الفصل الثالث
كان هناك في قاعة الشراب بالحان، وهي حجرةٌ كبيرة خالية الوسط تمامًا، فلاحون يجلسون عند الحيطان إلى براميل أو فوقها، وكان هؤلاء الفلاحون يختلفون في منظرهم عن الفلاحين الذين في الحان الآخر حيث ينزل ك. كان هؤلاء أكثر نظافة وأكثر تشابُهًا بما يلبسون من ثياب مصنوعة من قماش غليظ رمادي مائل إلى الصفرة، وكان ثيابهم تتكوَّن من سترة منفوخة وسراويل لاصقة بالسيقان. كان هؤلاء الرجال قصار القامة، يبدون لأول وَهلة مُتشابهين أكثر التشابه بوجوههم المنبسطة ذات العظام البارزة والخدود المستديرة. وكانوا جميعًا هادئين، لا يكادون يتحرَّكون، ولم يتابعوا الداخلين إلا بنظرات أرسلوها في بطء وبلادة. ومع ذلك فقد أحدثوا، لكثرتهم وهدوئهم، تأثيرًا ما على ك. فتناول من جديد ذراع أولجا، ليبين على هذا النحو لهؤلاء الرجال سبب وجوده هنا. ونهض في أحد الأركان رجل، تعرفه أولجا، وهَمَّ أن يتَّجه نحوها، ولكن ك لفَّها بالذراع الذي كان يتعلَّق به ذراعها إلى الناحية الأخرى. ولم يكن في استطاعة إنسان غيرها أن يلحظ ذلك، ولقد سكتت عليه ونظرت إلى جانب وهي تبتسم.
وكانت هناك فتاة اسمها فريدا هي التي تُقدِّم البيرة إلى الحاضرين، وكانت فريدا هذه شقراء قصيرة القامة، حزينة العينين هزيلة الخدين، لا تجذب الانتباه، ولكنها كانت تفاجئ الإنسان بنظرة ذات تفوق خاص. وما إن وقعت هذه النظرة على ك، حتى أحسَّ كأنها أنجزت بهذه النظرة كل الأمور الخاصة به، والتي لم يكن ك نفسه يعلم بوجودها، ولكن النظرة كانت تقنعه بأنها موجودة. ولم يكفَّ ك عن التطلع إلى فريدا من الجانب حتى عندما كانت تتحدث مع أولجا. ولم يبدُ على أولجا وفريدا أنهما صديقتان؛ فقد تبادلتا قليلًا من الكلمات الفاترة. وأراد ك أن يحرك الحديث بشيء فسأل مباشرة: أتعرفين السيد كلم؟
فانفجرت أولجا ضاحكة. وسألها ك غاضبًا: لماذا تضحكين؟
فقالت وهي تستمرُّ في الضحك: أنا لا أضحك.
فقال ك: لا تزال أولجا بنتًا كثيرة العبث كالأطفال.
وانحنى فوق المنصة ليجذب نظر فريدا إليه مرة أخرى على نحو شديد … ولكنها كانت تميل برأسها، وقالت بصوت منخفض: أتريد أن ترى السيد كلم؟
فرجاها ك أن تمكنه من ذلك. فأشارت إلى باب إلى يسارها مباشرةً وقالت: هنا ثُقب صغير يُمكنك أن تنظر من خلاله.
فسأل ك: وهؤلاء الناس هنا؟
فمطَّت شفتها السُّفلى وجذبت ك إلى الباب بيد ناعمة مفرطة النعومة. وشمل ك بنظرته من خلال الثقب، الذي يبدو أنه اتُّخذ لأغراض الملاحظة والمراقبة، الحجرة المجاورة كلها تقريبًا.
