الفصل السادس

كان صاحب الحان يَنتظره أمام الحان. وما كان صاحب الحان ليجرؤ على الحديث إليه إن لم يسأله هو، ولذلك سأله ك عما يريد. فسأله صاحب الحان وهو ينظر إلى أسفل: هل وجدت سكنًا جديدًا؟

فقال ك: إنك تسأل بتكليفٍ من زوجتك. فهل أنت تابع لها إلى هذا الحد؟

فقال صاحب الحان: لا، أنا لا أسأل بتكليفٍ منها. ولكنها ثائرة جدًّا، وتعيسة بسببك، فهي لا تستطيع العمل، بل ترقد في السرير وتتنهَّد وتشكو بلا توقف.

وسأل ك: هل ينبغي أن أذهب إليها؟

فقال صاحب الحان: أرجوك أن تفعل. ولقد كنتُ أريد أن أستدعيك وأنت عند الرئيس، وتصنتُّ على الباب ولكنكما كنتما تتحادثان، ولم أشأ أن أسبِّب لكما إزعاجًا، وكذلك كنتُ قلقًا على زوجتي، فجريت عائدًا إليها، ولكنها لم تسمح لي بالدخول إليها، فلم يعد أمامي من شيء أفعله سوى انتظار قدومك.

فقال ك: إذن فهيَّا بنا، بسرعة، وسأُهدئها على الفور.

وقال صاحب الحان: ليتك تتمكَّن من تهدئتها!

وسارا خلال المطبخ الصغير، كانت هناك ثلاث أو أربع خادمات، كل واحدة بعيدة عن الأخريات، فتجمدن في العمل الذي كنَّ يَقُمن به مصادفةً، عندما رأين ك. وكان تنهُّد صاحبة الحان يُسمع في المطبخ، وكانت ترقد في تحويطة بلا نوافذ، لا يفصلها عن المطبخ سوى جدار خشبي خفيف. ولم يكن بالتحويطة مكان يتسع إلا لسرير مُزدوج كبير ودولاب. وكان السرير موضوعًا بحيث كان يمكن النظر منه إلى المطبخ كله ومراقبة العمل.

ولم يكن في استطاعة مَن بالمطبخ أن يرى شيئًا تقريبًا مما في التحويطة؛ فقد كانت مُظلمة تمامًا، لا يظهر منها إلا بريق مفرش السرير الأبيض-الأحمر. ولم يكن الإنسان يستطيع أن يتبين التفصيلات إلا بعد أن يدخل وتتعوَّد عيناه على الظلمة.

وقالت صاحبة الحان واهنة: وأخيرًا أتيت!

كانت ترقُد على ظهرها ممدَّدة الأطراف، ويبدو أن التنفس كان يُسبِّب لها آلامًا، وكانت قد أزاحت اللحاف بعيدًا. وكانت وهي في السرير تبدو أكثر شبابًا منها وهي في كامل ثيابها، ولكنها كانت تضع على رأسها طاقية من نسيج الدانتيلا الرقيق، أصغر من رأسها صِغرًا مفرطًا، تتأرجَح على شَعرها المصفوف، وكانت تلك الطاقية تجعل ما بالوجه من تدهور يبدو مثيرًا للشفقة. وقال ك برقة: وكيف كان يُمكنني أن آتي؟ إنك لم تبعثي إليَّ بمَن يستدعيني.

وقالت صاحبة الحان بعناد المرضى: ما كان ينبغي عليكَ أن تتركني أنتظر هذا الوقت كله.

ثم قالت مُشيرة إلى حافة السرير: اجلس.

وقالت للآخرين: أمَّا أنتم فانصرفوا.

وكان المساعدان، علاوة على الخادمات، قد اندفعا إلى التحويطة. وقال صاحب الحان: وأنا كذلك أريد أن أنصرف يا جاردينا.

وسمع ك لأول مرة اسم المرأة. وقالت صاحبة الحان ببطء: طبعًا.

ثم أضافت تائهة وكأنها كانت مشغولةً بأفكار أخرى: ولماذا كنتَ تبقى أنت بالذات؟

فلمَّا تراجع الجميع إلى المطبخ — ومن بينهم المساعدان في هذه المرة، وكانا يُلاحقان إحدى الخادمات — كانت جاردينا من التنبه بحيث وعت أن مَن بالمطبخ يستطيع أن يسمع كل شيء يقال هنا؛ لأن التحويطة لم يكن لها باب، ولهذا أمرت الجميع بأن يتركوا المطبخ كذلك. وأطاعوا على الفور.

ثم قالت جاردينا: من فضلك يا حضرة موظَّف المساحة. هناك في مقدمة الدولاب مباشرةً شال معلق، أرجوك أن تناولني إياه، فأنا أريد أن أتغطى به، إنني لا أحتمل اللحاف نظرًا لضيق صدري.

