكن هناك مَن يستطيع أن يُقاوم إغراء هذه الخصائل والجدائل، حتى ك نفسه الذي كان يظهر في المعتاد مجردًا من كل فكرٍ. وهكذا انقضت أيام، كانت مليئة بالعمل، ولكنَّها كانت ناجحة. ليتها لم تَنقضِ بهذه السرعة، وليلتَها كانت أكبر ممَّا كانت! لقد كانت الأيام الأربعة قليلة جدًّا حتى إذا أنهك الإنسان نفسه إنهاكًا! ولعلَّها لو زادت يومًا لكفَت، أما أربعة أيامٍ فقط فقد كانت قليلة. حقيقة أن بيبي اكتسبت في الأيام الأربعة المحاسيب والأصدقاء، إن جاز لها أن تُصدق النظرات، لقد كانت تعوم، عندما تأتي بأقداح البيرة، في بحرٍ من الصداقة، ولقد هام بها إلى الجنون كاتبٌ اسمه بارتماير فقدَّم إليها هذا العقد وهذه الدلاية هدية وأعطاها صورةً في الدلاية … وإنه لتصرُّفٌ جَسور ما في ذلك شك! لقد جرى هذا وغير هذا في فترةٍ لم تتجاوَز أربعة أيام … وإن في استطاعة بيبي عندما تبذُل جهدها، أن تدفع بفريدا إلى ظلام النسيان تقريبًا في هذه الأيام الأربعة، ولكنَّها لا تكفي لدفعها إلى ظلام النسيان كليةً، وربما كان النسيان قد احتوى فريدا بالفعل، إذا لم تكن قد حرصت على أن تجعل الأفواه تتحدَّث عنها وتوسَّلت إلى ذلك بفضيحتها الكبيرة التي جدَّدتها في أذهان الناس حتى استبد بهم الفضول لرؤيتها. لقد تحوَّلت هذه البنت التي ملُّوها وسئموها، إلى شيءٍ له سِحره: والفضل في ذلك يرجع إلى ك الذي يتَّسم عمومًا بالبلادة! ولم يكونوا بطبيعة الحال ليُضحُّوا ببيبي من أجل هذا طالَما كانت تقف في الخمارة وتؤثر عليهم بحضرتها. ولكن غالبيتَهم من الشيوخ المسنِّين، الجامدين في عاداتهم، الذين يحتاجون إلى وقتٍ طويل لكي يتعوَّدوا على خادمة خمارة جديدة حتى وإن كانت أفضل من سابقتها، يحتاجون إلى عدة أيام، يحتاجون رغم إرادتهم إلى عدة أيام، ربما إلى خمسة أيامٍ فقط، ولكن أربعة أيام لا تكفي … ولم تكن بيبي في نظرهم إلا خادمةً مؤقَّتة. ثم جاءت المصيبة التي ربما كانت هي المصيبة العُظمى: في تلك الأيام الأربعة لم ينزل كلم في حجرته بالحان على الرغم من أنه كان في اليومَين الأوَّلين في القرية. ولو أنه أتى لتمَّ لبيبي الامتحان الحاسم، الامتحان الذي لم تكن تخشاه إلا أقل خشية، بل كانت تُرحِّب به. ولعلَّها لم تكن ستُصبح — وهذه أمور من الأفضل بطبيعة الحال ألَّا يتعرض الإنسان لها بكلام — عشيقةً لكلم … ولعلها لم تكن ستكذب وتدَّعي أنها قد أصبحت عشيقته … ولكنَّها كانت ستعرف، مثل فريدا، كيف تضع قدح البيرة برقةٍ على المائدة، وكيف تُلقي التحية مُهذَّبة دون إلحاحٍ من نوع إلحاح فريدا، وكيف تستأذن مهذبةً في الانصراف … ولو كان كلم يبحث في عيني البنات عن شيءٍ، فلا شك أنه كان سيَجده وفيرًا في عينَي بيبي. ولكن لماذا لم يأتِ؟ مصادفةً؟ لقد ظنَّت بيبي آنذاك أنها مصادفة. وكانت طوال اليومين تنتظر مَقْدمه بين لحظةٍ وأخرى، وظلت تنتظر حتى في الليل. وكانت لا تفتأ تقول في نفسها إن كلم سيأتي حالًا، وتجري هنا وهناك بلا سببٍ سوى قلق الانتظار والحرص على أن تكون أول مَن يراه عندما يدخل. ولقد أرهقتها هذه الخيبة المستمرة ولعلَّها لهذا السبب لم تبذل من الجهد ما كانت تستطيع أن تبذله. وكانت إذا وجدت لديها شيئًا من الوقت تصعد إلى الممر الذي حظر دخوله على العاملين في الحانة حظرًا باتًّا، وتختفي في تجويفٍ بالحائط وتنتظر. وكانت تقول في نفسها: ليت كلم يأتي الآن، وليتني أستطيع أن أحمل السيد من حُجرته على ذراعي إلى قاعة الشراب! إنني لن أنهار مهما كان الثقل من الضخامة! ولكنه لم يأتِ. وهذا الممر يخيم عليه سكون هائل لا يستطيع مَن لم يعرفه أن يتصوره. إن السكون هناك لا يحتمل، إنه يدفع الإنسان إلى بعيد. ولقد دفع بيبي إلى بعيد المرة تلوَ مرة … عشر مرات، ولكنها عادت المرة تلو المرة … عشر