كان السيد كلم يجلس إلى مكتب في وسط الحجرة، في كرسي وثير مستدير، يُنيره مصباح كهربائي مُنخفضٌ إنارةً شديدة، كان سيدًا متوسِّط الطول، ممتلئ البدن، ثقيل الظل. وكان وجهه لا يزال ناعمًا، ولكنَّ خدَّيه كانا يتدليان إلى أسفل قليلًا من أثر السن. وكان شاربه الأسود يمتدُّ على الجانبَين طويلًا. وكانت هناك نظارة مركَّبة على أرنبة أنفه، مائلة، تعكس الضوء، وكانت تواري العينين. ولو جلس السيد كلم إلى المائدة يواجهها تمامًا، لما استطاع ك أن يرى منه إلا جانبه، ولكن كلم كان ملتويًا ناحيته، ولهذا رأى ك وجهه كاملًا. كان السيد كلم يركن مرفقَه الأيسر على المائدة، أمَّا يده اليمنى التي كان يمسك بها سيجارة فكانت ترتكن على ركبته. وكان هناك فوق المائدة كوب بيرة. ولما كانت حافة المائدة عالية فإن ك لم يستطع أن يرى على وجه الدقة هل كانت هناك مطبوعات أو مكتوبات فوقها، ولاحت له المائدة خالية. على أنه آثر الاطمئنان، ورجا فريدا أن تنظر من خلال الثُّقب وتأتيه بالخبر اليقين. ونظرًا لأنها كانت في الحجرة منذ قليل، فقد استطاعت، دون مشقة، أن تؤكد له أنه لم يكن هناك على المائدة شيء من مطبوعات أو مكتوبات. وسأل ك فريدا هل ينبغي عليه أن ينصرف، فقالت له إنه يستطيع أن ينتظر ما شاء. وكان ك الآن وحده مع فريدا. لأن أولجا كانت، على قدر ما تبيَّن عابرًا، قد ذهبت إلى الرجل الذي تعرفه، وجلست على برميل وأخذت تطوِّح قدمَيها. وقال ك هامسًا: يا فريدا، هل تعرفين السيد كلم معرفة جيدة جدًّا؟
فقالت: آه نعم. معرفة جيدة جدًّا.
ومالت إلى جانب ك، وأخذت تنظم بطريقة عابثة، لفتت نظر ك الآن، بلوزتها الخفيفة، ذات الفتحة الواسعة، المصفرة اللون، التي كانت تبدو غريبة على جسمها النحيل. ثم قالت: أتذكر ضحك أولجا؟
فقال ك: نعم، البنت الشقية!
فقالت على سبيل التوفيق: آه، لقد كان هناك سبب يدعو للضحك. لقد سألتني هل أعرف كلم، وأنا …
وهنا اعتدلَت قليلًا في غير إرادة منها، ومرَّت نظرتها الظافرة التي ترتبط بالكلام أي ارتباط من فوق ك، ثم أكملت: وأنا عشيقته.
فقال ك: عشيقة كلم؟
فأومأت برأسها. فقال ك مبتسمًا حتى لا يدع كثيرًا من الجِد يقوم بينهما: إذن فأنت بالنسبة إليَّ شخصية محترمة.
فقالت فريدا دون أن تتقبَّل ابتسامته: ليس فقط بالنسبة إليك.
وكان ك يمتلك وسيلة ضد تكبُّرها فاستعملها إذ سألها: هل كنت في القصر؟
فلم ترتبك لأنها أجابت: لا، ولكن ألا يكفي أن أكون هنا في قاعة الشراب؟
ويبدو أن طموحها كان مسعورًا، وأنها كانت تريد أن تشفي غليله في ك. وقال ك: طبعًا هنا في قاعة الشراب، أنت تفهمين عمل الخمارة.
فقالت: بالضبط. ولقد بدأت بالعمل خادمة في حظيرة حان الجسر.
فقال ك فيما يشبه التساؤل: بهاتين اليدَين الناعمتَين؟
ولم يكن هو ذاته يعلم هل كان يتملَّقها أو كان بالفعل قد وقع تحت سيطرتها. على أن يدَيها كانتا بالفعل صغيرتين رقيقتين. وإن كان في مقدور الإنسان أن يقول إنهما كانتا ضعيفتَين تافهتين. وقالت: لم يلتفت إلى ذلك أحدٌ في ذلك الوقت، وحتى الآن!
