الفصل الخامس
لم يكن ك يحسُّ تجاه الحديث الذي سيجري بينه وبين رئيس مجلس القرية إلا بالقليل من القلق، وكان يوشك هو نفسه أن يدهش لذلك. وحاول ك أن يُفسر ذلك بأن التعامل الرسمي مع الدواوين الحكومية قد أصبحت، بعد خبراته حتى ذلك الحين، شيئًا سهلًا جدًّا بالنسبة إليه … وكان السبب في ذلك من ناحية أن هناك مبدأ محددًا على ما يبدو لمعالجة مسألته وأنه من الناحية الظاهرية في صالحه جدًّا، ومن ناحية ثانية أن العمل الرسمي يتَّسم هنا بتناسق مدهش يحسُّ به الإنسان كاملًا حتى في المواضيع التي لا يلوح فيها موجودًا. ولم يكن ك، إذا فكر في هذه الأشياء أحيانًا، بعيدًا عن اعتبار وضعه مقبولًا على الرغم من أنه كان دائمًا يقول لنفسه بعد أن تعتريه حالات الارتياح هذه أن الخطر إنما يَكمن فيها دون سواها.
ولم يكن التعامل المباشر مع الدواوين بالعمل الصعب المفرط الصعوبة؛ لأن الدواوين كانت — مهما حسن نظامها — تُدافع باسم سادة بعيدين غير ظاهرين عن أشياء بعيدة غير ظاهرة، بينما كان ك يناضل من أجل شيء حي قريب، من أجل نفسه هو، وكان علاوة على ذلك يناضل، على الأقل في الوقت الأول، بإرادته؛ لأنه كان المهاجم. ولم يكن يناضل من أجل نفسه فقط، ولكنه كان، على ما يبدو، يناضل من أجل قوة أخرى، لم يكن يعرفها، ولكنه كان يؤمن بها نتيجة لإجراءات الدواوين. ولكن الدواوين كانت بتساهُلِها الشديد في موضوعات ك غير الجوهرية — ولم تكن موضوعات ك حتى ذلك الوقت تزيد على ذلك — تحرم ك من إمكانية بلوغ انتصارات صغيرة خفيفة، وتحرمه إلى جانب ذلك بما يتصل بهذه الإمكانية من الرضا، ومن الثقة التي تنبع منها والتي تقوم على أسس طيبة الثقة في مجابهة ضروبٍ أوسع وأكبر من النضال، لقد كانت الدواوين بدلًا من هذا تترك ك، في حدود القرية فقط، يتحرَّك حيثما شاء، وكانت تُدﻟِﻠﻪ وتُضعفه بذلك، وتمنع كل نضال منعًا أساسيًّا، وتنقله إلى الحياة الغريبة العكرة، الخارجة على نطاق الدواوين والتي يستحيل على الإنسان الإحاطة بها كل الاستحالة. كان من المُمكن، والحال هذه، إن لم يأخُذ على الدوام حذره، وعلى الرغم من تلطُّف الدواوين معه، وعلى الرغم من وفائه بمهامِّه الوظيفية المُفرطة السهولة، فإنه ينخدع بجميلٍ يلُوح له أنه صنع به، فيسير في حياته خارج نطاق الوظيفة سيرة لا احتياط فيها تنتهي به ذات يوم إلى التحطم، وتنتهي بالديوان الظريف اللطيف، ضد إرادته إلى حد ما، ولكن باسم نظامٍ عامٍّ غير معروف له، إلى الذهاب إليه والتخلص منه. وماذا كانت حياته خارج نطاق الوظيفة؟ لم يرَ ك من قبلُ في أي مكان تداخُل الحياة والوظيفة إلى هذا الحد، حتى إنه كان يظن أحيانًا أن الحياة والوظيفة قد تبادلا أماكنهما. فما هو، على سبيل المثال معنى السلطة الشكلية التي كان كلم يمارسها على عمل ك، إذا ما قورنت هذه السلطة بالسلطة التي كان كلم يمارسها حقيقةً في حجرة نوم ك! ولهذا فالصواب أن يأخذ الإنسان نفسه بأسلوب أخرق، بنوع من الاسترخاء حيال الدواوين، وإن ظل الحذر الشديد والنظر إلى كل الاتجاهات والتدقيق قبل كل خطوة ضرورة دائمة.
وتبين ك أن مفهومه عن الدواوين هنا صحيح عندما التقى برئيس مجلس القرية. كان الرئيس، وهو رجل لطيف سمين حليق، مريضًا يعاني من النقرس الحاد، ولهذا استقبل ك وهو في السرير. وقال: إذن فهذا هو السيد موظَّف المساحة لدينا.
وأراد أن يَقعُد لتحيتِه، ولكنه لم يستطع، وألقى نفسه مرة أخرى في فراشه، وهو يُشير مُعتذرًا إلى ساقيه. وأحضرت امرأة ساكنة، بدت في الضوء الخافت بالحجرة ذات النوافذ الصغيرة، والستائر التي تزيد من ظلمتها، كأنها شبح، كرسيًّا وثيرًا قدمته إلى ك ووضعته عند السرير … وقال الرئيس: اجلس، اجلس يا حضرة موظف المساحة، وقل ماذا تتمنى.
وطالع ك خطاب كلم، وأضاف إليه بعض الملحوظات. وأحس مرة أخرى بالسهولة الخارقة للمألوف في التعامل مع الدواوين. كانت الدواوين تحمل كل عبء بمعنى الكلمة، وكان في استطاعة الإنسان أن يحملها بما يشاء، بينما يظلُّ الإنسان حرًّا لا يحمل شيئًا. وتلوَّى الرئيس في فراشه متبرمًا، وكأنه أحسَّ بهذا على طريقته. وأخيرًا قال: لقد عرفت، كما لاحظت يا سيادة موظف المساحة، بالمسألة كلها، أما أنني لم أتخذ إجراءً حتى الآن، فسيرجع أولًا إلى مرضي، وثانيًا إلى أنك لم تأتِ، فظننت أنك صرفت النظر عن الموضوع. أما وأنك تكرَّمت وأتيت إليَّ بنفسك، فلا بد أن أقول لك بطبيعة الحال الحقيقة الكريهة كاملة. لقد قلت إنهم قبلوك موظفًا للمساحة، ولكننا للأسف لا نحتاج إلى موظَّف مساحة. فليس له أدنى عمل هنا. فحدود ممتلكاتنا الصغيرة معلَّمة، وكل شيء مسجل تسجيلًا منظمًا صحيحًا، ولا يحدث إلا فيما ندر أن يتغير المُلاك، أما الصناعات القليلة على الحدود فإننا نسويها بأنفسنا. فما حاجتنا إلى موظف مساحة؟
وعلى الرغم من أن ك لم يسبق له أن فكر في هذا من قبل، فقد كان مُقتنعًا في ذات نفسه بأنه كان يتوقع مثل هذا الخبر. ولهذا السبب قال من فوره: إن هذا ليفاجئني أشد المفاجأة. وإنه ليُحدِث بكل حساباتي وتقديراتي الاضطراب. وليس لي إلا أن آمُلَ أن يكون هناك خطأ.