فلما أحضر ك إليها الشال قالت: انظر، إنه شالٌ جميل، أليس كذلك؟

ورأى ك أنه شال صوف عادي، فتحسَّسه مرة أخرى إرضاءً لها ولكنه لم يقل شيئًا. وقالت جاردينا وهي تلتف به: نعم، إنه شالٌ جميل.

وهكذا استلقت مطمئنة، ولاحت كأنَّ كل ما بها من ألمٍ قد تبدَّد، بل إن شَعرها الذي كان قد اضطرب نتيجة رقادها خطر ببالها، فقعدت هنيهة وأحسنت من تصفيفه قليلًا حول الطاقية. وكانت جاردينا غزيرة الشَّعر.

ولم يُطِق ك صبرًا فقال: لقد كلفتِ مَن سألني عمَّا إذا كنت قد اتخذت سكنًا جديدًا.

فقالت صاحبة الحان: أنا كلفت مَن سألك؟ لا، هذا خطأ.

– لقد سألني عن ذلك زوجك منذ قليل.

فقالت صاحبة الحان: هذا ما يُمكنني تصديقه. لقد تضاربت معه. لقد أبقاك هنا في الوقت الذي لم أكن فيه أريدُك هنا، أما الآن وقد سعدت بوجودك هنا، فإنه يَدفعك إلى الرحيل. هكذا يتصرف دائمًا.

فقال ك: إذن فأنت قد غيَّرت رأيك في هذا التغيير الشديد؟ في ظرف ساعةٍ أو ساعتَين؟

وقالت صاحبة الحان بصوت أكثر ضعفًا: أنا لم أُغيِّر رأيي. هات يدك. هكذا. والآن عِدْني بأن تكون صريحًا كل الصراحة معي وأنا أريد أن أكون صريحةً كل الصراحة معك.

فقال ك: حسنًا. ولكن مَن الذي سيبدأ؟

فقالت صاحبة الحان: أنا.

ولم يكن يبدو عليها أنها تُريد أن تُهوِّن على ك الأمر، بل كان يبدو عليها أنها مُتلهِّفة على أن تكون هي البادئة بالكلام.

وأخرجت من تحت المرتبة صورة فوتوغرافية وقدَّمَتها إلى ك وقالت في أسلوب الرجاء: انظر إلى هذه الصورة.

وتقدَّم ك خطوة ناحية المطبخ ليتمكَّن من رؤيتها على نحوٍ أفضلَ. ولكنه لم يكن من السهل حتى هناك التعرف على شيء في الصورة، التي كانت قد بهتَت وتثنَّت وتعفَّصت وتبقَّعت تحت وطأة السنين. فقال ك: إنها للأسف ليست في حالة جيدة.

فقالت صاحبة الحان: للأسف! للأسف! ولكن عندما يحمل الإنسان صورة معه أينما ذهب عامًا بعد عام، فإنها تُصبح على هذه الحالة. ولكنك إذا دقَّقت النظر فيها، فستتبيَّن كل شيء، بكل تأكيد. ثم إنني أستطيع أن أساعدك، قل ماذا ترى في الصورة، إنني أفرح دائمًا عندما أسمع شيئًا عن الصورة. ماذا ترى؟

فقال ك: أرى شابًّا.

فقالت صاحبة الحان: بالضبط. وماذا يعمل؟

– إنه يرقد، على ما أظن، على سرير، ويتمطَّى ويتثاءب.

فضحكت صاحبة الحان، وقالت: هذا خطأ كلُّه.

وصمَّم ك على وجهة نظره قائلًا: ولكن هذا هو السرير، وها هو ذا يرقد هنا.

فقالت صاحبة الحان مغضبةً: دقَّق النظر. هل هو يرقد فعلًا؟

وهنا قال ك: لا، إنه لا يرقد، إنه يهيم، وأنا أتبين الآن أن هذا الشيء ليس خشب السرير، بل هو على ما يبدو خيط، والشاب يَقفز قفزة عالية.

فقالت صاحبة الحان مسرورة: نعم، إنه إذن يقفز. وهكذا يتمرَّن السُّعاة الرسميون. لقد كنت أعرف أنك ستتبين ما في الصورة. أترى كذلك وجهه؟

فقال ك: إنني لا أرى من الوجه إلى القليل. يبدو أنه يبذل جهدًا كبيرًا لأن الفم مفتوح، والعينين مُطبقتان والشَّعر هفهاف.

فقالت صاحبة الحان معبرةً عن تقديرها: عظيم جدًّا. لا يمكن لإنسانٍ لم يرَه من قبل أن يتبيَّن من الصورة أكثر من ذلك. ولكنه كان شابًّا جميلًا. ولقد رأيته أنا مرة واحدة رؤية عابرة، ولكني لن أنساه أبدًا.

فسأل ك: ومَن هذا؟

فقالت صاحبة الحان: الساعي الذي استدعاني كلم عن طريقه إليه للمرة الأولى.