وتطلع إليها ك متسائلًا. ولكنها هزَّت رأسها ولم تُرِد الاستمرار في الكلام. فقال ك: إنَّ لك بطبيعة الحال أسرارك، ولا شك في أنك لن تتكلَّمي عنها مع شخص تعرفتِ عليه منذ نصف الساعة، ولم يؤتَ فرصة ليحكيَ لك عن حاله.
لقد كانت تلك ملاحظة في غير موضعها، كما اتَّضح فيما بعد، لقد أيقظ بها فريدا من غفوة لم تكن في صالحه. فتناولت من شنطة جلدية كانت تعلقها في حزامها قطعة صغيرة من الخشب وسدَّت بها ثقب الباب، وقالت ﻟ ك، وهي تبذل جهدًا واضحًا، لكيلا يلاحظ أن تغييرًا طرأ على فكرها: أما أنت فأنا أعلم كل شيء عنك، أنت موظَّف المساحة.
ثم أضافت: والآن ينبغي عليَّ أن أذهب إلى العمل.
وذهبَت إلى مكانها خلف مائدة الخدمة، بينما نهض بعض الناس هنا وهناك حاملين أكوابهم الفارغة إلى فريدا يُريدون أن تملأها لهم. وكان ك يريد أن يعود إلى الحديث معها على نحو لا يلفت النظر، فأخذ كوبًا فارغًا من الرف وذهب إليها، وقال: ما زال هناك شيء أريد أن أسأل عنه يا آنسة فريدا. إن الارتقاء من خادمه في حظيرة إلى فتاة تُقدم المشاريب في خمارة، كل شيء خارق للمألوف، ويتطلَّب جهودًا خاصَّة، فهل يعني هذا بالنسبة لإنسانٍ مثلك الوصول إلى الهدف النهائي؟ هذا سؤال أحمق. ولكنَّني أرى في عينيك — وأرجو ألا تسخري مني — أن الغلبة ليسَت لنضال الماضي، بقدرِ ما هي لنضال المستقبل. ولكن مقاومة العالم للإنسان كبيرة، وهي تزداد كِبَرًا، كلما كبُرت الأهداف، وليس من العيب أن يَضمن الإنسان المكافح مساعدة رجل صغير عديم النفوذ، إذا كان هو كذلك مكافحًا. وربما استطعنا ذات مرة أن نتحدَّث معًا في هدوء، بعيدًا عن هذه العيون الكثيرة التي تُحملِق فينا.
وقالت: أنا لا أعرف ماذا تريد.
ولم تظهر في نبرتها هذه المرة، على غير إرادتها، انتصارات حياتها، بل ظهرت فيها أيضًا ضروب خيبة لا نهائية. وراحت تقول عاقدة يدَيها: هل تراك تريد أن تَنتزعني من كلم؟ يا للسماء!
قال ك، وكأنه تعب من طول الريبة: لقد نفذتِ إلى أعماقي، ولقد كان هذا هو هدفي الذي أخفيته أشد الإخفاء. عليك أن تهجري كلم، وأن تُصبحي عشيقتي. والآن يُمكنني أن أنصرف.
ونادى ك: يا أولجا. هيا إلى البيت.
وأطاعت أولجا، وانزلقت من فوق البرميل، ولكنَّها لم تتخلَّص بسرعة من الأصدقاء الذين أحاطوا بها. وهنا قالت فريدا بصوت مُنخفِض وهي تنظر نظرة تهديد إلى ك: متى يُمكنني أن أتكلم معك؟
فسأل ك: هل يُمكن أن أبيت هنا؟
فقالت فريدا: نعم.
– هل يُمكن أن أبقى الآن هنا؟
– اذهب أولًا مع أولجا إلى الخارج، حتى أستطيع التخلص من الناس هنا. ويُمكنك أن تعود بعد هنيهة.