فقال الرئيس: لا، للأسف، إن الأمر على نحو ما قلت لك.
فصاح ك: وكيف يُمكن هذا؟ إنني لم أقم بهذه الرحلة التي لا نهاية لها، لكي تُعيدوني الآن من حيث أتيت.
فقال الرئيس: هذه مسألة أخرى ليس القطع فيها من شأني، ولكني أستطيع أن أشرح لك على أية حال كيف أمكن حدوث هذا الخطأ. فمن الممكن في ديوان كبير، كالديوان الجرافي، أن يأمر قسمٌ ما بهذا، وأن يأمر قسم آخر بذاك، ولا يعلم قسم بشيء عما يجري في الآخر. والحقيقة أن التفتيش الأعلى دقيق إلى أقصى حدٍّ، ولكنه يأتي بطبيعته متأخِّرًا، ولهذا كان من المُمكن أن تحدث اضطرابات بسيطة. وهذه الاضطرابات دائمًا بطبيعة الحال صغائر مُتناهية الضآلة مثل حالتك على سبيل المثال. ولم يَحدث أن نما إلى علمي أن خطأً حدث في الأشياء الكبيرة. ولكن الأخطاء التي تحدث في الصغائر كثيرًا ما تكون أخطاءً مؤسِفة. أما فيما يتعلق بحالتك، فأنا أريد — دون أن أخفي أسرار الوظيفة، فأنا في هذه الناحية لستُ موظفًا بما فيه الكفاية، إنما أنا فلاح، وسأبقى فلاحًا — أن أحكي لك خط سير الموضوع بصراحة. منذ وقت طويل، ولم يكن قد مضى عليَّ في رئاسة القرية إلا بضعة أشهر، صدر أمر، لا أذكر من أيِّ قسم من الأقسام، جاء به على النحو القاطع المميز للسادة، أنه ينبغي استدعاء موظَّف مساحة وأن على مجلس القرية أن يُعدَّ ما يلزم لعمله من خطط ورسومات، ولا يمكن أن يكون هذا الأمر مختصًّا بك؛ لأنه قديم يرجع إلى أعوام كثيرة مضت، ولو لم أكن مريضًا في الفراش لما كان لديَّ الوقت الكافي لتذكُّر مثل هذه الأمور السخيفة غاية السخف.
وقطع كلامه فجأة مناديًا زوجته: ميتسي.
وكانت تتحرَّك حركة خفيفة في الحجرة، وتقوم بعمل غير مفهوم.
ثم قال الرئيس لزوجته: من فضلك، ابحثي في الدولاب هناك، لعلك تعثرين فيه على الأمر. ثم قال ﻟ ك شارحًا: إنه يرجع إلى الفترة الأولى لعملي، وكنتُ في ذلك الوقت أحتفظ بكل شيء.
وفتحت المرأة الدولاب على الفور، وتطلَّع إليها ك والرئيس. وكان الدولاب يعج بالأوراق. فلما فتحته تدحرجت منه حزمتان من حزم الملفات كانتا مربوطتين مدورتين كما تُربط حزم الحطب، فقفزت المرأة إلى جانب مرتاعة. وقال الرئيس موجهًا البحث في فراشه: لا بد أنه إلى أسفل، إلى أسفل.
وأطاعت المرأة وألقت بالملفات، ممسكةً إيَّاها بكلتا ذراعيها، إلى خارج الدولاب لتصل إلى الأوراق التي إلى أسفل. وملأت الأوراق نصف الحجرة. وقال الرئيس وهو يهز رأسه: هذا دليل على أن عملنا كثير، وما هذه الأوراق إلا جزء صغير. أما الكمية الرئيسية فأنا أحتفظ بها في الشونة، على أن الغالبية العظمى من الأوراق ضاعت، فمَن هذا الذي يستطيع أن يحتفظ بكل هذه الأوراق … ولكن الكثير في الشونة.
ثم اتجه إلى زوجته مرة أخرى: هل تعتقدين أنك ستجدين الأمر؟ عليك أن تبحثي عن ملف مكتوب عليه كلمة «موظف المساحة» وتحتها خطٌّ بالأزرق.
وقالت المرأة: الظلام هنا شديد، سأذهب لإحضار شمعة.
وخرجت من الحجرة سائرةً فوق الأوراق.
وقال الرئيس: إن زوجتي دعامة كبيرة لي في هذا العمل الرسمي الصعب الذي ينبغي عليَّ أن أؤديه بجانب عملي الأصلي. حقيقة إنني لديَّ مَن يساعدني في الأعمال الكتابية، أعني المدرس، ولكن إنجاز كل شيء مستحيل، وهناك الكثير الذي يبقى بلا إنجاز، مجموعًا في هذه الخزانة.
وأشار إلى دولاب آخر وقال وهو يرقد واهنًا، ولكنه كان فخورًا: وهو يزيد زيادة مُسرفة عندما أكون مريضًا.
وقال ك عندما عادت المرأة بالشمعة وركعت أمام الدولاب تبحث عن الأمر: ألا يمكن أن أساعد زوجتك في البحث؟
وهز الرئيس رأسه مبتسمًا وقال: لقد قلتُ من قبل أنه ليست لديَّ أسرار في وظيفتي أخفيها عليك، ولكنَّني لا أستطيع أن أصل إلى حدِّ تركك تبحث بنفسك في الملفات.
وساد السكون الحجرة، فلم يكن الإنسان يسمع إلا صوت حفيف الأوراق، بل إنَّ الرئيس نعس قليلًا. ودقَّ بعضهم الباب فالتفت ك خلفه فإذا هما بطبيعة الحال المساعدان. ولكنَّهما كانا على أية حال مُهذبَين قليلًا فلم يندفعا داخل الحجرة، بل همسا من خلال الباب الذي كان مفتوحًا فتحة صغيرة: إن البرد شديد علينا من الخارج.
وسأل الرئيس مفزعًا: مَن هذا؟
فقال ك: إنهما مساعداي، ولا أعرف أين أدعهما ينتظراني؛ فالبرد شديد في الخارج، وهما شخصان مزعجان لا مكان لهما هنا.