ولم يستطع ك أن يُصغي بدقة، فقد شتت صوت قرع على الزجاج انتباهه. وما لبثَ أن اكتشف سبب الإقلاق. كان المساعدان يقفان في الفناء في الخارج، وكانا يَقفزان مُتنقلَين من قدم إلى أخرى. وتصنَّعا السعادة لرؤية ك مرة أخرى، وكان كلٌّ منهما يريه لصاحبه من فرط السعادة، وكانا في أثناء ذلك لا يكفَّان عن القرع على شباك المطبخ. وأشار ك إليهما إشارة تهديد، فكفَّا عن فعلتهما على الفور، وحاول كلٌّ منهما أن يدفع صاحبه إلى الخلف، ولكنهما كانا يتماسكان من جديد، وإذا هما عند النافذة من جديد. وأسرع ك إلى التحويطة التي لم تكن أنظار المساعدين تصل إليها من الخارج والتي لم يكن يضطرُّ وهو فيها إلى النظر إليهما. ولكن الدق على الزجاج على نحو يعبر عن التوسل والرجاء ظلَّ يُلاحقه هناك مدة طويلة.

وقالت صاحبة الحان مُلتمسة له العذر وهي تشير إلى الخارج: المساعدان مرة أخرى!

ولكنها لم تكن منتبهةً إليه. كانت قد أخذت منه الصورة ونظرت إليها وسوَّتها ودسَّتها مرة أخرى تحت المرتبة. كانت حركاتها قد ازدادت بطئًا، لا نتيجة للتعب، ولكن تحت وطأة الذكرى. كانت تريد أن تحكي ﻟ ك، ولكن الحكاية أنستها إياه. وأخذت تعبث بشراريب الشال وظلَّت كذلك برهةً، رفعت بعدها نظرها إلى أعلى، ومسحت بكفها على عينيها وقالت: وهذا الشال كذلك من كلم. وكذلك الطاقية الصغيرة. الصورة والشال والطاقية هي الذكريات الثلاث التي لديَّ عنه. وأنا لستُ شابة مثل فريدا، ولست طموحة مثلها، ولست رقيقة الحس مثلها، فإنها رقيقة الحس جدًّا. إنني باختصار أعرف كيف أسير في الحياة، ولكن لا بد أن أعترف، بأنني لو لم أكن أملك الأشياء الثلاثة، لما كنت قد احتملت البقاء هنا هذه المدة الطويلة، بل لما كنتُ، على الأرجح، احتملتُ البقاء هنا يومًا واحدًا. وربما بدت لك الأشياء الثلاثة قليلة، ولكن انظر: إن فريدا التي كانت على صِلة بكلم فترة طويلة جدًّا لا تمتلك شيئًا واحدًا للذكرى، ولقد سألتها، ولكنَّها حالمة طماعة. أما أنا، التي ذهبت إلى كلم ثلاث مرات فقط — فلم يَعُد يرسل في طلبي ولا أعرف لماذا — فقد أخذت هذه الأشياء للذكرى، وكأني كنتُ أتوقَّع أن وقتي معه سيكون قصيرًا. وينبغي على الإنسان بطبيعة الحال أن يهتمَّ هو بهذه الأمور؛ لأنَّ كلم نفسه لا يعطي شيئًا، ولكن إذا ما رأى الإنسان شيئًا مناسبًا عنده، ففي الإمكان أن يرجوه وأن يناله.

وأحسَّ ك بعدم الارتياح حيال هذه القصص على الرغم من أنها كانت تمسُّه جدًّا.

وسأل ك وهو يتنهَّد: متى كان هذا كله؟

فقالت صاحبة الحان: قبل أكثر من عشرين سنةً، أكثر من عشرين سنة بكثير.

فقال ك: إلى هذا المدى يستمر الإخلاص لكلم. ولكن ألا تتبيَّنين يا سيدتي صاحبة الحان، أنك بمثل هذه الاعترافات تُسبِّبين لي قلقًا شديدًا عندما أفكِّر في زواجي المستقبل؟

ووجدت صاحبة الحان أنه من غير اللائق أن يحاول ك أن يندس هنا بمسائله، فنظرت إليه من الجانب غاضبة. فقال ك: لا تغضبي، يا سيدتي صاحبة الحان. إنني لا أقول كلمة واحدة ضد كلم، ولكني بتأثير قوة الأحداث دخلت في علاقات ما مع كلم. وهذا شيء لا يُمكن لأكبر مُعجب بكلم أن يُنكره. المهم. أن النتيجة هي أنني في كل مرة يأتي فيها ذِكر كلم، لا بدَّ أن أفكِّر في نفسي. هذا شيء لا يُمكن تغييره. وأنت يا سيدتي صاحبة الحان.

وهنا أمسك ك بيدها المتردِّدة، وراح يكمل: أنت تذكُرين كيف انتهَت محادثتنا الأخيرة نهاية رديئة، ونحن نُريد هذه المرة أن ننتهي من المحادثة في وئامٍ.

فقالت صاحبة الحان وهي تطأطئ رأسها: أنت على حقٍّ. ولكن لا تُعرِّضني لما يسوءُني. وأنا لستُ أكثر حساسية من الآخرين، بل على العكس، ولكن كل إنسان له جوانب حساسة، وهذا هو الجانب الحساس عندي.