فقال ك: حسنًا.
وانتظر ك أولجا نافذ الصبر. ولكن الفلاحين لم يتركوها تَنصرِف؛ لأنهم كانوا قد ابتكروا رقصة تدور حول أولجا. وكانوا يُحيطون بها على هيئة دائرة، وكانوا يُصدرون صيحة واحدة، فيتقدَّم أحدهم إلى أولجا، فيُحيط خصرها بيده ويدور بها بضع مرات، وكان دوران الراقصين يشتد سرعة، وكانت صيحاتهم الجائعة، المتحشرجة تَندمِج معًا شيئًا فشيئًا فتكاد تُصبح صيحة واحدة. أمَّا أولجا، التي كانت من قبل تُريد أن تخرج ضاحكة خارج الدائرة، فكانت تترنَّح بين هذا وذاك وقد تدلى شَعرها في كل ناحية. وقالت فريدا: إنهم يَبعثون إلى هنا بمثل هؤلاء الناس!
وعضَّت في غضبها على شفتَيها الرقيقتَين. فسأل ك: ومَن هؤلاء؟
فقالت فريدا: إنهم خدم كلم. لقد درج على إحضار هؤلاء الناس الذين يُسبب لي وجودهم الاضطراب الشديد. إنني لا أعرف، يا سيادة موظَّف المساحة، الكلام الذي قلته لك اليوم. فإذا كان ما قلته لك شيئًا قبيحًا فأرجو أن تسامحني، فإن وجود هؤلاء الناس هو السبب. إنهم أنذل وأمقت مَن عرفت! وعليَّ مع ذلك أن أصب البيرة في أكوابهم. ولكم رجوت كلم ألا يأتي بهم! فهل من واجبي أن أحتمل خدم السادة الآخرين؟! أكان يمكنه أن يخفف عني، ولكن رجائي لم يُفِدْ شيئًا! إنهم يندفعون، قبل قدومه بساعة، إلى هنا، اندفاع البهائم إلى الحظيرة. ولا بد أن يذهبوا الآن بالفعل إلى الحظيرة التي ينتمون إليها. ولو لم تكن أنت هنا، لفتحت باب كلم عنوة، ولكان على كلم أن يطردهم بنفسه.
فسأل ك: ولكن ألا يسمع؟
فقالت فريدا: لا، إنه نائم.
وصاح ك: كيف هذا. تقولين إنه نائم؟ ولكنَّني عندما نظرت إلى الحجرة كان مستيقظًا، وكان يجلس إلى المنضدة.
فقالت فريدا: إنه يجلس هكذا دائمًا. وعندما رأيته كان نائمًا. وهل كنت أدعك تنظر، لو لم يكن نائمًا؟ وهذا الوضع الذي رأيته هو الوضع الذي يتَّخذه عندما ينام. إن السادة ينامون كثيرًا، وهذا شيء لا يكاد الإنسان أن يفهمه. وهل كان يستطيع أن يحتمل هؤلاء الناس، لو لم يكن قد نام كثيرًا؟ لا بدَّ أن أطرهم أنا الآن بنفسي.
وتناولت سوطًا من أحد الأركان وقفزت قفزةً واحدة عالية، غير مُطمئنة تمامًا، وكأنها قفزة حَمَلٍ صغير، مندفعة نحو الراقصين. واتجهت في بادئ الأمر نحوهم، وكأنها كانت راقصة جديدة أتت إليهم، وبدا عليها لحظة أنها توشك أن تلقي السوط جانبًا، ولكنها رفعته وصاحت: باسم كلم، اذهبوا إلى الحظيرة! كلكم إلى الحظيرة!
وتبيَّنوا أن الأمر جدٌّ، وشرعوا، وقد تملَّكهم خوف لم يفهمه ك، يندفعون إلى المؤخرة، وانفتح باب تحت ضغط أوائلهم، فنفذ منهم هواء الليل، واختفى الجميع مع فريدا ويبدو أنها كانت تدفعهم إلى الحظيرة.