فقال الرئيس متلطفًا: إنهما لن يُقلقاني، دعهما يدخلان، آه، إنني أعرفهما. إنهما من معارفي القدامى.
فقال ك بصراحة: ولكنهما يقلقاني.
ونقل بصره من المساعدَين إلى الرئيس إلى المساعدين ووجد الثلاثة يضحكون ضحكة واحدة. ثم قال على سبيل المحاولة: ما دمتما هنا، فابقيا وساعدا السيدة زوجة الرئيس في البحث عن ملفٍّ مكتوب عليه «موظف المساحة» وتحتها خط بالأزرق.
ولم يعترض الرئيس. لقد سمح للمساعدين بما منع ك من فعله، فارتميا على الأوراق، وكانا يقلبان في التل أكثر مما كانا يبحثان، وبينما كان أحدهما يتهجى كلمة، كانا الآخر ينتزع الورقة من يده. أما المرأة فكانت تركع أمام الخزانة الفارغة، ولم يعد يبدو عليها أنها تبحث وكانت الشمعة على أية حال بعيدة جدًّا عنها.
وقال الرئيس وهو يبتسم ابتسامة تنمُّ عن رضا ذاتي وكأنما كانت الدنيا كلها ترجع إلى أوامره هو دون أن يكون هناك إنسان يستطيع أن يفهم ذلك حتى ولو على سبيل الظن: إنك تقول إن المساعدين يُقلقانك، ولكنهما مساعداك أنت.
فقال ك بفتور: لا، لقد ارتميا عليَّ هنا.
فقال الرئيس: كيف تقول ارتميا عليَّ! إنك تريد أن تقول إنهم قد عُينا لك.
وقال ك: آه عُينا لي، ويمكنك أن تقول أيضًا سقطا عليَّ كما يسقط الجليد؛ فقد كان تعيينهما يفتقر إلى كل تدبير.
فقال الرئيس: لا يحدث شيء هنا عن غير تدبير.
ونسيَ كل شيء حتى ما في قدمه من ألم وجلس معتدلًا. فقال ك: لا شيء … فما أمر استدعائي للعمل هنا؟
فقال الرئيس: وكذلك استدعاؤك جاء بعد وزن وتدبير، ولكن بعض الظروف الثانوية تدخَّلت وأحدثت اضطرابًا، وسأثبت لك ذلك بناءً على الملفات.
فقال ك: ولكن أحدًا لن يعثر على الملفات.
فصاح الرئيس: لن يعثر؟ يا ميتسي ابحثي من فضلك بسرعة. ومع ذلك فأنا أستطيع أن أحكي لك الحكاية أولًا بدون ملفات. لقد أجبنا على الأمر الذي حدثتُك عنه بالشكر، ذاكرًا أننا لا نحتاج إلى موظَّف مساحة. ويبدو أن هذه الإجابة لم تصل إلى القسم الأصلي، ولأسميه «أ»، بل وصلت خطأً إلى قسم آخر، ولأسميه «ب». وظل القسم «أ» بلا إجابة، وكذلك القسم «ب» لم يتسلم إجابتنا كاملة للأسف، إما لأن محتويات الملف بقيَت عندنا، أو لأنها ضاعت في الطريق — ولكنها بكل تأكيد لم تَضِع في القسم نفسه، وأنا ضامن لذلك — المهم أن ما وصل إلى القسم «ب» لم يكن سوى غلاف الملف ولم يكن مُبيَّنًا عليه سوى أن الملف الذي بداخله يختص بموضوع موظف المساحة، ولم يكن في الحقيقة موجودًا، وكان القسم «أ» ينتظر أن تصله إجابتنا. حقيقةً أنه كان قد سجَّل مذكرات بالموضوع، ولكن ما حدث شيء يقع بطبيعة الحال من حين لآخر على الرغم من الدقة في إنجاز الأعمال، وهو أن الموظف المختص اطمأن إلى أننا سنُجيب على الخطاب، وأنه إما أن يستدعيَ منظف المساحة أو، إذا دعت الحاجة، يستمر في التراسل معنا بخصوص الموضوع. وكانت النتيجة أنه أهمل المذكرات، وأن الموضوع كله انطوى في النسيان. أما القسم «ب» فقد وقع غلاف الملف فيه في يد موظَّف مشهور بدقته، واسمه سورديني، وهو إيطالي، وأنا، العليم بالأمور، لا أفهم لماذا يظلُّ مثل هذا الرجل بما له من كفاءات في هذه الوظيفة التي تُوشك أن تكون وظيفة من الوظائف الدنيا. وبطبيعة الحال أعاد إلينا هذا السورديني غلاف الملف الفارغ لنُكمله. وكان قد انقضى على خطاب القسم «أ» الذي أشرت إليه وقت طويل يقدر بالشهور بل بالأعوام، والوضع البديهي هو أن الملفَّ إذا سار في طريقه الصحيح، يصل عادةً في اليوم نفسه على أكثر تقدير ويتمُّ إنجازه في اليوم نفسه. أما إذا ضلَّ طريقه مرة — فعليه، والنظام على هذا الامتياز في الدقة، أن يجتهد في العثور على الطريق الخطأ اجتهادًا شديدًا وإلا فإنه لن يجده — فإن إنجازه يحتاج إلى وقت طويل بطبيعة الحال. فلما تلقَّينا مذكرة سورديني، لم نكن نتذكر الموضوع إلا على نحو غير واضح، وكان عبء العمل يقع في ذلك الوقت على اثنين فقط، ميتسي وأنا، فلم يكن المدرس قد عين لنا بعدُ، ولم نكن نحتفظ بصور المكاتبات إلا ما كانت له منها أهمية شديدة، باختصار، لم نستطع إلا أن نجيب إجابة تفتقر إلى التحديد كل الافتقار، قائلين إننا لا نعرف شيئًا عن هذا الاستدعاء، إننا في غير حاجة إلى موظف مساحة.
وهنا قطع الرئيس كلامه، وكأنما كان قد اندفع في الحماس إلى حد أبعد مما ينبغي أو كأنما كان من الممكن على الأقل أن يندفع إلى حد أبعد مما ينبغي: ولكن ألا تُسبب لك الحكاية مللًا؟
فقال ك: لا، إنها تُسليني.
فقال الرئيس: أنا لا أحكيها لك للتسلية.
فقال ك: إنها تُسليني بمعنى أنها تُتيح لي فرصة الإبصار بالاضطراب المضحك الذي يقطع أحيانًا في أمر وجود إنسان من البشر.