وقال ك: وهو للأسف أيضًا الجانب الحساس لديَّ، ولكني سأتحكَّم في نفسي بكل تأكيد. والآن اشرحي لي، يا سيدتي صاحبة الحان، كيف يُمكنني بعد الزواج أن أتحمل هذا الإخلاص البشع حيال كلم، على فرض أن فريدا تُشبهك في هذه الناحية؟

وأعادت صاحبة الحان غاضبة: الإخلاص البَشِع؟ هل هذا إخلاص؟ إنني مُخلصةٌ لزوجي، أما كلم؟ فلقد جعل منِّي ذات مرة عشيقة له، وهل في إمكاني أن أفقد هذه الرتبة أبدًا؟ وكيف يمكنك أن تحتمل هذا مع فريدا؟ آه، يا حضرة موظَّف المساحة، مَن أنت حتى تجرؤ على السؤال هكذا؟

فقال ك محذرًا: يا سيدتي صاحبة الحان!

وقالت صاحبة الحان مُنصاعة أنا أعرف، ولكن زوجي لم يسأل مثل هذه الأسئلة. ولست أعرف مَن التي تُسمى تعيسة، أنا في ذلك الوقت، أو فريدا الآن. فريدا التي تركت كلم عمدًا، أو أنا التي لم يَعُد يستدعيها. ربما فريدا وإن لم يبدُ عليها أنها تعرف ذلك تمامًا. ولكن أفكاري كانت دائمًا تحت سيطرة نحسي دون ما سواه؛ لأنني كنت لا أكفُّ عن التساؤل، وما زلت في الحقيقة لا أكف للآن عن التساؤل: لماذا حدث هذا؟ لقد استدعاك كلم ثلاث مرات، ثم لم يَستدعِك مرة رابعة، ولم تأتِ المرة الرابعة مطلقًا. وهل كان هناك في ذلك الوقت شيء يشغلني أكثر من هذا؟ وفي أي موضوع، غير هذا، كان يمكنني أن أتكلم مع زوجي، الذي تزوجتُه بعد ذلك بقليل؟ لم يكن لدينا أثناء النهار وقتٌ؛ لأننا كنا قد أخذنا الحان في حالة بائسة، وكان علينا أن نجتهد في تحسينها. وفي الليل؟ لقد ظلت أحاديثنا لأعوام طويلة تدور حول كلم وحدَه، وحول أسباب تغيُّر فكره. وعندما كان زوجي ينعس أثناء هذه الأحاديث، كنتُ أوقظه لنستمر فيها.

وقال ك: والآن، إذا سمحتِ، سأسألكِ سؤالًا شديد الغلظة.

وصمتَت صاحبة الحان.

فقال ك: إذن فليس لي أن أسأل. وهذا يكفيني.

فقالت صاحبة الحان: بطبيعة الحال، هذا يكفيك، وهذا بالذات، إنك تُسيء تأويل كل شيء، حتى الصمت. إنك لا تستطيع إلا أن تتصرَّف على هذا النحو. ولكني أسمح لك بالسؤال.

فقال ك: إذا كنت أسيء تأويل كل شيء، فلعلِّي أسيء التأويل حتى سؤالي نفسه، ولعله ليس شديد الغلظة. لقد كنتُ أريد أن أعرف كيف تعرفتِ بزوجك وكيف وصل هذا الحان إلى حوزتك؟

وقطبت صاحبة الحان جبينها ولكنها قالت بنفس الروح: تلك قصة بسيطة جدًّا. كان أبي حدادًا، وكان هانس، زوجي الحالي، سايسًا للخيل عند مُزارعٍ كبير، وكان يأتي كثيرًا إلى أبي. وكان ذلك بعد لقائي الأخير مع كلم، وكنتُ تعيسة جدًّا، وإن لم يكن لي أن أتردَّى إلى التعاسة الشديدة؛ لأن الأمور كلها كانت تسير على ما يرام، وكان بُعدي عن كلم بِناءً على قرار منه، أي كان أمرًا صحيحًا. ولكن أسباب قراره كانت غامضةً … ولم يكن لي أن أبحث فيها، ولكنه لم يكن لي أن أتردَّى إلى التعاسة. المهم أنني كنت تعيسة، وإنني لم أكن أستطيع العمل، وأنني كنتُ أجلس النهار كله في الحديقة الصغيرة أمام دارنا. وهناك رآني هانس، وكان يأتي إليَّ ويجلس إليَّ أحيانًا، ولم أشكُ له، ولكنه كان يعرف الأمر، ولما كان صبيًّا طيبًا، فقد حدث ذات مرة أن بكى معي. ولما مرَّ صاحب الحان القديم على حديقتنا الصغيرة ذات مرة، وكانت زوجته قد تُوفِّيت، واضطرَّ لذلك إلى ترك هذه الحرفة — ثم إنه كان مسنًّا — ورآني جالسة فيها، وقف وعرض علينا مباشرةً أن نستأجر الحان، ولم يكن يُريد شيئًا مقدمًا، لثقته فينا، وكذلك جعل الإيجار منخفضًا جدًّا. ولم أكن أريد أن أكون حملًا ثقيلًا على أبي، وكان كل شيء عدا ذلك هينًا، وهكذا قدمت يدي إلى هانس وأنا أفكِّر في الحان وفي العمل الجديد الذي كان يمكن أن يأتيني بشيء من النسيان. هذه هي الحكاية.