وسمع ك وسط السكون الذي خيم فجأة وقع خطًى في المدخل. وقفز إلى بعيد يلتمس على نحو ما شيئًا من الأمن، فاختفى وراء منضدة الخدمة وكانت تلك هي الإمكانية الوحيدة للاختفاء. حقيقةً إنه لم يكن ممنوعًا من البقاء في قاعة الشراب، ولكنه كان يريد أن يبيت هنا، ولهذا كان يتحاشى أن يراه إنسان. فما أن انفتح الباب، حتى انزلق تحت المنضدة. ولم تكن هناك خطورة في اكتشافه هناك، ولو تعلَّل بأنه اختفى من الفلاحين الذين استرسلوا في الصخب والعنف، لما كان تعلُّله بعيدًا عن التصديق. وكان القادم هو صاحب الحان الذي صاح: يا فريدا.
وأخذ يقطع القاعة جيئةً وذهابًا عدة مرات.
ومن حُسن الحظ أن فريدا أتت بعد قليل ولم تُشِر إلى ك بشيء بل اشتكت من الفلاحين فقط، وذهبت وراء المنضدة بحثًا عن ك. واستطاع ك أن يلمس قدمها، وأحسَّ عند ذاك بالأمن. ولما لم تشر فريدا إلى ك انتهى الأمر بصاحب الحان إلى أن سأل هو عنه قائلًا: وأين موظَّف المساحة؟
وكان صاحب الحان بصفة عامة رجلًا مهذبًا اكتسب أدبًا رقيقًا من مخالطته المستمرة الحرة لأصحاب الرتب الرفيعة، ولكنه كان يتكلم مع فريدا على نحو يتسم بمزيد من الاحترام، وكان هذا الأسلوب يلفت النظر؛ لأن صاحب الحان كان صاحب العمل وكانت فريدا عاملة، عاملة ممتازة بجرأةٍ لا مراء فيها. وقالت فريدا: لقد نسيتُ موظَّف المساحة تمامًا.
ووضعت قدمها الصغيرة على صدر ك. وأكملت: لا بد أنه انصرف منذ مدة طويلة.
وقال صاحب الحان: ولكنَّني لم أره، ولقد كنت طوال الوقت تقريبًا في المدخل.
وقالت فريدا ببرود: إنه ليس هنا.
فقال صاحب الحان: لعله اختبأ. وإن الانطباع الذي أحدثه فيَّ يجعلني أتوقع منه مثل هذه الأعمال.
وقالت فريدا: لا أظنُّ أن لديه مثل هذه الجرأة.
وضغطت فريدا بقدمها على ك ضغطًا أكثر شدة. لقد كان في كيانها شيء من المرح والانطلاق لم يلحظه ك من قبلُ. وها هو ذا يتجاوز بها الحد بشكلٍ خارق للمألوف فتقول فجأة ضاحكةً: لعلَّه يكون مختبئًا هنا تحت المنضدة!
وانحنت إلى ك، وقبلته قبلة عابرة ثم هبت واقفة وقالت آسفة: لا، إنه ليس هنا!
وكذلك صاحب الحان تصرَّف على نحو يثير الدهشة عندما قال: إنني متضايق جدًّا لأنني لا أعرف على وجه اليقين هل انصرف أم لم ينصرف. فليست المسألة مسألة السيد كلم فحسب، بل مسألة الأوامر كذلك. والأوامر تشملك أنت أيضًا يا آنسة فريدا كما تشملني. أنت مسئولة عن قاعة الشراب، أمَّا أنا فسأفتش بقية البيت. تُصبحين على خير. وأتمنى لك نومًا هادئًا.
ولم يكن صاحب الحان قد غادر القاعة بعدُ عندما أطفأت فريدا النور الكهربي وذهبَت إلى ك تحت المنضدة. وقالت هامسة: حبيبي! حبيبي الحلو!