وقال الرئيس جادًّا: إنك لم تبصر بشيء بعدُ … ويمكنني الآن أن أستمر في قصتي: «لم يرضَ رجل كسورديني بطبيعة الحال بإجابتنا، وأنا أعجب بهذا الرجل على الرغم من أنه يُمثل في نظري العذاب كله. إنه يشكُّ في كل إنسان، حتى الإنسان الذي أتاحت له فرص لا حصر لها أن يعرف عنه أنه في غاية الجدارة بالثقة. تجده في الفرصة التالية يشك فيه كما لو كان لا يعرفه أو كما لو كان قد عرف عنه أنه نذل دنيء. وأنا أستصوب هذا الأسلوب وأرى أن الموظف ينبغي أن ينهج هذا المنهج. ولكني لا أستطيع أن أتبع هذا المبدأ، فإنه يتعارَض مع طبيعتي. وأنت ترى مثلًا، كيف أعرض عليك، أنت الأجنبي، كل شيء بصراحة، فأنا لا أستطيع أن أتصرف على نحو آخر. أما سورديني فقد تملَّكه الشك حيال إجابتنا. ونشأت مراسلات كثيرة. كان سورديني يسأل لماذا خطر ببالي فجأة أنه لا ينبغي استدعاء موظف مساحة، وأنا أجيب مستعينًا بذاكرة ميتسي المُمتازة بأن الاقتراح الخاص بهذا الموضوع جاء من الديوان (وكنا قد نسينا بطبيعة لحال منذ مدة طويلة أنه جاء من قسمٍ آخر غير قسم سورديني.) وكان يعود فيسأل لماذا لم أذكر هذه المكاتبة إلا الآن، فأردُّ عليه بأنني لم أتذكر إلا الآن، فيكتب سورديني بأن هذا عجيب جدًّا، وأرد أنا بأن هذا ليس عجيبًا مطلقًا في مسألة طالت هذا الطول، فيعود سورديني إلى القول بأن هذا عجيب فعلًا لأنَّ المكاتبة التي تذكرتها لا وجود لها، فأردُّ أنا قائلًا إنها بطبيعة لحال غير موجودة لأن الملف كله ضاع، فيكتب سورديني بأنه لا بد أن هناك مذكرة بخصوص المكاتبة الأولى. ولكن هذه المذكرة لا وجود لها. وهنا ترددت لأنني لم أجرؤ على القول، ولأنني لا أعتقد بأن القسم الذي يعمل فيه سورديني يمكن أن يخطئ. ولعلك، يا سيادة موظف المساحة، تلوم سورديني في سرك؛ لأنه لم يأخذ كلامي في الاعتبار، ولم يسأل على الأقل عن الموضوع في الأقسام الأخرى. ولو أنك فكرت في هذا، لأخطأت، وأنا لا أريد أن يعلق بهذا الرجل، ولا حتى في فكرك أي عيب. فهناك مبدأ يقوم عليه العمل في الديوان، وهو ألا نضع إمكانية الخطأ في حسابنا مطلقًا. وهذا المبدأ له في النظام الممتاز الشامل للديوان ككل ما يُبرِّره، وهو ضروري إذا كان المطلوب هو الوصول إلى أقصى سرعة في إنجاز الأعمال. لم يكن إذن لسورديني أن يستفهم لدى الأقسام الأخرى، ولو استفهم لديها ما أجابته؛ لأنها كانت ستتبيَّن أن الأمر يدور حول البحث في إمكانية حدوث خطأ.»
وقال ك: أرجو أن تسمح لي يا سيادة الرئيس أن أقاطعك بسؤال. ألم تذكر من قبل أن هناك ديوانًا للتفتيش؟ وأن العمل على النحو الذي وصفته ليُسبِّب للإنسان الاضطراب والقلق، إذا تصور أنه ليس هناك تفتيشًا.
فقال الرئيس: إنك صارم جدًّا. ولكن ضاعف صرامتك ألف مرة. ومع ذلك فلن تكون شيئًا بالقياس إلى الصرامة التي يأخُذ بها الديوان نفسه. إنَّ هذا السؤال الذي ألقيته لا يُمكن أن يصدر عن إنسان غريب. هل هناك دواوين للتفتيش؟ ليست هناك إلا دواوين للتفتيش. وهي بطبيعة الحال ليست مختصة بالتوصل إلى الأخطاء بمعناها الغليظ، فهذه الأخطاء لا تقع، ولا حتى إذا حدث مرة أن وقع خطأ، كما في حالتك، فمَن له أن يقول نهائيًّا، إنه خطأ.
فصاح ك: هذا شيء جديد عليَّ تمامًا.
فقال الرئيس: إنه شيء قديم عندي جدًّا. وأنا لا أختلف عنك في الاعتقاد بأن خطأً وقع، ولقد مرض سورديني نتيجة لحيرته في هذا الأمر مرضًا شديدًا، ولقد اكتشفت دواوين التفتيش الأولى التي يرجع إليها الفضل في إظهار أصل الخطأ أنَّ المسألة فيها خطأ. ولكن مَن له أن يدَّعي أن دواوين التفتيش الثانية ستصل إلى الحكم نفسه، ثم الثالثة وما بعدها … وما بعدها؟
فقال ك: ربما. وأنا لا أريد أن أتدخَّل في مثل هذه الآراء، وأنا أسمع للمرة الأولى عن دواوين التفتيش هذه ولا أستطيع بطبيعة الحال أن أفهمها، ولكني أعتقد أنه يجب هنا الفصل بين أمرَين: أولًا ما يجري في الدواوين وما يمكن على هذا النحو أو ذاك اعتباره من أمر الدواوين، وثانيًا أنا، الشخص الواقعي، أنا الذي أقف خارج الدواوين والذي يتهدَّدُني ضرٌّ من الدواوين، ضر هو من الحمق بحيث إنني لا أستطيع للآن أن أصدِّق مدى خطورته. أما الأمر الأول فيَنطبِق عليه على ما يبدو، هذا الذي قصصته عليَّ، يا سيادة الرئيس، بمعرفة فنية خارقة للمألوف، محيرة للألباب. وأما الأمر الثاني، أنا، فأرجو أن أسمع كلمة بشأنه.