وساد السكون هنيهة. ثم قال ك: لقد كانت طريقة صاحب الحان في التصرف جميلة، ولكنها لم تكن حذرة، أم هل كانت لديه أسباب خاصة للثقة فيكما؟

وقالت صاحبة الحان: لقد كان يعرف هانس جيدًا؛ لأنه كان عمَّه.

فقال ك: هو ذاك إذن. وهل بدا على أسرة هانس أنها كانت مهتمة اهتمامًا كبيرًا بالاقتران بك؟

فقالت صاحبة الحان: ربما. لا أعرف. وأنا لم أهتمَّ قط بمعرفة ذلك.

فقال ك: لا بد أن الأمر كان كذلك، إذا كانت الأسرة مُستعدة للتضحية إلى هذا الحد ووضع الحان في يديكِ دون ما ضمان.

فقالت صاحبة الحان: لم يكن ذلك حمقًا منها، على ما تبيَّن فيما بعد. فقد وضعتُ كل ثقلي في العمل، وكنت قويةً ابنة حداد، ولم أكن بحاجة لا إلى خادمة ولا إلى خادم، وكنت أعمل في كل مكان، في الخمارة، في المطبخ، في الحظيرة، في الفناء، وكنتُ أجيد الطهي لدرجة أنني طردتُ بعض الزبائن إلى حان السادة، لأنهم لم يجتمعوا في الظهر في قاعة الحان، وأنت لا تَعرف زبائن الظهر عندنا، وكانوا في ذلك الوقت أكثر من الآن، وهرَب منهم الكثيرون بعد ذلك. ولم يقف ما تمكَّنَّا من إنجازه عند حد دفع الإيجار في موعده، بل تجاوزه إلى أن تمكنَّا بعد سنوات قليلة من شراء كل شيء، وأصبح الحان لنا خالصًا من كل دَين. ثم حدث شيء هام آخر بعد ذلك، وهو أنني بطبيعة الحال تحطَّمتُ وأُصبتُ بمرض القلب وأصبحت امرأة عجوزًا. ولعلك تظن أنني أكبر من هانس بسنوات كثيرة، والحقيقة أنه لا يَصغُرني إلا بسنتَين أو ثلاث سنوات، ولكن الشيخوخة لم تظهر عليه أبدًا؛ لأن العمل الذي يقوم به — تدخين الغليون والاستماع إلى الزبائن ثم تنظيف الغليون من بقايا التبغ وإحضار القليل من البيرة أحيانًا — عمل لا يبلغ بأحدٍ الشيخوخة.

فقال ك: إن جهودكِ لجديرة بالإعجاب، هذا شيء لا شك فيه. ولكنَّنا تكلمنا عن الوقت السابق على زواجكما، ولقد يبدو من الغريب أن تكون أسرة هانس ألحَّت على أن يتم الزواج مع هذه التضحية المالية أو على الأقل مع تحمُّل هذه المخاطر الجسيمة التي يعنيها وتتمثَّل في التنازُل عن الحان، في وقت لم يكن فيه من أمل سوى طاقتك على العمل، ولم تكن تلك الطاقة للأسرة معرفة بها، وطاقة هانس على العمل، ولا بدَّ أن الأسرة كانت تعرف أنها غير موجودة.

فقالت صاحبة الحان واهنة: آه، إنني أعرف الهدف الذي ترمي إليه، وإلى أي حدٍّ يجانبك الصواب. لا، لم يكن لكلم أيُّ أثر في هذه الأمور كلها. ولماذا كان يتكفل بي، أو على الأصح كيف كان يُمكنه أن يتكفل بي؟ إنه لم يعد يعرف أي شيء عني. إنه لم يعد يبعث في طلبي، وكانت تلك علاقة تدلُّ على أنه قد نسيني. إنه عندما يكفُّ عن استدعاء شخص ما إليه، فهذا يعني أنه نسيه نسيانًا تامًّا. وأنا لم أرد أن أتحدَّث بشيء من هذا أمام فريدا. وليس هذا مجرد نسيان، إنه أكثر من ذلك. فإن الشخص الذي ننساه، يُمكن أن نذكره ثانيًا. ولكن هذا مستحيل لدى كلم. إن الشخص الذي يكف عن استدعائه، شخص قد نسيه تمامًا لا بالنسبة للماضي فحسب، ولكن بالنسبة للمستقبل أيضًا وعلى نحو قاطع. وأنا عندما أبذل الكثير من الجهد أستطيع أن أتبع سبيل أفكارك، أفكارك التي لا معنى لها هنا، والتي ربما كانت في الغربة التي أتيت منها أفكارًا نافذة لها صلاحيتها. ومن الممكن أن تصل بأفكارك إلى الجنون الذي يحملك على الاعتقاد في أن كلم قد أعطاني هانس زوجًا حتى لا يُصبح لديَّ ما يعوقني عن الذهاب إليه إذا ما استدعاني إليه في المستقبل. وأين هذا الرجل الذي يُمكن أن تكون له القُدرة على منعي من الجري إلى كلم إذا لوَّح إليَّ؟ هذه حماقة. حماقة مطبقة. وإن الإنسان ليضطرب أشد الاضطراب إذا خالجته هذه الحماقة.