مرات. ولقد كان ذلك حُمقًا؛ فلو كان كلم يريد أن يأتي فإنه سيأتي، ولو لم يكن يريد أن يأتي فإن بيبي لن تستطيع اجتذابه حتى ولو اختنَقَت في تجويف الحائط أو كادت أن تختنق لفرط دَقِّ قلبها. لقد كان ذلك حمقًا، ولكنه إذا لم يأتِ فسيكون كل شيء تقريبًا حمقًا. ولم يأتِ. وبيبي تعرف اليوم لماذا لم يأتِ. ولو رأت فريدا بيبي في تجويف الحائط واضعةً يديها على قلبها، لنعمت بمشهدٍ طريفٍ للغاية. إن كلم لم ينزل لأن فريدا لم تسمح بذلك. ولم يتحقَّق لها هذا بالالتماس، فالتماساتها لا تصل إلى كلم. ولكنها كالعنكبوت، على صلات تمتد إلى كل ناحية، ولا يعلم الإنسان عنها شيئًا، فإذا قالت بيبي لأحدِ روَّاد الحان شيئًا، فإنها تقوله بصراحةٍ، ويمكن لمَن يجلس إلى المائدة المجاورة أن يسمعه. أما فريدا فليس لديها ما تقوله، إنها تضع البيرة على المنضدة وتَنصرِف. ولا يسمع أحد منها إلا هفهفة قميصِها الحريري، وهو الشيء الوحيد الذي تدفع فيه مالًا. وإذا حدث أن قالت شيئًا، فإنها لا تقوله بصراحة، بل تهمس به، وتَميل على أذن الشخص فيرهف مَن يجلس إلى المائدة المجاور السمع. ويبدو أن ما تقوله سخفٌ، ولكنه ليس سخفًا كله. وفريدا لها اتصالاتها، وهي تُسند بعضها على البعض الآخر، فإذا تخلَّى عنها هذا — وأين هذا الذي يُمكن أن يهتمَّ بفريدا إلى الأبد؟ — فإنها تظلُّ معتمدةً على ذاك. ولقد تحرَّكت بالفعل لتستغل هذه الاتصالات. ومكَّنها ك من ذلك، فهو بدلًا من أن يقعد لديها في البيت وبدلًا من أن يحرسها، لا يمكث في البيت إلا لمامًا، بل يتجوَّل ويُجري مناقشاتٍ هنا وهناك، وهو يلتفت إلى كل شيءٍ إلا إلى فريدا، وهو ينتقل من حان الجسر إلى المدرسة الخالية ليُتيح لها مزيدًا من وقت الفراغ. وكل هذا بدايةً جميلةً لشهر العسل. وبيبي هي بكل تأكيد آخِر مَن يلوم ك على أنه يحتمل الحياة مع فريدا، فليس هناك إنسان يحتمل الحياة معها. ولكن لماذا لم يهجرها كليةً؟ لماذا ظل يعود إليها المرة بعد المرة؟ لماذا جعل جولاته توحي بأنه يناضل من أجلها؟ لقد لاح الأمر كأنها قد تبيَّن تفاهته الحقيقية على أثر اتصاله بفريدا، وكأنه يريد أن يجعل نفسه جديرًا بفريدا، وكأنه يريد أن يرقى متعجلًا إلى شيء، وهو لهذا يتخلى عن عشرتها الآن ويرجو أن يجد في المستقبل تعويضًا عن الحرمان. أما فريدا فهي لا تضيع في هذه الأثناء الوقت، إنها تقعد في المدرسة التي يبدو أن ك نقلَها إليها، وتتأمَّل حان السادة وتتأمل ك. ولديها من السعاة اثنان ممتازان تحت أمرها: إنهما مساعدا ك وقد تركهما ك لها كليةً. وإن الإنسان لا يفهم لماذا تركهما ك لها، حتى إذا كان يعرف ك. وهي ترسلهما إلى أصدقائها القدامى فتُجدِّد ذكراها لديهم، وتشكو لهم من أن رجلًا مثل ك يحبسها، وتحرضهم على بيبي، وتعلن أنها ستعود من جديد عمَّا قريبٍ، وترجو العون وتتوسَّل إليهم ألا يكشفوا أمرها لكلم. وتتظاهر بأنها تخاف على كلم، وترجو ألا يتركوه يذهب إلى الخمارة بحالٍ من الأحوال. وبينما تتظاهَر أمام هؤلاء بأن بُعدَ كلم عن الخمارة يَرتجي حرصًا عليه، تستغلُّ نجاحها هذا عند صاحب الحان فتلفَّت نظرُه إلى أن كلم لم يعد يذهب إلى الخمارة. وكيف يُمكنه أن يذهب إلى هناك بينما بنتٌ كبيبي هي التي تقوم بالخدمة؟ والحقيقة أن صاحب الحان ليس مذنبًا، فبيبي هي أفضل بديلٍ لها، ولكنها لا تكفي حتى ولا لبضع أيام. وك لا يعلم شيئًا عن كل هذا التدبير الذي قامت به فریدا، فهو إن لم يكن هائمًا في جولاته، يَرقد خالي البالي إلى قدمَيها بينما هي تَعُدُّ الساعات التي لا تزال تُفرِّق بينها وبين العودة إلى الخمارة. ثم إن عمل الساعيَين لا يقف عند هذا الحد، إنه يهدف كذلك إلى إثارة غيرة ك والإبقاء على علاقته بفريدا. وفريدا تعرف المساعدَينِ منذ طفولتها. وليس لديها أسرار تخفيها عليهما، وهما تكريمًا ﻟ ك يشغفان بها على التوالي، ويواجه ك خطر تحول هذا الشغف إلى حبٍّ شديد. وك يفعل كل شيء إرضاءً لفريدا، ولا يتورَّع في ذلك عن أنكر الأعمال. إنه يدع المساعدَينِ يُثيران غيرته، ويقبل مع ذلك، أن يظلَّ الثلاثة معًا، بينما يذهب هو إلى جولاته وحده. وكأنما كانت فريدا المساعد الثالث! وتُقرر فريدا أخيرًا اعتمادًا على ملاحظاتها، أن تضرب الضربة الكبرى: إنها تُقرر أن تعود. والحقيقة أن الوقت قد أزف، وإنَّ الإنسان ليدهش كيف تتبيَّن فريدا الماكرة، هذه الحقيقة وكيف تستغلُّها. إنَّ القدرة على الملاحظة والتصميم هي فن فريدا الذي لا يستطيع غيرها أن يُقلده. ولو أوتيت بيبي هذا الفن، لتغيَّرت حياتها أيَّما تغير! ولو أن فريدا قد بقيت في المدرسة يومًا آخر أو يومَين، ما أضحى في إمكانها أن تطرد بيبي، ولأصبحت بيبي نهائيًّا خادمة الخمارة يحبُّها الجميع ويتمسَّكون بها، وتربحت من المال ما يكفي لاستكمال هندامها على نحوٍ مُذهل. لو بقيت يومًا أو يومين لما أمكن منع كلم عن قاعة الشراب مهما كانت الأحاييل. إذن لأتى كلم ولشرب ولأحسَّ بالراحة والرضا، فإذا ما لاحظ أن فريدا لم تَعُد هناك، فإنه سيُسرُّ للتغيير. ولو بقيت يومًا أو يومَين لانطوت فريدا في النسيان بفضيحتها وعلاقاتها ومساعديها وبكلِّ ما أوتيت، ولما خرجت من ظلمات النسيان بعد ذلك أبدًا. وإذا وصلت إلى هذه الحال فعليها أن تتعلَّق ﺑ ك على نحوٍ أشد، وأن تتعلَّم كيف تحبه إذا كانت تستطيع ذلك؟ لا، إنها لا تستطيع حتى هذا. لأن ك لا يحتاج لأكثر من يومٍ حتى يسأمها وحتى يتبيَّن كيف تخدعه خداعًا مزريًا، تخدعه بكل شيءٍ، بجمالها المزعوم وإخلاصها المدَّعَى وخاصة بحبِّها المفتعَل لكلم. إنه لا يحتاج إلا إلى يومٍ واحدٍ لكي يُلقي بها إلى الشارع ومعها أعمالها القذرة التي تعتمد فيها على المساعدَين. إن الإنسان لا يمكن أن يتصوَّر أن ك يحتاج من الوقت إلى أكثر من يومٍ واحدٍ حتى يتصرَّف على هذا النحو. وبينما هي بين هذَين الخطرين، وقد أوشك القبر أن ينقفل عليها، وما يزال ك في سذاجته يبقي على سبيلٍ أخيرٍ مفتوحًا، إذا بها تتأجَّج نارًا، على نحوٍ لم يكن هناك إنسانٌ يتوقَّعه لأنه يجافي الطبيعة، وإذا بها تطرد ك الذي لا يزال يحبها ويجري وراءها، تظهر لصاحب الحان، تحت ضغط الأصدقاء والمساعدين على هيئة المنقذة التي تأتي إليه بالخلاص والنجدة، وقد أصبحت نتيجةً لفضيحتها أكثر جاذبيةً من ذي قبل، وقد تأكد بالدليل أن الوضيع والرفيع يشتهيانها، فهي تغرم بالوضيع إلى حين، ثم تنبذه بعد ذلك كما ينبغي وتترفع عليه كما كانت تترفع من قبلُ، مع فارقٍ واحد وهو أن الناس كانوا يشُكُّون في ذلك، أما الآن فقد اقتنعوا. وإذا بها تعود، وينظر صاحب الحان نظرة ترددٍ إلى بيبي — هل يضحي بها بعد أن أثبتت جدارتها؟ — ثم يتخذ قراره في صالح فريدا، فكفة فريدا راجحةً لأنها أولًا وقبل كل شيءٍ آخر ستعيد كلم إلى قاعة الشراب وهذه هي الحال الآن، في هذا المساء. ولكن بيبي لن تنتظر حتى تأتي فريدا وتجعل من عودتها إلى المنصب انتصارًا. لقد سلمت بيبي الخزينة إلى صاحبة الحان، وفي استطاعتها أن تنصرف. وستذهب الآن إلى حجرة الخادمات حيث ينتظرها سريرها هناك، وستحييها صديقتاها بالدموع وستنتزع هي الثوب من فوق جسمها، والأشرطة من شَعرها وتلقي بها في ركنٍ بعيدةٍ عن بصرها حتى لا تذكِّرها دون ما فائدة بأوقاتٍ من الخير أن تظل منسيةً. ولسوف تتناول الدلو الكبير والمقشة وتزم أسنانها وتستأنف عملها. ولكنها لا بد أن تحكي كل شيء ﻟ ك أولًا، حتى يتبين بوضوح ما لم يتبينه حتى الآن وحده بدون مساعدة، حتى يتبين بوضوح قبح ما فعله بيبي وكيف أتعسها … وإن كان كذلك قد وقع بطبيعة الحال فريسةً للاستغلال.