فقال الرئيس: سأَصل إليه أيضًا. ولكنك لن تفهم ما سأقوله بهذا الشأن إلا إذا ذكرت لك بعض الأشياء على سبيل التمهيد. والحقيقة أن إشارتي الآن إلى دواوين التفتيش إشارة سابقة لأوانها. ولهذا أعود إلى الخلافات مع سورديني. قلت إن مقاومتي بدأت تهِن تدريجيًّا. ذلك أن سورديني إذا حقق أقل تقدُّم حيال أي إنسان، اعتبر نفسه منتصرًا؛ لأنَّ انتباهه وطاقته وحضور بديهته تزداد نتيجة لذلك، ويُصبح منظره فظيعًا بالنسبة لمَن يُهاجمه، رائعًا بالنسبة لأعداء مَن يهاجمه. ولما كنت أنا قد شهدت منظره في الحالة الثانية، ولهذا فإنني أستطيع أن أحكي عنه، كما أفعل الآن. ثم إنني لم أتمكَّن قط من رؤيته رأي العين، فهو لا يستطيع أن ينزل إلى هنا؛ لأنه يحمل عبء عمل مفرط في الضخامة، ولقد وصفوا لي حجرته قائلين، إن جدرانها كلها مغطاة بتلال من حِزم الملفات الضخمة المكوَّمة بعضها فوق البعض، وليست هذه الملفات سوى تلك التي يحتاج إليها فيما يقوم به في ذلك الوقت من عمل؛ ونظرًا لأن الملفات تستخرج من التلال وترد إليها بلا انقطاع وبسرعة كبيرة، فإن هذه التلال لا تفتأ أن تنهار محدثة ضجَّة، وهذا الضجيج المستمر المُتتابع المتلاحق هو الميزة التي أصبحت تُميِّز مكتب سورديني. نعم، إن سورديني موظف نشيط، وهو يهتم بأصغر حالة اهتمامه بأكبر حالة.
فقال ك: إنك يا سيدي الرئيس، تُسمي حالتي دائمًا أصغر حالة، ومع ذلك فقد شغَّلت موظفين كثيرين شغلًا كثيرًا، هي إذا كانت في أول الأمر صغيرة جدًّا، فإنها قد أصبحت نتيجة لحماس الموظفين من أمثال سورديني حالة كبيرة. وهذا شيء يُؤسَف له، وهو ضد إرادتي على خط مستقيم؛ لأنَّ طموحي لا يصل إلى التسبب في قيام وانهيار أعمدة من الملفات تختص بي، بل إلى أن أعمل في هدوء موظفًا للمساحة عند منضدة رسم صغيرة.
فقال الرئيس: لا. ليست حالتك حالة كبيرة. وليس هناك، من هذه الناحية سبب يدعوك إلى الشكوى، إن حالتك واحدة من أصغر الحالات بالقياس إلى الحالات الصغيرة. وليست كمية العمل هي التي تُحدد رتبة الحالة، إنك ما تزال بعيدًا عن فهم الديوان إن كنت تعتقد هذا الاعتقاد. وحتى إذا كانت كمية العمل هي التي تحدد الرتبة، فإن حالتك لن تزيد عن أن تكون واحدة من أضأل الحالات، فالحالات العادية، أي الحالات التي ليس بها ما يسمى أخطاء، تستدعي الكثير من العمل، والكثير من العمل المفيد بطبيعة الحال. ثم إنك لا تعرف العمل الحقيقي الذي تسبَّبت عنه حالتك وسأحكي لك الآن عنه. في بداية الأمر أخرجني سورديني من الموضوع ولكن موظفيه كانوا يأتون إلى هنا، وشهد حان السادة الكثير من الاستجوابات والمحاضر التي تعرَّض لها البارزون من أعضاء مجلس القرية. وكان الكثيرون منهم في جانبي. أما الاضطراب الذي حدث لم يُحدثه إلا القلة. ومسألة المساحة مسألة قريبة إلى الفلاحين، الذين ظنوا أن هناك اتفاقات سرية ومظالم، ووجدوا علاوة على ذلك زعيمًا تزعمهم، وكان أن اعتقد سورديني، اعتمادًا على البيانات، إنني لو كنت قد عرضت الأمر على مجلس القرية، لما صوَّت الجميع ضد استدعاء موظف مساحة، ولأدَّى هذا إلى تحول الشيء البديهي — عدم الحاجة إلى موظف مساحة — على الأقل إلى شيء مشكوك فيه. وبرز في هذا المقام خاصةً رجل اسمه برونسفيك أنت لا تعرفه طبعًا، وهو ليس رجلًا رديئًا، ولكنه غبي، يسرح في الخيال، وهو نسيب لازيمان.
وسأل ك وهو يصف الرجل الكث اللحية الذي رآه عند لازيمان: نسيب المعلم الدباغ؟
فقال الرئيس: نعم، هو.
وقال ك، وهو يُوشك أن يلقي الكلام على عواهنه: وأنا أعرف أيضًا زوجته.
فقال الرئيس: هذا ممكن.
ثم صمت. وعاد ك يقول: إنها جميلة، ولكنها شاحبة بعض الشيء ومُتوعِّكة. وهي من القصر؟
وكان ك ينطق العبارة الأخيرة على نحو يوشك أن يكون سؤالًا … ونظر الرئيس إلى ساعته وسكب شيئًا من دواء في معلقة وتجرعه مسرعًا.