وقال ك: لا ينبغي أن نبلغ هذا الاضطراب الشديد، وأنا لم أذهب بأفكاري إلى هذا المدى الذي تَفترضين أنني وصلت إليه، وإن كنت — والحق يقال — قد سلكتُ السبيل إليه. كل ما في الأمر أنني اندهشت مؤقتًا لأن الأسرة عقدت كثيرًا من الآمال على هذه الزيجة، وأن آمالها تحقَّقت بالفعل، وإن كلَّفكِ هذا قلبك وصحتك. والحقيقة أن فكرة وجود علاقة بين كل هذه الوقائع وكلم كانت تفرض نفسها عليَّ، ولكنها لم تكن قد وصلت، أو لم تكن قد وصلت بعدُ، إلى هذه الوقاحة التي تُصوِّرين بها الأمور، وتقصدين من ورائها على ما يبدو إلى الإغلاظ لي، لأنك تجدين في ذلك متعة. فلك هذه المتعة! ولكن فكرتي كانت تتلخص فيما يلي: إن كلم كان على ما يبدو هو الدافع إلى الزواج. فلو لم يكن كلم، لما كنتِ قد ترديت إلى التعاسة، ولما كنتِ قد جلست ساكنة في الحديقة الصغيرة أمام الدار، ولو لم يكن كلم لما رآكِ هانس هناك، ولو لم تكوني حزينة لما تجاسَرَ هانس الخَجول على التوجه إليك بحديث، ولو لم يكن كلم لما وجدت نفسك وهانس تذرفان الدموع، ولو لم يكن كلم لما رآكما العم الطيب صاحب الحان تجلسان في وئام معًا، ولو لم يكن كلم، لما استهترت بالحياة، ولما كانت النتيجة زواجك بهانس. كل هذه أمور فكرتُ أن لكلم بها شأنًا ليس بالقليل. ولكن فكرتي لا تنتهي عند هذا الحد، بل تصل إلى أبعد منه. فلو أنكِ لم تسعَي إلى النسيان، لما كنتِ قد عملت في الحان دون اعتبار لصحتك، ولما كنتِ قد نهضت به. وهذه ناحية أخرى نجد فيها كلم كذلك. ثم إن كلم، بغضِّ النظر عن ذلك، هو السبب في مرضك؛ لأن قلبك كان قبل الزواج يعاني من الإنهاك نتيجة للحب الفاشل. وتبقى مسألة وحيدة هي الشيء الذي اجتذب أهل هانس إلى هذا الزواج على نحو شديد. لقد ذكرت أنت نفسك أن الوصول إلى درجة عشيقة لكلم وصولٌ إلى رتبة لا سبيل إلى فقدانها. ولعلَّ هذا هو السبب الذي اجتذبهم. هذا إلى أنني أعتقد أن طالع السعد الذي ساقكِ إلى كلم — هذا على فرض أنه كان طالع سعد، ولكنك أنت تُؤكِّدين ذلك أنه — ملكٌ لك، وأنه لذلك يبقى معك، ولا يتركك بسرعة وفجأة كما فعل بك كلم.

وسألت صاحبة الحان: هل أنت جادٌّ في هذا كله؟

وقال ك بسرعة: نعم جادٌّ. ولكنني أعتقد أن أسرة هانس لم تكن فيما ذهبت إليه من آمال على حقٍّ تمامًا، ولم تكن على خطأ تمامًا، وأعتقد كذلك أنني أعرف الغلطة التي ارتكبتها. فكل الأمور تبدو من الناحية الظاهرية ناجحة، بالنسبة إلى هانس، فقد تحقَّقت له رعاية طيبة، وقد تزوج امرأة جسيمة، ووصل إلى سمعة طيبة، وأصبح الحان بلا ديون. ولكن الأمور ليست كلها في الحقيقة ناجحة، فليس من شكٍّ في أنه كان سيجد سعادة أكثر لو أنه تزوج بنتًا بسيطة أحبها وكان أول حب كبير في حياتها. وإذا كان هو — وعلى ذلك تلومينه كثيرًا — يقف في قاعة الحان أحيانًا كالتائه فما ذلك إلا لأنه يحسُّ بنفسه فعلًا كالتائه — دون أن يكون لهذا السبب تعيسًا، بكل تأكيد، فأنا أعرفه الآن معرفة تُمكنني من الحكم بذلك — وليس من شكٍّ أيضًا في أن هذا الشاب الجميل الفطين كان يُمكن أن يكون أكثر سعادة مع امرأة أخرى، وأعني بأكثر سعادة: أكثر استقلالًا وأكثر نشاطًا وأكثر رجولةً. وأنت كذلك، لستِ بكل تأكيد سعيدة، ولقد قلت، إنك ما كنت تستمرين في الحياة، لو لم تكن لديك الذكريات الثلاث، ثم أنكِ مريضة بالقلب. هل معنى هذا أن الأسرة كانت فيما ذهبت إليه من آمال على خطأ؟ لا أظن ذلك. لقد كانت البركة دائمًا فوقك، ولكن أحدًا لم يفهم كيف يستنزلها.