ولكنها لم تلمس ك، بل رقَدَت على ظهرها، وكأنما أغمي عليها من فرط الحب، وبسطت ذراعيها، فلا شك أن الوقت كان يبدو أمام حبها السعيد طويلًا طولًا لا نهاية له، وأطلقت زفرات كانت أقرب إلى التنهُّد منها إلى التغني بأغنية صغيرة. ثم هبت مذعورة لأن ك ظل ساكنًا يُفكر، وشرعت تشده كما يفعل الأطفال، وقالت: هيا بنا! إننا نكاد نختنق هنا أسفل المنضدة.
وتعانقا، وكان الجسم الصغير يحترق في يدي ك، وتدحرجا في غيبوبة حاول ك دائمًا أن ينجو بنفسه منها دون أن يتمكن، وتدحرجا بضع خطوات، وارتطما ارتطامًا مكتومًا بباب كلم، ورقدا فيما وقع على الأرض من بقايا البيرة وغيرها من قاذورات. ومرت ساعات، ساعات من التنفُّس المشترك، والنبض المشترك، كان ك خلالها يحس بأنه يضل السبيل أو أنه يتوغل في الغربة توغلًا لم يحدث لإنسان من قبل، يتوغل في غربة ليس فيها ما يشبه الوطن حتى الهواء فيها كان غريبًا، يكاد الإنسان من فرط غربته أن يختنق فيه. ولم يستطع ك من فرط المغريات المجنونة أن يفعل شيئًا أكثر من الاستمرار في السير، الاستمرار في الضلال. وهو لهذا لم يحسَّ في بداية الأمر بالفزع، بل أحس بغشاوة تحيطه بالسلوى، حتى جاءه صوت عميق، فيه نبرة الأمر ونبرة الاستهتار معًا، من حجرة كلم يُنادي على فريدا. فتلقف ك الصيحة ونقلها إلى أذن فريدا قائلًا: يا فريدا.
وهمَّت فريدا أن تهبَّ ملبية تستجيب في ذلك لطاعة غريزية شكلية في ذاتها، ولكنها ما لبثت أن فكرت وتذكرت أين هي، وتمدَّدت، وضحكت في سكون وقالت: لن يخطر ببالي أن أذهب إليه، لن أذهب إليه أبدًا.
وأراد ك أن يعترض على كلامها، وأن يدفعها إلى الذهاب إلى كلم، وشرع يبحث عن بقايا قميصها، ولكنه لم يستطع أن يقول شيئًا، فقد كان سعيدًا غاية السعادة لإمساكه بفريدا بين يدَيه، ولكنه كان سعيدًا وخائفًا معًا؛ لأنه كان يتصور أن فريدا إذا ضاعت منه، فسيضيع منه كل شيء لدَيه. وكأنما ازدادت فريدا بمُوافقة ك قوةً، فقبضت يدها، وضربت بالقبضة على الباب وصاحت: أنا مع موظَّف المساحة! أنا مع موظف المساحة!
وهنا لزم كلم السكون. ولكن ك نهض وركع بجوار فريدا ونظر إليها في ضوء الفجر المضطرب. ماذا حدث؟ أين كانت آماله؟ ماذا كان في استطاعته أن ينتظره من فريدا بعد ما انكشف كل شيء؟ لقد ظلَّ ليلة بطولها يتقلب هنا في بقايا البيرة على الأرض — وإن رائحتها لتدور الآن بعقله — بدلًا من أن يلتزم بالحذر على قدر ضخامة العدو وضخامة الهدف. وقال بصوت خفيض: ماذا فعلت؟ لقد ضعنا أنت وأنا.
وقالت فريدا: لا، أنا وحدي التي ضِعت. ولكنني كسبتك. كن هادئًا. وانظر الآن كيف يضحك الاثنان.
وقال ك: مَن؟
والتفَتَ خلفه. كان مساعداه يجلسان على المنضدة، وقد بدا عليهما السهر، ولكنهما كانا مَرِحَين. كان مرحهم هذا هو المرح الذي ينبع من تأدية الواجب بإخلاص. وصاح ك فيهما وكأنهما كانا مسئولَين عن كل شيء.