وانتهت بيبي من الكلام. وجففت وهي تلتقط نفَسًا عميقًا شيئًا من الدموع من عينيها وخديها ثم تطلعت إلى ك وهي تومئ برأسها، وكأنها تريد أن تقول إن الأمر ليس في الحقيقة أمر مصيبتها هي، فهي وبخاصة من ك، وهي على الرغم من صغر سِنها تعرف الحياة، تستطيع أن تتحملها ولا تحتاج لا إلى مساعدة ولا إلى عزاءٍ من أحد وبخاصةٍ من ك، وهي على الرغم من صغر سِنها تعرف الحياة، وما مصيبتها إلا تأكيد لمعلوماتها السابقة، وإنما الأمر أمر مصيبة ك. ولقد أرادت أن تصور له الأشياء، لأنها رأت من الضروري أن تفعل ذلك قبل أن تنهار آمالها كلها. فقال ك: ما أفظع خيالك يا بيبي! أما أنك لم تكتشفي هذه الأشياء كلها إلا الآن فأمرٌ لا يمكن تصديقه. إن كل ما قلته لا يعدو أن يكون أحلامًا انطلقت من حجرتك، حجرة الخادمات السفلية المظلمة الضيقة. وهي في الحجرة السفلية المظلمة الضيقة في مكانها الصحيح، أما هنا، في الخمارة الطليقة، فهي تبدو غريبةً عجيبةً. وأما أنك لم تتمكني من تثبيت أقدامك هنا بهذه الأفكار، فشيءٌ بديهي. وإن ثوبك وتسريحة شَعرك اللذَين تفخرين بهما لا يزيدان عن أن يكونا وليدَي تلك الظلمة وتلك السُّرر في حجرتكن وهما بلا شك جميلان جدًّا في حجرتكن، أما هنا فكل إنسانٍ يضحك منهما في سِره أو علانيته. وما هذا الذي حكيته؟ لقد قلتِ إنني وقعت فريسة للاستغلال والغش؟ لا، يا عزيزتي بيبي إنني لم أقع فريسةً للاستغلال والغش مثلك تمامًا. والحقيقة أن فريدا قد هجرتني الآن، أو هي، كما قلتِ قد هربت مع أحد المساعدَين، فأنت إذن ترين بصيصًا من الحقيقة، ومن المستبعد جدًّا بالفعل أن تصبح زوجتي بعد كل ما حدث، وليس من الحقيقة في شيء أنني سئمتها، أو أنني كنت سأطردها في اليوم التالي، أو أنها خانتني على النحو الذي تخون الزوجة عليه زوجها. وأنتن، أيتها الخادمات قد اعتدتنَّ على التجسس من خلال ثقب المفتاح، واحتفظتن من التجسس على هذا النحو بطريقة التفكير المرتبطة به، فأنتنَّ تستنتجن من شيءٍ صغيرٍ ترينه بالفعل، الشيء كله، على نحوٍ رائعٍ ومزيفٍ معًا. والنتيجة في هذه الحالة مثلًا أنني لا أعرف من الأمر إلا أقل منك بكثير. وأنا لا أستطيع — وقدرتي في هذا لا تداني قدرتك من قريبٍ أو بعيد — أن أفسِّر بدقةٍ كدقتك سبب انصراف فريدا عني. وأقرب تفسيرٍ إلى الاحتمال يبدو لي ما أشرت إليه أنت إشارةً عابرةً وهو أنني أهملتها. هذه هي الحقيقة، لقد أهملتها. ولكن إهمالي لها كان يقوم على أسبابٍ ليس هذا مكان الإفاضة فيها. ولو عادت إليَّ لسعدت بعودتها، ولكنني سأعود إلى إهمالها من جديد. هذه هي الحقيقة. لقد كنت، طالما كانت فريدا عندي، مشغولًا دائمًا بجولاتي التي تسخرين منها. أما الآن، وقد هجرتني فريدا فإنني غير مشغول بشيءٍ تقريبًا، ومتعب، وأحس بحاجةٍ إلى مزيدٍ من البطالة ألا تنصحينني بشيءٍ يا بيبي؟
وقالت بيبي وقد تملَّكها الحماس فجأةً وأمسكت ك من كتفَيه: بلى. إننا كلانا مخدوعان، فلنبقَ معًا! تعالَ معي إلى الحجرة السفلية إلى الخادمات.
فقال ك: إنَّني لن أستطيع التفاهم معك طالما كنت تتحدثين عن أننا خدعنا. إنك تُريدين دائمًا أن تكوني قد خُدعت، لأن هذا يروق لك ويُحرِّك وجدانك. أما الحقيقة فهي أنك لا تصلحين لهذه الوظيفة. وإن عدم لياقتك لهذه الوظيفة لتتضح لك جليةً إذا كنت أنا، وأنا في نظرك أجهل الناس، أتبيَّن ذلك. وأنت بنتٌ طيبة يا بيبي، ولكن ليس من السهل على الإنسان أن يتبيَّن ذلك. فأنا على سبيل المثال عندما رأيتك لأول مرة ظننتك فظيعةً ومُتكبِّرة، ولكنك في الواقع لست كذلك … إن الوظيفة هي التي تصيبكِ بالاضطراب لأنكِ غير لائقةٍ لها. وأنا لا أعني بذلك أن الوظيفة عاليةً جدًّا بالنسبة إليكِ، وما هي بالوظيفة الفائقة للمألوف، وقد تكون، إذا ما دقَّق الإنسان النظر فيها، أرفع من وظيفتكِ السابقة، وإن كان الفرق في مجموعه غير كبير، فالوظيفتان مُتشابهتان تشابهًا يكاد الإنسان منه أن يخلط بينهما، بل إن الإنسان ليكاد يقول إن العمل كخادمة حجرات يفضل العمل في الخمارة؛ لأنَّ خادمة الحجرات تكون دائمًا مع السكرتيرين أما خادمة الخمارة فإنها، وإن كانت تخدم رؤساء السكرتيرين أحيانًا، مضطرة للتنزل إلى شعبٍ وضيع شديد الوضاعة من أمثالي، وأنا غير مسموح لي بأن أظهر في مكانٍ آخر سوى في هذه الخمارة، فهل تعتبرين إمكانية مخالطتي شيئًا مشرفًا يفوق الحدود؟ إنك تظنين هذا، وربما كانت لديكِ أسبابكِ. ولكنكِ لهذه الأسباب بالضبط غير لائقة لهذه الوظيفة. وهذه الوظيفة مثل كل الوظائف الأخرى. ولكنها بالنسبة إليكِ الجنة، ولهذا فأنتِ تتناولين الأمور كلها بحماسٍ مفرط، فأنت تتزيَّنين كما تتزين الملائكة — حسب تصورك … والحقيقة أنهم يختلفون عما تتصوَّرين كل الاختلاف — وأنت ترتعدين خوفًا على الوظيفة، وتظنين أن هناك مَن يضطهدك، وتبحثين عن كل مَن تظنِّين أنهم يستطيعون أن يساندوك وتحاولين اجتذابهم إليك بالمبالغة في التودُّد إليهم. ولكنك تُسبِّبين لهم بهذا في الإزعاج النفور، لأنهم يريدون؛ إذ يأتون إلى الخمارة، الراحة، والهدوء ولا يريدون مشكلاتك ومشكلات خادمات الخمارة. ومن المحتمل، ومن المحتمل فقط، ألا يكون كبار رواد الخمارة قد لاحظوا انصراف فريدا، أما اليوم فهم يعرفونه ويشتاقون فعلًا إلى فريدا؛ لأن فريدا كانت تدبر أمور العمل على نحوٍ مختلف كل الاختلاف. ومهما يكن من أمرها، ومهما يكن تصورها لمركزها، فقد كانت في العمل واسعة الخبرة، فاترة، مسيطرة على نفسها — وأنت تُشيرين إلى ذلك دون أن تتعلَّمي منه. هل تأمَّلت مرةً نظرتها؟ لم تكن نظرتها نظرة خادمة خمارة، لقد كانت أكثر من ذلك، كانت نظرة صاحبة حان، أو توشك أن تكون كذلك. لقد كانت ترى كل شيء، وكانت ترى كل فردٍ على حدة، وكانت النظرة التي تبقى للفرد، قوية قوة تكفي للسيطرة عليه. وهل يعيبها أن تكون نحيفةً قليلًا، ومتقدِّمة في السِّنِّ بعض الشيء، أو أن يكون هناك شَعر أفضل من شَعرها؟ إن هذه أشياء طفيفة إذا قيست بما هي عليه في الحقيقة. وإن الإنسان الذي تزعجه مثل هذه العيوب ليُبيِّن بانزعاجه منها أنه لا يفهم في الأشياء العظيمة. ولا يمكن أن يأخذ الإنسان على كلم هذا بكل تأكيد. أما أنك لا تصدقين حب كلم لفريدا فيرجع إلى وجهة نظرٍ خاطئة تنظر بها بنت صغيرة غريرة إلى الأمور، إن كلم يبدو لك — بحقٍّ بعيد المنال، ولهذا فإنك تظنِّين أن فريدا لا تستطيع الوصول إليه. عندي براهين يقينية. ومهما لاح لك الأمر بعيدًا عن التصديق، مختلفًا وأنت تخطئين. وأنا في هذا أثق في كلام فريدا وحده حتى إن لم يكن عن تصوراتك عن العالم والموظفين والعظمة وتأثير جمال النساء، فإنه حقيقي، ولقد كان كلم وفريدا يجلسان كما نجلس نحن الآن الواحد بجوار الآخر ويدك في يدي — ولقد كان هذا أكثر الأمور بداهةً … ولقد كان ينزل إليها، من تلقاء ذاته، بل لقد كان يعدو إليها، ولم يكن هناك مَن يتربَّص به في الممر ويهمل أثناء ذلك عمله. لقد كان كلم مضطرًّا إلى النزول إلى فريدا، ولم يكن ما تتحدثين عنه من نقائص في هندام فريدا يُزعجه. إذن فأنت تذهبين إلى تكذيبها. وأنت لا تَعرفين أنك بهذا تكشفين نفسك وتُظهرين قلَّة خبرتك. إن مَن لا يعرف شيئًا عن علاقة فريدا بكلم يُمكنه أن يتبيَّن من كيانها أن الذي يُحبها شخص أكبر مني ومنك ومن كل مَن في القرية من شعب، وإن أحاديثها تتجاوَز حدود المزاح الذي يتَّصل عادةً بين خادمات الحانات والروَّاد والتي تلوح كأنها هي هدف حياتك. ولكنَّني أظلمك؛ فأنتِ في الحقيقة تعرفين مميِّزات فریدا، وتعرفين قُدرتها على الملاحظة وقدرتها على التصميم، وتأثيرها على الناس، إلا أنك بطبيعة الحال تُفسِّرين الأشياء تفسيرًا خاطئًا، وتظنين أنها تستخدم كل شيءٍ استخدامًا أنانيًّا لصالحها هي ولضرر الآخَرين، أو تستعمله كسلاحٍ ضدك. لا يا بيبي، إنها حتى إذا أوتيت هذه الرماح، لا تستطيع أن تصيب أحدًا يقف على هذا البُعد الهيِّن. أما الأنانية؟ لا، إن الأحرى بالإنسان أن يقول إنها ضحَّت بما كان لديها وبما كان لها أن ترجوه، لتُتيح لنا كلَينا فرصة الصعود إلى مركزٍ أعلى. أما نحن فإننا نُثبت كفاءتنا وخيَّبنا رجاءها واضطررناها إلى العودة إلى هنا اضطرارًا. وأنا لا أعرف هل الأمر فعلًا على هذا النحو، هذا إلى أنني لا أحسُّ بذنبي إحساسًا واضحًا، إلا أنني، عندما أقارن نفسي بك أحسُّ شيئًا من هذا القبيل يجول بخاطري، وكأنما اجتهدنا نحن كلانا على نحوٍ صاخبٍ صبياني غرير إلى أقصى حدود الصخب والصبيانية والغرور للوصول إلى شيءٍ كان هدوء وموضوعية فريدا يُوصِّلان إليه بسهولةٍ ودون إثارة، اجتهدنا نحن كلانا في الوصول إليه بالبكاء والخمش والشدِّ كما يشدُّ الطفل الصغير في ملاءة المنضدة فلا يصل إلى شيء إلا رمي العظمة كلها إلى الأرض. فتنقلب بالنسبة إليه إلى شيءٍ من المحال الوصل إليه. وأنا لا أعرف هل الأمر في الحقيقة على هذا النحو، ولكن أعرف أنه أقرب إلى هذا منه إلى ما تحكمين.