وسألت صاحبة الحان وكانت تتمدَّد على ظهرها وتنظر إلى السقف: فما الذي كان ينبغي عليهم فعله ولم يفعلوه؟

فقال ك: أن يسألوا كلم.

فقالت صاحبة الحان: وبهذا نكون قد وصلنا مرة أخرى إليكَ.

فقال ك: أو إليكِ. فموضوعاتنا متصلة الحدود.

فسألت صاحبة الحان: ماذا تريد إذن من كلم؟

كانت صاحبة الحان قد قعدت، ونفَضَت المخدات حتى تستطيع أن تستند إليها قاعدة، وأخذت تنظر في عيني ك محدقةً فيهما. وأردفت: لقد حكيتُ لك موضوعي بصراحة ولعلك كنت تستطيع أن تتعلَّم منه شيئًا. فقل لي الآن بصراحة مُماثلة: عما تريد أن تسأل كلم؟ والحقيقة أنني لم أستطع إلا بكل جهد أن أقنع فريدا بأن تصعد إلى حُجرتها وأن تبقى بها، فقد كنتُ أخشى ألا تتكلمَ في حضرتها بصراحة كافية.

فقال ك: ليس لديَّ ما أُخفيه. وأنا أريد بادئ ذي بدء أن أوجِّه انتباهك إلى شيء. لقد قلت إن كلم ينسى على الفور، وهذا أولًا يبدو لي بعيدًا عن التصديق، وهو ثانيًا غير قابل للإثبات. وما هو على ما يبدو إلا أسطورة تفتَّقت عنها قرائح البنات التي كنَّ يُنعمن بالحظوة لدى كلم. وأنا أدهش لأنك تُصدقين أسطورة سخيفة إلى هذا الحد.

فقالت صاحبة الحان: ليست أسطورةً. إنها خلاصة الخبرة العامة.

فقال ك: إنها بدعةٌ من المُمكن دحضها ببدعةٍ أخرى. وهناك فارق آخر بين حالتك وحالة فريدا. فالقول بأن كلم لم يَعُد يستدعي فريدا إليه، قول بشيء لم يحدث على الإطلاق. فهو قد استدعاها ولكنَّها لم تتبعه. بل إنه من المحتمل أن يكون في انتظارها دائمًا.

وصمتت صاحبة الحان وأخذت تُلاحظ ك بنظرة تروح بها وتجيئ، ثم قالت: إنني أريد أن أنصت إلى كل ما تنوي قوله هادئة. وأن تتحدث بصراحة، خير من أن تخفي شيئًا خوفًا عليَّ. وليس لي إلا رجاءٌ واحد. وهو ألا تستعمل اسم كلم. سمِّه «هو» أو ما شئت، ولكن لا تُسمِّه باسمه.

فقال ك: لك ما تُريدين عن طيب خاطرٍ. ولكن الشيء الذي أريده منه شيء يصعب التعبير عنه. إنني أريد أولًا أن أراه عن قُربٍ، ثم أريد بعد ذلك أن أسمع صوته، ثم أريد أن أعرف موقفَه من زواجنا. أما الطلب الذي قد أتوجَّه به إليه فرهن بسير الحديث. وقد يتناول الحديث أمورًا مختلفة، ولكن أهم شيء بالنسبة إليَّ هو أن أقف أمامه. فأنا لم أتكلم حتى الآن مع موظف حقيقيٍّ مباشرةً. ويبدو أن الوصول إلى هذا أصعب مما كنت أتصور. أما الآن فقد أصبح لي الحق في أن أتكلم معه على اعتبار أنه شخص عادي، وهذا في اعتقادي أسهل تحقيقًا. فمن حيث هو موظَّف، لا يمكنني أن أكلمه إلا في مكتبه الذي قد يكون بعيد المنال، أو في القصر، وهو مكان الوصول إليه أمر مشكوك فيه، أو في حان السادة. أما من حيث هو إنسان عاديٌّ، فيمكنني أن أكلمه في كل مكان، في البيت، في الشارع، حيثما تمكنت من الالتقاء به. أما أنني في هذه الحالة سأكون واقفًا في مواجهة موظَّف أيضًا، فأمر يطيب لي الرضا به، وإن لم يكن هو هدفي الأول.