وعاد ك يسأل في غلظة: يبدو أنك لا تعرف من القصر إلا الدواوين؟
فأجاب الرئيس بابتسامة تجمع بين السخرية والامتنان: نعم. وهي الأهم. أما فيما يتعلَّق ببرونسفيك، فإننا إذا استطعنا أن نخرجه من جماعتنا، لكنا جميعًا سعداء، ولما كانت سعادة لازيمان نفسه بأقل من سعادتنا. ولكن برونسفيك اكتسب في ذلك نفوذًا، حقيقةً أنه ليس خطيبًا، ولكنه يُصرِّح بصوت عالٍ، وهذا يكفي البعض، وهكذا انتهى الأمر بي إلى أن اضطررت إلى طرح المسألة على مجلس القرية، وكان ذلك هو النجاح الوحيد الذي حقَّقه برونسفيك؛ لأن مجلس القرية لم يكن، بأغلبية كبيرة، يريد أن يعرف شيئًا عن موظَّف المساحة. وهذه الحادثة كذلك ترجع إلى زمن بعيد، ولكن المسألة لم تركن بمرور الوقت إلى الهدوء، من ناحية بسبب دقة سورديني الذي حاول أن يكشف عن دوافع الأغلبية والمعارضة بإجراء بحوث غاية في الدقة، ومن ناحية أخرى بسبب غباء وطموح برونسفيك الذي كانت له صلات خاصة مُختلفة بالدواوين فاستطاع باختراعات جديدة من محض خياله أن يُحركها. ولم يَدَع سورديني برونسفيك يخدعه — وأنَّى لبرونسفيك أن يخدع سورديني؟ — لكنه، كي لا ينخدع، كان بحاجة إلى دراسات جديدة، وكان إذا أوشك على الفراغ منها، ابتكر برونسفيك شيئًا جديدًا — فبرونسفيك كثير الحركة، وهذه ناحية من نواحي غبائه. وأصل الآن إلى صفة خاصة من صفات جهاز الدواوين عندنا. فهو، بقدر ما هو دقيق، حسَّاس إلى أقصى حد. فعندما يطول بحث مسألة من المسائل، يحدث أحيانًا — ودون أن تكون الدراسات الخاصة بها قد انتهت — أن يَنطلِق إنجازًا لها فجأة كالبرق من جهة لم يكن أحد يتوقَّع الإنجاز منها، ولا يمكن فيما بعد تحديدها، وغالبًا ما يكون الإنجاز صحيحًا، وإن ظل على أية حالٍ مُتعسفًا. إن ذلك ليحدث وكأنما لم يَعُد جهاز الدواوين يحتمل التوتُّر الذي ظلت تُثيره فيه مسألة واحدة، قد تكون قليلة الأهمية، السنين الطوال، فاتخذ هو القرار، دون مُعاونة من الموظفين. وليس معنى ذلك بطبيعة الحال أن معجزة حدثت فلا شك أن موظفًا ما أنجز المسألة بخطاب دونه، أو أنجزها دون كتابة خطاب، المُهم أننا لا نستطيع على الأقل من هنا، ولا حتى من الديوان، أن نعرف الموظف الذي اتخذ القرار في هذه المسألة، ولا الأسباب التي انبنى عليها قراره. ولا تبين ذلك إلا دواوين التفتيش فيما بعد، ونحن لا نعرف شيئًا عما تصل إليه هذه الدواوين من نتائج، وهي نتائج لا يكاد يكون هناك مَن يهتم بها. وهذه القرارات، كما قلت، ممتازة في غالبية الأحيان، وليس فيها ما يُسبب الضجر إلا شيء واحد، وهو أن الإنسان لا يعلم عنها بطبيعة الحال إلا مُتأخرًا، في وقت يكون فيه مُستمرًّا في التشاور النشيط بشأنها بينما هي قد أنجزت منذ وقت طويل. وأنا لا أعرف، هل صدر قرار من هذا النوع في موضوعك أم لا — هناك ما يوحي بالإيجاب، وهناك ما يوحي بالسلب — فإذا كان القرار قد صدر، فمعنى هذا أن طلب الاستدعاء قد أرسل إليك، وأنك قد قمتَ بالرحلة الطويلة إلى هنا، وضاع في هذا وذاك الوقت الكثير، بينما ظل سورديني يعمل في معالجة المسألة حتى حل به الإعياء، وظل سورديني يحيك المؤامرات وبقيت أنا أتعرض للعذاب من الجانبَين. وأنا أشير إلى هذه الإمكانية مجرد إشارة، ولكني أعرف عن يقين ما يلي: إن أحد دواوين اكتشف أن سؤالًا خرج من القسم «أ» قبل سنوات عديدة إلى مجلس القرية بخصوص موظَّف مساحة دون أن ترد إليه إجابة. ولقد سألوني مؤخرًا، واتضحت المسألة كلها، واكتفى القسم «أ» بإجابتي التي قلت فيها إننا لا نحتاج إلى موظف مساحة، وأصبح على سورديني أن يقرَّ بأنه لم يكن المختص بهذه المسألة، دون ما ذنب بطبيعة الحال، وإنه بذل جهدًا كثيرًا، مهلكًا للأعصاب دون ما فائدة. لم يَنهمِر علينا من كافة الجهات كالمعتاد، سيل جديد من العمل، لم تكن حالتك حالة صغيرة — ويمكن القول أنها أصغر حالة بين الحالات الصغيرة — ولكننا قد تنفَّسنا الصعداء جميعًا، حتى سورديني نفسه على ما أعتقد، إلا برونسفيك فقد ظل يغمغم، ولكن ما فعله كان مضحكًا، والآن تصور، يا حضرة موظف المساحة، مدى خيبة أملي، عندما أجدك الآن، بعد أن انتهت المسألة نهاية سعيدة — ولقد انقضى منذ ذلك الحين وقت كثير — تظهر فجأة، ويبدو الأمر كأن المسألة ستعود من أولها. وأظن أنك تفهم أنَّني مُصمِّم تصميمًا عنيدًا على ألا أسمح بذلك بحال من الأحوال ما دام الأمر في مقدوري.
فقال ك: بلا شك. ولكني أفهم شيئًا آخر فهمًا أفضل، وهو أنني أتعرَّض هنا لاستغلال بشعٍ، بل تتعرَّض له كذلك القوانين نفسها. ولسوف أعرف كيف أقاومه فيما يتعلق بشخصي.
فسأل الرئيس: وماذا تريد أن تفعل؟
فقال ك: لا يُمكن أن أكشف عنه.
فقال الرئيس: وأنا لا أريد أن أُلحَّ، ولكني ألفت نظرك لشيء؛ وهو أنك تجد فيَّ — لا أقول صديقًا، فنحن غريبان تمامًا، ولكن — زميلًا أو نحو ذلك … أما أن تُقبل هنا موظَّفًا للمساحة، فأمر لن أسمح له. ويمكنك فيما عدا هذا أن تلجأ إليَّ دائمًا في ثقة، بطبيعة الحال في حدود سُلطتي وهي ليست كبيرة.
فقال ك: إنك دائمًا تتحدث عن قبولي موظفًا بالمساحة، ولكن قبولي قد تمَّ فعلًا، وهذا هو خطاب كلم.
فقال الرئيس: خطاب كلم. إنه قيِّم وجدير بالاحترام لتوقيع كلم عليه. وهو توقيع يبدو سليمًا من التزوير، وفيما عدا ذلك فأنا لا أجرؤ أن أُعبر عن ذلك وحدي … يا ميتسي.
هكذا نادى زوجته. ثم صاح قائلًا: ماذا تعملون؟
ويبدو أن المُساعدَين وميتسي، وقد انحسر عنهم الانتباه مدة طويلة لم يجدوا الملف المطلوب، فأعادوا كل شيء إلى الدولاب، وأرادوا إغلاقه فلم يتمكَّنوا من ذلك لأن الملفات وقد ألقيت بغير انتظام برزت إلى الخارج بروزًا مفرطًا. ففكر المساعدان في فكرة نفَّذاها … وهي أنهما أرقدا الدولاب على ظهره، وحشرا فيه الملفات حشرًا ثم جلسا على بابه وجلست معهما ميتسي وحاول ثلاثتُهم كبسَه إلى أسفل شيئًا فشيئًا.