فقالت بيبي: هه، أنت مُتيَّمٌ بفريدا لأنها هجرتك، وليس من الصعب أن يهيم بها الإنسان عندما تكون غائبةً. ولكن ربما كان الأمر على ما قلت وربما كنت على حقٍّ في كل ما ذهبت إليه، وفي سُخريتك مني. وماذا تريد الآن أن تفعل؟ لقد هجرتك فريدا، وليس لديك أمل، لا طبقًا لتفسيري ولا طبقًا لتفسيرك أنت، في أن تعود إليك، وحتى إذا كانت ستعود إليك، فينبغي عليك حتى ذلك الحين أن تقيم في مكانٍ ما، فالجو بارد وليس لديك فراش، وليس لديك عمل، فتعالَ إلينا، وستُعجبك صديقتاي، وسنعمل جميعًا على راحتك وستُساعدنا في عملنا، وهو في الحقيقة صعبٌ علينا وحدنا صعوبةً مفرطة، وهكذا لن نكون نحن البنات بلا سندٍ ولن نحس خوفًا بالليل، تعالَ إلينا. وصديقتاي هما أيضًا تعرفان فریدا وسنَحكي لك عنها من الحكايات حتى تسأمها. تعالَ. ولدينا صور لفريدا سنقدمها إليك لتراها، لقد كانت فريدا فيما مضى أكثر تواضُعًا من الآن، ولو رأيت صورها صغيرة لما تعرفت عليها بسهولة، إلا من عينَيها اللتَين كانتا فيما مضى تتربصان كما تتربصان الآن، هه، إذن ستأتي إلينا؟
وقال ك: وهل ذلك من المسموح به؟ لقد حدثَت بالأمس فضيحة كبيرة لأنهم قبضوا عليَّ في الممر.
فقالت بيبي: آه لأنهم قبضوا عليك! ولكنَّهم لن يقبضوا عليك عندما تكون عندنا. لن يعلم عنك إنسان شيئًا عندما تكون عندنا. لن يعرف ذلك سوى ثلاثتنا، آه، سيكون ذلك شيئًا مفرحًا بهيجًا! إنني أحس الآن بأن الحياة ستُصبح أكثر احتمالًا عنها قبل هنيهة. ولعلِّي لا أكون قد فقدت الكثير نتيجةً لخروجي من الخمارة. إننا نحن البنات الثلاثة، لم نعانِ الملل لأننا كنَّا معًا، وما ينبغي على الإنسان إلا أن يُحلي الحياة المُرة، وهم يجعلون حياتنا من صغرنا مُرة، ولكننا نتكاتف نحن الثلاثة. ونعيش حياةً جميلةً على قدر الإمكان، وستعجبك هنريته خاصةً، وكذلك إيميليه، ولقد حكَيتُ لهما عنك، فسمعتا حكاياتي مكذبتَين، وكأنما لم يكن المُمكن أن يجري شيء في خارج حدود الحجرة، الحجرة الدافئة الضيقة التي تتلاصق فيها الواحدة بالأخرى تلاصقًا شديدًا. لا، إننا لا نحسُّ بالملل بعضنا من البعض على الرغم من أن كل واحدةٍ منا تعتمد على الأخرى، بل على العكس. إنني عندما أفكر في صديقتي، أكاد أحس بالرضا لأنني أعود. ولماذا أتقدم وأعلو عليهما؟ لقد كنا مُتكاتفاتٍ لسببٍ واحدٍ وهو أن المستقبل موصَد أمامنا نحن الثلاثة، ولقد اندفعتُ أنا من خلال السد وانفصلت عنهما. ولكني بطبيعة الحال لم أنسهما، بل كان همِّي الأول هو فعل شيءٍ من أجلهما. وعلى الرغم من أن أقدامي لم تكن قد رسخت في الوظيفة بعدُ — ولم أكن أعرف ذلك آنذاك — فقد تكلمتُ مع صاحب الحان بشأن هنريته وإيميليه. ولم يعترض على هنريته اعتراضًا لا سبيل إلى التغلب عليه، أما إيميليه — وهي أكبرنا سنًّا، وهي في سنِّ فريدا تقريبًا — فقد اعترض عليها اعتراضًا لا أمل في التغلب عليه، ولكن تصور! أنهما لا تُريدان الانصراف عن حياتهما الحالية. إنهما تعرفان أنها حياة بائسة، ولكنَّهما انطوَتا لها. وأظنُّ أن البنتين الطيبتين عندما بكَتا عند تودیعي، كانتا حزينتَين خاصةً لانصرافي عن الحجرة المُشتركة، وذهابي إلى البرودة — ونحن نتصور كل شيء خارج الحجرة باردًا — واضطرابي في الأماكن الكبيرة الغربية ومن فيها من أناسٍ أغراب لا لشيءٍ إلا لكسب معاشي، ولقد كنتُ وأنا معهما أكسب معاشي. ويبدو أنهما لن تدهشا عندما أعود الآن إليهما، ولسوف تبكيان وتندبان حظِّي لا لشيءٍ إلا لتلينا لي بعد ذلك. ثم ستريانك وستتبيَّنان أنني أحسنتُ صنعًا عندما تركتهما وذهبت. ولسوف تسعدان عندما تجدان أننا أوتينا رجلًا يكون لنا عونًا وسندًا ودرعًا، ولسوف تفرحان أشد الفرح عندما تعلمان أنَّ الأمر لا بد أن يبقى سرًّا بينَنا وأننا سنتكاتف بسبب هذا السر تكاتفًا أكبر وأمتن، تعالَ، أرجوك، تعالَ إلينا! ولن يكون في حضورك إلينا التزامٌ بشيء، فلن ترتبط بالحجرة أبدًا مثلنا. فإذا أتى الربيع ووجدت في مكانٍ آخر مأوًى، ولم يعد المقام لدينا يحلو لك، فلك أن تذهب. ولن يكون عليك إلا أن تحفظ السر حتى بعد أن تنصرف، وألا تفضحنا؛ لأن ذلك سيكون معناه دنو ساعتنا الأخيرة في حان السادة، هذا إلى أنه ينبغي عليك، وأنت عندنا، أن تلزم الحذر بطبيعة الحال، وألا تظهر في أي مكانٍ لا يكون في تقديرنا غير خطير. وعليك بصفةٍ عامة أن تتبع نصائحنا. هذا هو القيد الوحيد الذي يُقيِّدك. وينبغي أن تحرص عليه حرصنا نحن عليه، أما فيما عدا ذلك فأنت حرٌّ تمام الحرية، ولن يكون العمل الذي نُكلِّفك به صعبًا، وأنا لا أخشى شيئًا من هذه الناحية. هل ستأتي إلينا إذن؟
وسألها ك: وكم يمرُّ من الوقت حتى الربيع؟
وأعادت بيبي كلامه: حتى الربيع.