وقالت صاحبة الحان وهي تواري وجهها في المخدات وكأنها تقول شيئًا لا حياء فيه: حسنًا. إذا كنت سأستطيع بفضل اتصالاتي وعلاقاتي توصيل طلبك محادَثة كلم فهل تعدني بألا تفعل شيئًا من تلقاء نفسك حتى تتنزَّل الإجابة؟

فقال ك: هذا ما لا يمكنني أن أعدَكِ به على الرغم من أنني أحب أن أُحقِّق لكِ كل رغبة ونزوة. ولكن الأمر ملحٌّ، وخاصةً بعد النتيجة غير الطيبة التي انتهى إليها حديثي مع الرئيس.

فقالت صاحبة الحان: وهذا اعتراض لا اعتبار له؛ لأن الرئيس شخص تافه تمامًا. ألم تلحظ ذلك؟ وما كان يمكنه أن يبقى يومًا واحدًا في مركزه لو لم تكن هناك زوجته التي تدبر كل شيء.

وسأل ك: ميتسي؟

فأومأت صاحبة الحان برأسها. وقال ك: لقد كانت حاضرة.

وسألت صاحبة الحان!

فقال ك: لا، ثم إنني لم أحسَّ بأنها يمكن أن تعبِّر عن رأي.

فقالت صاحبة الحان: هه، هكذا تخطئ في تقدير كل شيء هنا. المهم: أن ما قرره الرئيس بشأنك لا أهمية له، وسأتكلَّم مع المرأة عندما تسنح فرصة. وإذا أنا وعدتك الآن بأن إجابة كلم ستأتي في غضون أسبوع على أكثر تقدير، فهل ينتفي كل سبب لديك كان يدعوك إلى عدم الإذعان لي؟

فقال ك: ليس هذا كله حاسمًا. ولقد قرَّ قراري، وسأُحاول أن أنفذه إذا أتت إجابة الرفض. وما دامت لديَّ هذه النية مقدمًا، فلا يُمكنني أن أكلِّف مَن يرجو لي محادثة. وإن مسعاي الذي قد يعتبر — بدون هذا الرجاء — محاولة جريئة — ولكن طيبة النية — ليتحوَّل إذا اصطدم الرجاء بالرفض إلى ثورة صريحة. وهذا بطبيعة الحال أشد سوءًا.

فقالت صاحبة الحان: أشد سوءًا؟ إنها ثورة على أية حال. والآن افعل ما تريد. ناوِلني الثوب.

وارتدت الثوب دون أن تَكترث ﺑ ك وأسرعت إلى المطبخ. وكانت أصوات تنم عن القلق قد تناهت إلى السمع من ناحية قاعة الحان منذ وقت ليس بالقصير. وكان بعضهم قد دقَّ على الطاقة. وكان المساعدان قد دفعا الطاقة مرة وصاحا من داخلها بأنهما جائعان. ثم ظهرت فيها بعض الوجوه الأخرى. وتناهى إلى الأذن غناء خفيض اشتركت فيه أصوات كثيرة.

كان حديث ك مع صاحبة الحان قد عطَّل طعام الغداء بطبيعة الحال عطلًا شديدًا. ولم يكن الطعام قد أُعدَّ، وكان الزبائن قد اجتمعوا. على أن أحدًا لم يجرؤ على عصيان أمر صاحبة الحان بمنع الدخول إلى المطبخ. فلما أبلغ أولئك الذين نظروا من الطاقة بأن صاحبة الحان مقبلة، جرت الخادمات إلى المطبخ، وعندما دخل ك إلى قاعة الحان، اندفعت جماعة غفيرة تثير كثرتها الدهشة، تزيد على العشرين، من النساء والرجال، يرتدون ملابس تدلُّ على أنهم من الأقاليم وإن لم تكن ملابس الفلاحين، عائدة من الطاقة حيث تجمعت، إلى الموائد ليضمن كلٌّ لنفسه مكانًا. إلا في ركن من القاعة كان زوجان يجلسان مع بعض الأولاد، ومال الرجل، وكان رجلًا لطيفًا أزرق العينين أشيب الرأس واللحية منفوش الشَّعر، على الأولاد وأخذ يدقُّ بسكينِه إيقاع أغنية يغنيها الأولاد، وكان يبذل بغير انقطاع محاولات ليكتم الغناء، ولعلَّه كان يُريد بالغناء أن ينسى الأولاد ما بهم من جوع. واعتذرت صاحبة الحان للجماعة بكلمات ألقتها في استهتار، ولم يوجه إليها أحد لومًا. وتلفَّتت تبحث عن صاحب الحان، الذي كان قد لاذ منذ وقت طويل بالفرار على ما يبدو نتيجةً لدقة الموقف. ثم سارت متباطئة إلى المطبخ. ولم تَعُد تنظر إلى ك الذي أسرع إلى حجرته للقاء فريدا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