وقال الرئيس: إنهم لم يعثروا على الملف … هذا شيء يؤسف له. ولكنك تعرف الحكاية الآن، ونحن في الحقيقة لم نَعُد في حاجة إلى الملف، ولا شك أننا سنجده، ولعله عند المدرس، فلديه ملفات كثيرة … والآن تعالَي يا ميتسي إلى هنا بشمعتك وطالعي على الخطاب.
وأقبلت ميتسي، وبدت الآن أكثر حلكة وأكثر غموضًا ممَّا كانت عندما كانت تَجلس على حافة السرير وتستند إلى الرجل القوي المليء بالحياة، والذي كان يُحيطها بذراعه. إلا وجهها الصغير فقد أصبح الآن في ضوء الشمعة يَلفت النظر بخطوطه الواضحة القوية التي كان وهن الشيخوخة يُخفِّف من حدتها. وما كادَت تنظر إلى الخطاب حتى عقدت يدَيها قليلًا وقالت: إنه من كلم.
ثم قرآ معًا الخطاب، وتهامسا وأخيرًا — وبينما كان المساعدان يصيحان «عظيم» … لأنهما كانا قد كبسا باب الدولاب وأغلقاه بعد طول جهد، وكانت ميتسي تَنظر ممنونة إليهما — قال الرئيس: إنَّ ميتسي ترى رأيي تمامًا، يمكنني الآن أن أجرؤ على الإفصاح عنه. هذا الخطاب ليس مكاتبة رسمية، بل هو خطاب خاص. وهذا شيء يتَّضح من عبارة «أيها السيد المحترم» التي يبدأ بها. هذا علاوة على أنه لم تأتِ به كلمة واحدة تعني أنك قُبلتَ موظفًا للمساحة، كل ما فيه حديث عام عن الخدمة الأميرية، هو ليس صريحًا مُلزمًا، فهو يقول فقط إنك قبلت، كما تعلم، وعبارة كما تعلم تعني أن مهمَّة إثبات قبولك مُلقاة على عاتقك. وفي الختام أُحلتَ عليَّ، من الناحية الرسمية، أنا وحدي، رئيس القرية، باعتباري رئيسك المباشر، الذي عليه أن يبلغك بكل التفصيلات، وهو ما قد فعلت مُعظمه. وهذه كلها أمور واضحة مُفرطة الوضوح بالنسبة لمَن يعرف كيف يقرأ المُكاتبات الرسمية ويعرف نتيجة لهذا كيف يقرأ المُكاتبات غير الرسمية ويفهمها فهمًا أحسن. أما أنت، كغريب، لا تتبيَّن ذلك، فهو ما يثير عجبي، والخطاب لا يعني في مجموعه شيئًا آخر سوى أن كلم ينوي أن يهتم بك شخصيًّا في حالة قبولك في الخدمة الأميرية.
فقال ك: إنك يا سيادة الرئيس تُجيد تأويل الخطاب … بحيث تحيله إلى توقيعٍ على ورقة خالية ألا تتبيَّن أنك بفعلك هذا تحط من قدر اسم كلم الذي تدَّعي أنك تجلُّه؟
فقال الرئيس: هذا خطأ. إنني لا أنكر أهمية الخطاب، وأنا لا أحطُّ من شأنه بتأويلي، بل على العكس. إن خطابًا خاصًّا من كلم ليَكتسي بطبيعة الحال من الأهمية أكثر مما تَكتسي المكاتبة الرسمية. ولكن الأهمية التي تَنسبها أنت له، هي بالضبط ما ليس له.
وسأل ك: أتعرف شفارتسر؟
فقال الرئيس: لا. هل تراكِ تعرفينه أنت يا ميتسي؟ وهي لا تعرفه … لا نحن لا نعرفه.
فقال ك: هذا شيء عجيب! إنه ابن أحد وكلاء القصر.
فقال الرئيس: يا عزيزي موظَّف المساحة، كيف يُمكنني أن أعرف أبناء جميع وكلاء القصر؟
فقال ك: حسنًا. إذن فعليك أن تُصدقني؛ إنه ابن أحد وكلاء القصر. ولقد حدَث بيني وبين هذا الشفارتسر يوم وصولي بالذات احتكاك سخيف، فاتصل تليفونيًّا بوكيلٍ للقصر اسمه فريتس ليستعلم، فعلم منه أنني قد قُبلتُ موظفًا للمساحة. فكيف تفسر هذا يا سيادة الرئيس؟
وقال الرئيس: هذا شيء يسير جدًّا. إنك لم تتعامل من قبل مع دواوينِنا. وجميع التعاملات معها لا تزيد ولا تنقص عن أن تكون ظاهرية، وأنت لجَهلك بالأحوال تعتبرها واقعية. أمَّا فيما يتعلق بالتليفون. فيُمكنك أن تجول ببصرك عندي، أنا الذي أتعامل كثيرًا مع الدواوين، فلن تجد تليفونًا. أما في الحانات وفيما شابهها، فيُمكن أن يُؤدي التليفون خدمات طيبة، مثل جهاز الموسيقى الأوتوماتيكي، وهو لا يزيد عنه في شيء. هل استعملت التليفون هنا مرةً؟ نعم؟ إذن فلعلَّك تفهمني. ويبدو أن التليفون يعمل في القصر على نحو ممتاز، ولقد حكى لي البعض أنهم في القصر لا يكفُّون عن الاتصال تليفونيًّا، وهذا من شأنه بطبيعة الحال، التعجيل بإنجاز الأعمال. ونحن نسمع هذه الاتصالات التليفونية التي لا تنتهي هنا بتليفوناتنا المحلية على هيئة شوشرة وغناء، ولا شكَّ أنك سمعت هذا. وهذه الشوشرة وهذا الغناء هما الشيء الوحيد الصحيح الجدير بالثقة الذي تنقلُه إلينا التليفونات هنا، وكل ما عدا ذلك خداع. وليس هناك اتصال تليفوني مباشر مع القصر، وليس هناك سنترال ينقل مكالماتنا التليفونية، فإذا اتصل الإنسان من هنا بالقصر، دقت الأجراس في كل التليفونات بالأقسام الدنيا، أو على الأصح، في كل التليفونات، إلا إذا أوقفت أجراسها — وهذا ما أعرفه يقينًا — ويحدث من حين لآخَر أن يحتاج بعض الموظفين المنهكين إلى شيء من التسلية، وخاصةً في المساء أو الليل، فيشغل الجرس، وهنا نتلقَّى إجابة، ولكن هذه الإجابة لا تزيد عن أن تكون مزاحًا. وهذا شيء بديهي جدًّا. فأين هذا الذي يطالب بأن يكون له حق الاتصال التليفوني بشأن موضوعات شخصية صغيرة وسط الأعمال البالغة الأهمية التي تسير بسرعة جنونية متزايدة؟ وأنا لا أفهم كيف يمكن حتى لغريب أن يعتقد أنه عندما يتصل مثلًا بسورديني، فإن سورديني هو فعلًا مَن يرد عليه! إن الذي يرد عليه هو على الأحرى كاتب صغير من قسم آخر. كذلك من المُمكن أن يحدث في ساعة محظوظة أن يريد الإنسان الاتصال بكاتب صغير، فإذا بسورديني هو الذي يجيب. ولهذا فإنه بطبيعة الحال من الأفضل أن يبتعد الإنسان عن التليفون، قبل أن تصدر عنه أول نَبرة.