ثم أردفت: إنَّ الشتاء لدينا طويل، طويلٌ جدًّا، ورتيب. ونحن في حجرتنا السفلية لا نشكو من ذلك، فنحن في مأمنٍ منه. ولكن الربيع يأتي يومًا ما، وكذلك الصيف، ولكلٍّ موعده. وأنا عندما أعمل ذاكرتي أتصور الربيع والصيف قصيرَين جدًّا وكأنهما لا يزيدان على يومين اثنين، وحتى في هذين اليومين يسقط أثناء الجو الجميل بعض الثلج أحيانًا.
وهنا انفتح بابٌ. وارتعد بيبي. لقد بعُدت بأفكارها عن الخمارة بُعدًا شديدًا، ولم تكن فريدا هي التي أتت، بل صاحبة الحان، وتظاهَرَت بالدهشة لرؤيتها ك هنا. واعتذر ك قائلًا إنه كان ينتظر قدوم صاحبة الحان ليشكرَها على السماح له بقضاء الليلة هنا. ولم تفهم صاحبة الحان سبب انتظار ك لها. فقال ك لها، إنه كان يحسُّ بأنها تريد أن تتكلم معه، ورجاها أن تغفر له إن كان قد أخطأ في هذا، وقال إن عليه في الواقع أن ينصرف الآن، فقد طال إهماله المدرسة التي يعمل خادمًا بها، والذنب هو قبل كل شيء آخر ذنب الدعوة التي تلقَّاها بالأمس، وقال إنه قليل الخبرة بهذه الموضوعات، وإنه لن يحدُث مرةً أخرى أن يُسبب للسيدة صاحبة الحان منغِّصاتٍ كتلك التي حدثت بالأمس. وانحنى وتأهَّب للانصراف وتطلعت صاحبة الحان إليه بنظرةٍ وكأنها تحلم، وأدَّت هذه النظرة ﺑ ك إلى الانتظار أطول مما كان ينوي. ثم ابتسمت ابتسامةً رقيقة، ولم تُفق لنفسها إلا عندما رأت ك ينظر إليها نظرةً مدهوشة. ويبدو أنها كانت تتوقَّع ردًّا على ابتسامتها وأنها أفاقت الآن عندما لم تتلقَّ ردًّا. وقالت: لقد تجرأتَ بالأمس على ما أظنُّ وقلتَ شيئًا عن ثوبي.
ولم يستطع ك أن يتذكر. فقالت له: ألا تذكر؟ هكذا يتبع الجُبن الجرأة.
واعتذر ك بتعبه في الأمس وقال إنه من الممكن جدًّا أن يكون قد ثرثر بشيء، ولكنه على أية حال لا يذكر. وماذا يمكن أن يكون قد قال في ثياب السيدة صاحبة الحان؟ إلا أنها جميلة جمالًا لم يسبق أن رأى له مثيلًا، أو على أنه لم يسبق أن رأى صاحبة حان تلبس هذه الثياب أثناء العمل. فقالت له صاحبة الحان بسرعة: دع هذه التعليقات. إنني لا أريد أن أسمع كلمةً واحدة منك عن ثیابى. وليس لك أن تهتمَّ بثيابي. وأنا أمنعك من ذلك منعًا باتًّا.
وانحنى ك مرةً أخرى واتجه إلى الباب. فصاحت صاحبة الحان من خلفه قائلةً: وما معنى قولك أنك لم ترَ من قبلُ صاحبة حان تلبس مثل هذه الثياب أثناء العمل؟
ما معنى هذه التعليقات السخيفة؟ إنها سخيفة كل السخف. ماذا تعني بها؟
فالتفتَ ك خلفه ورجا صاحبة الحان ألا تغضب، وقال إن هذه التعليقات بطبيعة الحال سخيفة، فهو لا يفهم شيئًا في الثياب، وإنه في حالته هذه، يرى كل ثوبٍ نظيفٍ غير مرقعٍ ثوبًا جميلًا. كل ما في الأمر أنه اندهش عندما رأى السيدة صاحبة الحان بالليل تلبس ثوب سهرةٍ جميل وسط رجالٍ لا يكادون يرتدُون شيئًا هذا هو كل ما في الأمر.
فقالت صاحبة الحان: ها أنت ذا تتذكَّر. على ما يبدو، تعليقاتك التي قلتَها بالأمس، وتُكملها بسخفٍ جديد. أما أنك لا تفهم في الثياب فصحيحٌ. ولكن عليك في هذه الحالة أن تمتنع — وأنا أرجوك في هذا رجاءً حارًّا — عن إصدار أحكامٍ عن الثياب الثمينة والثياب التي لا تليق للسَّهرة وما إلى ذلك … وعليك …
ويبدو أنها أصيبت هنا برعدةٍ. وأردفت: وعليك بصفةٍ عامة ألا تنشغل بثيابي مطلقًا، هل سمعتَ؟
فلمَّا همَّ ك بالاتجاه إلى الناحية الأخرى في صمت، سألته: ومن أين لك المعرفة بالثياب؟
وهزَّ ك كتفيه معبرًا عن أنه لا يعرف شيئًا عن الثياب. فقالت له صاحبة الحان: ليست لديك معرفةٌ بالثياب. ولا ينبغي أن تتجرأ على ادعاء معرفة بها. تعالَ إلى المكتب وسوف أريك شيئًا وأرجو أن يؤدي هذا بك إلى أن تكفَّ كليةً ونهائيًّا عن الجرأة والتهوُّر.
وتقدمته إلى الباب وخرجت قَبْله، فقفَزَت بيبي إلى ك مُتظاهرةً بأنها تريد أن تأخذ منه الحساب، وتفاهمت معه بسرعة، وكان هذا أمرًا سهلًا؛ لأنَّ ك كان يعرف الفناء الذي تُؤدي بوابته إلى الشارع الجانبي، وكانت بيبي تريد أن تنتظر ك بعد ساعةٍ تقريبًا عند الباب الصغير المُجاور للبوابة وتفتح له عندما يدقُّ ثلاث دقاتٍ.