– ماذا تُريدان هنا؟
وبحث حواليه عن السوط الذي كان مع فريدا في الليلة الماضية. وقال المساعدان: كان علينا أن نبحث عنك لأنك لم تنزل إلينا في قاعة الحان. ولقد بحثنا عنك عند برناباس وأخيرًا وجدناك هنا. ولقد جلسنا هنا طوال الليل. فليسَت الخدمة بالأمر السهل.
فقال ك: إنني أحتاج إليكم بالنهار، لا بالليل. اغربا عنِّي.
ولكنَّهما قالا دون أن يتحرَّكا: والوقت نهار.
وكان الوقت بالفعل نهارًا، وانفتح باب الفناء، واندفع الفلاحون داخلين ومعهم أولجا التي كان ك قد نسيَها تمامًا. كانت أولجا نشيطة كما كانت بالليل على الرغم من سوء حال ملابسها وشَعرها. وما إن دخلت بالباب حتى بحثت عيناها عن ك، وقالت والدموع تكاد تنهمر من مآقيها: لماذا لم تذهب معي إلى البيت؟
ثم قالت: من أجل بنت كهذه؟!
وكررتها مرارًا. كانت فريدا قد اختفت لحظة، وإذا هي تعود ومعها صرة صغيرة بها بعض الملابس. وانتحت أولجا جانبًا وقد تملَّكها الحزن. وقالت فريدا: والآن يُمكننا أن نذهب.
كان من البديهي أنها تعني بالذهاب إلى حان الجسر. وسار الركب؛ ك وفريدا وخلفهما المساعدان. وأظهر الفلاحون كثيرًا من الاحتقار لفريدا، وكان هذا شيئًا بديهيًّا؛ لأنها كانت حتى تلك اللحظة تسيطر عليهم. بل إنَّ أحد الفلاحين تناول عصا وتظاهر بأنه يريد أن يمنعها من الانصراف إلا أن تقفز من فوق العصا. ولكن نظرة منها كانت كافية لإبعاده. وتنفَّس ك ملء رئتيه في الخارج حيث الجليد. ولقد كانت سعادته بالمكان الطلق كبيرة، مكَّنته من احتمال صعوبة الطريق وحده في هذه المرة. ولو كان ك وحده، لسار أفضل من الآن. فلمَّا وصل إلى حان الجسر ذهب من فوره إلى حُجرته ورقَد في سريره، وأعدَّت فريدا قريبًا منه فراشًا لها على الأرض. وكان المساعدان قد دخلا الحجرة، فأخرجهما ك منها، فعادا من خلال النافذة، ولم يستطع ك لفرط تعبه أن يطردهما مرة أخرى. وأتت صاحبة الحان خصوصًا لتحية فريدا التي نادَتها «أماه»، وكانت التحية القلبية مصحوبة بقُبلات وعناق طويل لم يفهم ك من أمرها شيئًا. ولم يكن الهدوء في الحُجرة الصغيرة هدوءًا بمعنى الكلمة، فكثيرًا ما كانت الخادمتان تأتيان وتُحدثان ضجة بأحذيتهما الرجالية الطويلة الثقيلة، تُريدان إما إحضار شيء أو أخذ شيء. وإذا كانتا تحتاجان إلى شيء من الأشياء الكثيرة المختلفة التي تكدست على سرير ك، فقد كانتا تشدَّانه من تحته دون مراعاةً له. وكانت الخادمتان تحييان فريدا تحية الندِّ للند. وعلى الرغم من هذا الصخب فقد لزم ك السرير طوال النهار والليل. وكانت فريدا تُعينه على الحاجات البسيطة. فلما نهض في الصباح التالي أخيرًا وقد انتعش كل الانتعاش، كان ذلك هو اليوم الرابع في إقامته بالقرية.