فقال ك: لم أعتبره على هذا النحو، فلم أكن أعرف هذه التفصيلات. والحقيقة أنني لم أكن أثق في هذه الاتصالات التليفونية كثيرًا، وكنت أعرف أن الشيء الوحيد الذي له أهمية فعلية هو أن يعرف الإنسان شيئًا من القصر مباشرةً أو يصل فيه هو إلى شيء.
فقال الرئيس معلقًا على إحدى الكلمات: لا. إن هذه الاتصالات التليفونية لها أهمية فعلية، وكيف يمكن ألا تكون كذلك؟ كيف يُمكن أن تكون المعلومات التي يعطيها موظَّف من القصر مجرَّدة من الأهمية؟ ولقد أشرت إلى ذلك بالنسبة لخطاب كلم. كل ما في الأمر أن هذه التصريحات ليس لها أهمية رسمية. فإذا أنتَ أضفتَ عليها أهمية رسمية، أخطأت. أما أهميتها الخصوصية من ناحية الصداقة أو العداوة فهي كبيرة جدًّا، وربما كانت أكبر من أيِّ أهمية رسمية إطلاقًا.
وقال ك: حسنًا. إذا قبلنا جدلًا بأن الأحوال على هذا النحو، فمعنى هذا أن لي عددًا كبيرًا من الأصدقاء الطيبين في القصر. فنظرة دقيقة إلى الموضوع تدلُّ على أن الخاطر الذي طرأ قبل سنين طويلة على ذلك القسم باستدعاء موظف مساحة، كان عملًا وديًّا خياليًّا، ثم تتابعت الأعمال في الفترة التالية الواحد تلو الآخر، حتى انتهت إلى نهاية سيئة، هي اجتذابي إلى هنا ثمَّ تهديدي بالرمي.
وقال الرئيس: هناك حقيقة ما في مفهومك. وأنت على صوابٍ في أن تعبيرات القصر لا ينبغي أن تُؤخذ حرفيًّا. والحذر ضروري في كل مقام، ليس هنا فقط، وهو يزداد ضرورة كلما ازداد تعبير القصر أهمية. أما ما قلته عن اجتذابك إلى هنا، فأنا لا أستطيع أن أفهمه. ولو أنك تتبَّعت شروحي على نحو أفضل، لعلمت أن مسألة استدعائك إلى هنا مسألة أصعب من أن نجيب عليها في أثناء محادثة صغيرة هنا.
فقال ك: وهكذا تظلُّ النتيجة هي أن كل شيء مُبهَم مُستعصٍ على الحل إلى أن أُرمى.
وقال الرئيس: ومَن الذي أراد أن يجرؤ على رميك يا سيادة موظَّف المساحة؟ إن غموض الأسئلة المبدئية الموجَّهة إليك يعني معاملتك بغاية الأدب، ولكن يبدو أنك مُفرط الحساسية. ليس هناك مَن يمنعك من الرحيل، ولكن هذا لا يعني رميك.
فقال ك: آه يا سيادة الرئيس! ها أنت ذا تعود فترى بعض الأشياء بوضوح مُسرف. وإنني ذاكر لك الآن بعض الأشياء التي تمنعني من الرحيل من هنا: التضحية التي تحمَّلتُها عندما تركت داري ورحلت، الرحلة الطويلة الشاقة، الآمال التي عقدتها على قبولي هنا، وكانت كلها آمالًا لها ما يُبرِّرها، افتقاري الكامل إلى المال، استحالة عثوري الآن على عملٍ مُماثل في بلدي، وأخيرًا، وليس هذا أقل الأسباب، عَرُوسي وهي من أبناء هذا المكان.
وقال الرئيس دون أن يُفاجأ من الأحوال: آه، فريدا. أنا أعرف. ولكن فريدا لا شكَّ ستتبعُك حيثما ذهبت. أما فيما يتعلق بالموضوعات الأخرى فهناك تدابير معيَّنة تدعو إليها الضرورة، وأنا سأكتب تقريرًا أبعث به إلى القصر. فإذا أتى قرار أو إذا كانت هناك ضرورة قبل صدوره لاستجوابك مرةً أخرى، فسأستدعيك. هل أنت موافقٌ على ذلك؟
فقال ك: لا! مُطلقًا! إنني لا أريد مِنَّة من القصر، أنا أريد حقي.
وقال الرئيس لزوجته التي كانت لا تزال جالسةً مُلتصقة به وكانت تعبث تائهة حالمة بخطاب كلم الذي صنعت منه مركبًا، فأخذه ك منها مفزوعًا: يا ميتسي! يا ميتسي! لقد عادَت ساقي تؤلمني، لا بد أن نجد الكمادات.
ونهض ك واقفًا وقال: فأستأذن أنا في الانصراف.
وقالت ميتسي وكانت قد أعدَّت مرهمًا: نعم، فتيَّار الهواء شديد.
والتفت ك خلفه، وإذا بالمساعدَين، وقد أخذهما حماسهما في العمل، وما كان قطُّ حماسًا في موضعه، قد فتحا، عند سماعهما ملاحظة ك، مصراعَي الباب. ولم يستطيع ك — لحرصه على حماية حجرة المريض من البرودة المندفعة إليها اندفاعًا شديدًا — إلا أن ينحني أمام الرئيس انحناءة عابرة. ثم جرى، جاذبًا المساعدين معه، خارج الحجرة وأسرع بإقفال الباب.