كان المكتب الصغير في الناحية المواجهة للخمارة، ولم يكن الإنسان يحتاج للوصول إليه إلا إلى اجتياز البهو، وكانت صاحبة الحان تقف في المكتب الصغير المضاء، عندما وصل إليه ك، وتنتظر مقدمه بفراغ الصبر. وكان ك قد تعطَّل لأنه وجد جيرشتيكر ينتظر في الممر ويُريد أن يتحدَّث إليه، ولم يكن من السهل رده، حتى تدخلت صاحبة الحان وساعدت ك ولامت جيرشتيكر على إلحاحه.
وسمع ك صوت جيرشتيكر يقول حتى بعد أن انقفلَ الباب: إلى أين؟ إلى أين؟
وكانت كلماته تختلط اختلاطًا قبيحًا بتنهداته وسعاله.
كان المكتب عبارة عن حجرةٍ صغيرة ارتفعت درجة حرارتها ارتفاعًا مفرطًا، وكان هناك عند الحائطين العرضيين قمطر مرتفع للوقوف وخزينة حديدية، وعند الحائطين الطوليَّين دولاب وأريكة. وكان الدولاب يشغل أغلب المساحة، لا لأنه كان يبتلع الحائط الطولي فحسب، بل لأنه كان علاوةً على ذلك يمتدُّ إلى بعيد وسط الحجرة، ويُضيِّقها بحيث كان فتحه على سعته يتطلب ثلاثة أبوابٍ منزلقة. وأشارت صاحبة الحان إلى الأريكة ليجلس ك عليها، أمَّا هي فجلست على الكرسي الوثير الدوار إلى القمطر، وسألت صاحبة الحان: وأنت لم تتعلَّم حتى الخياطة؟
فقال ك: لا، مطلقًا.
– فماذا تكون؟
– موظَّف مساحة.
– وما هذا؟
وشرح لها ك. وأدَّى الشرح بها إلى التثاؤب، فقالت: أنت لا تقول الحقيقة. لماذا لا تقول الحقيقة؟
– وكذلك أنتِ لا تقولين الحقيقة.
– إذن فأنتَ تُعاود الوقاحة، وحتى إذا كنتُ لا أقول الحقيقة فهل أنا مسئولة أمامك؟ وما هو موضع كذبي؟
– أنتِ لستِ صاحبة حان فقط كما تدَّعين.
– هكذا! ما أكثر اكتشافاتك! فماذا أكون غير ذلك؟ إن وقاحتك تزداد فعلًا ازديادًا مفرطًا.
– أنا لا أعرف ماذا تكونين غير ذلك! كل ما في الأمر أنني أرى أنكِ صاحبة حان، وأنك مع ذلك تلبسين ثيابًا لا تُناسب صاحبة حان، بل ولا تُناسب امرأةً قط في القرية على ما أعلم.
– وهكذا نصلُ إلى لبِّ الموضوع. إنكَ لا تستطيع أن تخفي ما تعلم، ولعلك لست وقحًا، لعلك كالطفل الذي يعرف حماقةً ما، ولا يكون هناك من سبيلٍ إلى منعه عن كشف سرِّها. فتكلمْ. ما هو الشيء الغريب في هذه الثياب؟
– ستَغضبين مني إذا تكلمت.
– بل سأضحك، فلن يكون كلامك سوى ثرثرةٍ صبيانية. فما أمر ثيابي؟
– إذن فأنتِ تُريدين أن تعرفي أنها من قماشٍ جيدٍ، ثمين، ولكنها قديمة العهد، كثيرة الزخرف، كثيرة التعديل ومستهلكة ولا تلائم لا سنَّك ولا قوامك ولا مركزك. ولقد لفتَت نظري على الفور عندما رأيتها لأول مرة منذ نحو أسبوعٍ هنا في البهو.
– لقد وصلنا. إنَّها قديمة العهد، كثيرة الزخرف، وماذا أيضًا؟ ومن أين لكَ هذه المعرفة كلها؟
– هذا هو ما أراه، ولا يحتاج الإنسان في ذلك إلى تعليم.
– أنت ترى هذا بكل بساطة، وأنت لا تحتاج إلى الاستفسار من أي إنسانٍ، بل تعرف من فورك الشكل اللائق. وما دام الأمر كذلك فلا غنى لي عنك، لأنَّني أعشق الملابس الجميلة. وما تقول في أنَّ هذا الدولاب مليء بالثياب؟!
ودفعت الأبواب المنزلقة إلى جانب، فرأى ك الثياب متلاصقة في الثوب، تملأ الدولاب كلَّه على عرضه، وكانت الثياب معتمة الألوان في غالبها، رمادية وبنية وسوداء، وكانت كلها معلقة ومنشورة بعناية. وقالت: هذه هي ثيابي! كلها قديمة العهد، كثيرة الزخرف والحشو. كما تقول. وما هذه الثياب التي تراها هنا إلا تلك التي لا أجد لها مكانًا في حجرتي العلوية، فلديَّ بها دولابانِ كبيران مملوءان، دولابان كلٌّ منهما في حجم هذا الدولاب تقريبًا. هل تدهش لذلك؟
– لا، لقد كنت أتوقَّع شيئًا من هذا القبيل. لقد قلتُ لكِ إنك لستِ صاحبة حان فقط، إنك تطمَحين إلى شيءٍ آخر.
– إنني لا أطمح إلا إلى شيءٍ واحدٍ وهو أن ألبس ملابس جميلة، أما أنت فمجنون أو طفل أو إنسان شرير جدًّا خطير جدًّا. اذهب! اذهب!
وعاد ك إلى البهو، وأمسك جيرشتيكر مرةً أخرى بكمِّه، وهنا صاحت صاحبة الحان: سأتلقَّى غدًا ثوبًا جديدًا، وربما استدعيتُك.